وفرغ الخطيب من خطبته فتنحى عن موقفه، فتقدم الفتى إلى موضعه وهم أن يتكلم ...
وتدافعته الأيدي ... ونظر إليهم ونظروا إليه ... وتعارفت وجوه وتناكرت وجوه، ووقف الفتى ثابتا في مكانه، وارتفع صوته يبث جلاجل نفسه، وهتف: «أيها السادة!»
وسمعها السادة وقوفا وأبصارهم إليه، ومضى يقول ... «أشكركم ...!»
وعرفه من عرف ولم ينكره من جهل، وتدافعوا إليه ... إنه هو ... الفقيد العزيز! «ذلك يوم البعث ولا ريب.» قالها كل مستمع لصاحبه ...
لم يمت أحمد، ولم تأكله وحوش الصحراء، ولم يحمله من حملوا إلى قبره يوم حملوا الرفات المجهول النسب من مجهل الصحراء إلى معلمها، ولكنه كان حيا يرزق. كان يهيئ نفسه ليلقي أبلغ خطبة جهر بها خطيب، وأبين قصيدة نظمها شاعر، وأبرع سخرية أبدعها أديب، فخطب، ونظم، وسخر ... واستمع لرأي الناس فيه ميتا حيا؛ وأسمعهم رأيه.
وبلغ المجد الذي أراد، وبلغ ما شاء من الانتقام لنفسه ومن السخرية بالناس! وعاش ...!
لقاء ...
كان الندي مزدحما بالسامرين على عادته كل مساء، قد تحلقوا حول الموائد جماعات جماعات، في البهو، وفي الشرفات، وعلى الطوار؛ وكان الميدان الفسيح الذي يشرف عليه الندي، مراد العيون ومستراح النظر؛ فما تقع العين منه إلا على منظر أنيق ومرأى فاتن، والسيارات تتهادى ذاهبة آيبة تحمل كل منها قصة حب أو تسر حديث هوى، وأسراب الملاح تتواكب في مطارف الفتنة وعطر الشباب غادية إلى ميعاد أو رائحة إلى أمل، ونسيم المساء الهادئ ينفح عطره ويهمس في كل أذن حديثه ... ... وكان ثمة بضعة نفر جلوسا إلى مائدة مستديرة في ظل وارفة لفاء يتجاذبون الحديث ويتبادلون الفكاهات في أنس ومسرة؛ أولئك «رفيق» وأصحابه.
بضعة نفر لا يشغلهم من هم الحياة ما يشغل الناس، جمعهم الشباب على هوى مشترك، وألفت بينهم الحياة على رأي جميع، واجتمع لهم من أسباب النعمة ما أغنى بعضهم عن بعض فقرب بعضهم إلى بعض، فهم قدم واحدة بكل سبيل، وقلب واحد في كل هوى، ورأي واحد في كل مغامرة من مغامرات الشباب. ذلك مجلسهم كل مساء حيث يلتقون فيقص بعضهم على بعض من حديث الهوى والشباب، فلكل فتاة من فتيات المدينة بينهم حديث، ولكل منهم من حديثها خبر، ولكل غادية ورائحة لحظة عين وبنت شفة!
على أن رفيقا وأصحابه لم يجتمعوا الليلة لمثل ما يجتمعون كل مساء؛ فإن لهم اليوم لشأنا يشغلهم عن لحظات العيون وبنات الشفاه وأقاصيص الهوى والشباب؛ فقد غدا عليهم «رفيق» يؤذنهم بخبر لم يكن لهم في حساب، لقد اعتزم أن يتزوج ...
अज्ञात पृष्ठ