شيء آخر دهشت له وأعجبت به، هو وطنية هؤلاء الناس، كنت لا أكاد أشك في أن أحد الأستاذين اللذين كانا يصحباننا مجنون أو قريب من الجنون؛ ذلك لأنه كان لا يتحدث إلينا إلا متأثرا ثائرا شديدا فرحا مرة حتى يبلغ الضحك، ومحزونا مرة أخرى حتى يبلغ البكاء. ولست أغلو، فقد كان الأستاذ يضحك ويبكي، وكنا في عجب من أمره، ثم علمنا أنه عاش في مدينته أثناء الحرب، وأنه كان بطلا من أبطال هذه المدينة، وأنه جاهد جهادا عنيفا ليحتفظ بآثار هذه المدينة وآياتها من غارات الألمانيين الذين كانوا يريدون أن يستأثروا بكل شيء. ولقد أثر في نفسي صوت هذا الرجل حين كان يقول لنا: «تعالوا أيها السادة إلى الميدان الكبير، فستسمعون فيه صوت جرسنا العتيق الذي لا يجهله مؤرخ، واذكروا أيها السادة حين تسمعون صوت هذا الجرس أني أنقذته في آخر لحظة حين كان الألمان يريدون أن يرسلوه إلى المسبك.» ذهبنا إلى الميدان الكبير وسمعنا صوت الجرس: صوتا يملأ المدينة، وليس في ذلك غرابة، فهو قد أنشئ لذلك. سمعنا صوت الجرس يوقع ألحانا موسيقية مختلفة، وإننا لكذلك وإذا الرءوس حاسرة؛ لأن الجرس كان يوقع النشيد البلجيكي، وإذا الأستاذ ينتحب ويقول في صوت متهدج: «معذرة أيها السادة، فإني بلجيكي.» ولم يكن الأستاذ يبكي وحده وإنما بكى معه بعض المؤتمرين.
باريس في 5 مايو 1923
7
عدنا إلى العمل صباح الخميس 12 أبريل، فسمعت محاضرات كثيرة مختلفة لا أعرض لها؛ لأن الصحف السيارة لا تتسع لمثلها، ولكني أذكر محاضرة واحدة سمعتها في لجنة تاريخ الديانات ؛ لأن الذي ألقاها صديق لكثير من المصريين وهو الأستاذ «لويس ماسينيون»
Louis Massinion ، ولأن هذه المحاضرة أثارت مناقشة طويلة حادة، ولأن موضوع هذه المحاضرة يمس الإسلام وهو «أثر التصوف في تكوين العقائد الدينية عند المسلمين»، والحق أني لم أفهم الغرض الذي رمى إليه المحاضر، وإن كنت قد اشتركت في المناقشة، لم أفهم هذا الغرض لأنه لم يكن بينا، ولأن أساس البحث الذي ذهب إليه المحاضر خطأ فيما أعتقد، فكثير من المستشرقين أمثال الأستاذ «لويس ماسينيون» على مهارتهم وحسن بلائهم في فهم اللغة العربية وخدمتها، يخطئون في فهم هذه اللغة أحيانا، ويقيمون على أغلاطهم نظريات طويلة عريضة عميقة، ولكنها ليست بذات غناء. لم أفهم الغرض الذي رمى إليه الأستاذ وأحسب أن كثيرا من الأعضاء لم يفهم هذا الغرض، ومع هذا فقد تناقشنا كثيرا، ولكن موضوع المناقشة لم يكن ما أراد الأستاذ أن يثبت من تأثير تصوف في تكوين العقائد الدينية عند المسلمين.
فلم يحفل أحد من الأعضاء بهذه النظرية، وإنما كان موضوع المناقشة هو أن التصوف العربي أثر خالص من آثار العرب، أو شيء للعرب فيه حظ، ولكن معظمه موروث عن الأمم الأخرى. أما الأستاذ ماسينيون فكان يعتقد أن هذا التصوف عربي خالص، أو يوشك أن يكون عربيا خالصا، وأن ما يمكن أن نجد فيه من موافقة لما عند الأمم الأخرى لم يؤخذ عن هذه الأمم، وإنما هي المصادفة وتوارد الخواطر ووحدة النظام العقلي في التفكير مهما تختلف الأمم ومهما تختلف البيئات. فليس حتما إذا فكر العربي كما فكر اليوناني أن يكون اليوناني والعربي قد فكرا بطريقة واحدة فاهتديا إلى نتيجة واحدة، وإذن فيجب ألا نغلو في القول بأن العرب قد أخذوا عن غيرهم هذه النظرية أو تلك.
هنا اشتدت المناقشة، فمن الظاهر أن توارد الخواطر ممكن، بل إنه واقع، بل إن هناك نظريات تشترك فيها أمم مختلفة دون أن تكون إحداها قد أخذتها عن الأخرى، ولكن إمكان الشيء غير وجوده بالفعل، وليس يستطيع التاريخ أن يكتفي بالإمكان والفرض، فذلك شيء قد يكتفي به الفلاسفة والمفكرون. فأما المؤرخون فيريدون الحقائق الواقعة، ولا يلجئون إلى الافتراض إلا لتفسير هذه الحقائق تفسيرا مؤقتا حتى يتاح لهم استكشاف الحقائق الواقعة التي تفسر ما لديهم. فإذا رأينا عند العرب فكرة صوفية أو غير صوفية توافق ما رأينا عند اليونان أو عند الفرس، كان لنا أن نفترض توارد الخواطر، وكان لنا أن نفترض الأمرين جميعا، وأن نبحث عما يرجح هذا الفرض أو ذاك، وهنا تظهر قيمة المؤرخ وتظهر قيمة التاريخ، وليس يجب أن نجد النص التاريخي الذي لا يحتمل الشك على أن العرب قد أخذوا عن اليونان أو عن الفرس لننفي توارد الخواطر، فكثيرا ما تضيع النصوص دون أن يكون ضياعها مصدرا لضياع الحقيقة، وليست النصوص كل شيء في التاريخ، فهناك الصلات التي تختلف قوة وضعفا وتتفاوت متانة ووهنا بين الأمم، وهذه الصلات إذا أثبتت ثبوتا تاريخيا كافيا أباحت للمؤرخ أن يرجح تأثير الأمم بعضها في بعض، وليس يجب أن يكون هذا التأثير ظاهرا يعلمه الناس جميعا، يعلمه من أثر ومن تأثر، فأشد أنواع التأثير عملا في الحياة الاجتماعية، بل في الحياة الدولية - إن صح هذا التعبير - هو ما كان خفيا يجهله مصدره كما يجهله قابله.
فإذا ثبت أن اليونان مثلا كانوا يرون هذا الرأي بعينه، وكان فلاسفتهم يشرحونه ويفسرونه ويدرسونه في المدارس المختلفة، وأن اليونان قد وصلوا إلى الشرق، ونقلوا إليه علمهم وفلسفتهم، وتركوا فيه عادات وضروبا من التفكير ليس إلى إنكارها من سبيل، وإذا ثبت أن هذه الآراء أو هذا الرأي لا يلائم ما نعرف عن بداوة العرب ولا عن صدر الإسلام، كان من الحق أن يرجح المؤرخ أن ظهور هذا الرأي أو هذه الآراء في الفلسفة العربية أو في التصوف العربي - بعد أن اختلط العرب بالأمم التي خضعت لتأثير اليونان، وبعد أن تعربت هذه الأمم فكتبت علمها وفلسفتها بالعربية بعد أن كانت تكتبها باليونانية - أثر من آثار الفلسفة اليونانية والعلم اليوناني لا نتيجة من نتائج الابتكار العربي. وقل مثل هذا في الفقه، فنحن نعلم أن العرب لم يترجموا فقه الرومان ولم يدرسوه درسا منظما، ولكنا لا نشك في أن الفقه الإسلامي قد تأثر بالفقه الروماني قليلا أو كثيرا، سواء أعلم بذلك الفقهاء أم لم يعلموا؛ ذلك لأن البلاد الإسلامية قد خضعت لحكم الرومان وقوانينهم دهرا، ولأن هذه القوانين قد درست درسا مزهرا في الشام والجزيرة العربية ومصر. فيجب أن يترك حكم الرومان وقوانينهم ودرس هذه القوانين آثارا قوية في حياة الشعوب التي خضعت لها، وأن تتكون من هذه الآثار الحياة الاجتماعية لهذه الشعوب، والعرب لم يهدموا كل شيء، وإنما صبغوا أكثر الأشياء التي وجدوها بالصبغة الإسلامية، فليس غريبا، بل ليس من شك في أن كثيرا من أحكام الفقه الروماني قد اصطبغت بالصبغة الإسلامية دون أن يشعر الفقهاء بذلك. فنحن نحسب هذه الأحكام إسلامية خالصة حين هي إسلامية رومانية. لا يغضب العلماء، فأنا أذكر الفروع لا الأصول، ولعلهم لا ينكرون أن الفقهاء يعتبرون العرف في كثير من مسائل الفقه، وأن هذا العرف إنما يكون من النظام اليوناني والروماني والفارسي، هذه النظم التي تعاقبت على الشام ومصر والجزيرة، وإذن فهناك تأثير خفي قد يكون أشد وأقوى من التأثير الواضح الذي تحدثه الأمم بعضها في بعض. ومن الإسراف أن نقطع بأن هذا الرأي أو هذه النظرية أثر عربي خالص أو أثر يوناني خالص، وإنما سبيل القصد في ذلك - إذا لم توجد النصوص - هو ترجيح تأثير الأمم بعضها في بعض حتى يظهر ما يبين خطأ هذا الترجيح.
حول هذه النقطة دارت المناقشة، ولم يستطع الأستاذ «ماسينيون» أن ينكر صحة هذا الاستدلال، ولكن الذي أعجبني في هذا كله أن خمسة أو ستة اشتركوا في هذه المناقشة غير الأستاذ «ماسينيون» وغيري، وكان منهم الفرنسي والإنجليزي، وكانوا جميعا يلمون بتاريخ الدين الإسلامي إلماما حسنا يمكنهم من المناقشة والاستدلال ببعض النصوص؛ بل إن أحدهم كان يستدل بنصوص لا نستطيع نحن في مصر أن نستدل بها مع أنها نصوص إسلامية؛ لأنها نصوص فارسية، ولأن علماء الدين الإسلامي في مصر يكتفون بدرس شيء من الكتب العربية، وليس منهم من يتخصص بدرس تاريخ الدين الإسلامي عند الفرس أو عند الهنود، وبقراءة ما كتب الفرس أو ما كتب الهنود في الدين. وحسبك أن المئات من علماء الإسلام في مصر لا يعرفون إلا اللغة العربية، ولست أطالب العلماء بدرس اللغة الفرنسية والإنجليزية فقد يكون ذلك واجبا محتوما، وإنما أطالبهم بشيء آخر أشد من هذا وجوبا، وهو أن يدرسوا الدين الإسلامي كما ينبغي. والدين الإسلامي عربي ولكن أمما غير العربية قد اعتنقته ودرسته وكتبت فيه، وأؤكد للعلماء أن الدين الإسلامي قد أثر في هذه الأمم كثيرا وتأثر بها كثيرا، وإذن؟ وإذن فمن الحق على علماء الإسلام أن يدرسوا تاريخ الإسلام، لا في مصر والشام وحدهما، بل فيهما وفي بلاد الإسلام الأخرى، ولو أني من علماء الإسلام، ولو أن لي كلمة مسموعة بين علماء الإسلام، لاقترحت وألححت في الاقتراح أن تدرس اللغات الأجنبية الإسلامية في الأزهر الشريف، وأن تكون هناك فصول تتخصص في درس الفارسية، وأخرى في درس التركية، وأخرى في درس اللغات الإسلامية التي ليست تركية ولا فارسية. فمن المؤلم ومن المخزي أن تدرس كتب الدين التي كتبت بالفارسية أو بالتركية أو بلغة أخرى من لغات الهند مثلا في فرنسا وإنجلترا وألمانيا وأمريكا وأن يجهلها علماء الإسلام في الأزهر الشريف!
والأزهر الشريف بعد هو الجامعة الإسلامية الكبرى!
अज्ञात पृष्ठ