ونحن نعرف كتابا وشعراء، وممثلين وفنانين مختلفين لم يوفقوا إلى إرضاء الناس؛ لأن آياتهم الفنية كانت من الطرافة والجدة بمنزلة لم تكن قد سمت إليها بعد عقول معاصريهم، ولم يكن بد من أن تمضي عشرات السنين، ويتغير الجيل لتظهر القيمة الفنية لهذه الآثار، والناس مستعدون للإعجاب بما ألفوا، والرضا عنه أكثر من استعدادهم للافتتان بما لم يألفوا، ولا سيما إذا رأوا أنفسهم فيما يعرض عليهم من مظاهر الفن، ومن ذا الذي لا يرثي لنفسه حين يرى آلامه تمثل بين يديه، وكذلك كانت الحال في هذه القصة.
رأى كثير من الرجال والنساء فيها أنفسهم، فسخطت الأمهات على الزوجات، وحنقت الزوجات على الأمهات، ورثى الرجال لأنفسهم، واتعظوا جميعا، ووعدوا جميعا أنفسهم أن يلائموا بين حياتهم وبين ما خيل إليهم الكاتب أنه الحق أو العدل أو الخير.
والحق أن الكاتب قد استطاع أن يعرض لهذا الموضوع في شيء غير قليل من اللباقة والدقة وحسن الذوق، فيزيل منه طائفة من الظروف كان من شأنها أن تصرف الناس عنه، وتزهدهم فيه، ويكفي أن تلاحظ مثلا أنه تخير أشخاص قصته جميعا من الأغنياء المترفين، فألغى العقبة الاقتصادية، ولم يدع لضرورات الحياة المادية أثرا في هذه الحرب العنيفة التي أثارها بين الأم والزوج، ثم ألغى طائفة أخرى من الظروف تشبه هذا الظرف الاقتصادي، فلم يجعل الأم متقدمة في السن حتى لا يكون اختلاف السن مصدرا من مصادر الشقاق بين المرأتين، ولم يجعل بين هاتين المرأتين اختلافا ظاهرا في الطبقة حتى لا يكون تفاوت المنزلة الاجتماعية مؤثرا فيما سيكون بينهما من صراع، وإنما اجتهد في أن يكون الصراع معنويا صرفا يتصل بالقلوب والنفوس والعواطف أكثر مما يتصل بأي شيء آخر، ثم وفق من ناحية أخرى، فكان مصورا دقيقا بارعا، مسيطرا على خياله، لم يتكلف الاختراع وإنما تخير حوادثه بين هذه الأشياء اليسيرة السهلة التي تجري بها حياة المترفين في كل يوم، فلم يستطع أحد من النظارة أن ينكر حادثة أو يرى وقوعها بعيدا وغير مألوف.
وخصلة أخرى أظهرت حظ الكاتب من الكفاية الفنية، وهي أنه حصر أشخاصه في أقل عدد ممكن، فهم أربعة لا يزيدون إلا إذا نظرنا إلى الخادم الذي تكلف الكاتب إيجاده ليكون صلة بين هؤلاء الأشخاص ليس غير.
وكان يخشى على الكاتب أن تضطره قلة الأشخاص إلى أن يكون كثير القول قليل الحركة، فيفسد بذلك حواره، ويثقل وتتأثر القصة كلها من هذا الفساد، ولكنه استطاع على قلة الأشخاص أن يجعل حواره قصيرا خفيفا سريعا ما بقي عنده الأشخاص الأربعة.
فلما كان الفصل الثالث وذهب أحد هؤلاء الأشخاص ظهر أثر ذلك فطال الحوار، وثقل بعض الشيء، وأصبح أقرب إلى المناقشة الفلسفية منه إلى التمثيل الحي، ومهما يكن من شيء فإن في قراءة هذه القصة لذة عقلية وفنية لا بأس بها. •••
نحن في باريس في قصر تظهر عليه آثار النعمة والترف، فخم تحيط به حديقة واسعة كثيرة الأشجار، أقرب إلى الغابة منها إلى الحديقة نادرة في مدينة عظيمة كباريس، ونحن إذا رفع الستار نرى خادما يحاول أن ينظم طائفة من الآنية الدقيقة الغالية في حجرة الاستقبال، فتدركه سيدته هيلان، وهي امرأة جميلة رائعة كنساء التمثيل جميعا، في مقتبل عمرها، على وجهها نضرة الشباب والغبطة والسعادة؛ لأنها حديثة عهد بالزواج قد عادت منذ أيام من سياحة طويلة مع زوجها في إيطاليا ومصر، وهي تريد أن تنظم دارها الجديدة بحيث تلائم ميولها وذوقها الفني الرقيق، وهي تأمر الخادم بأن يصطنع الرفق في مس هذه الآنية، وتطلب إليه أن ينقلها في رفق إلى الطابق العلوي، وتعلن إليه أن هذه الحجرة سيغير نظامها، فيهدم الحائط الذي يفصل بينها وبين حجرة أخرى لتصبح الحجرتان حجرة واحدة حديثة التنسيق والنظام، على أن ينقل هذا الأثاث القديم إلى غرفة أخرى في الطابق العلوي، فيسمع الخادم هذا كله في شيء من الدهش والإنكار؛ لأنه يخدم في هذا البيت منذ ثلاثين سنة وقد عهده كذلك، وهو يعلم حق العلم أن أم سيده حريصة كل الحرص على أن تحتفظ به كما هو.
وتفهم من هذا الحوار بين الخادم وسيدته أن أم الزوج غائبة عن باريس منذ تزوج ابنها، وأن أبا الزوج قد مات منذ ثماني سنين، وكان رحيما رفيقا بابنه وامرأته، فلما مات فرغت المرأة لابنها، ووقفت عليه حياتها كلها، وعرف لها ابنها ذلك فأحبها حبا لا يعدله حب، واتصلت بينهما صلة قوية زادها قوة وغرابة شباب الأم ونضرتها، فكانا يخرجان للتروض والنزهة، فلا يشك من يراهما في أنهما زوجان أو خليلان، ونفهم من الحوار أيضا أن هذه الأم متسلطة قوية السلطة والإرادة، ونحس ضيق المرأة الشابة بكل ما تسمع، ولكنها على كل حال تأمر الخادم أن يمضي في تنفيذ ما أمرت به فيظهر الطاعة، ولكن في تثاقل وإبطاء، ويأتي الزوج وهو جورج شاتل، فتتلقاه امرأته لقاء حسنا، لقاء العاشقة المفتونة التي لا يقل عشقها لزوجها عن هيام زوجها بها، فيكون بينهما حوار نفهم منه أنه موافق لامرأته كل الموافقة على تغيير النظام في هذا البيت، ثم نفهم أنه مشوق إلى أمه، ثم نفهم أن الزوجين سيخرجان إذا كان المساء لتناول العشاء في مطعم من المطاعم الباريسية المشهورة.
والزوج يعلن إلى امرأته أن سيكون معهما ثالث فتضيق بهذا، حتى إذا ذكر لها اسمه رضيت واطمأنت، وهذا الثالث هو هنري فالان صديقها منذ الطفولة، وصديق زوجها منذ حين لم تره منذ تزوجت وهي شديدة الشوق إلى أن تراه؛ لأن له ولأبيه عندها يدا، ولأنها تضمر لهذا الشاب مودة طاهرة بريئة.
والزوجان في هذا الحديث وإذا رسالة برقية ينظر فيها الزوج فيبتهج؛ فهي تعلن إليه قدوم أمه اليوم، وقد كانا ينتظرانها آخر الشهر، وإذن فقد تغير برنامجهما فلن يخرجا ولن يرتاضا، وسيتناولان العشاء في البيت حتى لا يشقا على أمهما.
अज्ञात पृष्ठ