كان لذيذا جدا ذلك اليوم الثاني من أيام المؤتمر؛ كان لذيذا وكان مفيدا. لم نكد نبدأ أعمالنا في ذلك اليوم حتى سمعت في لجنة المحفوظات مذكرة نافعة قدمها مدير المحفوظات في بلجيكا عن نظام إدارة المحفوظات، وما يجب أن يتخذ من ضروب الحيطة، حتى لا تضيع هذه المحفوظات ولا تتعرض للخطر، وسأحدثك عن هذه المذكرة في مقال آخر أصف فيه دار المحفوظات في بروكسل، وألم فيه بالموضوع إلماما مفيدا.
سمعت هذه المذكرة ثم تركت لجنتي وذهبت إلى لجنة أخرى مجاورة هي لجنة تاريخ الحضارة في العصر القديم، أو بعبارة أصح: لجنة التاريخ العقلي في العصر القديم. في هذه اللجنة كان ينتظرني دهش عظيم ولذة أعظم؛ لأني سمعت محاورة ما كنت أظن أني سأسمعها في يوم من الأيام، وكانت هذه المحاورة بين عالمين خطيرين: أحدهما فرنسي والآخر بلجيكي. كان موضوع هذه المحاورة غريبا، وكانت المناقشة فيه حادة طويلة، حتى صرفت اللجنة عن أعمالها صباح الثلاثاء. ذلك أن أحد الفلاسفة البلجيكيين الأستاذ «دوبريل» ألف منذ حين كتابا في تاريخ الفلسفة اليونانية، وزعم في هذا الكتاب أن البحث التاريخي الصحيح ينتهي بالباحث إلى أن سقراط شخص خرافي لم يوجد ولم يعرفه التاريخ، وأن خلاصة حكم التاريخ فيه كخلاصة حكم التاريخ في هوميروس؛ كلاهما شخص آمن به القدماء وأظهر التاريخ أنه لم يوجد قط، وكلاهما شخص اتخذ رمزا لنوع من الآداب؛ فاتخذ هوميروس رمزا لكل الشعر القصصي الذي عرفه اليونان وتناقلوه قبل القرن السابع، واتخذ سقراط رمزا لهذه الفلسفة التي عرفها اليونان وافتنوا فيها منذ أواخر القرن الخامس، وطول القرن الرابع قبل المسيح.
أعترف بأني دهشت الدهش كله حين قرأت عنوان هذه المحاورة قبل الذهاب إلى المؤتمر. فما كنت أظن أن وجود سقراط يصل في يوم من الأيام إلى أن يكون موضوع بحث، فضلا عن أن يكون موضوع شك، بل فضلا عن أن يكون موضوع إنكار؛ ذلك لأن سقراط لم يعش في عصر جهل وبداوة، ولا في أيام خرافة وأساطير، وإنما عاش في عصر علم وحضارة، وفي أيام تحقيق وتاريخ، والناس مجمعون منذ أوائل القرن الرابع قبل المسيح على أن هناك آتينيا كان اسمه سقراط، وكان معروفا طول حياته بالميل إلى الفلسفة والكلف بها، وكان ممتازا بأطوار حياته الغريبة، ومناهج بحثه الجديدة. كان يمشي حافيا في الشوارع ويتلكأ في الميادين، متحدثا إلى الشيوخ والشبان، متلطفا مع هؤلاء، محاورا مناقشا سائلا مجيبا، حتى استحدث في الأدب اليوناني فنا جديدا، هو فن الحوار الفلسفي، وحتى رسم للعقل الإنساني طريقا جديدة لم يقطعها العقل الإنساني بعد. الناس مجمعون على ذلك، ومجمعون على أن سقراط هذا كان له خصوم وأنصار، وعلى أن خصومه حاربوه فسخروا منه، ثم اتهموه أمام المحكمة، وعلى أنه أساء الدفاع عن نفسه عمدا، ثم سخر من القضاة فقضوا عليه بالموت، ثم انتظر الموت شهرا، ثم شرب السم، وظل يحاور تلاميذه في خلود النفس حتى مات، ثم تفرق تلاميذه فأنشئوا المدارس والمذاهب الفلسفية المختلفة في بلاد اليونان على اختلافها وتباعد أطرافها، وعاش من هذه المذاهب مذهب واحد هو مذهب أفلاطون الذي أخذ يتطور ويستحيل حتى أنتج فلسفة أرسطاطاليس، وكثيرا من المذاهب الفلسفية الأخرى التي لا تزال متاعا عاما للنوع الإنساني إلى الآن.
الناس مجمعون على هذا كله، ولديهم أدلة ظاهرة تبيح لهم هذا الإجماع. فليس من شك في وجود أرستوفان الممثل اليوناني المضحك، وليس من شك في أن أرستوفان قدم إلى الملعب الآتيني نحو سنة 424 قبل المسيح قصة السحاب التي يتداولها الناس، والتي تدور حول سقراط، وتتخذه وسيلة إلى تسلية الجمهور الآتيني وإضحاكه، وليس من شك في أن كتب التاريخ اليونانية والرومانية ذكرت موجزة أو مطنبة قضية سقراط وموته والمذاهب الفلسفية التي نشأت عن حواره ومناقشته، ليس من شك في هذا كله، ولكن الأستاذ «دوبريل» وجد طريقا إلى الشك، وفي الحق أنه لم يخترع هذه الطريق، فهي موجودة من قبل، وفيها ما يبعث على الدهش والحيرة. فمن الواضح أن أحدا لم يشك في وجود سقراط قبل الأستاذ «دوبريل»، ولكن من الواضح أيضا أن المحدثين من مؤرخي الفلسفة عاجزون إلى الآن كل العجز عن تحقيق فلسفة سقراط، وبيان ما كان له من مذهب في الأخلاق أو في غير الأخلاق. فهم يؤمنون بوجود سقراط وبأنه أبو الفلسفة، ولكنهم لا يستطيعون أن يبينوا فلسفته. بل هناك ما هو أغرب من هذا: لا يستطيعون أن يصفوا سقراط ولا أن يتميزوا شخصيته المعنوية. فلسقراط شخصيات كثيرة تختلف باختلاف تلاميذه . فأفلاطون يعطي من سقراط شخصية تخالف تلك التي يعطيها «كسنوفون
Xenophon »، وهذه الشخصية تخالف ما يمكن أن يستخلص من «فيدون
phedon »، وكل هذه الشخصيات تخالف ما نجد في قصة السحاب، وإذا كان الأمر كذلك، فما الذي يمنع من الشك في وجود سقراط؟ وكيف نستطيع أن نتصور شخصا وجد من غير شك وكان أبا الفلسفة وملهم الفلاسفة، وأحدث في العالم اليوناني خاصة والإنساني عامة ضجة هائلة أعدت العالم للضجة التي أحدثها المسيح، دون أن نتميز شخصيته أو أن نتبين أصلا واضحا جليا من أصول فلسفته؟
نعم، قد يجاب على هذا بأن سقراط لم يكتب شيئا، وإنما تحدث فاختلطت أحاديثه وعبث بها تلاميذه، ومن هنا اختلطت شخصيته الفلسفية، وأصبح تميزها شيئا عسيرا، ولكن فلاسفة كثيرين وجدوا قبل سقراط ولم يكتبوا، ومع هذا فقد تميزت شخصياتهم، مع أن فلسفتهم فشلت ولم تظفر من الفوز ببعض ما ظفرت به الفلسفة التي تضاف إلى سقراط. هذا مصدر الشك في وجود سقراط، وقد افتن فيه الأستاذ «دوبريل» ولم يكتف بتسجيله، بل ذهب إلى ما هو أبعد من هذا فأثبت أو حاول أن يثبت شيئين؛ الأول: أن شخص سقراط شخص خرافي كشخص «جحا»، كان موضوع العبث والسخرية في قصص الممثلين، وأن الفلاسفة الذين جاءوا في أواخر القرن الخامس وفي القرن الرابع قد اتخذوا هذا الشخص الخرافي - الذي هو موضوع السخرية والعبث - مثالا للجد، ولكن للجد الحلو الذي هو أقرب إلى الفكاهة منه إلى الجد الخالص؛ ليحببوا فلسفتهم إلى الناس. ثم أخذ هذا الشخص الهزلي قديما الجدي حديثا، يتطور في جده ويمعن في فلسفته، حتى أصبح مثالا للجد الخالص، وأبا للفلاسفة، ورمزا للفلسفة، وحتى نسجت حوله هذه الأسطورة الغريبة التي جعلته بطلا من أبطال الإنسانية. الثاني: أن فلسفة سقراط ليست جديدة، ولم تنشأ كما يعتقد المؤرخون لمحاربة السوفسطائية، وإنما هي طور من أطوار الفلسفة اليونانية القديمة، لم يستحدثها فيلسوف بعينه في عصر بعينه، ويثبت الأستاذ «دوبريل» نظريته هذه بالرجوع إلى نظريات الفلاسفة اليونانيين قبل سقراط، وما يوجد فيها من أصول الفلسفة السقراطية . هذه نظرية الأستاذ «دوبريل» أوجزتها إيجازا شديدا أخشى أن يكون قد أفسدها وانتقص من أطرافها.
نهض لنقض هذه النظرية أستاذ فرنسي هو الأستاذ «لفيفر» من علماء مدينة «ليل»، وأعترف بأني كنت معجبا بهذا الأستاذ حين كان يتكلم، ولم أكن منفردا بهذا الإعجاب، وإنما كان أعضاء اللجنة جميعا - ومنهم الأستاذ «دوبريل» نفسه - يشاركونني فيه، ولم يكن مصدر هذا الإعجاب فيما أظن اقتناعا بردود الأستاذ، وإنما كان مصدره قبل كل شيء حبنا لسقراط، وحرصنا على أن يكون شخصا حقيقيا تاريخيا، وشعورنا بأن الأستاذ «لفيفر» يحاول أن يثبت لنا وجود هذا الشخص الذي نحبه ونكلف له. الحق أن الوقت لم يسمح للأستاذ «لفيفر» بمناقشة خصمه كما ينبغي؛ فهناك نصوص يونانية ولاتينية لم يكن بد من تحليلها ومناقشتها، وذلك يحتاج إلى كتاب لا إلى محاضرة، وإلى أشهر لا إلى ساعة، ولكن هناك شيئا يظهر أنه لا يقبل الشك، وهو أن الأستاذ «دوبريل» غلا في نظريته، وسلك فيها مسلك الفيلسوف لا مسلك المؤرخ. فيجب أن نلاحظ أن سبيل المؤرخ تخالف سبيل الفيلسوف، وقد تضادها مضادة كاملة فتذهب إحداهما إلى الشمال وتذهب الأخرى إلى الجنوب؛ ذلك لأن الفيلسوف يخضع في فلسفته لقواعد معينة مرسومة في ذهنه، فمن المعقول جدا أن ينتقل من مقدمة إلى مقدمة حتى يصل إلى النتيجة التي يسعى إليها، سواء أكان بحثه صحيحا أم غير صحيح في نفسه. فإذا رأى الأستاذ «دوبريل» أن فلسفة سقراط تكاد تكون موجودة برمتها عند الفلاسفة الذين تقدموه، وأن شخصية سقراط غامضة متناقضة عند تلاميذه وفيما تركوا من الأسفار، وأن شخص سقراط كان موضوع العبث والسخرية عند الشعراء الممثلين، كان من اليسير عليه أن يصطنع المنطق فينظم مقدماته ويرتبها حتى يصل إلى هذه النتيجة، وهي أن سقراط شخص خرافي. هذه النتيجة مطمعة خلابة؛ لأنها تخرق الإجماع أولا، ولأنها تخيل إلى صاحبها أنه قد رد الأمر إلى نصابه فأثبت اتصال الفلسفة ونفى انقطاعها، ولأنها بعد هذا وذاك إن أفلحت كانت خليقة أن تخلد اسم صاحبها في تاريخ الفلسفة كما خلد اسم «ولف» في تاريخ الأدب اليوناني.
هذه سبيل الفيلسوف، أما سبيل المؤرخ فمخالفة كل المخالفة لهذه السبيل، فهي لا تتبع قوانين منطقية معينة، وإنما تتبع الحياة الإنسانية العملية. والحياة الإنسانية العملية لا تزال تظهر لنا إلى الآن مختلفة مضطربة متناقضة؛ لأننا لم نوفق بعد إلى استكشاف قوانينها الخفية. فمن المعقول جدا أن يظهر للفيلسوف شيء يراه منتظما منتجا ولا يقره التاريخ، ومن المعقول أن يرجح المؤرخ شيئا لا يقره الفيلسوف، وليس في هذا شيء من الغرابة. فالفيلسوف بطبيعته منكر لحياة الناس العاديين، يزدريها ويستخفها، والناس العاديون منكرون لحياة الفلاسفة، يزدريها بعضهم ويكبرها أكثرهم، ولكنهم جميعا يرون أنها تخالف أطوارهم وعاداتهم، ومن هنا وجد التناقض بين حياة الناس وفلسفة الفلاسفة.
وسبيل التاريخ أن يبحث عن حياة الناس كما يحيونها لا كما يتصورها الفيلسوف. فليس غريبا أن يؤمن المؤرخ بوجود سقراط، ويعجز في الوقت نفسه عن شخصيته وإزالة ما حولها من الغموض. أضف إلى هذا أن هناك أشياء يخرج الشك فيها عن طور المعقول؛ فالعصر القديم والقرون الوسطى والعصر الحديث لا تعرف قبل المسيو «دوبريل» نصا يشير إلى الشك في وجود سقراط. بل هناك شيء آخر ذكره الأستاذ «لفيفر» وعجز الأستاذ «دوبريل» عن دحضه، وهو أن قصة سقراط تصم الآتينيين بجناية منكرة، هي قتل هذا البطل العظيم ظلما وفي غير إنصاف، والتاريخ يثبت أن الآتينيين كانوا يغارون على شهرتهم وحظهم من حسن الذكر. فكيف نتصور أن هؤلاء الناس وصموا أنفسهم بهذه الوصمة؟ أو سكتوا عن الذين وصموهم بهذه الوصمة: عن أفلاطون وكسنوفون وغيرهما من تلاميذ سقراط؟ ألم يكن معقولا أن يغضب الآتينيون لهذه التهمة المنتحلة التي كان يستغلها أعداؤهم الكثيرون؟ هناك شيء آخر، وهو أننا إذا استبحنا لأنفسنا الشك من غير حساب، لم ندر إلى أي حد ينتهي بنا الشك في التاريخ. فما الذي يمنع الأستاذ «دوبريل» من أن يشك غدا في وجود أفلاطون، وبعد غد في وجود أرسطاطاليس؟ ومن يدري! لعل شخص نابليون بعد زمن قليل أو كثير يصبح عند بعض الباحثين شخصا خرافيا كشخص هوميروس أو كشخص سقراط عند الأستاذ «دوبريل»!
अज्ञात पृष्ठ