ويرى أمه حزينة تلومه وتعنف به في اللوم، وترسل إلى ذلك الفلاح الذي أهدى إليه الصقر شتما قبيحا، وقد أخذ صاحبنا وهو ينظر في كتاب مكسيم جوركي دون أن يرى مما كتب فيه شيئا يستعرض هذه الذكرى، ويستعرض حزنه على الهدهد وحبه له من بعيد بعد تلك الكارثة، واقتناعه بأن الخير له وللهدهد في أن يتراءيا ويتحدثا من بعيد، ثم ينتقل من هذا الاستعراض إلى ما عرف من أمر الهدهد حين حفظ القرآن واستظهر سورة النمل وعرف قصة سليمان وملكة سبأ.
كل ذلك جعل يستعرضه وهو ينظر في كتابه دون أن يرى ما فيه، وقد استقر في نفسه أن لزيارة الهدهد لداره شأنا، وأنه قد جاء بالنبأ اليقين، وأن النهار لن ينقضي حتى يبلغه أمر ذو بال. والغريب الذي تستطيع أن تصدقه أو تكذبه - فلن يغير تصديقك ولا تكذيبك من الحق شيئا - هو أن النهار لم ينقض دون أن يأتيه النبأ العظيم.
والحق أن صاحبنا قد عاد في ذلك اليوم طفلا فعلق نفسه من بعض نواحيها الأخرى بالجرس، وعلقها من ناحية ثالثة من نواحيها بساعي البريد، وتستطيع أن تقول إنه جلس في مكتبه واجما وخصص إحدى أذنيه للتليفون وإحداهما الأخرى للجرس، ومد عينيه أمامه إلى النافذة يرقب من يمكن أن يصعد سلم الدار من الزائرين، وقد طال به ذلك وشق عليه، ثم أقبلت عليه شئون الحياة اليومية فصرفته عن هذا السخف صرفا ظاهرا، ولكن قلبه ظل بقية النهار ينتظر شيئا غامضا، وقد دعاه التليفون حين أقبل الأصيل، فلما استمع إلى ما قيل له وأجاب بكلمات قصار أسرع إلى زوجه يقبلها ويقول مستبشرا: ألم أقل لك إن الهدهد قد جاء بالنبأ اليقين؟! قالت زوجه: وما ذاك؟ قال: استقالت الوزارة ودعيت إلى الاشتراك في الحكم!
ولم تشرق الشمس من غد حتى كان صاحبنا وزيرا، ولم يرتفع الضحى من اليوم نفسه حتى كان صاحبنا لا يخاف شيئا كما يخاف الهدهد، ولا يبغض شيئا كما يبغض الهدهد، ولم يكن بالأمس يأنس إلى شيء كما كان يأنس إلى الهدهد، ولم يكن بالأمس يحب شيئا كما كان يحب الهدهد، ولكن صدق الهدهد قد استقر في نفسه كما استقر في نفسه أيضا أن الهدهد لا يستطيع أن يأتيه بعد الوزارة نبأ يسر أو يروق؛ فمن يدري إن أقبل الهدهد لعله يحمل نبأ استقالة الوزارة. وليس الهدهد صديقا له وحده من دون الناس يحمل إليه وحده الأنباء السارة، فقد يكون للهدهد أصدقاء آخرون يمكن أن يحمل إليهم أنباء سارة صادقة، ويمكن أن يكون من هذه الأنباء نبأ استقالة الوزارة والدعوة إلى الاشتراك في الحكم.
قل إن هذا منطق سخيف، وأؤكد لك أني أرى هذا منطقا سخيفا، ولكني أؤكد لك أيضا أن للحوادث منطقا غير منطق الناس، وأن التفاؤل والتشاؤم يعبثان بعقول الناس، فيفسدان منطقهم في رأي «أرسططاليس» وفي رأي الأستاذ لطفي السيد، ولكنهما يقربان بين هذا المنطق وبين منطق الحوادث أحيانا. والشيء الذي ليس فيه شك هو أن صاحبنا قد تطير بالهدهد طيرة شديدة كما كان يتفاءل به من قبل تفاؤلا شديدا، وأنه لم يسع قط إلى غرفة استقباله إلا وفي نفسه إشفاق شديد أن يرى الهدهد قائما على البيانو في مكانه ذاك، ولو استطاع لتقدم إلى أهله في أن تغلق نوافذ الدار ما أشرق النهار، وفي ألا تفتح إلا حين تنام الطير، والشيء الذي لا شك فيه أيضا هو أنه استحى أن يتقدم في ذلك إلى أهله مخافة أن يظنوا به الظنون، ولكنه تقدم إلى أعوانه في الوزارة ألا تفتح نوافذ مكتبه، وزعم لهم أنه يكره أن يأتيه منها الضجيج والعجيج، ويشفق من تيارات الهواء، ويؤثر الضوء الرفيق على الضوء العنيف.
وحياة الوزراء حافلة بخطوب السياسة وأحداثها، فهم يرضون إذا أصبحوا، ويغضبون إذا ارتفع الضحى، ويعودون إلى الرضى حين ينتصف النهار، ويردون إلى السخط حين يجلسون إلى الغداء كل ساعة من ساعات الليل والنهار تحمل إليهم في دقائقها ألوانا من الرضى والسخط ومن الأمن والخوف ومن القلق والهدوء. فكان صاحبنا كلما حدث حادث مغضب أو مقلق، وكلما نشر خبر مسخط أو مثير للخوف، لم يذكر إلا الهدهد، ولم ير أمامه إلا الهدهد، فقد كان الهدهد رسول النعمة إليه قبل أن يرقى إلى الحكم، فأصبح الهدهد نذير النقمة إليه بعد أن ارتقى إلى الحكم.
ولكل أجل كتاب، ولكل وزارة آخرة. وقد أقبل صاحبنا مع الضحى ذات يوم على مكتبه، ولكنه لم يكد يدخل حتى رأى حبيبه أمس وعدوه اليوم قائما بشكله الجميل البشع على حافة النافذة وقد نسي الخدم إغلاقها لأمر ما. ولست أصف لك ثورة الوزير الظاهرة، فقد تعرفها، وهي لا تعنيني، وإن كان خادم مكتبه قد سمع ما لا يرضى وقضى ساعة منكرة. وإنما أصف لك تشاؤم الوزير فيما بينه وبين نفسه: فقد أظلم قلبه، واربدت نفسه، وساء خلقه، وقبح لقاؤه للموظفين والزائرين جميعا، وعاد إلى أهله غضبان أسفا لا يكاد يبتسم ولا يكاد ينطق، وجلس إلى الغداء فلم يكد يصيب منه شيئا حتى قالت زوجه: إنك لمحزون منذ اليوم، هل من جديد؟ قال وهو يتكلف الابتسام: ما أدري! ولكني رأيت الهدهد البغيض. قالت وقد كادت العبرة تخنق صوتها: لقد أصبح الهدهد بغيضا الآن، وما أكثر ما كان يملأ قلوبنا غبطة وسرورا! ثم خلت إلى أبنائها فضحكت وضحكوا.
ولكن المساء لم يقبل في ذلك اليوم حتى كان صاحبنا يستأنف القراءة في كتاب مكسيم جوركي من حيث تركها، وحتى كانت زوجه تعزف على البيانو شيئا من ألحان «موزار»، أما هو فكان محزونا يلعن الهدهد، وأما هي فكانت راضية تثني على الهدهد ثناء كثيرا، وأما الناس فكان منهم الراضي المستبشر وكان منهم من مزق الغيظ قلبه تمزيقا!
تمصير
هي عاطفة طبيعية تسيطر علينا في أكثر ما نعمل وفي أكثر ما نقول. وأي غرابة في أن يكون الميل إلى تمصير الحضارة الأجنبية على اختلاف فروعها أظهر ما تمتاز به حياتنا العامة في عصر كهذا العصر الذي نعيش فيه، قد اشتدت فيه النهضة الوطنية، وقوي فيه الشعور بالقومية المصرية، وظهر فيه الحرص واضحا جليا على أن تكون شخصيتنا بارزة لا لبس فيها ولا غموض؟ وقد مضى عصر كنا نستعير فيه الحضارة الأجنبية استعارة من أوروبا ونجهر بذلك ونقدم عليه لا نجد فيه حرجا ولا نحس منه حياء، ثم مضى عصر آخر كنا نسرع فيه إلى هذه الحضارة الأجنبية مبتهجين بالإسراع إليها مفاخرين بالأخذ بأسبابها، يمتدح الرجل منا بأنه يحسن مجاراة الأوروبيين في هذا الأمر أو ذاك، ويحسن تقليد الأوروبيين في التفكير والقول وغيرهما من أساليب الحياة.
अज्ञात पृष्ठ