खिड़की से
من النافذة
शैलियों
فينشرح صدره ويبدو البشر والسرور في أسارير وجهه، ويعتقد أنه سينام في ليلته نوما هنيئا، ويقول لها: «تكلمي يا عزيزتي فإني مصغ إليك.»
ولكن بئر سفاهتها تكون قد نشفت، وبعد لأي ما تستطيع أن تجود عليه بما يملأ ربع ساعة، فكان الرجل يراها تسكت، فيهز رأسه ويقول لنفسه: «كلا، لقد كانت زوجتي الأولى - عليها ألف رحمة ورحمة - درة يتيمة.»
وكان إذا أراد النوم لا يزال يستحثها ويستثيرها لتسح عليه بالشتم، فيقول لها مثلا حين يبدو عليها الفتور، ويثني رأسها النعاس: «نعم يا عزيزتي، إن بالي إليك. لقد كنت تحدثينني عن فلانة، وكيف كنت أحملق في وجهها على الطعام ولا أحول نظري عنها إعجابا بجمالها.»
فتهيج به فتمطره صيبا من اللعنات الحرار التي تحيي نفسه وتنعش روحه، ولكن السحابة سرعان ما كانت تقلع ويعود إلى الجو صفاؤه البغيض، وإلى الليل هدوءه الثقيل، وإلى قلب ذلك المسكين حنينه إلى لسان زوجته الأولى، وبذاءتها المحبوبة، فيقول: «هل رأيت فلانة في ثوبها الجديد؟ تالله ما أشد انسجامه على قوامها الرشيق! لقد أخذت قلبي معها حين سلمت علينا البارحة.»
فتكر عليه بنفس متقطع وصوت محشرج من فرط الإعياء، فيرميها بآخر سهم في جعبته ويقول: «أسمعت ما قالت فلانة فيك؟ لشد ما أضحكتني والله.»
فتفتح عينيها وتسأله: «أضحكتك أيها الخائن؟ أتقول أضحكتك أيها الكلب؟»
فيستبشر ويقول: «وكيف لا أضحك وهي تقول: إن لك وجها كالسردينة؟»
ويغمض عينيه ويرهف أذنيه لسماع المشتهى من السباب وليتقي أمواج البذاء الهابطة بسوء القول فيه، ولكن البقية الباقية من قوتها لا تلبث أن تنفد، فيتحسر على النعيم الذي زال، ويظل إلى الصباح أرقا يصعد آهاته وتأوهاته على ما فقد حين ماتت زوجته الأولى، ويتأفف مما صار إليه بعدها من الضيقة في هذه الدنيا التي لا يحسن الناس فيها الشتم المريح.
وهذا مثل سقته بقدر ما ساعفتني الذاكرة كشاهد على فعل العادة، وكيف تثبت وتتأصل مع الزمن، ولا شك أن فيه إسرافا وشططا، ولكن الإسراف هنا ليس من الخطأ، بل المراد به التوكيد. وأعود الآن إلى «موروا» وصاحبه الذي تضجره الراحة، ويسئمه خلو البال من متاعب الحياة الزوجية، فهو يشتهي أن تتدلل زوجته عليه، وتتشيطن أحيانا لتعفيه من الركود، ولتبعث في نفسه الحركة وتثير في قلبه الشعور بالحياة وحبها من طريق الكفاح، فأقول: إني أنا لا أنقم من الحياة الزوجية ما ينقم، وإن كنت لا يسعني إلا الاعتراف بأني أمل أحيانا طول العهد بالراحة، ولكني لا أشتهي - كما يشتهي هو - عذاب القلب ووجع الرأس. ومهما يكن من ذلك فإن الواقع أن شكوى صاحبنا ليست فردية، وكل رجل - إذا اطلعت على سريرته - يشكو فيما بينه وبين نفسه شيئا من هذا، وكل امرأة - إذا اطلعت على سريرتها - يدور في نفسها الإحساس بالملل من تشابه ألوان الحياة وتكررها وعدم تنوعها، ولو أمكن أن تكون الحياة الزوجية - مع الطول والاستمرار - أكثر تنوعا، وأن تخلو من الاطراد الدائم الممل، وأن يعتور صفحتها - في بعض الأحيان وإلى الحد الكافي فقط - مقدار من الاضطراب يجعلها أنشط وأحفل بالحركة، ويكسبها بعض ما فقدت من الجدة، لصارت أمتع، ولكانت حقيقة بأن تكون أهنأ؛ لأن دوام الحال الواحد يفضي بها إلى الركود، والركود يبلد النفس ويفقدها الشعور بنعيم هذه الحياة، ولكن المصيبة أنك لا تستطيع أن تضع حدا للاضطراب يقف عنده ولا يتعداه، فلست تأمن أن تطغى موجته فتغرق فيها وتسوء العاقبة. على أنه يجب أن يكون مفهوما أن الحياة الزوجية، ليست هي التي يرجع إليها ما يشعر به الرجل والمرأة من الملل والسآمة، فإن كل حالة تطرد وتستمر على وتيرة واحدة تكون باعث ملالة وعلة ضجر، ولذلك يضجر المرء من عمله؛ لا لأن العمل في ذاته يثقل عليه، بل لأنه يرى نفسه يذهب كل يوم إلى مكان واحد من طريق واحد، ويباشر عملا لا يكاد يتغير، في أوقات لا تختلف، وبطريقة لا تتنوع، فتنتفخ مساحره ويشعر بالزهد ويحس بالحاجة إلى تغيير أسلوب حياته كله، وهذه هي مزية الإجازات والبعد زمنا عن العمل الذي يزاوله المرء، ولعل خير ما ينفي الملل عن الحياة الزوجية أن تكون هناك إجازات للزوجين يقضيانها منفردين، فإن ذلك خليق أن يكون أشوق وأشحذ للرغبة، وأبعث على الحنين إلى استئناف الحياة المشتركة.
على أن عقدة العقد في الحياة المشتركة بين الرجل والمرأة ليست هذه، بل مسألة أخرى؛ وتلك أن المخلوقين مختلفان في الحقيقة، ولكل منهما حياته ووظيفته فيها، واختلاف الوظائف في الحياة يؤدي إلى الاختلاف في أساليب التفكير وفي اتجاه الذهن، ومع هذا الاختلاف الجسيم يجب أن يتفق الرجل والمرأة ويتفاهما ويتسايرا ليسعدا، وينبغي أن تطرد حياتهما المشتركة على الرغم من اختلافها في مجرى واحد. فكيف يتيسر ذلك؟
अज्ञात पृष्ठ