لقد كانت تستمع إلى حديث صاحبتها كأنها في حلم من الأحلام، وأسلمت نفسها إلى الأماني تطير على جناحيها من جو إلى جو مغردة طليقة؛ على أنها لم تكن تفكر في ملذات المدينة وما فيها من وسائل النعيم والترف، أكثر مما كانت تفكر في شأن نفسها حين تعود إلى القرية مثل عودة نعيمة: معززة مرعية تعترك حولها النظرات وتصطرع الأماني؛ حينئذ تستطيع أن تظفر بمن تحب وهي آمرة مطاعة!
كانت «زاهية» فتاة في نضرة الشباب، ولها حظ من الجمال يحببها إلى كثير من فتيان القرية، على أن فتى واحدا من بين الجميع كان أدنى منزلة إلى قلبها: سرحان!
لم تكن تحبه حب بنات المدن، فما يعرف بنات القرية هذا اللون من الحب ولا هن يجدن من أنفسهن جرأة عليه، ولكنها به جد معجبة، تجد في تذكره لذة، ويملأ نفسها غبطة ومسرة أن تروي عنه أو تستمع إلى أخباره، وهي مع ذلك لم تجلس إليه مرة، ولم تبادله كلمة، ولم يلتقيا في نظرة حب. أتراه كان يعلم أن زاهية معجبة به؟ وهل كان له إليها هوى ونزوع؟ من يدري ...؟ أما هي فكانت تعلم من ذات نفسها ما لا يعلم أحد، فطالما صحبته في أحلامها ليالي عدة، وأرقت بذكراه في فراشها ليالي أكثر عددا، وما كان لها في الحياة إلا أمنية واحدة، قريبة على مد البصر، دانية كشعاع القمر على صفحة الغدير: هي أن تصير يوما زوجة سرحان!
تلك أمنية كانت ثم اعترضت دونها الأقدار؛ فقد مات أبواها وهي سادرة في أحلام الشباب، سابحة في أوهام الحب. وكان صباح وكان مساء، فإذا هي وحدها في دنيا جديدة، ليس لها من يرعاها ويتولى أمورها غير ابن عمها «إبراهيم»، وكان صباح وكان مساء، وإذا ابن عمها وراعيها هو خطيبها وزوجها المنتظر!
لم تكن زاهية تحب ابن عمها إبراهيم، ولكنها لم تكن تبغضه، وما كان لها أن تبغضه وما أساء إليها قط، وإنه ليرعاها ويجهد جهده في خدمتها والسهر عليها، ومع ذلك لم يكن يسرها أن تذكر أنه سيكون زوجها بعد قريب. أكان ذلك لأنه لم يصادفها عذراء القلب؟
وما كان إبراهيم ليفكر من قبل في زاهية، وما كان يخطر له على بال أن ستصير زوجته؛ ولكن الأقدار قد فرضتها عليه بعد موت أبيها، فهو ابن عمها، وعليه وحده أن يتولى أمرها ويكون لها، ولكنه مع ذلك لم يكن ملحدا في القدر الذي فرضها عليه، ولا ساخطا على الحظ الذي ربطه إليها وربطها إليه، فإنه لرجل يدرك تبعات الرجولة وينهض بأعبائها! ... وجلست زاهية تستمع إلى حديث صديقتها نعيمة، وإن خيالها ليسافر بها ويئوب، وإن أمانيها لتتنقل بها في عوالم مليئة بالسحر والجمال والفتنة، وإن أحلامها القديمة التي هجرتها منذ خطبها إبراهيم، لتستيقظ في نفسها فجأة وتردها إلى ماضيها ...
لم تكن كل مزايا القاهرة عندها أن فيها تلك المباهج والملذات التي تفتن نعيمة في وصفها، ولكن مزيتها الكبرى عند زاهية أنها تصنع الجمال الذي يسبي ويسحر ويصيد قلوب الشباب! ... وانفض السامر، وأوت كل فتاة إلى دارها لتستتم في أحلامها ما سمعت في يقظتها، ولكن زاهية باتت ليلتها ساهرة لم يغمض لها جفن ولم يزرها الكرى، تراوح بين جنبيها على الفراش اليابس في القاعة الدافئة، وحولها أكداس الحصيد، وقفة الدقيق، وقدر الطعام، وفي زاوية القاعة نعجة تجتر ...
وبدا لزاهية من أحوالها في تلك الليلة ما لم يبد لها في يوم من أيامها، وأحست في نفسها إحساسا قويا أنها شقية ومحرومة وبائسة، وتبرمت بنفسها وبما حولها تبرما لا طاقة معه على الاحتمال؛ فأخذت تفكر تفكيرا جديدا لعل مثله لم يخطر على بال واحدة من سكان القرية جميعا قبل زاهية ...
صاحت الديكة على سطوح المنازل، وعوت الكلاب تنبح كل غاد ورائح، وثغت الشاء، وخار الثور، واستيقظت القرية كلها مع أول شعاعة من شعاعات النهار، وقامت زاهية من مرقدها متثاقلة تتثاءب وتتمطى، ونفض الكون ظلمات الليل عن كاهله، فمحت آية النهار ما كان يعتمل في رأس زاهية من أفكار سود، فأقبلت على عملها كشأنها كل يوم.
وسمعت طرقا على الباب، فمضت إليه تفتحه في حركة آلية كشأنها كل صباح؛ لتستقبل خطيبها إبراهيم، وكانت لهما حاجة في الحقل، فصحبته خطوة إلى خطوة.
अज्ञात पृष्ठ