أما هي فتبدلت نفسها منذ الساعة واستغرقها حلم عميق، فراحت تعرض ماضيها وحاضرها وما تأمل أن يكون في غد، وذاقت أول ما ذاقت من طعم السعادة معنى القلق ...!
وأما هو فقد خفت نفسه وحلقت في سماواتها، وأحس شعور الراحة والرضا والاطمئنان، فمضى يدبر أمره أطيب ما يكون نفسا بما فعل وبما يريد أن يفعل من أجل الفتاة التي رفعه أبوها وهيأ له سبيل الغنى والجاه والرياسة؛ فإنه ليحس بأن له عليه دينا ثقيلا يقتضيه الوفاء لابنته!
واسترسلت الفتاة في أحلامها ...!
لقد شعرت منذ زارها شفيق وأهدى إليها هديته شعورا لم يكن لها به عهد، فراحت تذكر ماضيها منذ رأته أول مرة، ثم كيف كانت تراه بعد؛ ومضت تعلل وتفسر وتستنبط وتستشف حجاب الغد: هذه الابتسامة التي كان يلقاها بها كل صباح، وتلك النظرة التي يودعها بها كل مساء، وذلك الإحسان في المعاملة، وهذا السخاء في المكافأة، وهذه الهدية في ليلة العيد ... إنها آيات بينات، وإنها لتزعم لنفسها أنها تعرف دلائلها، بل إنها لتحاول الليلة أن تقنع نفسها أن ذلك الشعور الذي تشعره منذ قريب ليس جديدا عليها، ولكنه سر يستعلن وضمير يتكشف وحب كان يستره الحياء فانكشف عنه حجابه. بلى، إنها لتحبه حبا صريحا رسخت جذوره على الأيام في أعماق قلبها إلى إبانه! هكذا قالت لنفسها قبل أن تأوي إلى فراشها لتتم في منامها الحلم اللذيذ الذي بدأته في يقظتها ...! ... وقال شفيق لنفسه وهو في طريقه إلى داره: حسن! لقد فعلت اليوم شيئا ولكن علي أشياء، إن روح أبيها لتتمثل لي لتذكرني بواجبي، فأكون لها كما كان أبوها لي؛ زهرة غضة لفحتها أعاصير الحياة الهوج فاقتلعتها من منبتها إلى حيث ألقتها دامية على الشوك، فلم تشك حظها ولم تتسخط. ما أحراها وأحر بي أن أذيقها طعم السعادة التي حرمتها، وأن يكون لها عيد مثل عيد الناس ...! هؤلاء الفتيات اللاتي يغدون ويرحن مع أزواجهن أو آبائهن يحملن هدايا العيد ويرفلن في مطارف الشباب وأبراد السعادة، لسن أولى من سمية بما يتمتعن به ...! دين طالما هممت بالوفاء به، ثم نهنهت نفسي مخافة أن أجرح كبرياءها إن مددت إليها بالإحسان يدا، ولكنه دين الحي للميت، لا حل منه ولا براءة، وقد استأذنتها فأذنت ...
وراح شفيق لموعده صبيحة يوم العيد، وخرجا معا يرودان مغاني الشباب ومجالي الأنس والمسرة ذراعا إلى ذراع، وفي كل قلب حديثه ونجواه ...
عاطفتان من أسمى ما غرس الله في قلوب البشر. أما قلب فيخفق بالحب وسعادة الأمل؛ وأما قلب فتغمره سعادة الرضا وتملؤه عاطفة أسمى وأنبل. وإن في الحياة ما هو أسمى من الحب وأنبل ...
وشعر كلاهما أن الله يظلهما بجناحي رحمته حين تحققت لكل منهما أمنيته ...
ومضيا وإنها لسعيدة وإنه لسعيد، لا يكاد يشغلهما عن أمرهما شيء، والشباب يجدد لسمية كل يوم مناها ويوقظ أحلامها وهي نائمة، ثم استيقظت فجأة ...
وغدا عليها شفيق ذات صباح ينبئها ... ... كانت سمية قد ذاقت في أيام قلائل من ألوان السعادة ما لم تكن تتوقع أن يتهيأ لها في عمر مديد؛ ونالت - بمعونة صديقها - حظوة ورياسة في العمل الذي تتولاه لا تتسنى لمثلها بعد سنين من المثابرة والدأب، وزاد أجرها زيادة مرموقة تهيئ لمثلها العيش الرغد في أمان وثقة بالمستقبل. ولكن الغد السعيد الذي كان يتخايل لها في أحلامها ويقظتها، وتتنوره على البعد قريبا قريبا دون مد ذراع؛ ذلك الغد كان يشغلها عن الشعور بما هي فيه؛ فلم تكن من كانت، فتاة تعيش ليومها بلا ماض تأسى عليه ولا أمل تتشوف إليه؛ فقد أجد لها هذا الشعور الطارئ أملا ترقب له الغد، ولكن هذا الغد الذي كانت تتوهم أنها تنظر إليه - حين تنظر - من وراء ستر رقيق، لم يكن إلا صورة في إطار ليس وراءه إلا الحائط الصلب، على حين كانت تظن أنها بالغة إليه بين صبح ومساء؛ ومدت يدها تهتك الستر لترى، فإذا الإطار الذي يمسك الصورة الخادعة يردها إلى حقيقة دنياها فيوقظها من أحلامها ... ... وقال لها شفيق: «أنت مدعوة غدا يا صديقتي إلى حفل زفافي ...!»
وفغرت الفتاة فاها مدهوشة وهتفت: «حفل زفافك!»
अज्ञात पृष्ठ