ورقة النصيب!
جلس «إسماعيل» على المقعد الخشبي بجانب غرفته على السطح، يغني في حنين الواجد ولهفة المشتاق بعض أغنيات بلاده، ويتابع بعينيه الشمس الغاربة منحدرة انحدارها اليومي كأنها جمرة تطفأ في النيل ...
كان يعيش في هذه الغرفة من منزل كبير في حي «بولاق» يشرف من بعد على النيل، فكانت سلوته وأنسه أن يجلس ببابها عصر كل يوم، من لدن عودته من المدرسة حتى يعم الظلام، ثم ينهض فيسرج مصباحه ويكب على مصوراته ودفاتره.
وقد انحدر منذ عام من بلده في الصعيد الأدنى عقب حصوله على شهادة «الكفاءة» ليطلب العلم بمدرسة الفنون ...
كم كان مفتونا بالقاهرة قبل أن يهبط إليها، ولوعا بها أشد الولع. ولعله لم يمعن في الجد والدأب للحصول على الشهادة إلا لأنه كان موعودا أن يبعث إلى القاهرة إن جاز الامتحان ...
فلما هبط إليها إذا هي تتضاءل وتتضاءل على الأيام حتى لم تعد إلا هذا الحي العتيق الذي يسكنه، وهذه الطريق الملتوية التي يسلكها كل يوم بين مدرسته والبيت، وهذا السطح الذي يشرف منه على أطلال الحلم السعيد؛ أطلال القاهرة التي عرفها في الخيال، واستمتع فيها بلذة المنى وأحلام الشباب ...
وكم كان يتمنى أن يتيح له الحظ ليلة سعيدة من تلك الليالي العابثة التي عاشها في القاهرة أول ما هبط إليها، ولكن ... من أين له المال؟
إنه لا يزال يذكر في لهفة وشوق تلك الليالي السعيدة، وما يزال يذكر أيضا في ألم وحسرة أنه احتمل مما أنفق في تلك الليلات ما لم تكن له به طاقة من ألم الجوع وذل الحرمان، وأبى أن يكتب إلى أبيه يومئذ أنه فارغ اليد مما أسرف على نفسه!
وقنع من أحلامه بهذه السكنى الهادئة، وبأن يعيش من الجنة في ظل حائطها الفينان، وعرف فيه بنات الدار شابا جم الحياء، عفيف اللسان والنظر، فألفن الصعود إلى السطح في الأصيل يستمعن إلى ترجيع أغانيه في طرب ونشوة، ثم يتفرقن قبل أن يزحف الظلام، وألف إسماعيل أن يراهن كل يوم، وأن يبادلهن الحديث البريء في شئون وفنون ... وزال الحجاب بينهما على الأيام ...
وأطال إسماعيل الجلوس يومئذ حتى غابت الشمس ولم تصعد واحدة . ترى ماذا منعهن الليلة وقد اعتدن واعتاد منذ شهر أو يزيد - منذ سكن هذه الدار - أن يجالسهن جميعا أو أشتاتا، ساعة أو بعض ساعة كل مساء ...؟ ومد الظلام رواقه على القاهرة وعلى قلب المبعد الولهان.
अज्ञात पृष्ठ