खिड़की से
من النافذة
शैलियों
والشك حيرة ولكنه حرية. وسعة الأفق خير من ضيقه على الرغم من العناء الذي يكابده المرء من إرسال العين وإدارتها في النواحي الخفية أو البعيدة. وإنه لعذاب، وإن جدواه لقليلة بالقياس إلى الجهد الذي يبذل فيه، ولكنه خير وأمتع من التحجر الذي يؤدي إليه التسليم بلا نظر. وحسبك من متعته أنه يريك كل يوم جديدا. وقد يكون ما تهتدي إليه وتحسبه جديدا، قديما جدا في الحقيقة، ولكن المتعة في الجهد نفسه لا في النتيجة. والشأن في هذا كالشأن في الألعاب الرياضية، فإن الغاية منها ليست الغلبة والتفوق أو غير ذلك مما يجري هذا المجرى، وإنما العبرة فيها بما تفيده من التدريب وما تكسبه بفضل الجهد الذي تنفقه فيها. ولذتها في مزاولتها لا فيما تنتهي به من الفوز، وإن كان للفوز قيمته ومزيته، ولكنه ليس كل ما تزاول الألعاب من أجله.
ومتى صار كل شيء مادة للدرس والبحث فقد صارت الحياة أوسع وأرحب، وصار المرء كأنه يحلق فوقها وإن كان يخوضها ويعاينها. وهذا ما أروض عليه نفسي الآن؛ أن أكابد الحياة والناس، وأن يسعني مع ذلك أن أقف منها موقف الناظر المتفرج. فكأني اثنان لا واحد؛ أحدهما يعيش ويجرب، ويسعد ويشقى، ويسر ويحزن، ويجد ويهزل، ويفعل ما يفعل الناس غيره، وثانيهما يتلقى هذه التجارب وينشرها أمامه، ويعرضها على عقله ويقارنها ويقابلها ويفحصها، ويضم المتشابه منها بعضه إلى بعض، ويجمع ما يمكن أن يأتلف، ويعمل خياله فيما يراه ناقصا ليملأ الفراغ ويسد الثغرة، ويصنع على العموم ما يصنع الكيمائي في معمله الذي يجري فيه تجاربه، ولا يتأثر بالواقع ولا يعنيه ما عانى منه. وهذا الازدواج عسير ولا شك، ولست أطمع أن أبلغ منه الغاية وأوفي على الأمد، ولكني أطمع أن أوفق في بابه إلى الكفاية مع المواظبة والصبر، ويطمعني في النجاح أن كل إنسان له أكثر من شخصية واحدة وإن كان لا يدري ذلك.
ويثقل على نفسي خاطر واحد يكاد يصدني عن المواظبة، هو ما جدوى ذلك كله؟ ما آخر هذا العناء الذي أراه باطلا؟ آخر ذلك كله معروف. وهل ثم من آخر سوى الفناء؟! ولكني أعود فأقول لنفسي: إن هذا الآخر لا آخر سواه؛ سواء بذل المرء الجهد أم قعد عنه وضن به، فلا فائدة من التقصير ولا ضير من السعي. والحياة أن تحيا، لا أن تجمد وتركد وتأسن. أما الجدوى فلماذا أعذب نفسي بالسؤال عنها، وما جدوى أي شيء في الحياة؟ إن كل ما أعرفه أني موجود، وأني وهبت قدرة على الإحساس والتفكير، فكيف أعطل هذه المواهب وأبطل عملها؟ وكيف يمكن أن أنعم بالوجود وأتمتع بالشعور به وأنا أعطل ما أعطيت؟! ويعرف الجدوى من أعطاني، فلندع ذلك له فهو أعرف به. *** «ألا تعرفني ما هذا الجديد؟»
ولم يكن كلامنا في الأدب أو الفنون، وإنما كانت المساكن والأحياء هي مدار الحديث، وكان الرجل يناهز الستين، ولكنه في نشاط ابن العشرين، وأنا آنس به وأسكن إليه، ويسرني أن أجلس بين يديه وأصغي - أو لعل الأصح أن أقول أنظر - إلى عباب حديثه المتحدر، فقد كان يذكرني بالبحر، ويروعني مثله بمثل فيضه الزاخر.
فقلت له: «يا سيدي، العارف لا يعرف، ولكني أستأذنك في أن أقول لك: إنكما جيلان - أنت وبنوك - ومن حقك أن تتبرم بهم وتسخط على نزعتهم في الحياة، وتستسخف مطالبهم وغاياتهم منها، أنت حر في ذلك، ولكن من حقهم أيضا أن يضجروا منك؛ لأنهم ينزعون غير نزعتك، وأن يطلبوا من الحياة غير ما تطلب؛ لأن وجوهها اختلفت. وأظن أن هذا عدل!»
فصاح بي: «عدل؟! كيف تقول؟! أعدل أن يخرجوني من بيتي ويحملوني إلى حي أنا فيه غريب لا أشعر إلا بالوحشة، ويقصوني عن أحبابي وأصحابي وعشراء الصبا وأخدان العمر كله؟ ما عيب بيتنا بالله؟! إني لست متعنتا. أنت تعرف بيتنا فهل فيه عيب؟!»
قلت: «كلا، وأشهد أن لا عيب فيه؛ واسع وصحي وأسباب الراحة فيه موفورة. نعم لا عيب فيه، ولكني أعترف بأني لو كنت ابنك لما فعلت إلا ما فعل بنوك؛ أي: لخرجت منه.»
فقال: «أنت كنت تفعل ذلك؟ حاشا لله! إنك عاقل.»
قلت: «المسألة ليست مسألة عقل، وإنما هي مسألة حياة تغيرت وجوهها، وزمن اختلفت المطالب فيه.»
قال: «إني أجادلهم كل يوم، الكلام في هذا لا ينتهي بيننا ...»
अज्ञात पृष्ठ