لكأنما كانت تحاول أن تغسل بالدموع ذلك السر الذي أطل عليه من عينيها حين نظرت ونظر، فلم ترقأ دمعتها ليلتئذ!
ولما جلست إليه في الزورة التالية بعد أيام، حاولت أن تقول شيئا ثم أمسكت ... لقد خيل إلى المسكينة أنها تستطيع أن تتخفف من وقر ذلك الماضي الذي تثقل ذكراه على ضميرها لو باحت به بين يديه، ولكنها لم تقدر، فسكتت على ألم! ... وراحت الأيام تدنيهما قلبا إلى قلب، وروحا إلى روح، حتى صفا الود بينهما، وتراءيا نفسا لنفس، وكشفت لها الأيام منه كنزا من الإخلاص والوفاء والرجولة، فمنحته الإعجاب إلى ما كانت تمنحه من الاحترام والطاعة!
وأخذ الماضي يتلاشى من خيالها، ويستتر في حجاب وراء حجاب من فضائل خطيبها، حتى نسيت، فلم يعد شيء من ذلك الماضي يلم بها أو يخطر لها على قلب، وأنست إلى حاضرها وسعدت به!
وصحبت زوجها إلى داره، والتقيا روحا وجسدا وعاطفة، وثابت نفسها إلى الاطمئنان والرضا، فراحت تبذل لزوجها ما تستطيع أن تبذل، وراح زوجها يبذل لها؛ ورفرف طائر السعادة على عشهما يغرد ألحانه. ومضى عام وصار الاثنان ثلاثة، واجتمع شمل الأسرة السعيدة على الوفاء والحب والإيثار؛ وكما يشرق الصبح في أعقاب ليل داج فيغسل ظلماته بفيض من النور ويمسح على وجه السماء فإذا هي مشرقة تتألق، كذلك كان حاضرها من ماضيها، وتلفف الماضي في أكفانه ودفنته الأيام في أعمق أغوار النسيان!
ثم كان مساء، وكانت هدى تسابق طفلها في شارع خال على شط النيل، حين برز لها شبح فألقى ظلاله في طريقها ثم تراءى لها، وانبعث الماضي إنسانا حيا يحدق في وجهها بعينين فيهما ظمأ وجوع، وانطوى الزمان فكأن ما مر من السنين لم يكن إلا خفقة طرف سافرت فيها النفس ثم آبت، وطفت الذكريات الراسبة في أعمق الأغوار فتصورت بسمات على شفاه تختلج ، ونجوى في عيون تتلاحظ، وهتف ماجد في همس: هدى ...!
وهمت هدى أن تجيب النداء فما أطاقت، ورانت على عينيها غشاوة، ودار رأسها فأوشكت أن تسقط، فاستندت إلى جذع شجرة قائمة وأغمضت عينيها، وتعاقبت على الواعية الباطنة صور وذكريات، وخيل إليها أن أصواتا كثيرة تهتف بها، وأن متكلما يتكلم ويسأل ويجيب ولا سميع، ثم أفاقت على صوت ناعم يناديها ويجذب ثوبها: «ماما، ماما، أنا سبقتك!»
وانحنت على طفلها فحملته بين ذراعيها وكرت راجعة، وأوت إلى مخدعها تبكي!
وكعهدها في ليلة سلفت منذ سنوات، كانت في تلك الليلة، وخلت إلى نفسها تتدبر أمرها وتزن ماضيها وحاضرها، وشعرت كما شعرت من قبل أنها قادمة على أمر ذي بال، وأنها الساعة في مرحلة بين مرحلتين من حياتها، ولكنها في هذه المرة لم تكن في شك من الطريق الذي ينبغي أن تسلكه، وإن كانت تطأ فيه الشوك وتدوس على الجمر!
ودنا الطفل من أمه وعلى شفتيه كلمة صامتة وفي عينيه سؤال ...
ومدت أمه إليه يدا فضمته إلى صدرها وانحنت عليه، وراحت تبكي بلا دموع: «يا ولدي ...!»
अज्ञात पृष्ठ