مقدمة
القسم الأول: من باريس
القسم الثاني: أسبوع في بلجيكا
القسم الثالث: خواطر سائح
القسم الرابع: بين العلم والدين
القسم الخامس: بين الجد والهزل
مقدمة
القسم الأول: من باريس
القسم الثاني: أسبوع في بلجيكا
القسم الثالث: خواطر سائح
القسم الرابع: بين العلم والدين
القسم الخامس: بين الجد والهزل
من بعيد
من بعيد
تأليف
طه حسين
مقدمة
هذه فصول متفرقة لا يكاد يجمع بينها إلا أنها كتبت من بعيد. كتبت من بعيد في المكان، وكتبت من بعيد في الزمان أيضا. فأكثرها كتب من باريس، وبعضها كتب من ڤينا، وقليل جدا منها كتب في القاهرة.
وأقدم هذه الفصول عهدا كتب سنة 1923، وأحدثها عهدا كتب سنة 1930؛ فهي كما ترى جاءت من بعيد في المكان والزمان جميعا.
وقد يظهر للنظرة الأولى أن بعد المكان لا يؤثر في كتابة الكاتب، ولكنك إذا قرأت هذه الفصول وما يشبهها فستتبين في غير شك أن النأي عن الدار والتنقل في أقطار الغربة يثيران في نفس الكاتب من العواطف والخواطر ما لا تثيره الإقامة والاستقرار، ومما يهيئان الكاتب تهيئة خاصة للشعور والحس، وللتفكير والتعبير، لا تستقيم له حين يكون مقيما مستقرا في داره بين أهله ومواطنيه، يرى في كل يوم مثل ما كان يراه من قبل، لا تكاد تختلف الظروف التي تحيط به إلا اختلافا يسيرا بطيئا، لا يكاد يحس.
فليس من شك إذن في أن لبعد المكان أثرا في إعداد الكاتب للكتابة، أثرا فنيا خاصا، غير هذا الأثر الظاهر الذي يراه الناس حين يقرءون ما يكتبه المسافر عما يرى ويشهد من الأقطار.
ومن أجل هذا جمعت هذه الفصول التي كتبت من بعيد في سفر واحد، وقد يظهر للنظرة الأولى أيضا أن بعد الزمان بفصل من الفصول، أو كتاب من الكتب، لا أثر له في ذلك الفصل أو هذا الكتاب، ولكن قليلا من التفكير أيضا يدل على أن من الخير أن نعود بين حين وحين، إلى ما كنا نكتبه في الأعوام التي مضت، وبعد بها العهد؛ لنرى كيف كنا نكتب ، وكيف كنا نحس ونشعر ونفكر، وكيف أصبحنا نحس ونشعر ونفكر، وكيف أصبحنا نرى الناس والأشياء؛ لنتبين في جملة موجزة مقدار ما أدركنا من تطور الحس والشعور والتفكير والتعبير أيضا. ولست أخفي عليك أني قد قرأت هذه الفصول التي كتبت كلها أثناء ثمانية أعوام، ومضى بيني وبين آخرها أكثر من خمسة أعوام في شيء من الحنان إلى تلك العهود التي كنا نشكو فيها المشقة والجهد، ونضيق فيها بالحياة والأحياء، ثم أصبحنا الآن نود لو تعود إلينا أو لو نعود إليها لا ليعود إلينا معها الشباب؛ بل لتعود إلينا معها حياة هي من غير شك خير من الحياة التي نحياها الآن.
كنا في تلك العهود أحرارا نفكر ونقول، كما نريد أن نفكر ونقول، كنا نلقى ألوانا من المقاومة فلا تزيدنا إلا طموحا إلى الحرية وإمعانا فيها، وكنا ننظر إلى الجهاد في سبيل الرأي وحرية الرأي على أنه حاجة من حاجات الحياة، وضرورة من ضرورات الوجود الحر، فأين نحن من هذا الآن؟
كنا نشكو أحيانا ظلم الحكومات وجنوحها إلى الاستبداد ونصرها للجمود، ولكنا كنا نجد الشعب دائما مواتيا لنا، يمنحنا نصره، ووده، وعطفه، وتأييده. أما الآن فقد اشتد عنف السلطان، وأسرف في الشدة حتى اضطر الكتاب والخطباء إلى أن يفكروا ويقدروا، ويطيلوا التفكير والتقدير قبل أن يكتبوا أو يقولوا، وقد وجد الاستبداد الرسمي المتصل لنفسه أنصارا وأعوانا من طبقات الشعب لم يكن ليظفر بهم من قبل. فوجدت أحزاب مهما تكن ضئيلة قليلة الخطر؛ فهي أحزاب منظمة تناصر الجور والاستبداد، وتدعو إلى التأخر والرجوع إلى وراء، وليس في هذا شيء من الغرابة؛ فقد كثر الاضطراب في نظمنا السياسية، وطال عهد البلاد بحكومات لم تكن تقدر الحق ولا العدل ولا القانون، ولم تكن تقصر في التماس الأعوان ولا الأنصار، بألوان الترغيب والترهيب. فليس الغريب أن توجد الأحزاب التي تكره النظر إلى أمام وتحب النظر إلى وراء، وإنما الغريب ألا توجد، والغريب أيضا أن تكون من الضعف والضآلة وقلة الخطر بحيث هي الآن.
وكثير من الذين سيقع في أيديهم هذا السفر قد قرءوه حين نشر فصولا مفرقة، ولكن كثيرا جدا من الذين سيقع في أيديهم هذا السفر لم يقرءوه، ولم يعرفوا من فصوله شيئا؛ لأنهم كانوا أطفالا يدرجون، وصبية يختلفون إلى المدارس الابتدائية حين نشرت كثرة هذه الفصول، ثم هم الآن شباب يتمون درسهم الثانوي، أو يأخذون في درسهم الجامعي، فمن حقهم أن يروا كيف كنا نجاهد الحياة حين كانوا هم يستقبلون الحياة باسمين. فإلى هؤلاء القراء الناشئين أهدي هذه الفصول سعيدا راضيا؛ لأنهم سيرون حين يقرءونها أني كنت أتحدث إلى الذين سبقوهم بنفس الآراء التي أتحدث بها إليهم الآن، وأني كنت أدعو الذين سبقوهم إلى نفس المثل العليا التي أدعوهم إليها الآن، ولست أدري إلى أي حد أتيح لي التوفيق مع الذين سبقوهم، ولكن أرجو أن يكون توفيقي معهم أعظم وأقوى وأبقى أثرا.
يونيو سنة 1935
طه حسين
القسم الأول: من باريس
(1) في السفينة
تحية طيبة زكية إليك أيها القارئ الكريم من كاتب حرم التحدث إليك حينا، وكثيرا ما نازعته نفسه إلى هذا التحدث فلم يجد إليه سبيلا.
مرضت أسبوعا، وسافرت أسبوعا، فلم أستطع أن أتحدث إليك، ولقد كنت إلى ذلك مشوقا، ولم تكن تنقصني الخواطر التي تصلح موضوعا للأحاديث، فإن المرض والسفر كليهما ممتلئان بهذه الخواطر التي تصلح موضوعا للنجوى بين الكاتب وقارئه، ولكني كنت عاجزا العجز كله عن أن أملي الخواطر أو أسطرها، وأحسب أني لا أزال عاجزا عن إملاء هذه الخواطر أو تسطيرها؛ لأن بعضها قد ذهب مع المرض والسفر، فلست أذكر منه قليلا ولا كثيرا، ولأن بعضها الآخر قد بقي في نفسي، ولن يذهب ولن يجد النسيان إليه سبيلا، ولكن ليس من سبيل إلى إملائه وتسطيره؛ لأن الوفاء بحقه ليس بالشيء اليسير.
وكيف أستطيع مثلا أن أفي لهؤلاء الأصدقاء الكرام البررة الذين عادوني فأحسنوا العيادة، وودعوني فأحسنوا التوديع، بما أنا مدين لهم به من شكر وثناء. كيف أفي لهم بذلك وهو أجل من أن يفي به كاتب، وأدق من أن يصل إليه واصف، ولا تظن أني أغلو أو أسرف كما جرت بذلك عادة الكتاب إذا أرادوا شكرا أو ثناء، فأنا أبعد الناس عن الغلو، وأشدهم بغضا للإسراف، ويكفيني إذا أردت شيئا أن أسميه باسمه، أو أدل عليه باللفظ الذي وضع له، ولكني كنت أريد أن أحدثك عما بعثت في نفسي عيادة العائدين، وتوديع المودعين، من عواطف مختلفة، وألوان من الشعور متباينة، تختلف باختلاف العائدين والمودعين، وما لهم في نفسي من منزلة، وما لي في قلوبهم من مكانة، ففي ذلك شيء من النفع، وفيه بنوع خاص شيء من اللذة، ولكن محاولة ذلك شاقة؛ لأن هناك عواطف قد لا تجد لها أسماء، وضروبا من الشعور قد لا تجد لها عبارات تؤديها وتفي بما لها من حق. فليس الناس جميعا سواء في حبهم لك، وعطفهم عليك، وليس الناس جميعا سواء فيما تضمر لهم من حب، وما تدخر لهم من مودة. وإذن فتأثرك بعيادتهم وتوديعهم يختلف باختلاف منزلتك في نفوسهم ومكانتهم من قلبك، ولكن هل تستطيع أن تصف ذلك حق الوصف؟ أم هل تستطيع أن تجهر منه بالشيء الكثير؟ أما أنا فأعتقد أن ذلك على نفعه ولذته محال؛ لأن الحياة الاجتماعية وما تواضع الناس عليه في صلاتهم وعلاقاتهم، تحول بيننا وبين ذلك وتأباه كل الإباء، فلأكتف إذن بما كان ينبغي أن أكتفي به منذ بدأت هذه الكلمة، وبما يكتفي الناس به من تسجيل الشكر والثناء للعائدين جميعا والمودعين جميعا، دون أن أفرق بينهم في اللفظ، وإن اضطررت واضطر غيري من الناس إلى التفرقة بينهم في نجوى النفس وحديث الضمير. ولنحتمل إذن، راضين أو كارهين، هذا الظلم البين الذي تضطرنا إليه حياة الاجتماع، فليس هو أثقل ما تضطرنا إليه الحياة الاجتماعية من ضروب الظلم والتقصير، ولو أننا ذهبنا نحلل هذه الحياة وما فيها من ظلم وبغي، ومن إفراط وتفريط، لما انتهينا إلى حد، ولما فرغنا من القول.
ومهما يكن من شيء فإن هناك شعورا لذيذا لا يستطيع أن يتقيه إنسان حساس. يحدث في نفسك أثناء المرض وأوقات السفر حين ترى من حولك ناسا يعطفون عليك ويرقون لك، ويؤثرونك بالمودة واللطف. لذيذ جدا هذا الشعور الذي ينبعث في نفسك حينئذ، فيشعرك بأنك لست وحيدا في الحياة، وبأن هناك قلوبا قد تخفق مع قلبك، ونفوسا قد تشاركك في الألم وتشاركك في اللذة، ولست أعرف شعورا يفوق هذا الشعور لذة وحسن موقع في النفس، والحق أن حظي من هذا الشعور العظيم، وأن اغتباطي به واستعذابي إياه قد رافقاني من القاهرة إلى باريس فحمدت مرافقتهما، وأنست إليهما في أوقات الوحشة.
نعم؛ في أوقات الوحشة! فأنت إذا سافرت إلى مكان بعيد فعبرت البحر وقطعت الفجاج، تحس شيئا من الوحشة غير قليل، مهما تكن لذة السفر، ومهما يكن اغتباطك بما ستلقى إذا استقر بك المقام، ومهما يكن رفاقك في هذا السفر الطويل اللذيذ. ولقد كان يرافقني في هذا السفر أحب الناس إلي، وأعزهم علي، وأرأفهم بي، وأشدهم مشاركة لي في لذات الحياة وآلامها؛ كانت ترافقني زوج برة كريمة، وطفلان هما كل ما آمل في الحياة، ومع هذا فقد وجدت شيئا من الوحشة تسليت عنه بهذا الشعور اللذيذ الذي كان يرافقني، بذكرى أولئك الأصدقاء العائدين والمودعين، بألفاظهم الحلوة، وعباراتهم التي كانت تمتلئ رفقا وودا وإيثارا.
أعبرت البحر؟ أأحسست في السفنية ما أجد من ضروب الحس، وما أشعر به من مختلف الشعور؟ يتحدث الناس بأن الأمد بين مصر وأوروبا قصير، وبأن عبور البحر لذيذ، وبأنه أمن لا خطر فيه، أو لا يكاد يوجد فيه شيء من الخطر، وبأن المسافر ليس عليه إلا أن يركب السفينة، ويستسلم لما فيها من راحة ولذة وتسلية، حتى ينقضي السفر، ولا سيما إذا كان مثلي لا يخشى الدوار ولا يتعرض لشره. بذلك يتحدث الناس، ولعلهم محقون، بل لا أشك في أنهم محقون، ولكني أعترف بأني لم أشعر بذلك، ولم أحس هذا الأمن وهذه الدعة يوما من الأيام منذ ألفت عبور البحر، وإنما وجدت ويظهر أني سأجد دائما إلى جانب هذه اللذة التي يحسها من يعبر البحر شعورا خفيا جدا . لا أقول إنه الخوف، ولا أقول إنه يشبه الخوف، وإنما أقول إنه يظهر الإنسان على قيمته الحقيقية، وعلى مكانته الصحيحة من هذا الوجود. نعم، ليس هذا الشعور خوفا، وليس شيئا يشبه الخوف، ولكنه شيء ينبئ الإنسان بأنه ضئيل، ضئيل جدا لا يكاد يذكر، وبأن حياته شيء أوهن من نسج العنكبوت، لا قدرة له على الثبات، ولا على مقاومة الأحداث. وإذا أحس الإنسان أنه ضئيل إلى هذا الحد، وأن أسباب حياته واهية واهنة إلى هذا الحد، ملكه شيء من البؤس والإشفاق أحسب أن وصفه عسير.
اضطرب البحر ذات ليلة اضطرابا شديدا، واصطخبت أمواجه وعصفت الريح، فكنت لا تسمع إلا هدير البحر، وعصف الريح، وصوتا لأخشاب السفينة يشبه الشكوى، وكان السفر نياما فكنت لا تسمع صوت إنسان، وكان هذا المزاج المؤتلف من هذه الأصوات الثلاثة التي ذكرتها لك وحده يملك عليك سمعك ونفسك، ويضطرك إلى أن تحلله وتفكر فيه، وإلى أن تفكر في نفسك وتقيسها إلى هذا الروع الذي يكتنفك، والهول الذي يحيط بك، ولم يكن في نفسي شيء من الخوف ولا من الإشفاق؛ لأني أعلم أن ذلك شيء مألوف، وأنك تعبر البحر كما تقطع شارعا من الشوارع، ومع ذلك فقد شعرت حقا في هذه الليلة بأن الإنسان ليس شيئا مذكورا، كما أنه لم يكن شيئا مذكورا، وكما أنه لن يكون شيئا مذكورا ما دامت الطبيعة على ما هي عليه من القوة والجلال.
في مثل هذا الوقت يذكر المؤمن ربه ويلجأ إليه، ويتقرب إليه بضروب العبادة وفنون التقوى، وفي هذا الوقت يؤمن الملحد إن كان ضعيفا، ويزداد عتوا إن كان ممعنا في الإلحاد، فيسخر من الحياة كما يسخر من الموت، يهزأ بما اشتملت عليه هذه، ويزدري ما عسى أن يخفيه هذا، وأعترف بأني في هذا الوقت أحسست شيئا قد ينكره علي المؤمنون والملحدون جميعا، أحسست أن إيمان المؤمن وإلحاد الملحد ضرب من الكبرياء، وغلو الإنسان في تقدير نفسه وإكبار منزلتها. فإن هذا المؤمن الذي يعتقد أن خالق الكون ومدبره، خالق هذا الكون العظيم الذي لا تشعر بعظمته وأنت مستقر في دارك، أو لاه بالتحدث إلى رفاقك، أو القراءة في كتابك، وإنما تشعر بعظمته حين لا تسمع إلا هدير البحر، وعصف الريح، وشكوى السفينة، وحين تشعر شعورا واضحا جدا بأن أسباب الحياة ضعيفة واهية، وبأن أقل شيء يستطيع أن يحطم هذه السفينة التي تقلك، وأن يقطع كل ما بينك وبين النجاة من سبب فتصبح نسيا منسيا، كأنك لم تكن قط، وكأنك لم تعرف أحدا، وكأن أحدا لم يعرفك. أقول إن المؤمن الذي يعتقد أن خالق هذا الكون العظيم ومدبره يختصه بالبر والرحمة، فيعنى به ويحوطه ويحفظه من الطوارئ، ويعصمه من الأحداث، ويرعاه في كل لحظة، بل في كل جزء من أجزاء اللحظة، متكبر يرى نفسه شيئا مذكورا يستحق هذه العناية المقدسة العظمى، مع أن في هذا الكون ما لا يقاس الإنسان إليه عظمة وجلالا.
وهذا الملحد الذي يستشعر الإلحاد ويتخذه مذهبا وعقيدة، فيعاند وينازع، ويدفع عن إلحاده كما يدفع المؤمن عن إيمانه، وينكر الله كما يثبته المؤمن، ويعتقد أن العقل كل شيء، وأن آثار العقل وحدها خليقة بالإجلال والإكبار، وأن نجاة الإنسان في عبادة العلم والإذعان له، لا في إكبار الدين والخضوع لأوامره ونواهيه. هذا الملحد الذي يمعن في الغرور بقوة العقل والعلم وآثارهما، وبأنه قد سخر لنفسه الطبيعة فذلل الماء والهواء والبخار، واتخذ الطبيعة لنفسه عبدا يأمر فتطيع وينهى فتنتهي، مغرور متكبر؛ لأن عقله وعلمه وقوته وذكاءه مهما تبلغ من العظمة والسلطان، فلن تستطيع أن تعصمه من الأحداث، ولا أن تجعله بمأمن من أقل هذه الأحداث خطرا وأحطها مكانة. بهذا شعرت وفي هذا فكرت، وأعترف بأني لم ألم المؤمن على إيمانه، ولا الملحد على إلحاده، وإنما أحسست شيئا من الإشفاق على هذا وذاك، وتمنيت لو أتيح للإنسان أن يكون مؤمنا وعالما دون أن يغلو في التعصب للدين أو للعلم. تمنيت للإنسان لو استطاع أن يجمع بين هاتين القوتين اللتين ليس له عنهما غنى ولا منصرف. فإن قوة الدين تعصمه من اليأس والهلع ، وتفتح أمامه أبوابا من الأمل الذي ليس له حد، وتمكنه أن يلقى الخطوب ويتجشم الأخطار راضيا مطمئنا راجيا مستبشرا، وقوة العلم تمكنه من الحياة. ولكن أيستطيع الإنسان حقا أن يجمع في نفسه بين هاتين القوتين، وأن يطمئن إلى كلتيهما اطمئنانا بريئا من التناقض والاضطراب، يطمئن إلى الدين دون أن ينكر العقل، ويطمئن إلى العقل دون أن يجحد الدين؟
يتحدثون أن كثيرا من العلماء قد وفقوا إلى هذا، وأن «باستور» على جلال خطره وبعد أثره في العلم كان أشد الناس تدينا وأكثرهم إيمانا، فمتى يكثر في الناس أمثال «باستور»؟
على أن هذا الشعور وما استتبع في نفسي من تفكير أو هذيان لم يكن كل شيء أحسسته في السفينة، فقد كانت هناك أشياء أخرى لا تخلو من نفع. كان أكثر رفاقنا في السفينة من الإنجليز، وكنت أجهل الإنجليز، وما زلت أجهلهم، ولكني كنت أتصورهم قوما أميل إلى الجد منهم إلى الهزل، وأميل إلى القطوب منهم إلى الابتهاج، وأميل إلى السكون والتؤدة منهم إلى الحركة والنزق، ولعلهم كذلك، ولكنهم لم يكونوا كذلك في السفينة، فلم أر جماعة أميل إلى الفرح وأشد تعلقا بأسبابه ولا أكثر إمعانا في الضحك، وهذه اللذة البريئة من هذه الجماعات الإنجليزية التي كانت تملأ السفينة، والتي كانت تقضي يومها وجزءا من ليلها في فرح ومرح ونشاط عظيم، وحسبك أن غرفة المائدة لم يكن يملؤها أثناء الطعام إلا قهقهة عالية جدا متصلة جدا لا تعرف الهدوء ولا الانقطاع، تمتزج فيها أصوات الرجال والنساء امتزاجا لا يخلو من لذة، ولا يعجز عن أن يحملك على الضحك وإن كنت أشد الناس جدا وأكثرهم عبوسا.
شيء آخر وجدته في السفينة فأذكرني أول يوم قضيته في فرنسا، بل أول ساعة قضيتها في باريس سنة 1914، هذا الشيء، أو بعبارة أصح: هذا الشخص، هو حلاق السفينة. اضطررت إلى غرفة هذا الحلاق، واضطررت طبعا أيضا إلى أن أسمع لحديث هذا الحلاق، وأحاديث الحلاقين مشهورة من قديم الزمان وفي جميع البيئات، في بغداد والقاهرة، في آسيا وأوروبا، في العصر القديم والعصر الحديث، بالثقل والسخف، وبأنها مصدر الملل والأذي، ولكني أؤكد لك أن حديث حلاق «الإسفنكس» لم يكن ثقيلا ولا سخيفا ولا مملا، بل أؤكد لك أن حديثه كان لذيذا ممتعا، بل أوصيك بأن تتحدث إلى حلاق «الإسفنكس» إذا ركبت «الإسفنكس».
تحدث إلي حلاق «الإسفنكس» في سياسة فرنسا وفي ساسة فرنسا من جميع وجوهها: مع ألمانيا ومع إنجلترا، في سوريا وفي الجزائر، وقارن لي حلاق «الإسفنكس» بين المذهبين الإنجليزي والفرنسي في الاستعمار، وألم لي حلاق «الإسفنكس» بطرف من سياسة الأحزاب البرلمانية في بلده، وكان حلاق «الإسفنكس» اشتراكيا من الوجهة النظرية، ولكنه يائس من مذهبه الاشتراكي، فهو كغيره من الناس في الحياة العملية، وأؤكد لك أني وجدت لذة جديدة عظيمة في الاستماع إلى حلاق «الإسفنكس»، وذكرت أول خادم فرنسية لقيتها في مرسيليا سنة 1914، فتحدثت إلي بما يشبه هذا الحديث، وتمنيت لو كنا جميعا في مصر كحلاق «الإسفنكس»! وأحسب أنا سنقطع زمنا طويلا جدا قبل أن تصل كثرتنا المطلقة من التعليم والتهذيب إلى حيث وصل حلاق «الإسفنكس».
قرأت في السفينة قصة تمثيلية صغيرة عنوانها «الملك»، وضعها الكاتبان الفرنسيان «روبير دي فلير» و«كيافيه» فضحكت لها كثيرا، وأعجبت بها كثيرا، ودعوت بالحياة للحرية كثيرا، وكنت أحب أن أحدثك عن هذه القصة، ولكن أخلاقنا السياسية والاجتماعية لا تسمح بذلك، ومع هذا فليس في القصة شيء غريب، وإنما يصف الكاتبان زيارة ملك خيالي لمدينة باريس، ويتخذان هذا الوصف سبيلا إلى تناول النظم السياسية والاجتماعية كلها بأشد النقد شناعة وأكثره مرارة، يذمان نظام الملكية، ويذمان نظام الجمهورية، ويسخران من الديمقراطية كما يسخران من الأرستقراطية، وكما يسخران من الاشتراكية. القصة هجاء شنيع للجماعة الإنسانية في كل مكان وفي كل زمان، وقد اختار الكاتبان باريس موضعا لهذه القصة؛ لأن باريس تكاد تختصر العالم الإنساني على اختلاف أزمنته وأمكنته.
لا أستطيع أن أحدثك عن هذه القصة، ولكني أستطيع أن أوصيك بقراءتها، فستجد فيها نفعا وستجد فيها لذة. ثم وصلت إلى باريس صباح أمس، فإذا الناس جميعا يلهجون بشيء واحد ، تنطق به أفواههم، وتكتب فيه صحفهم، لا يلقى أحدهم الآخر إلا سأله عنه وتحدث إليه فيه أسفا مرة أشد الأسف، معجبا مرة أخرى أشد الإعجاب، جامعا في أكثر الأحيان بين ذلك الأسف وهذا الإعجاب، وهو موت الممثلة الفرنسية «سارة برنار»، ولكنني قد أطلت، فسأحدثك عن «سارة برنار» في غير هذا المقال.
باريس في 28 مارس سنة 1923 (2) سارة برنار
تركت القاهرة يوم الأربعاء ووصلت إلى باريس يوم الثلاثاء، فإذا الناس يتحدثون بموت «سارة برنار» أو لا يتحدثون إلا بموت «سارة برنار»، وإذا كثير منهم لا يكتفي بالحزن الصامت أو الإعجاب المقتصد، بل يتحدث ويشرح ويفصل، ويروي ما سمع وما رأى، ويصف ما أحس وما شعر به حين شهد «سارة برنار» تلعب في «ذات الكاميليا» أو في «النسير» أو في «المجد» أو في غيرها من القصص، وربما تحدث عما رأى وسمع من أبهة «سارة برنار» ومجدها وافتتان الناس بها وافتتانها هي بالناس، وعما كانت تكسب من مال لا يحصى فتنفقه وتستدين، ثم تكسب فتؤدي الدين ثم تستدين من جديد، وعما كان بينها وبين كبار الناس وزعمائهم في العالمين من صلات قوية أو ضعيفة، متينة أو رثة، وعما قدم إليها الملوك من تجلة، وأهدى إليها العظماء من تكرمة، وعن جمالها الباهر، وصوتها الساحر، وأعاجيبها وألاعيبها وافتنانها في كل شيء: في الهزل والجد، في التمثيل والتصوير والنقش والكتابة والعبث، وعن هذا الضعف الشديد الذي كان يلازم جسمها فيجعل حياتها في أكثر الأحيان معلقة بين اليأس والرجاء، أقرب إلى اليأس منها إلى الرجاء، وهذه القوة المدهشة التي كانت تلازم نفسها في كل وقت من أوقاتها، وفي كل طور من أطوار حياتها؛ فتجشمها الأهوال، وتكلفها الأعاجيب، وتثب بها من أوروبا إلى أمريكا وإلى أستراليا ثم إلى مصر، ثم إلى فرنسا، ثم إلى السويد والنرويج وغيرها من بلاد الله، وتقف الناس منها موقف الحائرين الدهشين الذين يعجبون ويعجبون إلى غير حد، وهم لا يدرون بم يعجبون؟ بالذكاء النادر؟ بالجمال الباهر؟ بالصوت الساحر؟ بالقوة التي لا حد لها ؟ بالأمل الذي لا يخشى اليأس ولا يحسب له حسابا؟ بالنفس التي ليس لها مثيل ...؟ بهذا كله كان الناس يعجبون؛ سواء منهم من أحبها، وسواء منهم من أبغضها. كل بها معجب، وكل لها مكبر في كل وقت وفي كل طور.
بهذا كله كان الناس يتحدثون يوم نعيت إليهم «سارة برنار»، ومن قبل ذلك أنبأتهم الصحف بأن «سارة برنار» مشرفة على الموت؛ فجزعوا وهلعوا، وأسرعت جماعاتهم المختلفة إلى بيت المريضة فازدحمت حوله وامتلأ بها الشارع، وكان من هذه الجماعات من يتاح له الدخول إلى بيت المريضة فيسأل ويستعلم ويكتب اسمه ثم ينصرف، وكان من هذه الجماعات من لا يتاح له هذا الحظ فيرابط في الشارع يتنسم الأنباء ويتصيد الأخبار، يرى الصحفي فيسأله، ويلمح الطبيب فيستنبئه، كذلك قضى جمهور ضخم من أهل باريس يوم احتضار «سارة برنار»، فلما كان الموت لم يخل الشارع ولا البيت من هذا الجمهور، وإنما ازداد به امتلاء وازدحاما، وما هي إلا أن جهزت الميتة بجهازها الأخير حتى أذن للناس فأقبلوا على البيت أفواجا، وأخذوا يمرون أمام هذه الجثة الهامدة التي طالما بعثت فيهم الحياة يوما كاملا ثم تشييع الجنازة، فتقول الصحف: إن 600 ألف من أهل باريس اشتركوا فيه، وإن ألفين من الشرطة اشتركوا في حفظ النظام، وإن أرصفة الشوارع التي مرت بها الجثة كانت مكتظة بالناس على اختلاف طبقاتهم ومنازلهم وأسنانهم، وإن الزهر كان ينثر على التابوت من أولئك الذين ثقلت بهم سطوح الدور والحوانيت وامتلأت بهم نوافذها. ولم يكن الشعب وحده المحتفل بتشييع هذه الممثلة، وإنما احتفلت به الجمهورية وبلدية باريس، وتنافستا أيهما تقوم بنفقات الجنازة، ولم تكن فرنسا وحدها المحتفلة بتشييع هذه الممثلة، وإنما اشتركت فيه أوروبا وأمريكا، ومن الملوك والملكات من أرسل إلى أسرة الممثلة يعزيها ويعطف عليها.
كان هذا كله في الأسبوع الماضي، وكنت في باريس أسمع الناس يتحدثون به، وأقرأ ما كانت الصحف وما لا تزال تكتب فيه، فكنت أسأل نفسي إلى أي حد يبلغ إعجاب الناس بالنبوغ وإكبارهم للنابغين، إذا كان هؤلاء الناس من الرقي العلمي والخلقي بحيث يفهمون النبوغ والنابغين ...؟ وكنت أذكر مصر في هذا كله، وكيف يستطيع مصري ألا يذكر مصر وأهل مصر كلما رأى أو سمع ما يبهره ويسحره! كنت أذكر مصر وأسأل نفسي: متى يتاح لمصر نابغة «كسارة برنار»؟ أو على أقل تقدير متى يبلغ أهل مصر من الرقي العلمي والخلقي ما يمكنهم من أن يقدروا نابغة «كسارة برنار»؟ لم تنبغ في السياسة، ولا في الدين، ولا في العلم، وإنما نبغت في الفن، وفي فن هو سيء الحظ جدا عند المصريين، نبغت في التمثيل الذي يزدريه أكثر المصريين، ويفهمه قليل من المصريين على غير وجهه، ولا يفهمه حقا بين المصريين إلا نفر يكادون يحصون.
لم أسمع «سارة برنار» ولم يتح لي على طول ما أقمت في باريس أن أحضرها في ملعب من ملاعب التمثيل، فلست أستطيع أن أحدثك برأيي فيها، ولست أستطيع أن أكون لي فيها رأيا، ولكني أستطيع أن أحدثك برأي الناس فيها، وبرأي الناس الذين لا يتهمون، ولا تستطيع أنت ولا أنا أن نضع آراءهم وأحكامهم موضع الشك، ولكن من «سارة برنار»؟ لا يعرف أبوها، وإنما يقولون إنها ولدت سنة 1844 في باريس أو في برلين، ولا يتفق الذين يقولون إنها ولدت في باريس على موضع ميلادها، بل إن «سارة برنار» نفسها ذكرت لهذا الميلاد موضعين مختلفين، وتحدثت أن تذكرة ميلادها قد مزقت أو ضاعت، ويقول الناس إن أباها كان هولانديا إسرائيليا تنصر، ويقول آخرون إن أباها كان فرنسيا عظيما مشتغلا بالسياسة الدولية، ويتفقون جميعا على أن أمها «جولي برنار» لم تكن تنتسب إلى أسرة مستقرة، وإنما كانت من هؤلاء الناس الرحل الذين ينتقلون من مكان إلى مكان لا يستقرون في وطن ولا يطمئنون إلى دار، كانت أمها يهودية وكان أبوها مسيحيا أو يهوديا تنصر، كان اسمها الأول «روزين برنار»، ويقال إن أباها النصراني أو المتنصر ألح في أن تكون تربيتها دينية، فنشأت في الدير، وتأثرت بحياته تأثرا شديدا حتى أظهرت الرغبة في أن تكون راهبة، ولكنها اشتركت في تمثيل قصة دينية مدرسية؛ فأعجب بها أحد من رآها «الدوق دي مورني» ونصح بأن تتخصص للتمثيل، وشملها منذ ذلك الوقت بحمايته، فذهبت إلى الكونسرڤتوار
Conservatoire (مدرسة التمثيل) ونالت فيه إعجاب أساتذتها، ولكن فوزها في المسابقة لم يكن باهرا ولا متصلا، ثم اتصلت بملاعب كثيرة مختلفة فلم تنل من الفوز ما كانت ترجو، فيئست أو كادت تيأس من التمثيل ومن فرنسا.
وليس في هذا شيء من العجب، فأكثر النابغين عرف سوء الحظ قبل أن يعرف المجد ونباهة الذكر، وربما كان من أهم الأسباب التي حالت بين الممثلة وبين الفوز الباهر نفس نبوغها، فقد كانت لها طرائق مختلفة ومذاهب غريبة لم يألفها الجمهور ولم يطمئن إليها، فلم يكن غريبا ألا يشتد إعجابه وتهالكه عليها. على أن «سارة برنار» لم تكد تبلغ الثلاثين حتى كانت عضوا شريكا في أكبر دار من دور التمثيل في «بيت موليير»، وكانت تلعب القصص المختلفة على تباين عصورها ومذاهبها، وكانت تبلغ في هذه القصص فوزا عظيما في كثير من الأوقات حتى كتب إليها «فكتور هوجو» سنة 1877 يقول: «لقد كنت عظيمة خلابة. لقد أثرت في أنا المجاهد الشيخ، ولقد كان الجمهور في وقت من الأوقات سعيدا يملؤه الحنان فيصفق، أما أنا فكنت أبكي.»
ربما كان من الحق أن توازن بين «سارة برنار» وبين «السيبياد» الأتيني المشهور، كلاهما كان فتنة المدينة التي نشأ فيها، وكلاهما كان يحب إعجاب الناس به وتحدثهم عنه، ويتكلف لذلك الأعاجيب، ويفعل في سبيله ما لا تبيحه العادة ولا تسمح به الأوضاع المألوفة. يقال إن «السيبياد» كان له كلب فتن الأتينيين فتحدثوا عنه دهرا، فلما انتهى إعجابهم به كفوا عن الحديث فيه، فقطع «السيبياد» ذنب الكلب ليعود فيذكروه. وكانت أعاجيب «السيبياد» ونفقاته أكثر من أن تحصى، وكان لا يتكلف هذه النفقات وتلك الأعاجيب إلا ليفتن الناس، ويحملهم على إطالة الإعجاب به والتفكير فيه، كان سيئ السيرة وكان له زوج برة شريفة جزعت لسوء سيرته فذهبت إلى «الأركون» تطلب الطلاق، وبلغ ذلك «السيبياد» فأسرع إلى مجلس «الأركون»، فلما رأى زوجته بين يديه انهال عليها لثما وتقبيلا وملاطفة، وحملها بين ذراعيه وعاد بها إلى بيته، والأتينيون من حوله يصفقون له ويهتفون باسمه وامرأته بين ذراعيه قد رضيت عنه واطمأنت إليه. كذلك كان «السيبياد» وكذلك كانت «سارة برنار»، كانت فتنة باريس، وكانت تحرص على أن تظل فتنة باريس، فكانت تفعل كل شيء يجعلها حديثا لأهل باريس.
كانت تملأ غرفتها بالهياكل العظمية، وتنام بمنظر من الناس في تابوت مبطن بالحرير الأبيض، وتستأنس كثيرا من الحيوان الوحشي. كانت تدهش الناس بأزيائها المختلفة الغريبة، تتخذ زي الرجال حينا، وبدعا من أزياء النساء حينا آخر. كانت تدهش الناس بأحاديثها ومقالاتها وصورها، وكانت على اختلاف متصل عنيف مع مدير «بيت موليير» حتى كان يسميها هذا المدير «الآنسة ثورة».
1
فلما كانت سنة 1880 ضاقت «سارة برنار» بالحياة في باريس، وأحست أن هذه المدينة لا تسعها، بل إن فرنسا كلها لا تسعها، فاستردت حريتها، وخرجت من «بيت موليير» خروجا عنيفا وقفها أمام القضاء الذي قضى عليها بغرامة، وسافرت إلى لندرة، ثم إلى السويد والنرويج، ثم إلى أمريكا، وكان سفرها إلى أمريكا فخما ضخما كثر حوله الضجيج والعجيج، وقال كثير من مؤرخيها: إن كثيرا من الملكات لم تظفر بما ظفرت به هذه الممثلة من الفوز والإكبار في هذه السياحة. ولم تقف أسفارها إلى هذا الحد، بل زارت أكثر أقطار الأرض المتحضرة، ونالت فيها فوزا باهرا لم يكن مقصورا عليها، بل كان يتناول فرنسا معها، ولقد ذهبت في بلاد المجر مرة فرفعت الأعلام الفرنسية في كل مكان ذهبت إليه رغم الأوامر التي صدرت من فينا بحظر ذلك.
ولهذا فتن الممثلون بهذه الممثلة التي كانت أحسن سفير نشر الدعوة الفرنسية في أقطار الأرض، وأحسن تمثيل العقل الفرنسي والفن الفرنسي والأدب الفرنسي، حتى قرنها كثير من الكتاب إلى نابليون، ولست أدري إلى أي حد تصح هذه المقارنة، ولكني لا أشك في أن «سارة برنار» خدمت فرنسا ورفعت ذكرها إلى حد لم يبلغه كثير من قوادها الفاتحين.
أما نبوغها الفني، فلست أستطيع أن أحدثك عنه، وإنما أترك ذلك للناقد الفرنسي «جول ليتمر» الذي كان بها مفتونا، والذي يحدثنا بأن مصدر نبوغها وافتتان الناس بها ثلاثة أشياء: صوتها الذي سماه فكتور هوجو ومن بعده الفرنسيون جميعا: «الصوت الذهبي»، يقال إنها كانت تتغنى في تمثيلها بالنثر والشعر جميعا، وكانت ماهرة في تصوير صوتها صورا مختلفة ملائمة غريبة لموضوع الحديث الذي كانت تتناوله، فكان صوتها مرة يشبه الغدير المنساب، وأخرى يتلوى ويتهدج، ومرة يرتفع، وأخرى ينخفض، حتى كان الجمهور معلقا بهذا الصوت الضئيل القوي الشفاف.
الثاني: حركاتها في الملعب، فقد يحدثنا «جول ليمتر» بأنها أحدثت في التمثيل ما لم يحدثه أحد قبلها، فكانت تلعب بجسمها كله؛ أي إنها كانت تحقق ما تمثله، فلم تكن تخيل إلى الناس أنها تلثم أو أنها تعانق، وإنما كانت تلثم وتعانق بالفعل، وكانت تفعل ما هو أبلغ في الدهشة من اللثم والمعانقة.
الثالث: ذكاؤها، فقد كانت أقدر الممثلين على فهم الفصول التي كانت تلعبها، كانت تفهم هذه الفصول كما فهمها المؤلف، وربما فهمتها خيرا مما فهمها المؤلف، ومن هنا خلقت «سارة برنار» كثيرا من القصص، وكثيرا من المؤلفين، ولن يستطيع «فرنسوا كوبيه» ولا «إدمون روستان» أن يستأثرا بما أدركا من فوز في ملاعب التمثيل إنما «لسارة برنار» الحظ الموفور من هذا الفوز.
وانظر إلى هذا الوصف الذي نشرته «الألستراسيون» وكتبه «إدمون روستان»، فهو وحده يعطيك منها صورة خليقة بها:
تقف عربة أمام باب، فتسرع بالنزول منها امرأة قد التفت في الفرو الكثير، تشق الجماعات التي اجتمعت حين سمعت جرس عربتها تاركة لهذه الجماعات إحدى بسماتها، ثم تصعد في خفة سلما ملتوية، وتغير على «لوج» مزدهر شديد الدفء، فتلقي في ناحية حقيبتها ذات الشرائط التي تحتوي على كل شيء، وفي ناحية أخرى قلنسوتها، تزينها أجنحة العصافير، وإذا هي قد نحفت فجأة حين خرجت من فروها فما هي إلا غمد من الحرير الأبيض، ثم تقذف بنفسها على ملعب مظلم، فلا تكاد تصل حتى تبعث الحياة في جماعة ممتقعة تتثاءب في الظلام ، تذهب، تجيء ، تبعث الحمية في كل ما تمس، تأخذ مجلسها في المخبأ، تنظم المنظر، تشير إلى ما ينبغي من الحركات ونبرات الصوت، تقف، تطلب الإعادة، تزأر غضبا، تجلس، تبسم، تشرب الشاي، تمسح جبينها، توشك أن يغمى عليها، تثب فجأة إلى الطبقة الخامسة من الملعب وتظهر لصاحب الأزياء مطربة، وتبحث في خزائن «الأقمشة» وتؤلف الأزياء، تنظم، ترتب، تهبط إلى «لوجها» لتعلم النساء اللاتي يظهرن في الملعب كيف ينبغي أن يرجلن شعورهن، ثم تعيد منسقة طاقات الزهر، ثم تسمع مائة رسالة، وترق لبعض الاستعطافات، تفتح غالبا حقيبتها الرنانة التي تحوي من كل شيء، تفاوض حلاقا إنجليزيا، تعود إلى المسرح لتنظم إضاءة منظر من المناظر، تسب أدوات الإضاءة، تقف عامل الضوء على إساءته، يمر بها أحد العمال فتذكر غلطة اقترفها أمس فتصعقه بسخطها، تعود إلى لوجها لتتعشى. تجلس إلى المائدة ممتقعة في جلال مهيئة ما ستعمل، تأكل في ضحك غريب، ليس لديها الوقت لتتم عشاءها، تلبس ثيابها للتمثيل بينما يحدثها المدير من وراء ستار ألوانا من الأحاديث، تمثل متهالكة، تدبر ألف شيء بين الفصول، ينتهي التمثيل فتبقى في الملعب لتدبر أمرها إلى الساعة الثالثة صباحا، ولا تعتزم السفر إلا حين ترى الناس جميعا من حولها ينامون وقوفا احتراما لها، تصعد إلى عربتها، تتمطى في فروها مفكرة فيما ستجد من لذة حين تستلقي في السرير، ثم تقهقه لأنها ذكرت أن هناك من ينتظرها في البيت ليقرأ عليها قصة ذات خمسة فصول، تعود إلى البيت، تسمع القصة، تفتن بها، تبكي، تقبلها، لا تستطيع النوم، فتنتهز الفرصة لتدرس دورا من أدوار التمثيل ...
كذلك وصفها «إدمون روستان»، أما أنا فلست أدري أأعجب بالوصف أم بالموصوف؟! ولكني أعتقد أني بهذه الترجمة السقيمة قد أعطيتك حسن صورة لهذه الممثلة النابغة، ولست أريد أن أختم أنا هذا المقال، وإنما أريد أن يختمه «جول ليتمر» بهذه الكلمة الحلوة التي كتبها يودع بها «سارة برنار» وقد اعتزمت أحد أسفارها إلى أمريكا:
نتمنى لك يا سيدتي سفرا سعيدا، آسفين أشد الأسف؛ لأنك ستفارقيننا زمنا طويلا ، ستظهرين نفسك هناك لقوم حظهم من الفن والأدب قليل، يسيئون فهمك وينظرون إليك كما ينظرون إلى عجل ذي قوائم خمس، ويرون فيك الشخص الغريب الصاخب لا الفنانة الخلابة إلى غير حد. قوم لن يقدروا نبوغك إلا لأنهم دفعوا ثمنا باهظا ليستمعوا إليك، اجتهدي في أن تحتفظي بظرفك وأن تعيديه إلينا كاملا، فإني آمل أن تعودي وإن كانت أمريكا بعيدة الشقة، وإن كنت قد تحملت من الخطوب وتجشمت من الأخطار ما لم تتحمل ولم تتجشم أبطال الأساطير، إذن عودي إلى «بيت موليير» واستريحي إلى الإعجاب والحب اللذين يدخرهما لك هذا الشعب الباريسي طيب القلب الذي يعفو لك عن كل شيء؛ لأنه مدين لك بكثير من لذاته الكبرى، ثم في مساء لذيذ موتي فجأة على مسرح التمثيل في صيحة هائلة من صيحات الجزع، فإن الشيخوخة أثقل من أن تحتمليها، وإذا كان لديك من الوقت ما يمكنك من التفكير قبل أن تنغمسي في الليل الأبدي فاحمدي - كما يفعل مسيو «رينان» - العلة الأولى الخفية. لعلك لم تكوني من أشد النساء في هذا العصر حكمة واعتدالا، ولكنك عشت أكثر مما عاشت جماعات ضخمة، وكنت من أجمل مظاهر الظرف التي أطافت بالناس فأحسنت عزاءهم في هذا العالم المتغير، عالم الظواهر الطبيعية.
باريس في أول أبريل سنة 1923 (3) بينيلوب
لم يطل ليلي ولكن لم أنم
ونفى عني الكرى طيف ألم
ولكنه لم يكن طيف هند ولا عبدة، ولم يكن طيف عربية ولا مصرية ولا أوروبية، وإنما كان طيف امرأة بقي اسمها في ذاكرة الإنسانية، وذهبت بشخصيتها الغير والأحداث، ولعلها لم توجد قط، ولعل التاريخ لم يعرف من أمرها قليلا ولا كثيرا، ومع ذلك فقد قضيت الليل أفكر فيها، بل أسمع إلى حديثها ومناجاته، هادئة مرة ثائرة مرة أخرى، يملؤها الحنان حينا، وتملكها الوحشية حينا آخر، قضيت الليل أفكر فيها وأسمع لأحاديثها ونجواها حين كانت تتحدث إلى خدمها، وحين كانت تتحدث إلى عاشقها، وحين كانت تتحدث إلى مرضع زوجها، وحين كانت تناجي الآلهة متلطفة آنا ومحنقة آنا آخر، ثم حين كانت تناجي خيال زوجها الغائب، وتتحدث إلى زوجها وقد آب بعد غياب طويل. قضيت الليل أفكر فيها وأستمع لحديثها، وأعجب بقدرة الفن - لا أقول على إحياء من مات وتجديد ما اندثر، بل - على خلق ما لم يوجد، والتخييل إليك أنه قد وجد، وأثر في الحياة آثارا أبقى من أن ينالها الفناء، لم يكن هذا الطيف طيف عربية ولا مصرية ولا أوروبية، وإنما كان طيف يونانية، كان طيف «بينيلوب» زوج «أوليس»
ulysse
بطل «الأودسا».
سمعتها أمس في دار من دور الموسيقى «في الأوبرا كوميك»
opera-comique
تتغنى عشقها ولوعتها وحزنها لبعد من أحبت وجزعها لقرب من كرهت، ففتنت بها ولم أفارق صوتها ولا عواطفها طوال الليل وجزءا غير قليل من النهار.
لست أدري أقرأت «الأودسا» أم لم تقرأ، وأنا أسمح لنفسي بهذا الشك لأني أعلم علم يقين وتجربة أن الأدب اليوناني سيئ الحظ في مصر، وأن سوء حظه قد بلغ من الشدة إلى حيث لا نستطيع تقديره أو تقدير عواقبه السيئة. نجهل الأدب اليوناني - لا أقول جهلا تاما بل أقول - جهلا فاحشا مخزيا لا يليق بقوم يحبون الحياة أو يطمعون فيها، نجهل هذا الأدب جهلا فاحشا بحيث نستطيع أن نحصي المصريين الذين يعلمون ما «الأودسا» وما «الإلياذة» ومن «أوليس» ومن «بينيلوب»، ومع ذلك فقد كانت «الأودسا» و«الإلياذة» وما زالتا وستظلان دائما ينبوع الحياة للأدب والفن: للشعر والنثر والنحت والتصوير والتمثيل والموسيقى، بليت القرون ولم تبل «الإلياذة» و«الأودسا»، فنيت الأمة اليونانية وفنيت الأمة الرومانية، واختلفت العصور والظروف على أوروبا في العصر المتوسط وفي العصر الحديث، وستفنى أمم وتختلف عصور وظروف، وتظل آيات «الإلياذة» و«الأودسا» جديدة خالدة محتفظة بقوتها وبهائها ورونقها على وجه الدهر وتعاقب الأحداث، ولا نكاد نحن نفترض وجود «الإلياذة» و«الأودسا»، فإذا افترضنا وجودهما فلا نكاد نعلم بشيء مما فيهما.
إلى هذا الحد وصلنا من الجهل بمصدر الحياة للأدب والفن، ويظهر أنا إذا لم نستطع أن نمعن النظر في هذا الجهل أكثر مما أمعنا، فليس وراء هذا الحد مطمع لمن يحب الجهل ويرغب فيه. أقول إذا لم نستطع أن نمعن في هذا الجهل أكثر مما أمعنا فيظهر أنا لا نريد، ولا نحاول أن نخلص منه قليلا أو كثيرا، يظهر أنا سنظل على ما نحن فيه من جهل الأدب اليوناني والفن اليوناني؛ لأنا نرى كل شيء يتغير في مصر، ونرى الرقي تناول كل شيء إلا التعليم، فهو بحمد الله باق حيث كان؛ لأن المشرفين عليه لا يفكرون في تغييره، ولعلهم غير قادرين على أن يفكروا في تغييره. سيظل تلاميذنا يخلطون بين أتينا وصقلية كما يخلطون بين الإسكندر وهانيبال، ولكني بعدت عن هذا الطيف الذي أرقت له آخر الليل بعد أن طربت له أول الليل ... قلت إن «الأودسا» و«الإلياذة» كانتا وستظلان ينبوعا للحياة الأدبية والفنية، فقد ألهمتا شعراء اليونان على اختلاف فنونهم وأساليبهم، وألهمتا الفنيين من اليونان، بل ألهمتا فلاسفة اليونان، وكذلك صدر عنهما شعراء الرومان، وكذلك صدر عنهما وما يزال يصدر عنهما شعراء الإفرنج منذ القرن السابع عشر إلى ما شاء الله، ولقد كانت القصة الموسيقية التي شهدتها أمس أثرا من آثار «الأودسا» اجتمع فيه جمال الشعر وجمال الموسيقى وجمال الغناء وجمال الفن الآلي في التمثيل، فكنت تجد لذة لا تعدلها لذة حين تسمع أصوات الآلات الموسيقية وألحانها، واختلاف نغمها الذي كان يرق حتى لا يكاد يسمع، وكان يغلظ حتى يكاد يصم السامعين، وكنت تجد لذة لا تعدلها لذة حين تسمع هذه الأصوات الإنسانية العذبة الرخيمة تمازج نغم الموسيقى متغنية بهذا الشعر الجميل الرقيق الذي يمثل أرق العواطف الإنسانية وأصدقها وأدناها من الوفاء والحب والإخلاص، وكنت تجد لذة لا تعدلها لذة حين تسمع هذا كله وتنظر إلى مسرح التمثيل فترى هذه الجزيرة اليونانية القديمة كما وصفتها «الأودسا» في جمالها القديم الرائع الذي يزيده بهجة وسحرا ما اتخذ الممثلون من أزياء، وما اصطنعوا من آنية ومتاع. كنت تجد لذة لا تعدلها لذة حين كنت تسمع ما تسمع وترى ما ترى، ولم يكن ينغص عليك هذه اللذة إلا أنها كغيرها من جميع لذات الحياة قصيرة محدودة المدى لن تتجاوز ساعة أو ساعتين. ذلك فيما أعتقد أخص ما تمتاز به اللذة الحقيقية التي تملك عليك نفسك وعواطفك، وتسحر السحر كله.
تمتاز هذه اللذة بأنك تشعر حين تشعر بها بشيء من الحزن يصاحبها؛ لأنها ستنقضي بعد حين طويل أو قصير، وأنت تحب ألا تنقضي، وأنت تود لو كانت خالدة، أو لو انقضت بانقضائها الحياة.
اشترك في هذه القصة الموسيقي الفرنسي «جبرئيل فوريه»
gabriel faure ، والشاعر الفرنسي «رينيه فوشو»
renee fauchois ، ومثلت منذ عشر سنين فأعجب بها الجمهور، وابتهج لها الناقدون، ولكنهم لم يجرءوا على أن يحكموا لها أو عليها؛ ذلك لأن فيها شيئا من الغرابة كثيرا، فهي لا تمثل الحياة في عصر نفهمه فهما يسيرا سهلا، وإنما تمثل الحياة في عصر بعيد منا كل البعد، بل لعل هذا العصر لم يعرفه التاريخ، وإذن، فليس من اليسير أن يصدق تمثيلها للحياة، وليس من اليسير أن نحسها نحن كما نحس الحياة التي نحياها بحيث تتأثر لها نفوسنا، وتهتاج لها عواطفنا، فتبعث فينا ضروب الإحساس والشعور التي تبعثها فينا الحياة الواقعة.
تردد الناس في الحكم لهذه القصة أو عليها، ولكن كانت الحرب العظمى فهزت النفوس والعواطف، وسهلت على الناس فهم هذا الشعر القصصي القديم الذي مثل ما أصاب الإنسان من محن فأحسن تمثيله، وصور ما اختلف على حياة الأفراد والجماعات من أحداث فأجاد التصوير. فلما استؤنف تمثيل هذه القصة لم يتردد أحد، ولم يشك إنسان، وإنما ظهر الإعجاب صريحا قويا لا يعدله إعجاب، فأجمع الناقدون على أن هذه القصة آية من آيات الموسيقى الفرنسية، وكان يكفي أن ترى الجمهور أمس لتعلم أن الناقدين لم يخطئوا ولم يسرفوا.
عزيز علي أن أجهل الموسيقى، وأن يضطرني هذا الجهل إلى ألا أتحدث إليك بجمال هذه القصة من الوجهة الموسيقية، ولكني إذا جهلت الموسيقى وعجزت على الحديث فيها، فإني أحسها وأشعر بها، وأستطيع أن أعلم أني سمعت شيئا طربت له، أو سمعت شيئا نفرت منه، وأشهد أني لم أنفر أمس، بل إني لم أطرب أمس، وإنما سحرت سحرا ليس فوقه سحر ... أشهد أني لم أكن أشك حين كنت أسمع هذه الموسيقى أني في جزيرة «إيتاك» وأني بمحضر من أولئك الأبطال القدماء، بل أشهد أني حين كنت أسمع هذه الموسيقى لم أكن في حاجة شديدة إلى أن يصف لي واصف ما يمثله المنظر من هذه الجزيرة المشرفة على البحر التي يعمرها هواء رقيق ناعم شفاف، والتي تزدان بكثبانها وتلالها الصغيرة تهبط إلى البحر متدرجة قليلا قليلا.
نعم لم أكن في حاجة شديدة إلى أن يوصف لي المنظر؛ لأن الموسيقى كانت تغنيني عن هذا الوصف، فكنت أحس في الموسيقى القرب من البحر، وكنت أسمع في الموسيقى أمواج البحر تضطرب وتصطخب رقيقة حينا كأنها حديث العاشقين، غليظة حينا آخر كأنها قصف الرعد، وكنت أجد في الموسيقى رقة الهواء ونعومته، وكنت أسمع هذه الموسيقى فلا أشك في أن الجو كان صافيا رائقا، أو أنه كان كدرا يهيئ للعاصفة، كنت لا أشك في شيء من هذا، وكنت لا أشك في شيء آخر هو أجل من هذا خطرا وأعظم شأنا، كنت لا أشك في أن هذه القطعة الموسيقية تمثل ما يحدث في نفسي الآن من اضطراب العواطف واصطخابها، وما يقع بينها من تنازع ومشادة، وكنت لا أشك في أن هذه القطعة الأخرى تمثل الضعف الذي ليس بعده ضعف، تمثل هذا الضعف الذي يسلبك كل قوة على المقاومة، ويجعلك غير قادر إلا على أن تفتح جفنيك لتسقط منهما قطرات الدمع متتابعة منهمرة! وكنت لا أشك في أن هذه القطعة الأخرى تمثل الغيظ والحنق، هذا الغيظ الذي تنقبض له أعصابك، فإذا جبينك مقطب، وإذا الدم يغلي في رأسك، وإذا أنت قد أطبقت يديك، وإذا أنت تقاوم هذا الميل الشديد الذي يدفعك إلى أن تثب وتهجم على فريستك، لم أكن أشك في شيء من هذا؛ لأني كنت أحسه، وأتنقل فيه من طور إلى طور، بل هناك ما هو خير من هذا، هناك هذه القطع الموسيقية التي تبعث في نفسك شيئا من الحنان والرحمة ، ومن الطمأنينة والدعة لا أستطيع أن أصفه، ولا يستطيع إنسان أن يصفه؛ لأن وصفه لم يتح للجمل والألفاظ، إنما أتيح للأنغام والألحان وحدها، ولكني عاجز - كما قلت - عن أن أصف جمال هذه القصة من الوجهة الموسيقية.
أفتريد أن أصف جمالها من الوجهة الأدبية؟ لقد كنت أحب ذلك وأرغب فيه، ولكن أليس خيرا من هذا الوصف الذي لا يمكن إلا أن يكون موجزا مختصرا أن ترجع إلى هذا الجمال في أصله، وأن تستقيه من ينبوعه، فتقرأ النشيد الرابع والعشرين من «الأودسا» تجد في هذا النشيد قصر الملك «أوليس» قد غاب عنه صاحبه منذ عشر سنين؛ لأنه ذهب إلى «تروادة» وانتصر فيها، فلما أراد العودة إلى بلده عبث به وبأسطوله «بوزيدون» إله البحر فأضله الطريق، وأخضعه لطائفة من المحن، وبينما كان الملك وأصحابه يخضعون لعبث «بوزيدون» وغيره من الآلهة، كانت الملكة «بينيلوب» تنتظر زوجها في لوعة وحسرة، وفي حب ووفاء، وكانت طائفة من زعماء اليونان قد احتلت قصر الملك، وأخذت تعبث بما فيه ومن فيه، فتأكل شاء الملك وثيرانه، كما تقول القصة، وتشرب خمره، وتعبث برقيقه، وتلح على الملكة في أن تختار من بينهم رجلا يكون لها زوجا فيخلف «أوليس» على ملك «إيتاك».
كانت هذه الطائفة تلح وكانت الملكة تقاوم، فلما أعيتها المقاومة أخذت تراوغ، فأعلنت إلى هؤلاء الزعماء أنها ستختار من بينهم زوجا إذا فرغت من نسج كفن، أخذت نفسها بنسجه لأبي زوجها، وقبل الزعماء منها ذلك، فأخذت تنسج الكفن يومها حتى إذا كان الليل نقضت ما أبرمت، ثم تستأنف النسج إذا أصبحت، والنقض إذا أمست، والزعماء ينتظرون ويعبثون بالقصر وما فيه ومن فيه.
فإذا كان الفصل الأول من القصة ظهرت خادمات القصر يغزلن ويتحدثن فيما بينهن، وحديثهن لذيذ، فهن يتغنين ما هن فيه من ألم وحرمان، وهن يتغزلن بجمال الزعماء، وترغب كل واحدة منهن في واحد منهم، وهن يرثين للملكة وينكرن عليها غلوها في الوفاء، وإنهن لفي ذلك إذ يقبل الزعماء يريدون أن يتحدثوا إلى الملكة، وتأبى الخادمات إنباء الملكة بمكانهم؛ لأنهن لا يستطعن أن يدخلن عليها إلا إذا دعين. وبينما الزعماء في حوار مع الخادمات تقبل مرضع الملك فتمانعهم، ويكون بينها وبينهم حوار ومسابة، ثم تقبل الملكة فيشتد الخلاف بينها وبين الزعماء، تهينهم وتنعي عليهم وهم يتملقونها ويتلطفون بها، تمانعهم وتأبى عليهم ما يريدون وهم يلحون عليها في أن تسرع فتختار من بينهم زوجا، ثم يقدم شيخ رث فان يطلب الصدقة والمأوى، فينبذه الزعماء وتئويه الملكة، وهذا الشيخ هو «أوليس» قد وصل إلى جزيرته وأمرته الإلهة «أتينا» أن يتنكر ويحتال في طرد الغاصبين والانتقام منهم، لا تعرفه الملكة، ولكن المرضع تعرفه وتعاهده على أن تخفي أمره. ينصرف الزعماء وينصرف الشيخ إلى طعامه، وتبقى الملكة وحدها فتنقض ما نسجت، ولكن الزعماء كانوا قد رصدوا لها فاستكشفوا حيلتها؛ فيغيظهم ذلك، ويعلنون إلى الملكة أن الغد لن ينقضي حتى تكون قد اختارت لها زوجا، ثم ينصرفون وتخرج الملكة ومرضع الملك لتذهبا إلى شاطئ البحر كما اعتادتا منذ سنين تترقبان سفينة ما لعلها تقبل وعلى ظهرها الملك، ويتبعهما الشيخ. فإذا كان الفصل الثاني رأيت رعاة الملك يتحدثون فيما بينهم، ويتمنى بعضهم لبعض ليلا سعيدا، ويتغنون جمال الطبيعة وسحرها، ثم تقبل الملكة ومن معها فيكون بينها وبين الشيخ حديث بديع يظهر فيه ما يضمر الزوجان من حب ووفاء، ومن لهفة ولوعة، ولكن الملك يخفي نفسه، فإذا سئل عن أمره أخبر بغير الحق، واتخذ هذا الإخبار وسيلة إلى التغزل بزوجه من طرف خفي، ولكن في جمال ورقة وحسن مدخل، ثم تجزع الملكة إشفاقا من غد؛ فيقترح عليها الشيخ أن تعلن إلى الزعماء أنها ستختار من بينهم من يستطيع أن يشد قوس «أوليس»، ثم تنصرف الملكة، ويتعرف الملك بعد ذلك إلى رعاته، ويأمرهم أن يكونوا في القصر غدا، وأن يتخذوا السلاح ليعينوه على الانتقام. فإذا كان الفصل الثالث رأيت الملك وحده يتغنى غضبه وسخطه، وحرصه الشديد على الانتقام، ثم يكون بينه وبين مرضعه ورعاته أحاديث قصيرة، ثم يقبل الزعماء وقد تهيئوا للقصف واللهو، فيسخرون من الشيخ ويريدون طرده، ثم يبدو لهم فيتخذونه سخرية يسقونه ويضحكون منه، ويظهر الشيخ أنه سكران، وتقبل الملكة فتعلن إليهم أن من شد قوس «أوليس» ورمى عنها فهو زوجها، فيعجزون جميعا، ويتقدم الشيخ الفاني إلى القوس فيشدها ويرمي عنها، ولكن في صدر أحد الزعماء.
هنا يظهر الملك نفسه وينتقم لشرفه وثروته وملكه، يعينه الرعاة على هذا، ثم تنتهي القصة بمظهر الحب والغبطة بينه وبين الملكة من جهة، وبينه وبين الشعب من جهة أخرى.
فأنت ترى أن ليس في القصة شيء غريب، وأنها من السذاجة والسهولة بحيث تلائم القرن التاسع أو العاشر قبل المسيح أيام أنشئت «الإلياذة» و«الأودسا»، ولكني أضمن لك لذة عظيمة إذا قرأت هذه القصة، ولذة لا حد لها إذا قرأتها في «الأودسا»، فأما إذا شهدت القصة الموسيقية في «الأوبرا كوميك» فلست أدري ماذا أضمن لك، وإنما أحدثك صادقا بأني قضيت ليلة سعيدة كنت أحسبني أثناءها في عالم آخر، ولم أتنبه إلى أني في الأرض إلا حين سمعت ابنتي تتغنى وتصيح، ورأيت ابني يعبث بما حوله، وسمعت أمه تزجره وتنهاه.
باريس في 4 مايو 1923 (4) شك ويقين
قوم يشكون فيغلون في الشك، وقوم يوقنون فيسرفون في اليقين، وأولئك وهؤلاء معرضون للخطأ الشديد، ومخاصمون للعلم الصحيح. الشاكون مخطئون ومخاصمون للعلم؛ لأنهم ينكرون أنفسهم وينكرون العلم، والموقنون مخطئون ومخاصمون للعلم؛ لأنهم ينكرون التطور الذي هو قوام الحياة، ولكن أولئك وهؤلاء معذورون؛ لأنهم لا يختارون الشك ولا يختارون اليقين، وأحسب أنهم إنما يشكون أو يوقنون لأن أمزجتهم قد ألفت بحيث تستتبع الشك أو اليقين، بل أحسب أن لما نأكل وما نشرب وما نحس، بل وللهواء الذي نتنفسه، والجو الذي نعيش فيه، والكتاب الذي نقرؤه، والخطبة التي نسمعها، أثرا فيما يعرض لنا من شك أو يقين.
زعم بعض الكتاب أن أبا العلاء إنما شك لأنه أسرف في أكل العدس والزيت، فساء هضمه، وتبع ذلك سوء رأيه في الحياة، قد يكون هذا حقا، وقد يكون باطلا، ولكني لا أشك في أننا مدينون بأطوارنا العقلية لهذه المؤثرات الكثيرة المختلفة التي تكتنفنا سواء منها المادي والمعنوي.
حدثتك في مقال مضى بهذه المحاورة التي شهدتها في المؤتمر حول وجود سقراط والشك فيه، ولقد قرأت اليوم شيئا أغرب وأدعى إلى العجب من الشك في سقراط.
قرأت أن هناك عالما فرنسيا من علماء الفلك المعروفين قد كتب في هذه الأيام الأخيرة كتابا سماه «مملكة السموات»، وفي هذا الكتاب الذي يقال إنه ممتع جدا فصل يبحث فيه المؤلف عن حركة الأرض، ويثبت فيه أن من المستحيل أن تثبت بطريقة علمية قاطعة أن الأرض تدور ... إذن فنحن لا ندري من شأن الأرض شيئا، أدائرة هي أم ساكنة، وكل هذه الأدلة الكثيرة المختلفة التي جمعها العلماء منذ حوكم «جاليله»
galilee
إلى الآن ليثبتوا بها أن الأرض تدور، كل هذه الأدلة فاسدة أو غير منتجة، بل يذهب الأستاذ «نورمان»
nordmann
صاحب الكتاب المذكور، إلى أبعد من هذا جدا، فيزعم أن دوران الأرض شيء ليس إلى إثباته أو نفيه من سبيل، وإذن فقد قضي علينا - إن صحت آراء الأستاذ «نورمان» - أن نجهل أبدا شأن الأرض فلا نعلم أساكنة هي أم دائرة!
سنقول: وأي شيء يصيبنا إن علمنا بأن الأرض دائرة أو ساكنة أو جهلنا دورانها وسكونها؟ ربما لم يصبنا شيء، فسنأكل ونشرب وننام ونستمتع باللذات ونتجرع مرارة الآلام سواء أكانت الأرض ساكنة أم دائرة، ولكن ماذا تقول في أولئك العلماء الذين يبحثون عن العلم للعلم، لا تعنيهم نتائجه العملية، والذين يموت أحدهم غما إذا ظهر خطؤه في رأي من الآراء أو نظرية من النظريات؟
كنت أقرأ في أعداد «السياسة» الأخيرة محاضرة صاحب الفضيلة أستاذنا الجليل الشيخ محمد بخيت في الرد على «نورمان»، فرأيته يبذل كل ما يستطيع من قوة وجهد وينفق علمه الواسع ليثبت أن الإسلام دين العلم، بل ليثبت شيئا آخر غير هذا، وهو أن القرآن الكريم لا يناقض بلفظه ولا بمعناه أصلا من أصول العلم الحديث، بل هو فوق هذا يشتمل على أصول العلم الحديث. ورأيت الأستاذ يستنبط من القرآن الكريم كروية الأرض وحركتها حول الشمس وحول نفسها واختلاف الفصول واختلاف الليل والنهار، فأعجبت بهذا الجهد العنيف الذي لا مصدر له إلا البر والتقوى، ومن قبل ذلك قرأت أشياء كثيرة للأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده - رحمه الله - حاول فيها مثل ما حاول الأستاذ الشيخ محمد بخيت، والناس في مصر وفي الشرق يعجبون بمثل هذه المحاولة؛ لأنها تظهرهم في منزلة من الحضارة ليست أقل ولا أدنى من منزلة الأوروبيين الذين اخترعوا العلم الحديث، وإن كنت أنا لا أحب هذه المحاولة ولا أتكلفها، وربما كرهتها ونفرت منها؛ لأنها تفسد النصوص، وتحمل على الغلو في التأويل. كنت إذن أقرأ محاضرة الأستاذ الشيخ بخيت وأعجب بها، فلما قرأت ما قرأت اليوم تحدثت إلى نفسي بما يأتي:
لو صح ما ذهب إليه الأستاذ «نورمان» وأقره العلماء، وأصبح الإجماع منعقدا على أن الأرض لا تدور كما كان منعقدا على ذلك منذ قرون وحين أنزل القرآن الكريم، فأين يذهب هذا الجهد العنيف الذي بذله الأستاذ الشيخ بخيت والأستاذ الشيخ محمد عبده ليثبتا أن القرآن يدل على أن الأرض تدور؟ وهل يبذل الأستاذ الشيخ محمد بخيت وخلفاء الأستاذ الشيخ محمد عبده جهدا عنيفا ليثبتوا أن القرآن يدل على أن الأرض لا تدور؟ وإذن فكيف نستطيع أن نفهم دلالة القرآن على أن الأرض تدور وعلى أن الأرض لا تدور؟
ليس هناك من شك في أن المسلمين في العصور الأولى كانوا يعتقدون أن الأرض لا تدور، وأن القرآن يدل على أنها لا تدور؛ لأن الإجماع كان منعقدا يومئذ على أنها لا تدور، ثم جاء علماء أوروبا وشياطينهم فزعموا أن الأرض تدور، وكانت حرب بينهم وبين عامة الناس وزعماء الديانات، ثم انعقد الإجماع على أن الأرض تدور، وجاء قسيس من دعائم «الفاتيكان» الذي حكم على «جاليله» فجمع أدلة لا تحصى على أن الأرض تدور، ثم جاء الأستاذ «نورمان» وشيطانه فزعما لنا أن الأرض قد لا تدور، وربما جاء العلماء وشياطينهم فأقروا صاحبنا وشيطانه على أن الأرض لا تدور، أو على أنه من المستحيل أن نجزم بأنها تدور، أو بأنها لا تدور! وإذن، وإذن فما قيمة الشك وما قيمة اليقين، وما قيمة العلم، وما قيمة النص، وما قيمة التأويل؟ أليس من الخير ألا نغلو في الشك ولا نغلو في اليقين؟ أليس من الخير أن نكتفي بالترجيح؟ ثم أليس من الخير ألا نحمل نصوص القرآن وغير القرآن من الكتب الدينية أوزار الشك وأوزار اليقين، وهذه النتائج الكثيرة المختلفة المضطربة المتناقضة التي تنشأ عن أمزجتنا المختلفة المضطربة المتناقضة، والتي تنشأ عما نأكل وما نشرب وما نرى وما نسمع وما نحس؟ أليس من الخير أن نجعل القرآن الكريم وغيره من الكتب الدينية في حصن مقدس منيع لا تصل إليه أبخرة العدس والفول والزيت والطعمية وغير ذلك مما نأكل لنهضمه مرة ولا نهضمه مرة أخرى، وينشأ عن سهولة الهضم وعسره حسن تفكيرنا أو سوءه، اللهم إني أعتقد أن الأرض قد تدور وقد لا تدور، وأنها قد تكون كرة أو سطحا أو كمثرى، وأن الزمان قد يوجد وقد لا يوجد، وأن المكان قد يوجد وقد لا يوجد، وأن «نيوتن»
newton
قد يصيب وقد يخطئ، وأن «إنستين»
enstein
قد يحق وقد يبطل. كل هذا ممكن، ولكن هناك شيئا لا أحب أن يحتمل أوزار هذا الإمكان وهذا التناقض وهذا التردد، وهو القرآن وغير القرآن من الكتب الدينية، إنا لنحسن الإحسان كله إذا رفعنا الدين ونصوصه عن اضطراب العلم وتناقضه، فماذا يرى العلماء؟
باريس في 27 أبريل سنة 1923 (5) العلم والثروة
في مصر أغنياء كثيرون، ولكن معظمهم أشد بؤسا من الفقراء المعوزين؛ لأنهم لا يفقهون الثروة ولا يقدرونها، ولا يفهمون ما ينبغي أن توجد هذه الثروة من صلة بينهم وبين مواطنيهم وهم أغنياء، وكل حظهم من ثروتهم أن يأكلوا كثيرا، ويستمتعوا بلذات مادية لا تتجاوز الحس إلى القلب، أو إلى العقل. ثروتهم مقصورة على أجسامهم، فإن وصلت إلى نفوسهم فهي لا تمس منها إلا موضع الضعف والغرور، تمس الفخر والتيه، تمس العجب والخيلاء، لكنها لا تمس الذكاء، ولا تمس عاطفة الرحمة بالبائس، ولا تمس عاطفة الإعانة على الخير.
في مصر أغنياء كثيرون، ولكنهم أشد بؤسا من الفقراء المعوزين؛ لا ينتفعون بثروتهم أحياء، ولا ينتفع الناس بثروتهم بعد موتهم. هم لا يملكون الثروة، وإنما يحملونها على ظهورهم لينقلوهم من جيل إلى جيل، يحملون الثروة عن آبائهم لينقلوها إلى أبنائهم ليعبروا بها النهر، وكثيرا ما تنوء بهم هذه الثروة فتغرق ويغرقون معها، ولا يظفر أبناؤهم منها إلا بالتعس والبؤس وسوء الحال.
في مصر أغنياء كثيرون، ولكنهم في الحق معوزون!
وفي أوروبا أغنياء، ولكنهم أبعد الناس عن الفقر، وأدناهم إلى الغنى حقا؛ لأنهم يفهمون الثروة، ويحسنون الانتفاع بها في حياتهم الخاصة، وفي حياة أممهم ومدنهم وقراهم وأسرهم، فهم يتمتعون بالثروة حقا، يجنون منها لذة الجسم، ولذة القلب، ولذة العقل. بل يجنون منها اللذة الصحيحة في الحياة وتخليد الاسم بعد الموت. ينفعون وينتفعون، ليسوا عالة على قومهم، وليس قومهم عليهم عالة. إنما هم يفهمون أن الثروة أداة من أدوات المنفعة العامة المشتركة التي ينبغي أن يستمتع بها الناس جميعا، كل على القدر الذي يتاح له. هم يملكون الثروة ويحسنون التصرف فيها، لا يشترون بها الطعام والشرب واللباس فحسب، وإنما يشترون بها أيضا الحب والعطف والإجلال وحسن الأحدوثة في الحياة وبعد الموت. ليسوا أنعاما ينقلون أثقال الثروة من جيل إلى جيل، وإنما هم ناس يملكون الثروة ويستثمرونها فيفيدون ويستفيدون. ليسوا عبيدا للمادة، وإنما هم سادتها، يملكونها ويسخرونها لحياة الإنسان والترفيه عليه.
اقرأ في جريدة «الطان» أن رجلا أهدى إلى جامعة باريس عشرة ملايين، لإقامة حي خاص يسكنه الطلبة الذين يدرسون في هذه الجامعة، بحيث يتاح لهؤلاء الطلبة أن يعيشوا في منازل صحيحة يجدون فيها ما يمكنهم من الدرس النافع بين ضروب الراحة والنعيم، واقرأ في جريدة «الطان» أن امرأة أوصت بثروتها كلها لجامعة باريس، وثروتها تكاد تبلغ الخمسة عشر مليونا، واقرأ في جريدة «الطان» أن هذه المرأة قبل أن تموت أهدت إلى كثير من الجامعات مقادير مختلفة من المال، وأنها أهدت مرة إلى جامعة باريس مقدارا من المال تنفقه في طبع الرسائل التي يقدمها الطلبة الفقراء لنيل الدكتوراه، وأهدت مرة أخرى إلى جامعة باريس ما يمكنها من إنشاء درس لأدب القرن الثامن عشر وتاريخه، وأن امرأة أخرى أهدت إلى جامعة باريس ثروة تغل عليها 35000 فرنك في السنة؛ لترقية البحث عن «الراديوم» في الطب، وأن رجلا ترك لها نصف مليون، وأن أستاذا في مدرسة ثانوية ترك ثروته التي تبلغ 76408 فرنكات لإعانة طلبة التاريخ الحديث، وأن امرأة تركت مليونا لإعانة المؤرخين على بحثهم التاريخي. واقرأ في الصحف المختلفة أن دور التمثيل والموسيقى ومنازل اللهو واللعب قد خصصت جزءا من دخلها في يوم من الأيام لإعانة العلماء على تأسيس المعامل العلمية المختلفة. بل اقرأ ما هو أغرب من هذا؛ اقرأ تعاون الفقراء والمعوزين وافتنانهم في جمع المقادير المختلفة من المال لإعانة العلماء على تأسيس المعامل وتكميلها، واقرأ في الوقت نفسه مقالات طويلة مرة ملؤها السخط والغضب والغيظ؛ لأن العلماء يشكون فقر المعامل ونقصها، ويستعينون الجمهور فلا يعينهم ولا يمنحهم من المال ما ينبغي أن يمنحهم. هذا الجود وهذا البذل اللذان أشرت إليهما في أول هذه الكلمة لا يرضيان ولا يقنعان، ومع ذلك ففقر العلم في فرنسا إضافي جدا؛ لأن الدولة والأفراد والجماعات يخصونه بعناية عظمى، وآية ذلك ما وصلت إليه فرنسا من الرقي العلمي الذي لا يزال مطمح أمم كثيرة في أوروبا بعد.
كتبت في غير هذا المقال منذ أشهر أن العلم مهما اشتد غناه وعظمت ثروته فهو فقير محتاج إلى المعونة؛ لأنه يحيا، وحاجة من عاش لا تنقضي، فسيظل العلماء يشكون وسيظل الناس يبذلون. هذا في فرنسا، أما في مصر فالثروة كثيرة ضخمة تنوء الأغنياء، ولسنا نستطيع أن نذكر فقر العلم أو حاجته إلى المعونة؛ لأننا لا نستطيع أن نذكر العلم في مصر، فليس لمصر علم، وإنما هي في علمها عالة على أوروبا وأمريكا تستعير منهما كل شيء، وهي لا تحسن الاستعارة، ولا تستطيع أن تستعير منهما ما هي في حاجة إليه أو جزءا موفورا مما هي في حاجة إليه؛ لأنها لا تجد من المال ما يمكنها من أن تستعير هذا المقدار العلمي الذي هي محتاجة إليه لتعيش، أما إذا احتاجت إلى السيارات والدراجات والحلي وفاخر اللباس وبديع الأداة والآنية، فما أكثر المال وما أيسر البذل! هنا تظهر ثروة الأغنياء ويظهر سخاؤهم فتكثر في مصر هذه الأدوات المختلفة التي يفيد قليلها ويضر كثيرها.
نعم، نحن أغنياء أجواد إذا احتجنا إلى متاع الدنيا، فأما إذا احتجنا إلى غذاء العقل والقلب ففقرنا لا يعدله فقر. هناك علوم مزهرة في أوروبا وأمريكا ونحن لا نسمع بها في مصر؛ إما لأننا لا نحاول أن نسمع بها، وإما لأننا نضع أصابعنا في آذاننا حتى لا نسمع بها، فنحتاج إلى أن ننفق المال في جلبها إلى بلادنا، ولكني واثق بأن لونا من ألوان البدع في الحلي أو الملابس أو السيارات أو الأزرار لا يكاد يظهر في باريس أو في نيويورك حتى نسمع به، ونرغب فيه، ونتهالك عليه، والنتيجة أننا في حياتنا الظاهرة كأرقى الشعوب مدنية وحضارة، وربما كنا أفخر لباسا وزينة من أغنياء باريس ونيويورك ولندرة، فإذا رآنا الأوروبي خيل إليه أننا ناس مثله نلبس كما يلبس بل خيرا مما يلبس، ونزدان كما يزدان بل خيرا مما يزدان، يحسبنا مثله إذا رآنا، ولكنه لا يكاد يمتحننا ويخبرنا حتى يشعر بأن وراء هذه الزينة وهذه المظاهر الفناء أو شيئا يشبه الفناء، وماذا تريد من قوم يجلبون من أوروبا كل ما ييسر عليهم الحياة المادية، ويمكنهم من الاستمتاع بلذاتها المادية، فإذا ذكر العلم والأدب والفن هزوا الرءوس والأكتاف، بل هم يفعلون شرا من هذا، فالعلم في بلادهم ولكنهم يعمون أو يتعامون عنه، لا يرونه ولا يشعرون به، ويحسه الأوروبيون والأمريكيون على بعد الشقة فيسعون إليه ويحملونه إلى بلادهم، حتى إذا نبه منا نابه فأحس كما يحس الناس، واشتاق إلى ما يشتاق إليه الناس، وأراد أن يكون مصريا يعرف مصر كما يعرف الفرنسي فرنسا، اضطر إلى أن يبحث عن مصر في باريس أو لندرة أو برلين، يا للخزي! بل قد يحتاج إلى أن يبحث عن مصر في أثينا!
لقد قلنا هذه الأشياء، وقلناها وسنقولها ونقولها، فلم يحفل بنا أحد، ولن يحفل بنا أحد، اللهم إلا جماعة الراغبين اليائسين وهم قليلون، فأما القادرون على أن ينفعوا، فأما القادرون على أن يفيدوا بلادهم، فهم عن النفع والفائدة في شغل، وما أنت والعلم تحدثهم به وتثقل عليهم فيه، وهم أرغب في هذا المتاع الباطل الذي يبهر العين ويخلب النظر ويحمل فلانا على أن يقول: لقد رأيت سيارة فلان فأعجبتني ولأشترين مثلها! رأيت عالما مصريا أو أديبا مصريا أو فنيا مصريا يروقنا أن يكون لدينا مثله، فذلك شيء لا يخطر لأغنيائنا على بال، ولقد أكتب هذه الكلمة وأنا أثق الثقة كلها بأن كثيرا من أغنيائنا سيقرءونها، وينالون كاتبها بالسخط والنعي؛ لأنه يحدثهم بما لا خير فيه.
لدينا جامعة أنشئت منذ خمس عشرة سنة، ولولا لطف الله بها لماتت، على أنها ليست بعيدة من الموت، ولقد أظهر أغنياؤنا ميلا شديدا إلى تأييد هذه الجامعة وإعانتها؛ لأن ذلك كان بدعا يومئذ وكان فيه فخر للباذلين. فلما انقضى البدع هبطت الرغبة، وفتر الميل، وحبس الذين بذلوا المال أموالهم فلم يعطوا، ولم يفوا بما وعدوا أن يعطوا. لا تذكر الحرب فإن الحرب لم تسئ إلى مصر، ولم تنزل الفقر بأهلها، ولقد أساءت الحرب إلى فرنسا فزعزعت ثروتها وخربت جزءا عظيما منها، بل زعزعت نظامها الاجتماعي فلم يزدها ذلك إلا حبا للعلم وتشجيعا للعلم وإعانة للعلماء، ولم يضع عليها من ذلك شيء؛ فقد أتاح لها العلم أن تنتصر، أما أغنياؤنا فقد ضاعف الله عليهم ثروتهم أضعافا مضاعفة، فلم يزدهم ذلك إلا ضنا وحبسا للمال عن وجوه الخير، وتهالكا على اللذات المادية، والحكومة والأفراد في ذلك سواء، فلست أنسى الوزارة النسيمية الأولى وما أنفقت من المال لإصلاح سيارات الحكومة، فقد كان ذلك يكاد يبلغ نصف المليون من الجنيهات، أما الجامعة، فكانت الحكومة تعينها بألفي جنيه قبل أن تبلغ ميزانيتها عشرين مليونا، فبلغت هذه الميزانية أربعين مليونا، ولم تزد إعانة الجامعة، وإنما أنذرت الجامعة مرات بقطع هذه الإعانة ! وكانت وزارة الأوقاف تمنحها معونة قدرها خمسة آلاف جنيه أيام النظام القديم، فلما أقبل النظام الجديد نقصت هذه الإعانة حتى بلغت 1800 جنيه! ولست أدري أفتقرت وزراة الأوقاف، ولعل افتقارها كافتقار الحكومة المصرية؟ ثم نحن نطلب الاستقلال، نزعم أن ليس بيننا وبين أهل أوروبا فرق، وأن من حقنا أن نستمتع بنظام الحياة الذي يستمتعون به، وقد يكون هذا حقا، ولكن يجب أن نعترف بأن أهل أوروبا وأمريكا لم يصلوا إلى حياتهم الراقية الحرة بالتهالك على السيارات والحلي وملابس الحرير وما يشبهها، وإنما وصلوا إليها بالتهالك على العلم والرغبة فيه، يجب أن نحمد الله على أن الدستور قد صدر، فلئن يئسنا من الحكومة ومن الأفراد فلن نيأس من الأمة ممثلة في البرلمان، ويقيننا أن هذا البرلمان لن يغفر في المستقبل لوزارة المعارف مثل هذه الأغلاط المنكرة، لن يغفر لوزارة المعارف ما وصلت إليه حال التعليم في مصر من ضعف وفساد، ولن يغفر لوزارة المعارف أن تظل مصر من الجهل والضعف بحيث توجد علوم لا تسمع بها مصر ولا يأخذ المصريون منها بنصيب.
باريس في 11 مايو سنة 1923
القسم الثاني: أسبوع في بلجيكا
1
مؤتمر العلوم التاريخية
كنا ألفا أو نزيد على الألف، كلنا يعنى بالتاريخ أو بعلم أو فن من هذه العلوم والفنون التي يحتاج إليها التاريخ، وقد اجتمعنا من أطراف الأرض على اختلاف أوطاننا، وأدياننا، ولغاتنا، ومناهجنا في الحياة، لا يجمع بيننا إلا شيء واحد، هو أننا نشتغل بالتاريخ أو بفن يتصل بالتاريخ.
كنا ألفا أو نزيد على الألف، وكنا مختلفين مؤتلفين، مفترقين متفقين، ولقد أريد أن أحدثك عن هذا المؤتمر، ولقد أريد أن أحدثك عن هذا الأسبوع الذي قضيته في بلجيكا، ولكني لا أدري كيف أحدثك؛ لأني لا أدري كيف أبدأ الحديث.
في نفسي أشياء كثيرة، كثيرة جدا، أريد أن أتحدث بها إليك، ولكني أشعر بشيء من الاضطراب في تنظيم هذه الأشياء الكثيرة وترتيبها، وتقديم بعضها على بعض، كل هذه الأشياء خليقة أن تقال، وكل هذه الأشياء جليلة الخطر، فلأتحدث إليك كما تلهمني المصادفة على غير نظام، وفي غير ترتيب.
أشعر بأن كثيرا من المصريين سيسخرون من التاريخ والمؤرخين ومن المؤتمر والمؤتمرين؛ لأن التاريخ ليس من هذه العلوم التي تظهر فائدتها في الحياة العملية اليومية، وليس من العلوم التي تعين صاحبها على أن يفلسف كما يقتضي العصر الذي نعيش فيه، وإنما هو علم متواضع يزيد في تواضعه أنه قد نزل في هذا العصر الحديث عن ميزة قديمة كانت ترفع شأنه وتعلي مكانته، ذلك أن الناس كانوا يتخذون الماضي وسيلة إلى فهم المستقبل، أو بعبارة أوضح: وسيلة إلى الاستعداد للمستقبل، وكانوا يتخذونه وسيلة إلى فهم الإنسانية وتفسير ما في حياتها من غموض، فكان التاريخ يختلط بالفلسفة أو كان التاريخ فنا من فنون الفلسفة، وكان الناس يعتقدون أن له فائدة عملية؛ لأنه يعين على حسن الاستعداد للحياة، فكانوا يكلفون بالتاريخ ويتهالكون عليه، وكانت للتاريخ مكانة عليا بين العلوم، وكانت للمؤرخين مكانة عليا بين العلماء.
ولكن التاريخ تواضع ونزل عن هاتين الميزتين، وأصبح لا يزعم لنفسه الفضل فيحسن الاستعداد للمستقبل، ولا يزعم لنفسه القدرة على حل ألغاز الحياة، بل أصبح التاريخ يحذر الناس من تلك الأساليب القديمة التي كانت تقيس غدا إلى أمس وتفسر اليوم بما وقع منذ قرون. أصبح التاريخ يحذر الناس من هذه الأساليب القديمة، ويسخر من أولئك الذين يبحثون عن الثورة الفرنسية وما أحدثت من نظم في السياسة والاجتماع في تاريخ اليونان والرومان، ثم يرثي لأولئك الفرنسيين الذين خدعتهم هذه الأساليب في أواخر القرن الثامن عشر فظنوا أنهم يحيون بثورتهم الديمقراطية اليونانية أو نظم السياسة الرومانية، واتخذوا لهذه النظم أسماء اقتبسوها من تاريخ أتينا وتاريخ روما. أصبح التاريخ ينكر هذه الأساليب، ويحذر الناس منها، ويسخر من المستمسكين بها، بل أصبح التاريخ ينكر فلسفة التاريخ ويقنع بشيء واحد متواضع، ولكنه جليل الخطر، وهو الوصول إلى استكشاف الحقائق التي وقعت في الماضي استكشافا علميا صحيحا معتمدا على البحث لا على الفلسفة.
فهو كالكيمياء لا يزعم لنفسه القدرة على تحويل المعادن وإيجاد الذهب ، وإنما يزعم لنفسه البحث عن الحقائق من حيث هي حقائق لا أكثر ولا أقل.
إلى هذه المنزلة وصل التاريخ، فما أسرع ما زهد فيه الناس ورغبوا عنه، ولا سيما في مصر! ولقد أذكر حديثا طويلا جرى بيني وبين أحد المصريين الأذكياء، كان ينكر فيه قيمة التاريخ؛ وكانت حجته في هذا الإنكار أن التاريخ لا يفيد فائدة عملية، ولا يمكن الناس من أن يكسبوا حياتهم أو يرفهوا هذه الحياة.
أذكر هذا الحديث وأحاديث أخرى فأشعر بأن ناسا كثيرين في مصر سيسخرون من التاريخ، ومن مؤتمر التاريخ، ولكني أؤكد لك أيها القارئ أني لا أسخر من هذا ولا ذاك، وإنما أكلف بالتاريخ، وأعجب بمؤتمر التاريخ، وأرجو أن يكلف كثيرون بالتاريخ، ولكننا قد نصل إلى هذه المنزلة يوم نشعر بأن العلم يجب أن يطلب لأنه علم، لا لأنه يمكنك من أن تعيش أو من أن تعيش عيشة مترفة.
لا أسخر من التاريخ، وفي الأرض ناس كثيرون لا يسخرون من التاريخ. فقد حدثتك في أول هذا المقال بأننا كنا ألفا أو نزيد على الألف، وكنا من جميع أقطار الأرض، ولم يكن منا من يسخر من التاريخ، ولقد كان الذين نظموا المؤتمر ودعوا إليه في دهش وحيرة لا حد لهما، كانوا لا يطمعون في أن يبلغ عدد المؤتمرين خمسمائة، فإذا عدد المؤتمرين قد تجاوز الألف. كانوا يطمعون في أن يستجيب لهم الناس من أطراف الأرض، وإنما كانوا ينتظرون أن يستجيب لهم أهل أوروبا الغربية، وأهل أمريكا الشمالية، فإذا القارات الخمس يستجبن لهذه الدعوة، وإذا البرازيل والهند وأستراليا ومصر وأفريقيا الجنوبية وأوروبا الشمالية والصين واليابان والروسيا ترسل من يمثلها في هذا المؤتمر. وأحب أن تلاحظ أن ألمانيا لم تستطع أن تشترك في المؤتمر لأنها لم تدع إليه، وأن الروسيا لم تستطع أن تشترك في المؤتمر كما ينبغي لأنها لم تدع، وإنما اشتركت في المؤتمر الجماعات الروسية المتفرقة في أنحاء أوروبا، وأن النمسا اعتذرت عن الاشتراك في المؤتمر؛ لأنها لم تجد من المال ما يمكنها من إيفاد من يمثلها ، ومع هذا كله فقد بلغ هذا المؤتمر الخامس من الفوز ما لم يبلغه مؤتمر تاريخي من قبل.
زاد عدد أعضائه على الألف، وزاد عدد الخطب التي ألقيت فيه والمذكرات التي قدمت إليه على ثلاثمائة، ولم يستطع المؤتمر أن يجتمع للاشتراك في البحث والمناقشة، إنما اضطر أن يوزع العمل ويقسم نفسه أقساما بلغت ثلاثة عشر قسما. اضطرت أقسام كثيرة إلى أن تقسم نفسها وتوزع العمل فيما بينها، فانقسم بعضها أربعة أقسام، ولم يكن من الممكن لعضو من أعضاء المؤتمر أن يتتبع العمل في المؤتمر، وإنما كان كل عضو مضطرا إلى أن يتتبع العمل في القسم الذي هو فيه، وربما أباح أحدنا لنفسه أن يترك قسمه ليسمع خطبة أو مذكرة تلذه أو تعنيه في قسم آخر، فيفعل ذلك كارها؛ لأنه يترك في قسمه خطبا ومذكرات كان يود لو يستمع لها. ولقد كان أعضاء المؤتمر يلتقون فيسأل أحدهم صاحبه: هل قدمت إلى المؤتمر شيئا؟ نعم في موضوع كذا. فيجيبه: هذا شيء لا يحتمل! لقد كنت أريد أن أسمع لك ولكني شغلت في قسمي بموضوع لم يكن بد من الاستماع له. أما أنا فضيق الصدر، فقد فاتتني خطبة فلان ومذكرة فلان. وماذا تريد أن نصنع وقد أبت الطبيعة أن تستطيع تعديد أشخاصنا والاستماع في وقت لكل ما نحب أن نستمع له؟
وكان المؤتمر يفكر في طبع ما سيلقى فيه من الخطب أو يقدم إليه من المذكرات، فألفى نفسه أمام مشكلة مالية لا قدرة له على حلها، وحسبك أنه كان يلقى في الساعة الواحدة وفي أكثر من عشرين غرفة أكثر من عشرين خطبة! وكنا في هذا المؤتمر كالتلاميذ في المدرسة، نجتمع في الساعة التاسعة صباحا فما نزال مجتمعين إلى الظهر، ثم ننصرف للغداء ونعود في الساعة الثانية فما نزال مجتمعين إلى الساعة الخامسة. فإذا كانت الساعة الخامسة انصرفنا إلى زيارات واستقبالات قد نظمت في القصر مرة، وفي البلدية مرة أخرى، وعند وزير المعارف مرة ثالثة، وفي المتاحف والمجامع العلمية مرة رابعة، بحيث كان من المستحيل أن يفكر العضو في شيء غير المؤتمر وأعمال المؤتمر إذا كان عضوا مخلصا في عمله معنيا بفنه حقا، وهنا يجب أن ألاحظ أن الأعضاء لم يكونوا جميعا على حظ واحد من الإخلاص للفن والعناية به، وذلك شيء حسن في نفسه؛ فحسبك ثلاثمائة خطبة أو مذكرة وما استتبعت من البحث والمناقشة، ولو أن الأعضاء جميعا خطبوا أو قدموا المذكرات أو اشتركوا في البحث والمناقشة لما انتهت أعمال المؤتمر في أسبوع أو أسابيع.
كثير من الأعضاء أقبل يسمع ويرى، ويتعرف إلى المؤرخين على اختلاف مذاهبهم ومناهجهم، وكثير منهم أقبل للرياضة والسياحة، واتخذ المؤتمر تعلة لما كان يريد.
كثيرة جدا الفوائد المختلفة التي تنتجها مثل هذه المؤتمرات، فلست أذكر الفائدة الأساسية التي يستفيدها علم التاريخ، وإنما أذكر فوائد أخرى غير هذه ليس بينها وبين التاريخ صلة. فيكفي أن تكون فطنا دقيق الملاحظة لتجد لذات متنوعة في ملاحظة هؤلاء الناس المختلفين في الوطن والجنس والطبيعة والمزاج، وما لكل واحد منهم من عادة أو خلق أو مزية أو نقيصة. والحق أني قد استفدت كثيرا من الوجهة العلمية التاريخية، ولكني مع هذا ضحكت كثيرا وسخطت كثيرا، فقد كان حولي من الناس من يضحك كما كان حولي منهم من يبعث السخط، ولكني سأحدثك عن هذا كله في مقال آخر بعد أن أقص عليك طرفا من أعمال المؤتمر.
باريس في 16 أبريل سنة 1923
2
لا أذكر ما كان يضطرب في نفسي من خواطر الأسى والإعجاب، ومن عواطف الأسف والأمل أثناء الطريق بين باريس وبروكسل، حين كنا نعبر هذه البلاد التي دمرتها الحرب تدميرا فلم تذر فيها شيئا إلا أتت عليه، والتي كان أهلها مشردين في أقطار فرنسا، يتكلفون ألوان المشقة، ويستجدون ضروب الإحسان، ليستقروا بعد تشريد وليشبعوا بعد جوع، فأصبحت هذه البلاد، ولما تمض على الحرب أعوام، عامرة ومزدهرة مستكملة أو آخذة في استكمال وسائل الحياة العاملة المنتجة الناعمة المترفة. كنت آسف وكنت آمل، كنت آسى لقسوة الإنسان على الإنسان، وكنت أعجب بقدرة الإنسان على إصلاح ما أفسدت يد الإنسان ، ولكني لا أريد أن أذكر ذلك أو أطيل فيه، وإنما أحدثك بما وجدت حين وصلت إلى مدينة بروكسل ظهر الأحد 8 أبريل.
كان البرد شديدا، وكانت تعصف في المدينة ريح قوية مثلجة، ولكن المدينة كانت هائجة مائجة، أو بعبارة أصح: كانت فرحة مرحة، كان الناس يتغنون ويضحكون ويفتنون في اللذات البريئة. فكنت لا تسمع إلا أصواتا صافية مجلوة، تنبعث بألفاظ الهناء والسرور، وكنت لا ترى إلا أعلاما منشورة تعبث بها الريح، كنت لا تسمع ولا ترى إلا شيئا يسر ويرضي ويبعث البهجة في النفوس. كان أهل بلجيكا ذلك اليوم في عيد، كانوا يحتفلون بميلاد الملك ألبير. لم يكن احتفالهم رسميا فحسب، لم يكن مقصورا على قصر الملك ودواوين الحكومة. لم يكن احتفالا تراد به المجاملة، وإنما كان احتفالا حقا. كانت القلوب تحتفل بالملك ألبير، وكانت الألسنة تنطلق بما يملأ القلوب من فرح، وكان الوجوه تصف ما يغمر النفوس من ابتهاج، وكانت هذه الجماعات المختلفة التي تنطلق في الشوارع منها ما ينشد النشيد البلجيكي، ومنها ما يتغنى «بالمرسيلييز»، ومنها ما يتغنى بأحدث الأغاني الباريسية التي تتردد في «مونمارتر». أقول: كانت كل هذه الجماعات آية ساطعة على أن البلجيكيين يحبون ملكهم ويعجبون به، ويحتفلون ببلجيكا الناهضة حين يحتفلون بعيد ألبير؛ لأن ألبير يمثل في نفوسهم هذا الوطن الذي تألم وأهين، ولقي ضروب الذلة ثم انتصر وثأر لنفسه، وهو الآن ينهض ويستأنف الحياة قويا نشيطا كأقوى وأنشط ما كان قبل الحرب.
نعم: كانت هذه الجماعات آية بينة على أن البلجيكيين يحبون ملكهم، ويرونه رمز آلامهم وآمالهم حقا، ومهما أنس فلن أنسى جماعة من الرجال والنساء صادفناها في أحد الشوارع، وقد تبادلت القلانس، فلبس الرجال قلانس النساء ولبس النساء قلانس الرجال، وامتلأ الشارع بهم حتى وقف الترام، وانقطعت الحركة وهم يتغنون:
اصعد فوق! اصعد فوق! فسترى مونمارتر.
وكن واثقا جدا بأنك سترى شيئا جديدا.
من فوق إذا كان الجو صحوا فسترى من باريس إلى شارتر.
إذا كنت لم تر هذا فاصعد فوق، اصعد فوق فسترى مونمارتر.
بذلك كانوا يتغنون، وكانت تقطع هذا الغناء من وقت إلى وقت قهقهة عالية تصعد في السماء، وتحملها الريح وتفرقها في أنحاء المدينة، وإنهم ليمضون كذلك وإننا لنتبعهم وإذا الغناء قد انقطع، وإذا الأصوات قد خفتت، وإذا الرءوس حاسرة، وإذا جلال مهيب قد انبسط على هذه الجماعات الفرحة، وإذا صمت رهيب يشعرك بأن هناك شيئا جديدا. بأن هناك شيئا مقدسا.
كان هناك شيء جديد مقدس. كانت الجماعة قد وصلت إلى عمود المؤتمر، وهو الذي أقيم سنة 1830 حين استقلت بلجيكا وصدر دستورها، وهو الذي يظل قبر الجندي المجهول الذي اتخذ رمزا لما قدمت بلجيكا من ضحايا في الحرب الماضية، وصلت الجماعة إلى هذا العمود فتبدل فرحها ومرحها إجلالا وتقديسا لرمز الاستقلال ورمز الجهاد الوطني!
وما أشك أن هؤلاء الناس الذين كانوا يجلون استقلالهم، ويقدسون رمز ضحاياهم، كانوا يذكرون في هذه اللحظة نفسها مع الإجلال والإكبار الملك ألبير، الذي جاهد وتألم واحتمل كل ما يمكن أن يحتمله الملك المخلص للدفاع عن وطنه أولا وعن عرشه ثانيا! في هذا اليوم عرفت قيمة ما يمكن أن يوجد بين الشعوب والملوك من صلات الحب والمودة والعطف.
الحب وحده مصدر هذا الابتهاج والإجلال، فليس الملك ألبير مستبدا ولا راغبا في الاستبداد، وليس الشعب البلجيكي خانعا ولا مستعدا للخنوع، ولعل الذين قرءوا تاريخ بلجيكا يعلمون أن الصلة بين البلجيكيين وملوكهم قائمة على أن الملوك يتلقون سلطانهم من الشعب، فهم نوابه وممثلوه، لا سادته وزعماؤه.
وما لي أذهب بعيدا وقد افتتح المؤتمر التاريخي يوم الاثنين 9 أبريل بمحضر من الملك والملكة وولي العهد والبرنس شارل وأخته البرنسيس ماري جوري. فلما قدم رئيس المؤتمر إلى الملك والملكة والأمراء تحية المؤتمر، ذكر الديمقراطية ورقيها في بلجيكا، واقتناع الملك بأن لا رقي للشعوب ولا استقرار للعروش إلا إذا كانت الديمقراطية الصحيحة الواسعة أساس الصلة بين الشعوب والعروش، فصفق الناس جميعا وابتسم الملك والملكة.
باريس في 17 أبريل سنة 1923
3
قلت في أول هذه الفصول: إن كثرة أعضاء المؤتمر من جهة، وكثرة مواد العمل من جهة أخرى، قد اضطرتا المؤتمر إلى أن يقسم نفسه إلى لجان، ولست أرى بأسا من ذكر هذه اللجان ليرى المشتغلون بالتاريخ في مصر كيف يتصور علماء أوروبا التاريخ، وكيف يقسمونه إلى أقسامه المختلفة.
انقسم المؤتمر إلى ثلاث عشرة لجنة وهي: (1)
تاريخ الشرق. (2)
تاريخ اليونان والرومان. (3)
تاريخ العصر البيزنطي. (4)
تاريخ القرون الوسطى. (5)
التاريخ الحديث والتاريخ العصري، وهذه اللجنة تنقسم إلى أربع لجان جزئية:
الأولى:
لجنة التاريخ الحديث التي ينتهي عملها إلى الثورة الفرنسية.
الثانية:
لجنة التاريخ العصري التي يبتدئ عملها من الثورة.
الثالثة:
لجنة تاريخ القارة الأمريكية.
الرابعة:
لجنة تاريخ الاستعمار والاستكشاف.
وأحب أن تلاحظ أن هذين القسمين الأخيرين - تاريخ القارة الأمريكية وتاريخ الاستعمار - لم يستقلا بالبحث وتخصص العلماء إلا في هذه السنين الأخيرة، وهما يوشكان أن يصبح كل واحد منهما قسما مستقلا استقلالا تاما عن غيره من بقية أقسام التاريخ. (6)
التاريخ الديني، وهذه اللجنة تنقسم إلى لجنتين جزئيتين:
الأولى:
لجنة تاريخ الديانات من حيث هي؛ أي من وجهتها الفكرية والعملية.
الثانية:
لجنة تاريخ الكنيسة، وهي تنقسم إلى لجنتين، تبحث الأولى عن تاريخ الكنيسة منذ نشأتها إلى آخر القرن الثاني عشر.
وتبحث الثانية عن تاريخ الكنيسة منذ أول القرن الثالث عشر. (7)
تاريخ الحقوق، وهذه اللجنة تنقسم إلى لجنتين:
الأولى:
لجنة تاريخ الحقوق في العصر القديم.
الثانية:
لجنة تاريخ الحقوق في القرون الوسطى وفي العصر الحديث. (8)
التاريخ الاقتصادي. (9)
تاريخ الحضارة، وقد انقسمت هذه اللجنة إلى ثلاث لجان:
الأولى:
لجنة تاريخ الحضارة في العصر القديم.
الثانية:
لجنة تاريخ الحضارة في القرون الوسطى وفي العصر الحديث.
الثالثة:
لجنة تاريخ الطب. (10)
تاريخ الفن والآثار، وتنقسم إلى لجنتين:
الأولى:
لجنة تاريخ الفن.
الثانية:
لجنة الآثار. (11)
المناهج التاريخية والعلوم المتصلة بالتاريخ، وقد انقسمت هذه اللجنة إلى لجنتين:
الأولى:
لجنة مناهج البحث التاريخي.
الثانية:
لجنة العلوم المتصلة بالتاريخ كعلم النقوش والخطوط، وما إلى ذلك. (12)
لجنة البحث عن مصادر تاريخ العالم أثناء الحرب العظمى. (13)
لجنة المحفوظات ونشر النصوص التاريخية.
وكان المنظمون للمؤتمر قد خصصوا له قصر المجامع العلمية، فظهر أن هذا القصر على سعته وكثرة غرفه أضيق من أن يسع هذه اللجان، واضطر المنظمون إلى أن يقرروا لجانا كثيرة في مواضع مختلفة قريبة أو بعيدة من قصر المؤتمر.
وكانوا قد أجمعوا أن يفتتح المؤتمر بعد ظهر الاثنين 9 أبريل، وأن يشرع في أعماله بعد ذلك، ولكن كثرة الأعمال وكثرة ما كان يجب أن يلقى من الخطب ويقدم من المذكرات؛ اضطر المؤتمر إلى أن يبدأ في عمله قبل أن يفتتح رسميا. فاجتمعت اللجان، وبدأت بسماع الخطب والمذكرات صباح الاثنين؛ أي قبل أن يفتتح المؤتمر رسميا.
وكنا قد ذهبنا يوم الأحد إلى سكرتارية المؤتمر فوجد كل منا طائفة من الأوراق تنتظره، وقد كتب عليها اسمه، وهذه الأوراق عبارة عن برنامج أعمال المؤتمر ومختصر ما كان قد قدم من المذكرات وبطاقات الدعوة إلى القصر، وعند وزير المعارف، وفي الجامعة، وفي البلدية، ثم بطاقة شخصية تثبت أن صاحبها عضو في المؤتمر، ثم علامة من المعدن يعلقها العضو في صدره ليتميزه الناس، وليستغني بها عن إظهار بطاقته كلما أراد أن يدخل دارا من دور المؤتمر.
وعلمنا حينئذ أننا سنبدأ أعمالنا صباح الاثنين قبل الافتتاح الرسمي، فلما كان يوم الاثنين ذهبنا جميعا إلى الأماكن التي خصصت للجان التي يجب أن يشترك فيها كل منا. ذهبت إلى لجنة المحفوظات ونشر النصوص التاريخية، وفي هذه اللجنة قدمت مذكرتي صباح الاثنين، وكان موضوعها «نص معاهدة دفاعية هجومية» عقدت سنة 692 للهجرة (1292 للمسيح) بين الملك الأشرف خليل بن قلاوون وابن جايم الثاني ملك أراجون وأخويه وصهريه، وكلهم ملوك لإسبانيا المسيحية. وجدت نص هذه المعاهدة العربي في الجزء الرابع عشر من كتاب صبح الأعشى، وفي هذا النص اضطراب كثير، وضروب من التحريف غريبة، فكنت أمام صعوبتين؛ الأولى: تصحيح هذه النص، وتقويم ما فيه من الاضطراب والتحريف. الثانية: إثبات أن هذا النص صحيح من الوجهة التاريخية، وأن هناك معاهدة عقدت حقا بين مصر وإسبانيا المسيحية في ذلك العصر.
وقد وفقت إلى تذليل هاتين الصعوبتين بواسطة استكشاف النص أو الترجمة الإسبانية اللاتينية لهذه المعاهدة التي لم يكن نصها العربي معروفا للمؤرخين قبل اليوم، ولم يكن هذا البحث يسيرا ولا سهلا. فحسبك أن القلقشندي الذي روى نص هذه المعاهدة عن كتاب لابن المكرم سماه «تذكرة اللبيب ونزهة الأديب» قد روى هذا النص دون أن يفهم قيمته التاريخية، بل دون أن يفهمه بوجه ما، فحرف وبدل ولم يصف المعاهدة إلا بأنها حسنة الإنشاء. وحسبك أن أسماء الملوك والبلاد كانت من التحريف بحيث كان يكفي أن تقرأها لتشك في صحة المعاهدة.
فملك أراجون جايم الثاني يسمى في المعاهدة «دون حاكم»، ولفظ حاكم لفظ عربي خالص لا يمكن أن يكون اسما لملك مسيحي من ملوك إسبانيا، وتحريفه ظاهر سهل، ولكن بشرط أن تصل إلى أصله المسيحي، ولست أدري على من تلقى تبعة هذا التحريف، أعلى المؤلف أم على الناسخ أم على المصحح؟ ولكني أعلم أن هذا الكتاب الجليل الذي سأخصه بفصل أو فصلين لو أنه صحح تصحيحا علميا متينا، وأشرف على طبعه ناس يتقنون هذا الفن، ويلمون بأصوله وباللغات الأجنبية، ويستطيعون أن يتصرفوا في هذه اللغات كتابة وترجمة، لخرج من المطبعة الأميرية نافعا حقا ميسرا للباحثين، من المصريين وغير المصريين، سبل البحث عن التاريخ، ولكن الذين أشرفوا على طبع هذا الكتاب، على حسن نيتهم وإتقانهم للغة العربية وما إليها، وتصحيح الحروف، يجهلون التصحيح العلمي وما يحتاج إليه من بحث وتنظيم جهلا تاما، وهم إلى ذلك لا يعرفون لغة أجنبية، وأحسب أنهم لم يدرسوا التاريخ، ولا يستطيعون التصرف فيه، ولا تأول نصوصه وتفسيرها، ولهذا كان نفع الكتاب قليلا وعسيرا جدا بنوع خاص. وحسبك أنك لا تجد فيه ثبتا بأسماء الأشخاص والأمكنة، فأنت مضطر إلى أن تقرأ الكتاب كله - أو تتصفحه على أقل تقدير - لتعرف: أألم الكتاب بالموضوع الذي تبحث عنه أم لم يلم؟ ومع هذا فأنا أعتقد أن هذا الكتاب أنفع كتاب تاريخي طبع باللغة العربية لمن أراد أن يدرس النظم السياسية في البلاد الإسلامية عامة وفي مصر خاصة، ولمن أراد أن يدرس العلاقات الدولية بين المسلمين من جهة وبينهم وبين غيرهم من جهة أخرى، ولكن صبح الأعشى أنساني ما كنت فيه من قصص المؤتمر.
سمعت في هذه اللجنة يوم الاثنين مذكرة قدمها أحد المندوبين «لتشيكوسلوفاكيا» عما كان من تبادل المحفوظات الرسمية بين النمسا و«تشيكوسلوفاكيا» بمقتضى معاهدة سان جرمان بعد الحرب العظمى، ودارت حول هذه المذكرة مناقشة قيمة اتخذت اللجنة بعدها قرارا لو عمل به لاستفادت منه مصر، وخلاصة هذا القرار أن المحفوظات في كل بلد تتبع هذا البلد فهي حق من حقوقه لا يصح أن يعتدي عليه معتد بحكم الفتح أو بأي سبب آخر، وإنما يجب أن تبقى هذه المحفوظات ملكا للبلد الذي هي فيه، وليس يتناول هذا القرار المحفوظات التي تمس الإدارة أو الشئون السياسية وحدها، وإنما يتناول المحفوظات جميعا إدارية كانت أو سياسية أو فنية أو علمية، ومهما يكن تاريخها.
أقول: لو عنيت الدول بهذا القرار الذي اتخذه العلماء لاستفادت مصر فائدة عظيمة جدا، فنحن نعلم أن من حقنا أن نطالب تركيا وإنجلترا بمحفوظات كثيرة نقلت إلى قسطنطينية وإلى لندرة في عصور وظروف مختلفة، ولعلك تعلم أن من يريد أن يدرس التاريخ السياسي الدولي لمصر في القرن التاسع عشر مضطر إلى أن يذهب إلى لندرة، ويراجع محفوظات كثيرة في وزارة الخارجية الإنجليزية، وهناك أشياء نجهلها وقد نعلمها في يوم من الأيام حين نعنى بمحفوظاتنا السياسية والإدارية عناية علمية، ولعلك تعلم أن من يريد أن يدرس التاريخ السياسي والعلمي والأدبي لمصر أيام المماليك مضطر إلى أن يختلف إلى مكاتب القسطنطينية، وأن دار الكتب المصرية أوفدت منذ حين سماحة السيد محمد الببلاوي؛ ليستنسخ في مكاتب القسطنطينية كتبا عربية كثيرة. ولعلك لم تنس أن الترك حين فتحوا مصر حملوا إلى قسطنطينية كنوزها العلمية والأدبية والفنية. فمن هذه الكنوز ما تبدد، ومنها ما لا يزال محفوظا في القسطنطينية، ومن الحق أن يعود هذا كله إلى مصر، ولكن أتظن أن قرارا يتخذه العلماء يستطيع أن يؤثر في رجال السياسة سواء أكانوا من الإنجليز أم من الترك؟
ثم كانت الساعة الثالثة بعد الظهر، فافتتح المؤتمر رسميا. اكتظت غرفة الاحتفالات في قصر المجامع العلمية بأعضاء المؤتمر، وأقبل الملك والملكة والأمراء فافتتح المؤتمر، وقدم رئيسه التحية إلى الملك والملكة كما ذكرت في الفصل الماضي، وهنا لا أستطيع أن أخفي ابتهاجي حين سمعت لفظ مصر يذكر في كلمة التحية.
فقد كنت ثاني اثنين مصريين حضرا المؤتمر، وكان الآخر جورج أفندي قطاوي، العضو بالبعثة السياسية المصرية في باريس. كان يمثل الجمعية الجغرافية الملكية، وكنت المصري الوحيد الذي يلبس الطربوش، ولم أكن أعلم بحضور مواطني في هذه الجلسة، فكنت أشعر بالغربة حقا. فلما سمعت لفظ مصر يذكر في تحية الملكة، بمناسبة زيارتها الأخيرة، أحسست شيئا من الابتهاج والحنان، ولعلي لا أغلو إذا قلت إني أحسست شيئا من الكبرياء أيضا.
لم أخفي عليك الحق؟ كنت قبل هذه السياحة في بلجيكا مقتصدا كل الاقتصاد في الافتخار بمصريتي إذا تحدثت إلى الأجانب أو جمعتني وإياهم المجامع؛ ذلك لأني أشعر دائما بما نحن فيه من ضعف ونقص قبل أن أشعر بما كان لنا من مجد وبما يدخر لنا الزمان من رقي. أستحضر دائما ضعفنا ونقصنا الاجتماعيين، كما أستحضر دائما ضعفي ونقصي الشخصيين. فأتواضع في الحديث وأقتصد في الفخر، ولست أدري أمزية هذه أم نقيصة، ولكني أعلم أن هذا خلق من أخلاقي.
أما الآن وقد زرت بلجيكا، وتحدثت إلى هؤلاء الناس المختلفين، وسمعت ما ذكرت وما تذكر به مصر، وعرفت رأي كثير من هؤلاء الناس في مصر. فقد أشعر بأن من حقي أو من الحق علي ألا أسرف في التواضع وألا أغلو في الاقتصاد إذا ذكرت مصر وذكر المصريون؛ ذلك أن رأي الأجانب في مصر حسن جدا، ولا سيما إذا كان هؤلاء الأجانب بعيدين عن السياسة وأوزارها ... نعم، رأي الأجانب في مصر حسن؛ لأنهم يفهمون مصر خيرا مما نفهمها، يقدرون مجدها القديم؛ لأنهم يفهمونه حقا، ويقدرون مركزها الحديث؛ لأنهم لا يتعصبون لمذهب سياسي، ولا يميلون مع الهوى إلى حزب من الأحزاب.
يجب أن أعترف بالحق لأهله، يجب أن أثني على ثروت باشا، وعلى تصريح 28 فبراير، وعلى إعلان الاستقلال في 15 مارس؛ فالناس في مصر يزدرون هذا كله، ويسخرون منه، ويرون أنا غير مستقلين. وقد يكون من الحق أنا غير مستقلين بالفعل، وأنا لن نستقل بالفعل إلا يوم يجلو الإنجليز، ولكن من الحق أيضا أن الأجانب الذين لا يشتغلون بالسياسة والذين يشتغلون بها ينظرون إلى مصر كما ينظرون إلى إنجلترا؛ أي إنهم يعترفون بأن مصر مستقلة كما أن إنجلترا مستقلة وكما أن بولونيا مستقلة، وهم يعجبون بمصر قديمها وحديثها. يعجبون بقديمها؛ لأنه خليق بالإعجاب، ويعجبون بحديثها؛ لأنه يدهشهم ويملك عليهم أهواءهم، ولقد سمعت أكثر من عشرين أجنبيا منهم البلجيكي والفرنسي والبولوني والأمريكي يذكرون مصر الحديثة فيعجبون بها؛ لأنها تتطور في سرعة مدهشة، ولأن نهضتها الحديثة فذة في التاريخ.
سمعت اسم مصر إذن فابتهجت، وامتلأ قلبي حنانا، وشعرت بشيء من الكبرياء؛ لأني كنت أو لأن طربوشي كان رمزا لمصر بين هذه الرءوس الحاسرة التي كانت تزيد على الألف.
ولكني بعدت عن المؤتمر وغلوت في الاستطراد، وبماذا تريد أن أحدثك عن هذه الجلسة الرسمية، التي هي كغيرها من الجلسات الرسمية: ثناء على الملك والملكة، وتحية من الحكومة البلجيكية للمؤتمر. ثم خطبة مطولة من رئيس المؤتمر ألم فيها ببحث تاريخي قد أذكره في غير هذا الفصل، ثم تلاوة قرارات اتخذت لحسن نظام الأعمال، ثم ينصرف الأعضاء. اتصلت هذه الجلسة ساعتين، وسمع الملك والملكة والأمراء كل ما قيل، وانصرفوا مع الناس دون أن يظهر عليهم ملل أو ضجر. أكانوا حقا مغتبطين بهذا الحدث الطويل الكثير الثقيل على آذان الملوك؟ أم كانوا مجاملين؟
باريس في 18 أبريل سنة 1923
4
كان لذيذا جدا ذلك اليوم الثاني من أيام المؤتمر؛ كان لذيذا وكان مفيدا. لم نكد نبدأ أعمالنا في ذلك اليوم حتى سمعت في لجنة المحفوظات مذكرة نافعة قدمها مدير المحفوظات في بلجيكا عن نظام إدارة المحفوظات، وما يجب أن يتخذ من ضروب الحيطة، حتى لا تضيع هذه المحفوظات ولا تتعرض للخطر، وسأحدثك عن هذه المذكرة في مقال آخر أصف فيه دار المحفوظات في بروكسل، وألم فيه بالموضوع إلماما مفيدا.
سمعت هذه المذكرة ثم تركت لجنتي وذهبت إلى لجنة أخرى مجاورة هي لجنة تاريخ الحضارة في العصر القديم، أو بعبارة أصح: لجنة التاريخ العقلي في العصر القديم. في هذه اللجنة كان ينتظرني دهش عظيم ولذة أعظم؛ لأني سمعت محاورة ما كنت أظن أني سأسمعها في يوم من الأيام، وكانت هذه المحاورة بين عالمين خطيرين: أحدهما فرنسي والآخر بلجيكي. كان موضوع هذه المحاورة غريبا، وكانت المناقشة فيه حادة طويلة، حتى صرفت اللجنة عن أعمالها صباح الثلاثاء. ذلك أن أحد الفلاسفة البلجيكيين الأستاذ «دوبريل» ألف منذ حين كتابا في تاريخ الفلسفة اليونانية، وزعم في هذا الكتاب أن البحث التاريخي الصحيح ينتهي بالباحث إلى أن سقراط شخص خرافي لم يوجد ولم يعرفه التاريخ، وأن خلاصة حكم التاريخ فيه كخلاصة حكم التاريخ في هوميروس؛ كلاهما شخص آمن به القدماء وأظهر التاريخ أنه لم يوجد قط، وكلاهما شخص اتخذ رمزا لنوع من الآداب؛ فاتخذ هوميروس رمزا لكل الشعر القصصي الذي عرفه اليونان وتناقلوه قبل القرن السابع، واتخذ سقراط رمزا لهذه الفلسفة التي عرفها اليونان وافتنوا فيها منذ أواخر القرن الخامس، وطول القرن الرابع قبل المسيح.
أعترف بأني دهشت الدهش كله حين قرأت عنوان هذه المحاورة قبل الذهاب إلى المؤتمر. فما كنت أظن أن وجود سقراط يصل في يوم من الأيام إلى أن يكون موضوع بحث، فضلا عن أن يكون موضوع شك، بل فضلا عن أن يكون موضوع إنكار؛ ذلك لأن سقراط لم يعش في عصر جهل وبداوة، ولا في أيام خرافة وأساطير، وإنما عاش في عصر علم وحضارة، وفي أيام تحقيق وتاريخ، والناس مجمعون منذ أوائل القرن الرابع قبل المسيح على أن هناك آتينيا كان اسمه سقراط، وكان معروفا طول حياته بالميل إلى الفلسفة والكلف بها، وكان ممتازا بأطوار حياته الغريبة، ومناهج بحثه الجديدة. كان يمشي حافيا في الشوارع ويتلكأ في الميادين، متحدثا إلى الشيوخ والشبان، متلطفا مع هؤلاء، محاورا مناقشا سائلا مجيبا، حتى استحدث في الأدب اليوناني فنا جديدا، هو فن الحوار الفلسفي، وحتى رسم للعقل الإنساني طريقا جديدة لم يقطعها العقل الإنساني بعد. الناس مجمعون على ذلك، ومجمعون على أن سقراط هذا كان له خصوم وأنصار، وعلى أن خصومه حاربوه فسخروا منه، ثم اتهموه أمام المحكمة، وعلى أنه أساء الدفاع عن نفسه عمدا، ثم سخر من القضاة فقضوا عليه بالموت، ثم انتظر الموت شهرا، ثم شرب السم، وظل يحاور تلاميذه في خلود النفس حتى مات، ثم تفرق تلاميذه فأنشئوا المدارس والمذاهب الفلسفية المختلفة في بلاد اليونان على اختلافها وتباعد أطرافها، وعاش من هذه المذاهب مذهب واحد هو مذهب أفلاطون الذي أخذ يتطور ويستحيل حتى أنتج فلسفة أرسطاطاليس، وكثيرا من المذاهب الفلسفية الأخرى التي لا تزال متاعا عاما للنوع الإنساني إلى الآن.
الناس مجمعون على هذا كله، ولديهم أدلة ظاهرة تبيح لهم هذا الإجماع. فليس من شك في وجود أرستوفان الممثل اليوناني المضحك، وليس من شك في أن أرستوفان قدم إلى الملعب الآتيني نحو سنة 424 قبل المسيح قصة السحاب التي يتداولها الناس، والتي تدور حول سقراط، وتتخذه وسيلة إلى تسلية الجمهور الآتيني وإضحاكه، وليس من شك في أن كتب التاريخ اليونانية والرومانية ذكرت موجزة أو مطنبة قضية سقراط وموته والمذاهب الفلسفية التي نشأت عن حواره ومناقشته، ليس من شك في هذا كله، ولكن الأستاذ «دوبريل» وجد طريقا إلى الشك، وفي الحق أنه لم يخترع هذه الطريق، فهي موجودة من قبل، وفيها ما يبعث على الدهش والحيرة. فمن الواضح أن أحدا لم يشك في وجود سقراط قبل الأستاذ «دوبريل»، ولكن من الواضح أيضا أن المحدثين من مؤرخي الفلسفة عاجزون إلى الآن كل العجز عن تحقيق فلسفة سقراط، وبيان ما كان له من مذهب في الأخلاق أو في غير الأخلاق. فهم يؤمنون بوجود سقراط وبأنه أبو الفلسفة، ولكنهم لا يستطيعون أن يبينوا فلسفته. بل هناك ما هو أغرب من هذا: لا يستطيعون أن يصفوا سقراط ولا أن يتميزوا شخصيته المعنوية. فلسقراط شخصيات كثيرة تختلف باختلاف تلاميذه . فأفلاطون يعطي من سقراط شخصية تخالف تلك التي يعطيها «كسنوفون
Xenophon »، وهذه الشخصية تخالف ما يمكن أن يستخلص من «فيدون
phedon »، وكل هذه الشخصيات تخالف ما نجد في قصة السحاب، وإذا كان الأمر كذلك، فما الذي يمنع من الشك في وجود سقراط؟ وكيف نستطيع أن نتصور شخصا وجد من غير شك وكان أبا الفلسفة وملهم الفلاسفة، وأحدث في العالم اليوناني خاصة والإنساني عامة ضجة هائلة أعدت العالم للضجة التي أحدثها المسيح، دون أن نتميز شخصيته أو أن نتبين أصلا واضحا جليا من أصول فلسفته؟
نعم، قد يجاب على هذا بأن سقراط لم يكتب شيئا، وإنما تحدث فاختلطت أحاديثه وعبث بها تلاميذه، ومن هنا اختلطت شخصيته الفلسفية، وأصبح تميزها شيئا عسيرا، ولكن فلاسفة كثيرين وجدوا قبل سقراط ولم يكتبوا، ومع هذا فقد تميزت شخصياتهم، مع أن فلسفتهم فشلت ولم تظفر من الفوز ببعض ما ظفرت به الفلسفة التي تضاف إلى سقراط. هذا مصدر الشك في وجود سقراط، وقد افتن فيه الأستاذ «دوبريل» ولم يكتف بتسجيله، بل ذهب إلى ما هو أبعد من هذا فأثبت أو حاول أن يثبت شيئين؛ الأول: أن شخص سقراط شخص خرافي كشخص «جحا»، كان موضوع العبث والسخرية في قصص الممثلين، وأن الفلاسفة الذين جاءوا في أواخر القرن الخامس وفي القرن الرابع قد اتخذوا هذا الشخص الخرافي - الذي هو موضوع السخرية والعبث - مثالا للجد، ولكن للجد الحلو الذي هو أقرب إلى الفكاهة منه إلى الجد الخالص؛ ليحببوا فلسفتهم إلى الناس. ثم أخذ هذا الشخص الهزلي قديما الجدي حديثا، يتطور في جده ويمعن في فلسفته، حتى أصبح مثالا للجد الخالص، وأبا للفلاسفة، ورمزا للفلسفة، وحتى نسجت حوله هذه الأسطورة الغريبة التي جعلته بطلا من أبطال الإنسانية. الثاني: أن فلسفة سقراط ليست جديدة، ولم تنشأ كما يعتقد المؤرخون لمحاربة السوفسطائية، وإنما هي طور من أطوار الفلسفة اليونانية القديمة، لم يستحدثها فيلسوف بعينه في عصر بعينه، ويثبت الأستاذ «دوبريل» نظريته هذه بالرجوع إلى نظريات الفلاسفة اليونانيين قبل سقراط، وما يوجد فيها من أصول الفلسفة السقراطية . هذه نظرية الأستاذ «دوبريل» أوجزتها إيجازا شديدا أخشى أن يكون قد أفسدها وانتقص من أطرافها.
نهض لنقض هذه النظرية أستاذ فرنسي هو الأستاذ «لفيفر» من علماء مدينة «ليل»، وأعترف بأني كنت معجبا بهذا الأستاذ حين كان يتكلم، ولم أكن منفردا بهذا الإعجاب، وإنما كان أعضاء اللجنة جميعا - ومنهم الأستاذ «دوبريل» نفسه - يشاركونني فيه، ولم يكن مصدر هذا الإعجاب فيما أظن اقتناعا بردود الأستاذ، وإنما كان مصدره قبل كل شيء حبنا لسقراط، وحرصنا على أن يكون شخصا حقيقيا تاريخيا، وشعورنا بأن الأستاذ «لفيفر» يحاول أن يثبت لنا وجود هذا الشخص الذي نحبه ونكلف له. الحق أن الوقت لم يسمح للأستاذ «لفيفر» بمناقشة خصمه كما ينبغي؛ فهناك نصوص يونانية ولاتينية لم يكن بد من تحليلها ومناقشتها، وذلك يحتاج إلى كتاب لا إلى محاضرة، وإلى أشهر لا إلى ساعة، ولكن هناك شيئا يظهر أنه لا يقبل الشك، وهو أن الأستاذ «دوبريل» غلا في نظريته، وسلك فيها مسلك الفيلسوف لا مسلك المؤرخ. فيجب أن نلاحظ أن سبيل المؤرخ تخالف سبيل الفيلسوف، وقد تضادها مضادة كاملة فتذهب إحداهما إلى الشمال وتذهب الأخرى إلى الجنوب؛ ذلك لأن الفيلسوف يخضع في فلسفته لقواعد معينة مرسومة في ذهنه، فمن المعقول جدا أن ينتقل من مقدمة إلى مقدمة حتى يصل إلى النتيجة التي يسعى إليها، سواء أكان بحثه صحيحا أم غير صحيح في نفسه. فإذا رأى الأستاذ «دوبريل» أن فلسفة سقراط تكاد تكون موجودة برمتها عند الفلاسفة الذين تقدموه، وأن شخصية سقراط غامضة متناقضة عند تلاميذه وفيما تركوا من الأسفار، وأن شخص سقراط كان موضوع العبث والسخرية عند الشعراء الممثلين، كان من اليسير عليه أن يصطنع المنطق فينظم مقدماته ويرتبها حتى يصل إلى هذه النتيجة، وهي أن سقراط شخص خرافي. هذه النتيجة مطمعة خلابة؛ لأنها تخرق الإجماع أولا، ولأنها تخيل إلى صاحبها أنه قد رد الأمر إلى نصابه فأثبت اتصال الفلسفة ونفى انقطاعها، ولأنها بعد هذا وذاك إن أفلحت كانت خليقة أن تخلد اسم صاحبها في تاريخ الفلسفة كما خلد اسم «ولف» في تاريخ الأدب اليوناني.
هذه سبيل الفيلسوف، أما سبيل المؤرخ فمخالفة كل المخالفة لهذه السبيل، فهي لا تتبع قوانين منطقية معينة، وإنما تتبع الحياة الإنسانية العملية. والحياة الإنسانية العملية لا تزال تظهر لنا إلى الآن مختلفة مضطربة متناقضة؛ لأننا لم نوفق بعد إلى استكشاف قوانينها الخفية. فمن المعقول جدا أن يظهر للفيلسوف شيء يراه منتظما منتجا ولا يقره التاريخ، ومن المعقول أن يرجح المؤرخ شيئا لا يقره الفيلسوف، وليس في هذا شيء من الغرابة. فالفيلسوف بطبيعته منكر لحياة الناس العاديين، يزدريها ويستخفها، والناس العاديون منكرون لحياة الفلاسفة، يزدريها بعضهم ويكبرها أكثرهم، ولكنهم جميعا يرون أنها تخالف أطوارهم وعاداتهم، ومن هنا وجد التناقض بين حياة الناس وفلسفة الفلاسفة.
وسبيل التاريخ أن يبحث عن حياة الناس كما يحيونها لا كما يتصورها الفيلسوف. فليس غريبا أن يؤمن المؤرخ بوجود سقراط، ويعجز في الوقت نفسه عن شخصيته وإزالة ما حولها من الغموض. أضف إلى هذا أن هناك أشياء يخرج الشك فيها عن طور المعقول؛ فالعصر القديم والقرون الوسطى والعصر الحديث لا تعرف قبل المسيو «دوبريل» نصا يشير إلى الشك في وجود سقراط. بل هناك شيء آخر ذكره الأستاذ «لفيفر» وعجز الأستاذ «دوبريل» عن دحضه، وهو أن قصة سقراط تصم الآتينيين بجناية منكرة، هي قتل هذا البطل العظيم ظلما وفي غير إنصاف، والتاريخ يثبت أن الآتينيين كانوا يغارون على شهرتهم وحظهم من حسن الذكر. فكيف نتصور أن هؤلاء الناس وصموا أنفسهم بهذه الوصمة؟ أو سكتوا عن الذين وصموهم بهذه الوصمة: عن أفلاطون وكسنوفون وغيرهما من تلاميذ سقراط؟ ألم يكن معقولا أن يغضب الآتينيون لهذه التهمة المنتحلة التي كان يستغلها أعداؤهم الكثيرون؟ هناك شيء آخر، وهو أننا إذا استبحنا لأنفسنا الشك من غير حساب، لم ندر إلى أي حد ينتهي بنا الشك في التاريخ. فما الذي يمنع الأستاذ «دوبريل» من أن يشك غدا في وجود أفلاطون، وبعد غد في وجود أرسطاطاليس؟ ومن يدري! لعل شخص نابليون بعد زمن قليل أو كثير يصبح عند بعض الباحثين شخصا خرافيا كشخص هوميروس أو كشخص سقراط عند الأستاذ «دوبريل»!
قلت لك إن سبيل المؤرخ تخالف سبيل الفيلسوف، وإن الأول يستطيع، بل يجب عليه أحيانا، أن يقر ما ينكر الفيلسوف، وأن ينكر ما يقر الفيلسوف، ولقد انتقلت من هذه اللجنة إلى لجنة أخرى هي لجنة تاريخ الديانات، وكنت غير مقتنع برأي الأستاذ «دوبريل»، فسمعت في هذه اللجنة الثانية أحد أساتذتي وهو الأستاذ «جينيبير» يتكلم، ورأيت الناس من حوله في هرج ومرج، ووددت حين سمعت ما كان يقول لو حضر الأستاذ «دوبريل»؛ ذلك لأن الأستاذ «جينيبير» كان يعلن مبتسما ساخرا أن أعداء التاريخ ثلاثة: عالم الدين، ورجل القانون، والفيلسوف. ضحك ناس وسخط ناس واحتج آخرون، أما أنا فضحكت ولم أسخط ولم أحتج، وإنما هنأت الأستاذ، وهنا أعتذر إلى علماء الدين وإلى رجال القانون، وأسأل صديقي منصور عن رأيه في هذا: أحق أن الفيلسوف عدو للتاريخ؟
باريس في 20 أبريل سنة 1923
5
فكرت في مصر، وفي نص الدستور على السودان، وفي وزارة الشعب، وفي الوزارة القائمة يوم الثلاثاء 10 أبريل، حين كنت أسمع بعد الظهر في جلسة عامة للمؤتمر خطبة قيمة دقيقة ممتعة كان يلقيها الأستاذ الفرنسي «بريمون». كانت الخطبة قيمة ممتعة؛ لأنها كانت تفسر لنا لغزا من ألغاز التاريخ - الفرنسي الإنجليزي - وتوضح لنا ألقابا وعنوانات نجدها في نصوص السياسة الخارجية الفرنسية والإنجليزية قبل الثورة الفرنسية، وكانت دقيقة لذيذة؛ لأنها كانت تلقى بمحضر من قوم مختلفين يمثلون أمما مختلفة، وبمحضر كثير جدا من الإنجليز وكثير جدا من الفرنسيين، وكان الذي يلقيها فرنسيا، وكان رئيس المؤتمر حينئذ إنجليزيا، والناس يذكرون ما بين فرنسا وإنجلترا من خلاف ومشادة ومنافسة في الشرق والغرب؛ فلم يكن بد للأستاذ الفرنسي من أن يصطنع الدقة والتلطف وحسن المدخل حتى لا يؤذي أولئك ولا يهيج هؤلاء. ولا تقل كان المؤتمر علميا والعلماء فوق السياسة، فسأحدثك في غير هذا المقال بما يثبت لك أن العلماء ليسوا فوق السياسة، وأنهم كغيرهم من الناس يخضعون للعاطفة الوطينة ويندفعون معها، والفرق بينهم وبين العامة أنهم يجتهدون في أن يزنوا هذا الاندفاع، وألا يضحوا بالعلم في سبيل السياسة، وقلما يوفقون، ولكني أثنيت على الخطبة، وأطلت الثناء، ولم أحدثك بموضوعها.
كان موضوع هذه الخطبة لقبا من ألقاب ملك إنجلترا؛ فقد كان ملوك إنجلترا يلقبون أنفسهم بهذا اللقب؛ وهو «ملك فرنسا»، وكانوا يصطنعون هذا اللقب، ويحرصون عليه الحرص كله في علاقاتهم السياسية بملوك فرنسا. ولم يكن ملوك فرنسا يستطيعون أن يصطنعوا هذا اللقب. فكانوا يلقبون أنفسهم بأصحاب الجلالة المسيحية جدا. وحاول لويس الرابع عشر أن يحمل ملوك إنجلترا على أن ينزلوا عن هذا اللقب فلم يفلح، ولم يفلح بعده لويس الخامس عشر، وغريبة جدا الحيل التي كان يتخذها المندوبون السياسيون للويس الرابع عشر وللويس الخامس عشر، ليمحوا هذا اللقب من ألقاب الإنجليز، أو ليخفوه، دون أن يوفقوا، حتى لقد حاول بعضهم أن يمحو هذا اللقب من النص الفرنسي لمعاهدة بين البلدين على أن يبقى في النص اللاتيني؛ لأن الجمهور يقرأ النصوص الفرنسية ولا يقرأ النصوص اللاتينية، فلم يفلح، وحتى لقد كان أحد ملوك إنجلترا منفيا مخلوعا، وكان يأوي إلى فرنسا، وكان ضيفا على لويس الرابع عشر، وكان لويس الرابع عشر يحميه ويدفع عنه، وكان مع ذلك يلقب نفسه ملك فرنسا، ولم يوفق الفرنسيون إلى محو هذا اللقب من ألقاب ملوك الإنجليز إلا أيام الثورة، أو بعبارة أصح: أيام القنصلية. فقد اشتد الخلاف بين مفوضي الجمهورية الفرنسية ومفوضي المملكة الإنجليزية حول هذا اللقب، وكانت حجة الفرنسيين أن الثورة قد ألغت الملكية من فرنسا، فهي لا تعترف بلقب يخيل أن لفرنسا ملكا، كائنا من كان، سواء أكان هذه الملك فرنسيا أم غير فرنسي، وسواء أكان ملكا حقا أم لفظا، وأن الإنجليز الذين يريدون أن يعترفوا بالجمهورية يجب عليهم - ليكونوا منطقيين مع أنفسهم - أن يمحوا هذا اللقب من ثبت الألقاب الملكية. وأبى الإنجليز ذلك، فانقطعت المفاوضات، واستؤنف الجهاد بين البلدين. فلما كانت القنصلية، وظهر الميل إلى الصلح بين الإنجليز والفرنسيين، وأخذ الساسة في البلدين يوطئون لمعاهدة «أميان»
amiens ، أحس الإنجليز أنهم إذا لم ينزلوا عن هذا اللقب فستنقطع المفاوضات، وأحسوا في الوقت نفسه أنهم إن نزلوا عن هذا اللقب بمقتضى مفاوضات بينهم وبين فرنسا، كان هذا النزول انتصارا لفرنسا وخزيا وطنيا للإنجليز. فانتهزوا فرصة ضم إرلندا إلى المملكة الإنجليزية، وصدر آخر ديسمبر سنة 1800 مرسوم ملكي يعلن أن ملك إنجلترا سيلقب من أول يناير سنة 1801 ملك «بريطانيا العظمى وإرلندا»، ولم يذكر اللقب الذي كان عليه الخلاف؛ وهو ملك فرنسا. وبهذا محي هذا اللقب ولم يحتج الفرنسيون إلى أن يفاوضوا في محوه، ولم يحتج الإنجليز إلى أن ينخذلوا في المفاوضة. ولكن هذا لم يمنع المؤرخين الإنجليز من أن يعترفوا في أواسط القرن الماضي بأن هذا النزول كان خزيا وطنيا وامتهانا لكرامة التاج.
ذكرت مصر، وذكرت نصوص الدستور على السودان، وذكرت تلقيب ملك مصر بأنه ملك السودان، وذكرت هذه السهولة التي أظهرتها وزارة مصرية في النزول عن هذا اللقب، ولو إلى أجل. ذكرت ذلك فاستخزيت لوزارتنا، ومن ذا الذي يذكر هذا ولا يستخزي؟! جاهدت إنجلترا قرونا لتحتفظ بلقب لا خير فيه، فلم يكن ملك إنجلترا ملكا لفرنسا أيام لويس الرابع عشر، بل كان ملك إنجلترا يخشى ملك فرنسا، ومع هذا كان يلقب نفسه ملك فرنسا. لم يكن هذا اللقب مفيدا، بل كان مضحكا، ومع ذلك لم تنزل عنه إنجلترا إلا حين اضطرت اضطرارا شديدا إلى النزول عنه. أما نحن - أستغفر الله! - أما وزارتنا فقد نزلت عن هذا اللقب: «ملك السودان»، وهي تعلم أنه ليس لقبا لفظيا، وهي تعلم أنه لقب يمثل الحق والعدل والقانون، وأن الاحتفاظ به احتفاظ بحق مصر، والتفريط فيه تفريط في حق مصر. نزلت عنه ولما تضح في الاحتفاظ به بالقليل ولا بالكثير. نزلت عنه لأن ممثل إنجلترا قطب جبينه ولوى وجهه. ذكرت هذا كله وذكرت جهاد الإنجليز في الاحتفاظ بلقب سخيف، ثم إصرارهم على ألا تحتفظ مصر بلقب هو كما قلت مثال الحق والعدل والقانون. استخزيت لوزارتنا وسألت الله أن يمنح مصر ساسة يستطيعون أن يقاوموا ساسة الإنجليز ! ثم سمعنا خطبتين؛ إحداهما عن نقوش يونانية استكشفت في آسيا الصغرى ألقاها عالم إنجليزي، والأخرى عن أثر الخرافات والنبوات في سياسة الجمهورية الرومانية ألقاها عالم بولوني.
ثم انصرفنا إلى القصر، وكانت الساعة الخامسة من هذا اليوم قد ضربت موعدا لمثول أعضاء المؤتمر بين يدي الملك والملكة، فرأيت في هذا القصر أشياء كثيرة تركت في نفسي آثارا قوية. رأيت قبل كل شيء مظهرا من مظاهر حب العلم والتهالك عليه والافتنان في نصره، ومظهرا من مظاهر الوطنية الصادقة القوية، ومظهرا من مظاهر إجلال أوروبا لعلمائها وإكبارها لمكانتهم ومفاخرتها بهم، وكان الذي يمثل هذه المظاهر رجلا شيخا فانيا قد تجاوز السابعة والثمانين، وانحنى على العصا فما يستقيم له ظل، وانحلت قواه فما يمشي إلا متثاقلا، وما يكاد يستقل بنفسه، فهو محتاج أبدا إلى من يعتمد عليه، وكان مبتسما، وكان فرحا، وكان يتلطف في الحديث إلى كل من ذهب يحييه، وقد ذهبنا كلنا نحييه، وكان وحيدا؛ أي لم يكن يمثل بلده سواه، وكان جالسا على كرسي في ناحية من نواحي البهو الذي كنا ننتظر فيه وقوفا أن يؤذن لنا بتحية الملك. هذا الشيخ الذي كانت تحوطه بلجيكا، والذي كان يرعاه المؤتمر كله، هو الأستاذ «شميت»
Schmidt ، أقبل من كوبنهاجن يمثل الدنمارك في المؤتمر، وألقى في لجنة الشرق خطبة عن مقدار علم المصريين القدماء بتاريخ مصر القديم، فكان لخطبته فوز، وتحدثت بها صحف بلجيكا. ذهبت إلى هذا الرجل فحييته وشكرت له عنايته بتاريخ مصر. فما أشد ما أثرت فيه تحيتي وشكري! وما أحسن ما أظهر ميله إلى مصر، وإعجابه بمصر، وأمله في مستقبل مصر!
أذن لنا في الدخول، ورتبنا حسب أحرف الهجاء. فدخل أعضاء المؤتمر البلجيكيون، ثم ممثل البرازيل، ثم الشيخ الفاني ممثل الدنمارك، وكنا اثنين يمثلان مصر، وكانت زوجتي تصحبني، وكنا وراء هذا الشيخ، فسمعنا تحية الملك له، وسمعناه يتحدث بكلام كثير إلى الملك لم نفهم منه شيئا، ولم يفهم الملك منه شيئا؛ لأن الرجل متقدم في السن فهو لا يكاد يبين إذا تكلم الفرنسية . ثم أراد الرجل أن ينصرف فزلت قدمه وكاد يسقط، ثم صافح الملكة وأراد أن ينصرف وكاد يسقط، ولولا أن كبير الأمناء كان يسنده لهوى إلى الأرض.
مررنا أمام الملك والملكة فصافحنا الملك، وأعلن إلينا أنه سعيد برؤية مصري، وأن الملكة كانت سعيدة جدا بما أظهر المصريون لها من الكرم وحسن الضيافة، وصافحتنا الملكة فأعلنت إلينا اغتباطها بهذه السياحة البديعة التي ساحتها في هذا البلد الذي ليس له مثيل. ثم مرت بعدنا إنجلترا فذكرت أنا مستقلون، وأنا لا نتبع تركيا، وأنا لا نتبع إنجلترا، وأن تصريح 28 فبراير ليس لغوا ولا حديثا من الأحاديث، وإنما هو حقيقة واقعة ليست عبثا بالعقول كما يظن كثير منا في مصر.
خرجنا من غرفة الاستقبال، وكنت أظن أن لم يبق لنا إلا أن ننصرف، ولكني دهشت حين وجدت نفسي في غرفة قد مدت فيها الموائد، ووقف خدم القصر يقدمون إلى أعضاء المؤتمر الشاي وأنواع الحلوى والأشربة (التي يبيحيها الإسلام)، وإنا لفي شاي وحلوى وبرتقال يتبع بعضنا بعضا، كلما فرغت طائفة من تحية الملك تقدم إليها الخدم فسألوها عما تشتهي، حتى انتهت المقابلة.
أقول إنا لفي هذا كله وإذا بالملك والملكة والأمراء قد خرجوا من غرفة الاستقبال واختلطوا بالناس، وانبثوا في أنحاء الغرفة يتحدثون إلى المؤتمرين مع شيء من السذاجة وارتفاع الكلفة غريب، وكان الرئيس البلجيكي للمؤتمر الأستاذ «بيرين»
pirenne
يتتبع كبار العلماء وذوي المكانة منهم فيقدمهم إلى الملك مرة، وإلى الملكة مرة أخرى، وكان المؤتمرون البلجيكيون يتتبعون بقية الأعضاء فيقدمونهم حينا إلى ولي العهد وحينا آخر إلى أخيه وحينا آخر إلى أخته، وقد قدمت أنا وزوجي إلى هذه الأميرة الصغيرة، وهي فتاة في الثامنة عشرة من عمرها، مشرقة يتحدث وجهها بما يملؤها من قوة الشباب، وبما لا يزال يملكها من سذاجة الطفولة ونعومتها، في زي ساذج عادي، كالذي تصطنعه الفتيات في أسر الطبقات الوسطى في أوروبا وفي مصر. قدمنا إليها على أننا نمثل مصر، وقال مقدمنا إننا نمثل بلدا غريبا لا لما تتكشف عنه المباحث العلمية من عجائب تاريخه القديم، بل لما يبهر عقول الأوروبيين من حركته المدهشة ونهضته السريعة التي بدأت منذ سنين فقطعت في زمن قصير ما أفنت أوروبا في قطعه طوال الأعوام. فسألت الأميرة زوجي عن المرأة المصرية ومقدار رقيها، وإن زوجي لتصف لها سرعة رقي المرأة المصرية إذ أقبلت سيدة بولونية عالمة مؤرخة من أعضاء المؤتمر، فاندفعت إلى الأميرة دون أن تقدم إليها، ودون أن تستأذن، ثم أسرعت إلى يد الأميرة فهزتها هزا عنيفا، وسألت الأميرة بصوت غليظ: أتحبين التاريخ؟ أجابت الأميرة في استحياء: نعم يا سيدتي. وأي فرع من فروع التاريخ تحبين؟ بهتت الفتاة لحظة، ثم قالت: إني لم أحسن درس التاريخ ولا أعلم منه إلا قليلا، فلا أستطيع أن أوثر فرعا من فروعه دون الآخر. ضحكت السيدة ضحكا عاليا، ثم هزت يد الأميرة هزا عنيفا، وقالت في صوتها الغليظ: ادرسي تاريخ الفن فهو سهل والناس جميعا يستطيعون أن يفهموه. ثم مضت لشأنها. وقدم إلى الأميرة ناس آخرون، ولبثنا كذلك ساعة، ثم انصرف الملك والملكة والأمراء، فانصرف كل منا إلى مأواه.
عرفت في هذه المرة أيضا لم يحب البلجيكيون ملكهم وملكتهم وأمراءهم، وكيف لا أفهم ذلك وقد أقبل من قدمنا إلى الأميرة فصاح بي: مسيو حسين، تعال أقدمك إلى أميرتنا الصغيرة. وكيف لا أفهم ذلك وقد سمعت الأستاذ «بيرين» يصيح بأعلى صوته: «برنس ليو بولد! أين البرنس ليو بولد؟ أين ذهب؟ إني أريد أقدم إليه ...» فيجيبه أحد البلجيكيين: «ها هو ذا يتحدث إلى فلان»، فيذهب الأستاذ «بيرين» ويمهل الأمير حتى إذا فرغ من حديثه أخذ بذارعه ومضى حتى يقدمه إلى أحد العلماء، والملكة تتنقل بين صفوف المؤتمرين فتتحدث إلى هذا، وتسأل ذاك، وتبسم لهذا، وتصافح ذاك.
كيف لا أفهم حب البلجيكيين لملكهم وملكتهم وأمرائهم وهم على هذا الحظ من الديمقراطية؟
ألا إننا في عصر تنتصر فيه الديمقراطية انتصارا مدهشا، لا تستقر في مجالس النواب ولا في مجالس الشيوخ، وإنما تتجاوز هذه المجالس إلى قصور الملك، فينزلها هؤلاء الملوك من قصورهم أحسن منزل ؛ لأنهم يفهمون أن عروشهم لا تستطيع أن تقوم إلا عليها، لأنهم يفهمون أن نظام الملك قد أصبح لا يلائم هذا العصر؛ لأنه أثر قديم لا معنى له الآن إلا إذا لم يكن بين الملوك ورؤساء الجمهوريات فرق ما. إلا إذا اعتمدت عروش الملوك على قلوب الشعب لا على قوة الجيش ولا على قوة السنة القديمة.
فهم بعض ملوك أوروبا هذا فاستقرت عروشهم، ويظهر أنها تريد أن تستقر أبدا، ولم يفهمه بعضهم الآخر، فهم الآن يذوقون مرارة النفي على شواطئ بحيرة «ليمان»
leman
في سويسرا.
باريس 25 أبريل سنة 1923
6
أصبحنا يوم الأربعاء 11 أبريل فتفرقنا لا في أنحاء بروكسل بل في أنحاء بلجيكا؛ ذلك أن الذين أشرفوا على تنظيم المؤتمر لم يفكروا في جمع المؤرخين من أقطار الأرض وإيجاد الصلة بينهم وتمكينهم من أن يعلم كل منهم ما عند صاحبه من التاريخ، وإنما فكروا مع ذلك في شيئين آخرين، وإن شئت فقل في أشياء أخرى: فكروا في أن البحث العلمي الجاف ثقيل حتى على أنفس العلماء، ولا بد من أن يتخلل بحثهم العلمي شيء يسر ويرضي ويفيد، دون أن تكون الصلة منقطعة بين هذا الشيء وبين البحث العلمي الذي يشتغل به العلماء، وأي شيء ألذ وأنفع وأشد صلة بالتاريخ من زيارة الآثار التاريخية المختلفة التي تنبث في جميع أنحاء بلجيكا بكثرة مدهشة؟ ولا سيما إذا لم تكن هذه الآثار تاريخية فحسب، بل كانت مع ذلك آيات بينات من آيات الفن الجميل على اختلافه.
فكر البلجيكيون في ذلك، وفكروا في شيء آخر، وهو أن بلدهم يخرج من حرب ضروس قد أخضعته لضروب من المحن والحرمان لم يعرفها قبل هذه الأعوام الأخيرة، وهو الآن يجتهد في إصلاح ما أفسدت الحرب، وهو محتاج في هذا الإصلاح إلى عطف الأمم على اختلافها، ومن هنا كان محتاجا إلى نشر الدعوة وبعث عواطف الإعجاب والإجلال والإشفاق. والفرصة سانحة، فالمؤتمر يمثل أكبر أمم الأرض، وأعضاء المؤتمر من خيرة الذين يمثلون الأمم؛ لأنهم علماء وكلهم أستاذ أو مؤلف، وإذن فكلهم قادر على نشر الدعوة ، ماهر فيه، وإذن فلا بد من التأثير في هؤلاء العلماء، وإحياء هذه العواطف المختلفة في نفوسهم، وأي سبيل أهدى إلى ذلك من زيارة الآيات الفنية البينة؟! أضف إلى هذا أن تفرق المؤتمرين في أنحاء بلجيكا لا يخلو من فائدة اقتصادية في بلد ساء القطع فيه واشتد فيه غلاء الحياة. فكثير جدا من المؤتمرين قد وفدوا من بلاد غنية مثرية، فهم يستطيعون أن ينفقوا عن سعة، دون أن يخسروا كثيرا، وبلجيكا في حاجة إلى أن ينفقوا، وليس ينبغي أن يقتصر إنفاقهم على مدينة بروكسل، فهناك مدن بلجيكية أخرى تحتاج إلى هذا الإنفاق. وإذن فيحسن أن يتفرق المؤتمرون في أنحاء بلجيكا لينتفعوا هم، ولتستفيد بلجيكا من الوجهة المادية والمعنوية. لهذا كله خصص الذين نظموا المؤتمر يوم الأربعاء 11 أبريل لسياحات تاريخية أو أثرية أو فنية، وعينوا مدنا مختلفة يختارها من شاء من المؤتمرين، وندبوا في كل مدينة أستاذا أو أساتذة يقودون المؤتمرين ويرشدونهم ويفسرون لهم ما يرون، فذهب بعض المؤتمرين إلى مدينة «بروج»
Bruges
وبعضهم إلى «جان»
Gand
وبعضهم إلى «لييج»
Liege
وآخرون إلى «أنفرس»
Anvers ، وكثير إلى المدينة الشهيدة المعذبة مدينة «لوفان»
Louvin .
وكنا بين الذين ذهبوا إلى «بروج»، فوصلنا إلى هذه المدينة في الساعة الثامنة من صباح يوم صحو قد صفت فيه السماء، وانتشرت فيه الشمس الفاترة على هذه المدينة المشرفة على الموت، والتي أزهرت في القرون الوسطى إزهارا لم تعرفه مدينة بلجيكية أخرى، والتي لا تكاد تقع فيها العين على شيء حديث، وإنما كل شيء فيها قديم. كل شيء فيها يرجع عهده إلى القرن العاشر والحادي عشر، وأحدث ما فيها يرجع عهده إلى القرن السادس عشر. مدينة هادئة مطمئنة لا تكاد تحس حركة ولا اضطرابا إلا ما يحدثه الترام على هذه الأرض التي لم يصطنع فيها «الأسفلت ولا المكدام»، وإنما حجرت على طريقة القرون الوسطى. فالمشي فيها شاق متعب مهلك للأحذية، وللترام والعربات فيها ضجيج شديد. مدينة هادئة مطمئنة فقيرة جدا ولكنها غنية جدا؛ فقيرة لأن الحياة الاقتصادية الحديثة صرفت عنها الحركة التجارية والصناعية، وغنية بما فيها من آثار الفن، وبما فيها من مصادر التاريخ. فقيرة غنية، فأهلها يعيشون من الأجانب كما حدثنا الأستاذ الذي كان يرشدنا إلى الآثار في هذه المدينة. مدينة هادئة مطمئنة لا تكاد تشعر بأنها تعيش في القرن العشرين؛ لأنك لا تنظر فيها إلا إلى شيء قديم. فهي مدينة خليقة حقا بأن يعيش فيها من يكلف بالتاريخ، ومن يكلف بالفن على اختلاف ضروبه بنوع خاص. كل شيء في هذه المدينة يحببها إلى المؤرخ، ويحببها إلى الفني، ويحببها إلى الشاعر؛ لأنها كلها آثار، ولأنها كلها فن، ولأنها كلها شعر، وهي إلى هذا كله من الهدوء والطمأنينة والدعة بحيث يستطيع المؤرخ والفني والشاعر أن يستمتع فيها بتاريخه أو فنه أو شعره دون أن تصرفه عما يحب جلبة الحياة أو ضوضاء الأحياء.
تلقانا في هذه المدينة مدير المحفوظات وعالم آخر من علماء الآثار، وكنا نحو الخمسين، فقضينا اليوم كله على أقدامنا واقفين أمام مشهد من المشاهد، أو منطلقين من هذا المشهد إلى مشهد آخر. نخرج من كنيسة إلى كنيسة، ومن دار إلى دار، ومن متحف إلى متحف، ونحن عجلون؛ لأننا لن نجد من الوقت ما يمكننا من أن نشهد كل شيء، أو أن نحقق النظر في شيء، وإنما نمر سراعا أمام الأشياء كأننا في دار الصور المتحركة، إلا أننا نحن الذين يتحركون بينما الصور هادئة مستقرة في أماكنها. قضينا اليوم كله على الأقدام إلا ثلاث ساعات قضينا إحداها في الفندق للغداء، وأؤكد لك أن أصحاب هذا الفندق عرفوا أننا أجانب وعرفوا كيف يستفيدون من هؤلاء الأجانب، وأؤكد لك أنهم حمدوا للذين نظموا المؤتمر هذه الفكرة التي حملتهم على أن يرسلوا بعض المؤتمرين إلى مدينتهم.
يظهر أنه لم يكن هناك ماء للشرب، فكنت مضطرا إلى أن تشرب النبيذ أو الجعة أو الماء المعدني، وكل هذا يباع ويشرى، وأؤكد لك أن ثمنه ليس بالبخس ولا بالقليل؛ فزجاجة الماء المعدني لم تكلفنا أقل من ثلاثة فرنكات، ولم نخرج من الفندق حتى أنفقنا أنا وزوجي خمسة وأربعين فرنكا ، ولم يكن الطعام رديئا ولكنه لم يكن من الجودة بحيث يستأهل هذا الثمن الباهظ. قضينا ساعة في الفندق، وقضينا ساعتين أخريين أحسبهما من أسعد ساعات الحياة، قضيناهما في زوارق صغيرة طافت بنا حول المدينة. ذلك أني أنسيت أن أنبئك بأن «بروج» تسمى «فينيس» الشمال؛ لأن الماء يتخللها في جميع أنحائها، ولأنك تصطنع فيها الزوارق كما تصطنع العربات في مدينة أخرى، ولست أدري ماذا تنتج المقارنة بين مدينة «فينيس» ومدينة «بروج»، فكلتا المدينتين غنية بآثارها، وكلتا المدينتين غنية بجمال منظرها وحسن موقعها الطبيعي، ولكني أحسب أن الذي يبحث عن الهدوء والدعة، ويريد أن يستمتع بالجمال والفن في غير اضطراب، إنما يجد ذلك في هذه المدينة الشمالية الميتة أو التي توشك أن تموت. في هذه المدينة التي لا تمنحها الشمس حظها من الضوء إلا بمقدار، والتي يكاد الضباب يجللها دائما فيمنحها شيئا من الروعة والجلال ما أحسب أنك تجدهما في «فينيس»، وإن وجدت مكانهما هذا الجمال المبتهج المشرق الذي تمتاز به مدن الجنوب.
لقد أريد أن أحدثك عما في هذه المدينة من الآثار ومن آيات الفن، ولكني عاجز كل العجز عن هذا، وأحسبك لا تجهل مصدر هذا العجز، وبم أحدثك؟ لقد زرنا آثارا كبيرة، وسمعنا دروسا قيمة، ولو أني ذهبت أحدثك بما سمعت أو بما وصف إلي في أثر من الآثار أو صورة من الصور، لاحتاج ذلك إلى مقال طويل، وأنا بعد أريد أن أجتزئ وأن أفرغ من نبأ المؤتمر.
في هذه المدينة أجمل ما في بلجيكا من نماذج العمارة في القرون الوسطى، وفيها أجمل ما في بلجيكا من نماذج التصوير في القرن الخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر، وفيها إلى هذا آثار مختلفة تمكن المؤرخ من أن يتصور كيف كان يعيش أهل بلجيكا في القرون الوسطى. زرنا قصرا قديما يسمى قصر «جريتوس»، فإذا القصر نفسه أثر من أبدع آثار القرون الوسطى، ولكن ما في القصر أبدع وأجمل، فقد اجتهدت المدينة في أن تحول قسما منه إلى متحف نظمت فيه الأدوات المنزلية كما كانت منظمة في القرون الوسطى. فإذا زرت هذا المتحف عرفت كيف كان أهل البيت يجتمعون إلى طعامهم، وكيف كانوا يعدون هذا الطعام، وكيف كانوا يجتمعون إلى سمرهم، وماذا كانوا يتخذون في حياتهم من أداة ومتاع. وأجمل ما في هذا القصر من المعروضات «الدنتلا»، فقد عرضت منها ضروب غيري أقدر على أن يصفها، ولكني أعلم أنها بهرت المؤتمرين جميعا، ولم يكن إعجاب السيدات بها أشد من إعجاب الرجال.
ذكرت الزوارق والطواف حول المدينة، ولكني لم أذكر - ويظهر أني لن أستطيع أن أذكر - أثر هذا الطواف في نفسي وفي نفس غيري من المؤتمرين. يكفي أن تتخيل هذه الأقنية الضيقة تخترق المدينة في جميع أرجائها، وقد قامت على جنباتها هذه الأبنية الجميلة الجليلة، واصطفت على شواطئها الخضراء أشجار طوال تكاد أغصانها تقبل الماء من مكان إلى مكان، وانبعث على هذه الشواطئ وخلال هذه الأشجار أطفال كثيرون يلعبون ويمرحون ويبسمون للحياة، وقد عقدت على هذه الأقنية من مكان إلى مكان جسور بديعة قديمة لم يغير منها شيء، وما أنس لا أنس صوت الملاح يصف لنا ما كنا نمر به من الأبنية والعمارات، ثم يقطع وصفه من حين إلى حين بهذه الكلمة: «رءوسكم أيها السادة»؛ ذلك لأنا كنا نقارب جسرا من الجسور، فكان يجب أن نحني رءوسنا حتى لا تصطدم بالعقد.
أشد شيء أثر في نفسي هو إعجاب أهل «بروج» بمدينتهم ومفاخرتهم بما فيها من جمال، وحرصهم على أن يظهروا دقائق هذا الجمال للأجنبي حتى لا يفوته منه شيء، وابتهاجهم حين يرون إعجاب الأجنبي، وحين يسمعون ثناءه وتقريظه، وهم في ذلك كله سواء. ليس هناك فرق بين الأستاذين اللذين كانا يصحباننا وبين الملاحين الذين كانوا يطوفون بنا حول المدينة. بل ماذا أقول؟ لقد كنا في أحد المتاحف، وكان الأستاذ يصف لنا بعض الآثار، ولست أخفي عليك دهشي وإعجابي حين رأيت الأستاذ يخطئ في تاريخ من التواريخ أو في شيء من الأشياء فينبهه إلى خطئه حارس من حرس المتحف، ويقبل الأستاذ منه ذلك راضيا شاكرا . ولقد كنت أذكر أثناء هذا متحفنا المصري وجهل المصريين بما في ذلك المتحف، ولقد كنت أقارن مع شيء من الاستحياء كثير بين حرس المتاحف البلجيكية وزملائي من الأساتذة المصريين، فلم تكن المقارنة مرضية، ويظهر أنها لن تكون مرضية قبل زمن طويل، قبل أن يمن الله على مصر برجال في وزارة المعارف يفهمون العلم والتعليم، ويقدرونهما ويقدرون الحاجة إليهما، ويشعرون بأن مناصبهم ليست مقصورة على تدبير الأموال وتدبير الألعاب الرياضية.
شيء آخر دهشت له وأعجبت به، هو وطنية هؤلاء الناس، كنت لا أكاد أشك في أن أحد الأستاذين اللذين كانا يصحباننا مجنون أو قريب من الجنون؛ ذلك لأنه كان لا يتحدث إلينا إلا متأثرا ثائرا شديدا فرحا مرة حتى يبلغ الضحك، ومحزونا مرة أخرى حتى يبلغ البكاء. ولست أغلو، فقد كان الأستاذ يضحك ويبكي، وكنا في عجب من أمره، ثم علمنا أنه عاش في مدينته أثناء الحرب، وأنه كان بطلا من أبطال هذه المدينة، وأنه جاهد جهادا عنيفا ليحتفظ بآثار هذه المدينة وآياتها من غارات الألمانيين الذين كانوا يريدون أن يستأثروا بكل شيء. ولقد أثر في نفسي صوت هذا الرجل حين كان يقول لنا: «تعالوا أيها السادة إلى الميدان الكبير، فستسمعون فيه صوت جرسنا العتيق الذي لا يجهله مؤرخ، واذكروا أيها السادة حين تسمعون صوت هذا الجرس أني أنقذته في آخر لحظة حين كان الألمان يريدون أن يرسلوه إلى المسبك.» ذهبنا إلى الميدان الكبير وسمعنا صوت الجرس: صوتا يملأ المدينة، وليس في ذلك غرابة، فهو قد أنشئ لذلك. سمعنا صوت الجرس يوقع ألحانا موسيقية مختلفة، وإننا لكذلك وإذا الرءوس حاسرة؛ لأن الجرس كان يوقع النشيد البلجيكي، وإذا الأستاذ ينتحب ويقول في صوت متهدج: «معذرة أيها السادة، فإني بلجيكي.» ولم يكن الأستاذ يبكي وحده وإنما بكى معه بعض المؤتمرين.
باريس في 5 مايو 1923
7
عدنا إلى العمل صباح الخميس 12 أبريل، فسمعت محاضرات كثيرة مختلفة لا أعرض لها؛ لأن الصحف السيارة لا تتسع لمثلها، ولكني أذكر محاضرة واحدة سمعتها في لجنة تاريخ الديانات ؛ لأن الذي ألقاها صديق لكثير من المصريين وهو الأستاذ «لويس ماسينيون»
Louis Massinion ، ولأن هذه المحاضرة أثارت مناقشة طويلة حادة، ولأن موضوع هذه المحاضرة يمس الإسلام وهو «أثر التصوف في تكوين العقائد الدينية عند المسلمين»، والحق أني لم أفهم الغرض الذي رمى إليه المحاضر، وإن كنت قد اشتركت في المناقشة، لم أفهم هذا الغرض لأنه لم يكن بينا، ولأن أساس البحث الذي ذهب إليه المحاضر خطأ فيما أعتقد، فكثير من المستشرقين أمثال الأستاذ «لويس ماسينيون» على مهارتهم وحسن بلائهم في فهم اللغة العربية وخدمتها، يخطئون في فهم هذه اللغة أحيانا، ويقيمون على أغلاطهم نظريات طويلة عريضة عميقة، ولكنها ليست بذات غناء. لم أفهم الغرض الذي رمى إليه الأستاذ وأحسب أن كثيرا من الأعضاء لم يفهم هذا الغرض، ومع هذا فقد تناقشنا كثيرا، ولكن موضوع المناقشة لم يكن ما أراد الأستاذ أن يثبت من تأثير تصوف في تكوين العقائد الدينية عند المسلمين.
فلم يحفل أحد من الأعضاء بهذه النظرية، وإنما كان موضوع المناقشة هو أن التصوف العربي أثر خالص من آثار العرب، أو شيء للعرب فيه حظ، ولكن معظمه موروث عن الأمم الأخرى. أما الأستاذ ماسينيون فكان يعتقد أن هذا التصوف عربي خالص، أو يوشك أن يكون عربيا خالصا، وأن ما يمكن أن نجد فيه من موافقة لما عند الأمم الأخرى لم يؤخذ عن هذه الأمم، وإنما هي المصادفة وتوارد الخواطر ووحدة النظام العقلي في التفكير مهما تختلف الأمم ومهما تختلف البيئات. فليس حتما إذا فكر العربي كما فكر اليوناني أن يكون اليوناني والعربي قد فكرا بطريقة واحدة فاهتديا إلى نتيجة واحدة، وإذن فيجب ألا نغلو في القول بأن العرب قد أخذوا عن غيرهم هذه النظرية أو تلك.
هنا اشتدت المناقشة، فمن الظاهر أن توارد الخواطر ممكن، بل إنه واقع، بل إن هناك نظريات تشترك فيها أمم مختلفة دون أن تكون إحداها قد أخذتها عن الأخرى، ولكن إمكان الشيء غير وجوده بالفعل، وليس يستطيع التاريخ أن يكتفي بالإمكان والفرض، فذلك شيء قد يكتفي به الفلاسفة والمفكرون. فأما المؤرخون فيريدون الحقائق الواقعة، ولا يلجئون إلى الافتراض إلا لتفسير هذه الحقائق تفسيرا مؤقتا حتى يتاح لهم استكشاف الحقائق الواقعة التي تفسر ما لديهم. فإذا رأينا عند العرب فكرة صوفية أو غير صوفية توافق ما رأينا عند اليونان أو عند الفرس، كان لنا أن نفترض توارد الخواطر، وكان لنا أن نفترض الأمرين جميعا، وأن نبحث عما يرجح هذا الفرض أو ذاك، وهنا تظهر قيمة المؤرخ وتظهر قيمة التاريخ، وليس يجب أن نجد النص التاريخي الذي لا يحتمل الشك على أن العرب قد أخذوا عن اليونان أو عن الفرس لننفي توارد الخواطر، فكثيرا ما تضيع النصوص دون أن يكون ضياعها مصدرا لضياع الحقيقة، وليست النصوص كل شيء في التاريخ، فهناك الصلات التي تختلف قوة وضعفا وتتفاوت متانة ووهنا بين الأمم، وهذه الصلات إذا أثبتت ثبوتا تاريخيا كافيا أباحت للمؤرخ أن يرجح تأثير الأمم بعضها في بعض، وليس يجب أن يكون هذا التأثير ظاهرا يعلمه الناس جميعا، يعلمه من أثر ومن تأثر، فأشد أنواع التأثير عملا في الحياة الاجتماعية، بل في الحياة الدولية - إن صح هذا التعبير - هو ما كان خفيا يجهله مصدره كما يجهله قابله.
فإذا ثبت أن اليونان مثلا كانوا يرون هذا الرأي بعينه، وكان فلاسفتهم يشرحونه ويفسرونه ويدرسونه في المدارس المختلفة، وأن اليونان قد وصلوا إلى الشرق، ونقلوا إليه علمهم وفلسفتهم، وتركوا فيه عادات وضروبا من التفكير ليس إلى إنكارها من سبيل، وإذا ثبت أن هذه الآراء أو هذا الرأي لا يلائم ما نعرف عن بداوة العرب ولا عن صدر الإسلام، كان من الحق أن يرجح المؤرخ أن ظهور هذا الرأي أو هذه الآراء في الفلسفة العربية أو في التصوف العربي - بعد أن اختلط العرب بالأمم التي خضعت لتأثير اليونان، وبعد أن تعربت هذه الأمم فكتبت علمها وفلسفتها بالعربية بعد أن كانت تكتبها باليونانية - أثر من آثار الفلسفة اليونانية والعلم اليوناني لا نتيجة من نتائج الابتكار العربي. وقل مثل هذا في الفقه، فنحن نعلم أن العرب لم يترجموا فقه الرومان ولم يدرسوه درسا منظما، ولكنا لا نشك في أن الفقه الإسلامي قد تأثر بالفقه الروماني قليلا أو كثيرا، سواء أعلم بذلك الفقهاء أم لم يعلموا؛ ذلك لأن البلاد الإسلامية قد خضعت لحكم الرومان وقوانينهم دهرا، ولأن هذه القوانين قد درست درسا مزهرا في الشام والجزيرة العربية ومصر. فيجب أن يترك حكم الرومان وقوانينهم ودرس هذه القوانين آثارا قوية في حياة الشعوب التي خضعت لها، وأن تتكون من هذه الآثار الحياة الاجتماعية لهذه الشعوب، والعرب لم يهدموا كل شيء، وإنما صبغوا أكثر الأشياء التي وجدوها بالصبغة الإسلامية، فليس غريبا، بل ليس من شك في أن كثيرا من أحكام الفقه الروماني قد اصطبغت بالصبغة الإسلامية دون أن يشعر الفقهاء بذلك. فنحن نحسب هذه الأحكام إسلامية خالصة حين هي إسلامية رومانية. لا يغضب العلماء، فأنا أذكر الفروع لا الأصول، ولعلهم لا ينكرون أن الفقهاء يعتبرون العرف في كثير من مسائل الفقه، وأن هذا العرف إنما يكون من النظام اليوناني والروماني والفارسي، هذه النظم التي تعاقبت على الشام ومصر والجزيرة، وإذن فهناك تأثير خفي قد يكون أشد وأقوى من التأثير الواضح الذي تحدثه الأمم بعضها في بعض. ومن الإسراف أن نقطع بأن هذا الرأي أو هذه النظرية أثر عربي خالص أو أثر يوناني خالص، وإنما سبيل القصد في ذلك - إذا لم توجد النصوص - هو ترجيح تأثير الأمم بعضها في بعض حتى يظهر ما يبين خطأ هذا الترجيح.
حول هذه النقطة دارت المناقشة، ولم يستطع الأستاذ «ماسينيون» أن ينكر صحة هذا الاستدلال، ولكن الذي أعجبني في هذا كله أن خمسة أو ستة اشتركوا في هذه المناقشة غير الأستاذ «ماسينيون» وغيري، وكان منهم الفرنسي والإنجليزي، وكانوا جميعا يلمون بتاريخ الدين الإسلامي إلماما حسنا يمكنهم من المناقشة والاستدلال ببعض النصوص؛ بل إن أحدهم كان يستدل بنصوص لا نستطيع نحن في مصر أن نستدل بها مع أنها نصوص إسلامية؛ لأنها نصوص فارسية، ولأن علماء الدين الإسلامي في مصر يكتفون بدرس شيء من الكتب العربية، وليس منهم من يتخصص بدرس تاريخ الدين الإسلامي عند الفرس أو عند الهنود، وبقراءة ما كتب الفرس أو ما كتب الهنود في الدين. وحسبك أن المئات من علماء الإسلام في مصر لا يعرفون إلا اللغة العربية، ولست أطالب العلماء بدرس اللغة الفرنسية والإنجليزية فقد يكون ذلك واجبا محتوما، وإنما أطالبهم بشيء آخر أشد من هذا وجوبا، وهو أن يدرسوا الدين الإسلامي كما ينبغي. والدين الإسلامي عربي ولكن أمما غير العربية قد اعتنقته ودرسته وكتبت فيه، وأؤكد للعلماء أن الدين الإسلامي قد أثر في هذه الأمم كثيرا وتأثر بها كثيرا، وإذن؟ وإذن فمن الحق على علماء الإسلام أن يدرسوا تاريخ الإسلام، لا في مصر والشام وحدهما، بل فيهما وفي بلاد الإسلام الأخرى، ولو أني من علماء الإسلام، ولو أن لي كلمة مسموعة بين علماء الإسلام، لاقترحت وألححت في الاقتراح أن تدرس اللغات الأجنبية الإسلامية في الأزهر الشريف، وأن تكون هناك فصول تتخصص في درس الفارسية، وأخرى في درس التركية، وأخرى في درس اللغات الإسلامية التي ليست تركية ولا فارسية. فمن المؤلم ومن المخزي أن تدرس كتب الدين التي كتبت بالفارسية أو بالتركية أو بلغة أخرى من لغات الهند مثلا في فرنسا وإنجلترا وألمانيا وأمريكا وأن يجهلها علماء الإسلام في الأزهر الشريف!
والأزهر الشريف بعد هو الجامعة الإسلامية الكبرى!
هلموا أيها السادة العلماء، طالبوا بأن تدرس اللغات الإسلامية في جامعتكم الإسلامية درسا مفصلا نافعا، فإنكم إن لم تفعلوا أضعتم على الأزهر حقه في أن يكون الجامعة الإسلامية الكبرى.
وليس ينبغي أن تكون مدرسة اللغات الشرقية في باريس أنفع من الأزهر الشريف.
أليست المطالبة بهذا والإلحاح فيه أوفق بعلماء الدين وأجدى عليهم وعلى الدين من مطالبة من كان يطالب بأن تكون المعاهد الدينية فوق الدستور؟
أما مساء الخميس فقد كان لذيذا؛ لأنا قضينا شطرا منه نستمتع بلذة الموسيقى، وقضينا الشطر الآخر في بيت وزير المعارف.
اجتمعنا الساعة الثانية في كنيسة أثرية كبرى في بروكسل هي كنيسة «سانت جودول»، وكنا قد دعينا إلى هذا الاجتماع لا للصلاة ولا للتقديس، ولكن للدرس والتاريخ في لذة ومنفعة. هنا خطبنا قسيس، فلم يتحدث إلينا في دين المسيح، ولم يفسر لنا إصحاحا من الإنجيل أو آية من التوراة، وإنما تحدث إلينا في الفن، وتحدث إلينا في الآثار، ذلك أن هذه الكنيسة قديمة بعيدة العهد بالتاريخ، بدئ في إنشائها في القرن الثاني عشر، واختلفت عليها أطوار الفن والعمارة من آخر القرن السابع عشر. فخطبنا هذا القسيس ساعة وبعض ساعة مبينا لنا هذه الأطوار المختلفة التي مرت بها الكنيسة، مقارنا بين هذه الكنيسة وبين ما يشبهها من كنائس فرنسا وألمانيا من الوجهة الفنية الخالصة، مناقشا آراء بعض الفنيين والأثريين من الألمان والفرنسيين؛ لأن هذه الكنيسة لا تزال تشغل الباحثين إلى اليوم وإلى الغد. أعترف بأني لم أكن أفهم شيئا كثيرا من خطبة القسيس؛ لأني لست أثريا ولا فنيا، ولا أكاد أتصور فن العمارة، ولكني مع هذا كنت أعجب بهذا القسيس إعجابا شديدا لا يعدله إلا إعجابي بقسيس آخر خطبنا في المؤتمر خطبة ليس بينها وبين الدين صلة؛ لأنها كانت تتناول نسخة قديمة يختلف العلماء في تحديد العصر الذي نسخت فيه، فيرى بعضهم أنها نسخت في القرن العاشر وبعضهم قبل ذلك وبعضهم بعد ذلك، ويحكم القسيس بين هؤلاء العلماء المختلفين. كنت إذن أعجب بهذين القسيسين، ولعل مصدر إعجابي بهما لا يخفى على السادة العلماء.
وأنا أعتذر إلى السادة العلماء، فلست أريد أن أغضبهم، وما أبغي بهذا الحديث إلا الخير لهم ولنا؛ ذلك لأن علماءنا لا يستبدون بملك أنفسهم فلنا عليهم بعض الحقوق؛ لأننا نريد أن يكون علماء الدين فينا أئمة وفخرا في وقت واحد، ويؤلمني جدا أن أقارن بينهم وبين رجال الدين في أوروبا؛ لأن هذه المقارنة لا تسرهم ولا ترضيهم كما أنها لا تسرنا ولا ترضينا، وكما أنها تدل على أن الفرق عظيم جدا بين علماء الدين اليوم وبينهم منذ قرون.
هذا قسيس قد درس دينه فأتقنه وهو يؤدي واجبه الديني، وأؤكد لك أن الواجب الديني الذي يؤديه القسيس أشق وأعسر وأشد استغراقا للوقت من الواجب الديني الذي يؤديه العالم المسلم؛ لأن الإسلام دين هين لين سهل لا كلفة فيه ولا تعقيد، وحسبك أن صلاة المسلم تستغرق دقائق، وأن صلاة القسيس المسيحي لا تقاس بالدقائق، وحسبك أن العالم الديني عندنا إذا صلى وأدى واجباته الدينية الشخصية، وألقى درسه أو درسيه فهو حر، وأن القسيس ليس له من الحرية مثل هذا المقدار العظيم، ومع ذلك فالقسيسون في أوروبا لا يكتفون بدرس الدين وأداء واجباتهم الدينية، وإنما كثير منهم رجال دين ورجال علم، وكثير منهم رجال دين ورجال فن، وكثير منهم يستطيع أن يناهض العلماء والفنيين الذين اختصوا بالعلم والفن فينهضهم ويتفوق عليهم.
وهذان القسيسان اللذان ذكرتهما قد اختص أحدهما بفن العمارة واختص الآخر بعلم من علوم التاريخ، وأؤكد لك أن لجنة من لجان المؤتمر لم تكن تخلو من قسيس، وأن اللجنة التي كنت فيها كان يرأسها قسيس، وأنه أظهر عناية شديدة بصبح الأعشى، وما يشتمل عليه صبح الأعشى، وأؤكد لك شيئا آخر، وهو أن الفلاسفة إذا ائتمروا فيشترك معهم القسيسون، وأن علماء الكيمياء إذا ائتمروا فسيشترك معهم القسيسون، وقل مثل ذلك في الأطباء وقل مثل ذلك في علماء الحياة، وقل مثل ذلك في علماء الرياضة، وما لي أذهب بعيدا وفي مصر مدارس اليسوعيين ومدارس الفرير، وفي فرنسا جامعات تقوم على رجال الدين، ويدرس فيها أبناء الأرستقراطية المحافظة، فإذا تقدموا إلى الامتحانات العامة في الجامعات الحكومية لم يكونوا أقل نجاحا من غيرهم، وربما كانوا أكثر منهم فوزا.
فأحب الآن أن تحدثني عن علمائنا في مصر، مع من يستطيعون أن يأتمروا؟ أمع المؤرخين وهم يجهلون جهلا تاما تاريخ أوروبا وأمريكا، بل تاريخ الشرق، بل تاريخ اليونان والرومان، وأستحيي أن أذكر تاريخ الإسلام؟ أمع الجغرافيين أم مع الرياضيين أم مع علماء الحياة؟ سينعقد في مصر مؤتمر جغرافي بعد سنتين، فهل يشترك فيه علماء الدين؟ ذلك لأني لقيت في بروكسل أسقفا فرنسيا سألني عن جمعيتنا الجغرافية الملكية، وعلمت منه أن سيشترك في مؤتمرنا الجغرافي ، وثق بأنه لن يكون الوحيد من رجال الدين المسيحي في هذا المؤتمر.
أليس يحسن ... أليس يجب على علماء الإسلام في مصر أن يبذلوا ما يملكون من جهد وقوة ليكونوا كغيرهم من رجال الدين، ليكون منهم المؤرخ والجغرافي وعالم الكيمياء وعالم الطبيعة والفلكي (وإنما أريد الفلكي الحديث كما أريد إذا ذكرت المشتغل بالطبيعة من لا يكتفي بدرسها في إشارات ابن سينا)؟
أيشعر علماء الدين عندنا بهذا البون الذي يباعد بينهم وبين علماء الدين في أوروبا؟ أيشعرون بأنهم يحسنون إلى أنفسهم إن أزالوا هذا البعد؟ ويحسنون إلى أمتهم أيضا؛ لأنها تستطيع يومئذ أن تعتز بهم حقا، وأن تأتم بهم حقا في دينها ودنياها؟
سمعنا خطبة القسيس، ثم سمعنا بعدها ضروبا من الموسيقى الدينية القديمة التي أحدثها يرجع إلى القرن الخامس عشر، وأشهد أني أعجبت بهذه الموسيقى، وأشهد أني طربت لهذا الغناء اللاتيني الجميل، ولكني لا أطالب بأن أسمع موسيقى أو غناء في مساجدنا، فأنا أعلم أن مساجدنا إنما أنشئت لذكر الله، ولذكر الله في سذاجة وسهولة. لا أطالب بذلك ولا أفكر فيه، وحسبي أن التذكر في المسجد بترتيل القرآن الكريم، وإنما أطالب بشيء وألح فيه الإلحاح كله، أطالب بأن يكون من بين علمائنا من يستطيع أن يحدثنا عن تاريخ الأزهر الشريف، وجامع قلاوون وجامع برقوق، من الوجهة الفنية، كما استطاع قسيس بروكسل أن يحدثنا عن كنيسة «سانت جودول».
سمعنا الموسيقى وطربنا لها، ثم أردنا أن ننصرف فإذا إكليل من الزهر ضخم بديع قد وضع ناحية في الكنيسة، وإذا قوم من جماعة المؤرخين قد تقدموا فحملوه ومضوا فتبعهم المؤتمرون في وقار وإجلال، وما هي إلا دقائق حتى وصلنا إلى قبر الجندي المجهول، فإذا هذا الإكليل يمثل تحية مؤتمر العلوم التاريخية لأبناء بلجيكا الذين قضوا في الدفاع عن وطنهم.
أما ليلتنا عند وزير المعارف فلا أحدثك عنها إلا بشيء واحد، وهو أن جميع المؤتمرين كانوا في قصر الوزير، وكان معهم سفراؤهم أو وزراؤهم المفوضون إلا مصر، فلم يكن لها سفير ولم يكن لها وزير مفوض، ولم يكن لحكموتها مندوب، وإنما كان هناك طربوش حائر بين هذه الجماعات، ولولا أن وزير المعارف كان قد أنبئ بمكان هذا الطربوش لما شعر به أحد، ولكن الوزير أقبل ومعه رئيس مكتبه فحياني تحية حسنة ودعاني مندوب مصر فلم أصلح خطأه. ثم لقيت أثناء السهرة مؤرخا شابا بولونيا تعرف إلي؛ لأن زوجه تعرفت إلى زوجي، ودعاها إلى هذا التعرف الطربوش، وكان هذا العالم البولوني الشاب مندوب عصبة الأمم في مؤتمر العلوم التاريخية؛ لأن عصبة الأمم قد مثلت نفسها في مؤتمر العلوم التاريخية، وكيف لا تفعل وقد أنشأت لجنة علمية سمتها لجنة التعاون العلمي؟
صافحني هذا الشاب وقال: هناك مسألة تحيرني، ولعلك تجيبني عليها، ما بال مصر لم تمثل في عصبة الأمم ومتى تطلب هذا التمثيل؟ هنا أعترف أيها القارئ بأني كذبت ولم يكن مصدر الكذب إلا الحياء؛ ذلك لأني أجبت سائلي على الفور: «ستطلب مصر الانضمام إلى عصبة الأمم في هذه السنة.» قال صاحبي: إذن فسيرد طلبها قبل انعقاد الجمعية العمومية؟ قلت: أعتقد ذلك.
فهل لرئيس الوزراء أن يعفيني من خزي هذه الكذبة التي لم يضطرني إليها إلا تقصير حكومتنا وتفريطها في الاستمتاع بما لنا من حق؟
باريس في 7 مايو سنة 1923
8
كان يوم الجمعة 12 أبريل يوم الشرق في المؤتمر، وبعبارة أخرى يوم مصر، ولم يكن يوم الشرق أو يوم مصر في المؤتمر وحده، بل كان في بروكسل كلها ... فقد اشترك كثير جدا من أهل هذه المدينة رجالا ونساء في جلسة المؤتمر العامة التي عقدت بعد الظهر لسماع خطيبين، تكلم أحدهما على استكشافات فرنسية على شاطئ الفرات، وتكلم الآخر عن مقبرة توت عنخ آمون، وكان كلا الخطيبين يصطنع الفانوس السحري لعرض صور مما استكشف على شاطئ الفرات أو في مصر، وكانت الصحف قد أعلنت هاتين الخطبتين وتحدثت بهما، فأسرع المؤتمرون وغير المؤتمرين إلى استماعهما، وما أشك أننا كنا آلافا من الساعة الثانية إلى الساعة الخامسة بعد الظهر. على أن صباح هذا اليوم قد أنفق في أعمال هادئة، فاجتمعت اللجان، وسمعت ما ألقي فيها من الخطب، وما قدم إليها من المذكرات، وسمعت أنا في صباح هذا اليوم مذكرات ثلاثا ممتعات؛ إحداها في نقد بعض الطبعات لمحفوظات رسمية فرنسية تتصل بما قبل الثورة، والأخرى في إظهار تزوير كتب رسمية نشرها أحد السفراء الرسميين للويس الرابع عشر عن أعمال قام بها في إنجلترا وهولندا باسم لويس الرابع عشر، والثالثة فيما كان من تبادل المحفوظات الرسمية بين النمسا وبولونيا بعد الحرب الكبرى، ولكني لا أطيل في ذكر هذه المحاضرات وقيمتها، فقد لا تصلح الصحف السيارة لمثل هذه المباحث العلمية الجافة التي ليس بينها وبين مصر صلة ما.
عدنا إلى الاجتماع إذن بعد الظهر، وكأن رئيس المؤتمر كان يشعر بشوق الناس إلى استماع هاتين الخطبتين، وكان يجد لذة شيطانية في ممانعة هذا الشوق، فقدم إلى الخطابة عالما روسيا تحدث عن التاريخ الروماني، وعما كان من الأزمة الاجتماعية في الإمبراطورية الرومانية أثناء القرن الثالث بعد المسيح، وكانت خطبته لذيذة مفيدة، وكان الناس يستمعون لها في شيء من الضجر والسأم؛ لأنهم لم يحضروا لاستماعها وإنما حضروا لشيء آخر، ومع أنه أطال فلم يكتف رئيس المؤتمر بخطبته بل قدم أمريكيا تكلم عن أخلاق «كاترين دي ميديسيس»، وكان يتكلم بالإنجليزية فلم يفهمه إلا قليلون، ثم قدم الرئيس خطيبا إيطاليا تكلم عن نقوش مسيحية استكشفت في إيطاليا، وعن جمعية إيطالية أسست للبحث عن النقوش المسيحية التي نقشت بعد انتهاء عصر التاريخ القديم، وقدم إلى المؤتمر مجلدات نشرتها هذه الجمعية مشتملة على بعض هذه النقوش. ثم قدم الأستاذ «كيمون» فتحدث عن الاستكشافات الفرنسية على شاطئ الفرات، هنا ابتهج الناس وأظهروا سرورا ما أظن إلا أنه ساء الخطباء الأولين، وكانت خطبة الأستاذ «كيمون» ألذ ما سمعت في المؤتمر، بل أعترف بأنها لذتني أكثر من الخطبة التي تلتها عن مقبرة فرعون.
ذلك لأن هذه الخطبة التي تناولت استكشاف الفرات كانت تتناول موضوعا أفهمه، وأستطيع أن أستفيد منه فائدة ما، ولم يكن هذا الموضوع ضئيلا ولا قليل الخطر، وإنما كان عظيم الخطر جدا، وحسبك أن هذه المدينة التي استكشفت وهي مدينة «دورا» كانت من أعمال «تدمر»، وكانت ملتقى لحضارات ثلاث، كلها تعنينا، وكلها نستطيع أن نفهمها ونستطيع أن نبحث عنها، ونخرج من البحث بشيء من الفائدة. كانت ملتقى الحضارة السامية والحضارة اليونانية والحضارة الرومانية، وقد استكشفت هذه المدينة أثناء الحرب، ولكن استكشافها والبحث عنها لم يتما إلا في ديسمبر الماضي. فإذا الآثار اليونانية والسامية والرومانية متجاورة يفسر بعضها بعضا، ويضيف بعضها إلى بعض، وإذا نقوش سامية ويونانية ولاتينية توجد في المعابد وعلى الجدران، وإذا الفن اليوناني والسامي يمتزجان ويؤثر كلاهما في صاحبه، وإذا الساميون يتعلمون اليونانية، ويصطنعون الفن اليوناني، ويتسمون بالأسماء اليونانية، ويؤدون العبادة لآلهتهم السامية في ضروب ليست بالسامية الخالصة، ولا باليونانية الخالصة، وإنما هي مزيج مما ألف الجنسان، وإذا الساميون ينحتون التماثيل لآلهتهم فيدخلون في فنهم شيئا من رقة الفن اليوناني، وإذا اليونانيون ينحتون التماثيل لآلهتهم فيدخلون في فنهم شيئا من غلظة الفن السامي. وكان أجمل ما عرض فأعجب الناس، صورة فوتوغرافية لتمثال الزهرة إلهة الحب؛ فإذا هي صورة سامية، وإذا الإلهة تمثل امرأة شرقية تمتاز بما كان يمتاز به مثال الجمال الشرقي في هذه القرون الأولى للتاريخ المسيحي من الضخامة والفخامة وكثرة الحلي والميل إلى شيء من النعومة والإسراف في الترف، يخالف ما ألف الناس في الفن اليوناني من صور «أفروديت» إلهة الحب والجمال التي كانت - على أنها مصدر الفتنة - لا تخلو من قوة وشهامة توشك أن تكون حربية، وإذا هذه المدينة الصغيرة التي لم يتم درسها بعد تمثل ما كان من الجهاد بين الإمبراطورية الرومانية وبين الإمبراطورية التدمرية، فقد نرى أن الساميين واليونانيين قد وجد بينهم اختلاط شديد، بل امتزاج شديد فكان بينهم الأصهار والتزاوج، وأثر هذا الامتزاج في فنيهم فأخذ من جديد يوجد فن ليس هو بالسامي القديم، ولا باليوناني القديم، ولكن الآثار الرومانية منفصلة، أو تكاد تكون منفصلة، انفصالا تاما عن الآثار اليونانية السامية.
أعجبت بهذه المحاضرة؛ لأني ألم بشيء من التاريخ اليوناني، وبشيء من التاريخ الروماني، وبشيء من الجهاد بين «تدمر» وروما، ولأن اسم تدمر يذكرني الزباء، وما روي عنها في أمثال العرب من هذه الأساطير اللذيذة التي تفيض حكمة، وتملؤها الأمثال السائرة، ولكني لما سمعت خطبة الأستاذ «كابار» الذي رافق ملكة بلجيكا في مصر، لم أجد ما كنت أنتظر أن أجد من اللذة. وبينما كان الناس يعجبون ويصفقون كنت أنا هادئا مطمئنا، ولعلى أعرف سبب هذا الهدوء والاطمئنان؛ فأنا أولا أجهل التاريخ المصري القديم، ولا أعرف منه أو لا أكاد أعرف منه شيئا. فإذا سمعت أخبار توت عنخ آمون أو غيره من فراعنة مصر، لم تحدث هذه الأخبار في نفسي هذه الحركة العلمية التي تحدثها أخبار اليونان والرومان والعرب، فتمكنني من أن أصل شيئا بشيء، وأنتقل من شيء إلى شيء، أو تمكنني من أن أستفيد فائدة علمية ما، ومثل هذا يستطيع أن يقوله الذين يعلمون تاريخ مصر القديم ويجهلون تاريخ الرومان واليونان والعرب، وإن كان هؤلاء الناس لا يكادون يوجدون. فإذا وجد مصري يجهل تاريخ مصر، فقد لا يوجد أجنبي يجهل تاريخ اليونان والرومان. فإذا أضاف إليهما تاريخ مصر استطاع أن يعجب بمحضارة الأستاذ «كيمون» وبمحاضرة الأستاذ «كابار». فإذا سألت عن مصدر هذا النقص الذي يجده المصري في نفسه حين يشعر بحهل تاريخ مصر، وحين يسمع محاضرة في تاريخ مصر فلا يلذ لها كما يلذ لها الإنجليزي والفرنسي، فالجواب يسير، وهو تقصير الحكومة المصرية أو وزارة المعارف المصرية في نشر التاريخ المصري. فلو أن التاريخ المصري القديم يدرس في مصر كما ينبغي، لكان لكل مصري متعلم حظ من الإعجاب بما استكشف اللورد كارنارفون، ولكن ماذا نقول وفي مصر أساتذة في الأدب والحقوق والفلسفة والطب يجهلون تاريخ مصر، ولا يعرفون من أمر توت عنخ آمون إلا ما يقرءون في الصحف، وكثير منهم لا يقرءون ما تنشره الصحف. يجب أن نحمد الله على صدور الدستور، فلن يغفر البرلمان في المستقبل لوزارة المعارف المصرية مثل هذه الجرائم.
وهناك سبب آخر حال بيني وبين الإعجاب بخطبة الأستاذ «كابار»، وهو أن الأستاذ لم يقل شيئا جديدا أكثر مما نشرته «التيمس» و«السياسة»، فكان من المعقول وقد قرأت هذا وذاك ألا يشتد إعجابي به حين يعاد، وهل أستطيع أن أضيف سببا ثالثا أعترف بأنه لا يليق بعضو في مؤتمر علمي، وهو أن الأستاذ «كابار» كان شديد الميل في محاضرته إلى الإنجليز، وكان يسرف في الثناء عليهم وعلى ما بذلوا من جهود، وما أدوا إلى مصر وإلى العلم من خدمة، وكنت أحب أن تذكر مصر بشيء من الخير، وإن لم تكن أهلا له في هذا الموضوع؛ لأنها لم تعمل شيئا في استكشاف مقبرة توت عنخ آمون، ومهما يكن من شيء فقد خرجت عن طور العلماء، وضاق صدري بهذا الثناء الكثير يهدى إلى الإنجليز. كنت متأثرا بالسياسة أكثر مما كنت متأثرا بالعلم.
كان إعجاب الناس شديدا جدا بهذه الصور الفوتوغرافية التي عرضها الأستاذ «كابار» ولا سيما السيدات، فقد كانت هذه الصور، وصور الجواهر بنوع خاص، تفتنهن فتنة شديدة فيصفقن ويتهامسن ويجتهدن في أن يملأن أعينهن بهذه الصور التي لن تلبث أن تلهم الصاغة وأصحاب الفن، فتعرض جواهر على مثالها في الأسواق والمحال التجارية، ولعل كثيرا من هؤلاء السيدات كن يتحدثن إلى أنفسهن باليوم الذي يستطعن فيه أن يتخذن من الحلي والآنية ما يشبه الحلي والآنية التي وجدت في مقبرة توت عنخ آمون.
كانت هذه الجلسة جلسة مصر، أعجب فيها الناس إعجابا شديدا بمصر القديمة، وذكروا فيها مصر الحديثة، وكانت هذه الجلسة آخر الجلسات العلمية للمؤتمر. فنستطيع أن نقول إن هذا المؤتمر ابتدئ بذكر مصر في تحية الملكة، وختم بذكر مصر في خطبة الأستاذ «كابار».
ذهبنا بعد ذلك إلى قصر البلدية فتناولنا هناك الشاي، وكنت أحب أن أصف لك ما في هذا القصر من آيات الفن، ولكني مع الأسف قاصر عن هذا كل القصور. ثم كان يوم السبت فانقسم قسمين: أما الصباح، فخصص لزيارة دار المحفوظات «الدفترخانة»، وأما المساء، فخصص للتفرق في أنحاء بلجيكا القريبة من بروكسل، والتي تمثل فائدة تاريخية ما. أريد أن أذكر دار المحفوظات هذه، وأريد أن أقارن بينها وبين دار المحفوظات في مصر، ولكن أصول المقارنة تنقصني؛ لأني أجهل نظام الدفترخانة المصرية، ولا أعلم من أمرها إلا أن زيارتها مستحيلة على العلماء والباحثين إلا بعد عناء ومشقة وإذن من وزير المالية قلما يظفر به من يطمع فيه، فالدفترخانة المصرية ديوان من دواوين الحكومة تنتفع به الحكومة وحدها في أعمالها الرسمية، ولا ينتفع به العلماء والمؤرخون. بل لست أدري علام تشتمل الدفترخانة المصرية؟ وهل فيها حقا ما يفيد المؤرخ إذا أراد أن يبحث عما قبل العصر الحديث الذي نعيش فيه؟ وإلى أي عصر من عصور مصر التاريخية يرجع أقدم ما في الدفترخانة المصرية من المحفوظات؟ لا أعلم من هذا شيئا، كما أني لا أعلم شيئا من النظام الذي يصطنع في الدفترخانة المصرية، ولا مما يتخذ فيها من وسائل الاحتياط لوقاية الأوراق والمحفوظات القديمة، ولا شيئا من النظام الذي يتخذ لتسجيل هذه المحفوظات، واتخاذ فهارس وأثبات تسهل البحث على من يريد أن ينتفع بها. أجهل إذن مقدار المحفوظات المصرية وقيمتها ونظم حمايتها والانتفاع بها.
ولكني أعلم أن قسما واحدا من أقسام الدفترخانة البلجيكية يشتمل على أكثر من 50000 دفتر من دفاتر الحساب والقرارات التي كانت تتخذها الحكومات المختلفة منذ القرن الثالث عشر إلى الآن.
وأعلم أن هذه الدفترخانة البلجيكية كغيرها من دور المحفوظات في أوروبا مباحة للعلماء والباحثين، قد اتخذت فيها كل الوسائل التي تمكن العلماء من البحث، وتسهل عليهم أسبابه، فاتخذت فيها الأثبات المتقنة والفهارس البديعة، واختص بكل قسم من أقسامها نفر لا أقول من الموظفين، وإنما أقول من العلماء النابغين يقومون على حفظه وتنظيمه والاستفادة منه، وتسهيل الاستفادة على من أرادها سواء أكان بلجيكيا أم أجنبيا، ولكن في دار المحفوظات البلجيكية شيئا أعجبت به حقا، وأتمنى على الحكومة المصرية أن توجد لنا مثله في مصر؛ لأنه يفيد فائدة لا تقدر سواء في ذلك الدفترخانة ودور الكتب المختلفة، وجدت في دار المحفوظات البلجيكية معملا واسعا فيه كثير من العمال يشتغلون في أشياء مختلفة غريبة، يشتغلون مثلا في تنظيف الأوراق القديمة التي بعد بها العهد وأفسدها الزمان فطمست الأحرف التي فيها، ويشتغلون بتقوية الأوراق التي بعد بها العهد وأفسدها الزمان فوهت ورثت حتى أصبحت لا تحتمل لمس الأيدي، ويشتغلون بما يشبه هذا مما يمكن الاستفادة بكل ورقة قديمة مخطوطة مهما تكن أعراض البلى التي أصابتها، ولقد رأينا العمال يشتغلون في ذلك، رأيناهم قد أخذوا أوراقا قذرة لا تكاد تقرأ، بل لا تقرأ، فما زالوا بها في غسل وتنظيف حتى زال عنها الدنس، وبدت أحرفها جلية واضحة للقارئ، ورأيناهم يتخذون أوراقا بالية لا تكاد تمس فما يزالون بها يسلطون عليها بعض مواد الكيمياء حتى تقوى وتثبت، وتستطيع أن تتناولها وتقلبها كما تقلب ورقة صنعت أمس.
أليس مثل هذا المعمل مفيدا في مصر؟ أليس الأستاذ لطفي بك السيد محتاجا إلى مثله في دار الكتب المصرية؟
شيء آخر أعجبني؛ هو استفادة دار المحفوظات البلجيكية استفادة تجارية بما يوجد فيها من المحفوظات. ففيها نماذج لا تكاد تحصى لأختام الملوك والأمراء والقواد والإمبراطرة والرؤساء على اختلافهم منذ القرون الوسطى. فهي تنتفع بهذه النماذج فتتخذها على المعدن أو على الجبس أو على غير ذلك وتعرضها للبيع، وأؤكد لك أن تهافت الناس عليها شديد، ولا سيما العلماء وأصحاب الفن والآثار الذين يريدون أن يدرسوا هذه النماذج كل من وجهته الخاصة. فهم لا يطلبون الدفاتر والأوراق، وهم إن استطاعوا أن ينظروا إلى هذه الدفاتر والأوراق لا يستطيعون أن ينقلوها، ولا أن يستعيروها، ولا أن يخرجوها من دارها فضلا عن بلجيكا، بينما هذه النماذج المصنوعة مباحة لهم يصنعون بها ما يشاءون، وهذه النماذج ليست سهلة ولا يسيرة، فلا بد من أن تتخذ بطريقة علمية.
ولا بد من أن تنظم وترتب وتتخذ لها الفهارس والأثبات، ولست أنسى محاضرة ألقتها علينا في دار المحفوظات فتاة بلجيكية هي القائمة بالقسم العلمي من إدارة هذه النماذج، ولست أنسى مناقشة كانت بينها وبين عالم فرنسي في نظام «الفيش» الذي يجب أن يتخذ لهذه النماذج. لا أنسى هذه الفتاة ، ولا أنسى محاضرتها ولا مناقشتها، وأتمنى على الله أن أجد بين فتياتنا، بل بين كهولنا، من يستطيع أن يقوم في دار المحفوظات المصرية أو في دار الكتب المصرية مقام هذه الفتاة البلجيكية.
تفرقنا بعد الظهر فاخترت الذهاب إلى «واترلو»، ولكن لا أستطيع أن أذكر لك من أمرها شيئا. فقد تغيرت فيها المعالم، ومحيت فيها آثار هذا اليوم العظيم الذي اندك فيه عرش نابليون، وكل ما هو قائم فيها الآن صناعي متكلف إلا القليل.
ولكني لاحظت شيئا له قيمته في هذه الأيام، وهو أن الذين ذهبوا إلى واترلو كانوا جميعا من الإنجليز، ولم يكن منهم فرنسي واحد إلا زوجي. أما الفرنسيون فتفرقوا إلى الجهات الأخرى حول بروكسل.
ثم اجتمعنا يوم الأحد في الجلسة الأخيرة للمؤتمر فاتخذت قرارات مختلفة، أهمها هذا القرار الذي أتمنى ألا تهمله مصر، وهو تأليف جمعية تاريخية دولية دائمة تشترك فيها الأمم على اختلافها إلا ألمانيا طبعا. اتخذ هذا القرار وظل مجلس إدارة المؤتمر باقيا بعد انحلال المؤتمر لوضع نظام هذه الجمعية. فهل تتصل بها مصر؟ وهل تقوم بما عليها، وبما لها من الحق في خدمة التاريخ ونشر التاريخ؟
الكلمة في ذلك إلى وزارة المعارف.
باريس في 10 مايو سنة 1923
القسم الثالث: خواطر سائح
(1) في الطريق
كانت السفينة تجري في بحر هادئ مطمئن، وكانت نفوس السفر هادئة مطمئنة أيضا، وكان قد شمل السفينة ومن فيها شيء من الدعة والأمن لا يكاد يوصف، كأنما اشترك في تكوينه هدوء البحر وجماله، وصفو السماء وإشراقها، ونزوع المسافرين جميعا إلى هذا الأمل الذي كانوا يترقبونه منذ حين، والذي هم مشرفون عليه الآن، وهو الراحة بعد تعب والهدوء بعد اضطراب، وكنت أشد الناس اطمئنانا وأكثرهم دعة وأعظمهم اغتباطا بالحياة، أفكر فيما تركت من ألم، وأتمثل ما أستقبل من لذة، وأعبث من حين إلى حين مع هذين الطفلين المبتسمين اللذين لا يعرفان من الحياة إلا صفوا وابتهاجا.
كنت أقص على ابنتي ألوانا من أحاديث «هوميروس» في «الأودسا» فأجد منها ابتهاجا للقصص واستعذابا للحديث، فأمضي في القصص والحديث ، وتغرق هي في اللذة والابتهاج، ثم تسألني أحق هذا الحديث أم أنت تمزح؟ فلا أجد لهذا السؤال جوابا. لست أمزح وإنما أقص شيئا قرأته وابتهجت له، وقرأته الأجيال من قبلي وابتهجت له، وسمعته أجيال قبل هذه الأجيال فابتهجت له وآمنت به واتخذته يقينا، بل اتخذته دينا. وهل كان يخطر لأحد من أولئك اليونان الذين كانوا يستمعون لأقاصيص الأودسا وأعاجيبها أن يسأل المنشد: أحق هذا الحديث أم أنت تمزح؟ كلا! لقد كان هؤلاء الناس يؤمنون بأعاجيب الأودسا وأساطيرها كما تؤمن أنت وأنا بالبخار والكهرباء، وكانوا يتخذون من أحاديث الأودسا وأعاجيبها مقاييس للخير والشر ونماذج ينظمون عليها حياتهم الخاصة والعامة كما نبحث نحن عن هذه المقاييس والنماذج في علم الأخلاق والاجتماع الآن.
ثم تتابعت الأجيال، واتصلت العصور، وتطور العقل الإنساني حتى أصبحت هذه الطفلة في السابعة من عمرها تسألني حين أقص عليها أحاديث الأودسا وأعاجيبها، وأخبار السندباد البحري: أحق هذا الحديث أم أنت تمزح؟ وكنت أترك ابنتي تلاعب أخاها وتلهو مع أترابها، وأنصرف إلى قرينتي فنأخذ في ألوان من الحديث منها الجد والهزل، وربما انتهزنا غفلة الطفلين فقرأنا فصلا من كتاب أو مقالا من صحيفة، حتى إذا أقبل الليل جلس السفر بعضهم إلى بعض يتحدثون، وانصرفت طوائف منهم إلى «البيانو»، فمنهم من يعزف ومنهم من يرقص، وانصرفت طوائف أخرى إلى ألوان من اللعب بين نرد وشطرنج وورق حتى يتقدم الليل، وعلى هذا النحو قضينا أربعة أيام وبعض يوم لم تخل من بهجة لا تعدلها بهجة حين ظهرت السواحل الإيطالية، وحين مضت السفينة بنا في مضيق «مسينا» فالناس جميعا ينظرون، منهم من يعجب بالساحل وجماله، ومنهم من يذكر كوارث مسينا، ومنهم من يمضي في الذكرى إلى عهد بعيد فيتمثل الحياة اليونانية والرومانية والفينيقية على هذه السواحل وفي هذا البحر، ويذكر ما امتلأت به هذه الحياة القديمة من لذة وألم ومن جمال وكآبة، ويذكر ما تغنى به الشعراء القدماء من ألوان هذه الحياة. ثم تحدث الناس أننا سنصبح في مرسيليا، وانصرف الناس عن حديثهم ولهوهم إلى حقائبهم يحزمونها وإلى متاعهم يعدونه، ولكن السفينة التي كانت هادئة مطمئنة أخذت تضطرب قليلا قليلا، وما هي إلا ساعات حتى كان اضطراب البحر قد انتهى إلى أقصاه، وحتى كان الناس لا يكاد يسمع بعضهم بعضا إذا تحدث بعضهم إلى بعض. فالموج مصطخب والريح تعصف عصفا، والسفينة لا تتمايل، وإنما يتقاذفها الموج. وقضينا الليل في هذا الهول، وأصبحنا وقد أشرفنا على الساحل الفرنسي بل بلغناه، فهذه أبنية مرسيليا يراها الناس ويشيرون إليها، وليس من شك أننا سنترك السفينة بعد ساعة أو ساعتين. كلا! لن نترك السفينة بعد ساعة أو ساعتين ولا ساعات. لماذا؟ تستطيع أن تبحث، وأن تتكلف العناء في البحث دون أن تجد جوابا على هذا السؤال، فيحسن أن أجيبك أنا.
كان بين أهل السفينة شرقي أخذه حر شديد، بينما كانت السفينة تجتاز القناة، فما هي إلا أن رأى بطيخ مصر فاندفع إليه اندفاعا وأكل بطيخة بأسرها، ثم كأن البطيخة لم تنقع غلته فعمد إلى ماء مثلج فشرب منه ما أذن الله له أن يشرب، ولم تكد السفينة تتجاوز مصر حتى أخذ صاحبنا قيء ومشاء، ودعي الطبيب فلم يؤمن للبطيخ ولا للماء المثلج، ولا سيما وقد حسنت حال صاحبنا بعد يوم وليلة فلم يبق من قيئه ومشائه إلا بطن منتفخ، ولم يشك الطبيب في أن الرجل مطعون ... وكان هذا الرجل في الدرجة الرابعة، فلا أحدثك عن عناية الطبيب به وإشفاقه عليه. فانظر إليه تحوطه عناية الطبيب والخدم، وانظر إليه في سرير نظيف نقي، وانظر إليه تقدم إليه ألوان الطعام مختارة منتقاة، وانظر إليه يحمل من حين إلى حين إلى حيث يتنسم هواء البحر، وكأن الرجل قد استعذب هذه الحياة واستلذها فتمارض وأمعن في الشكوى، وشك الطبيب وأمعن في الشك، فأبرق إلى مرسيليا أن قد ظهر الطاعون في السفينة، وكتم الطبيب وربان السفينة الخبر عن المسافرين حتى لا يأخذهم وهم ولا وجل. فلما أشرفت السفينة على مرسيليا أنبئنا أن السفينة ملوثة، وأن لا بد من الحجر الصحي ، وأننا سنمكث على بعد من الساحل خمسة أيام نرى الأرض ولا نستطيع أن نطأها. تستطيع أنت أن تتمثل نفسية المسافرين - كما يقولون - عندما وقع عليهم هذا النبأ وقع الصاعقة، ولكن المسافرين ولا سيما الذين أبحروا من مصر ليسوا شيئا إلى جانب البحارة والذين أبحروا من أقصى الشرق، فقد كان هؤلاء الناس قد قضوا في البحر شهرين أو أكثر من شهرين، وكانوا يتحرقون شوقا إلى فراق البحر، وإذا هم يقضى عليهم أن يحجزوا في السفينة خمس أيام.
وقضينا ساعات في هذا الاضطراب، ثم أقبلت زوارق تحمل الأطباء، وذاع النبأ أن هؤلاء الأطباء قد أقبلوا ليمتحنوا المسافرين واحدا واحدا؛ فمن رأوه بريئا أذن له بترك السفينة، ومن رأوه مريضا أو كالمريض حجروه، ولكن الأطباء لم يمتحنوا أحدا، وإنما قضوا ساعات يدفعون إلى المسافرين جوازات صحية، ويكلفونهم أن يقدموا هذه الجوازات في أمد لا يتجاوز خمسة أيام إلى عمدة المدينة أو القرية التي يقصدون إليها؛ ليتحقق هذا العمدة من أمر المسافرين أمطعونون هم أم بارئون من الطاعون؟ وكانوا كلما دفعوا إلى مسافرا جوازا كتبوا كتابا إلى عمدة المدينة أو القرية ينبئونه بأن فلانا قادم إلى مدينته أو قريته، وأن حالته الصحية تدعو إلى الحذر والاحتياط، فلا بد من امتحانه والاحتياط لأمره، وانقضى أكثر النهار في هذا العبث الصيني كما يقول الفرنسيون، وأذن للمسافرين جميعا أن يطئوا الأرض إلا البحارة وعمال السفينة، فقد قضي عليهم بالحجر خمسة أيام، وبلغنا القرية التي كنا نقصد إليها، وذهبنا في اليوم الخامس إلى العمدة، وكنت أتحدث بأن لا نذهب، ولكن الجواز الصحي الذي دفع إلينا كان يشتمل على طائفة من مواد القانون الصحي تبين العقوبات أو الغرامات التي نتعرض لها إذا أهملنا. فذهبنا ولم نر العمدة، وإنما رأينا سكرتير العمدة، وسكرتير العمدة في معظم القرى الفرنسية هو معلم القرية، وهو يشبه فقيه الكتاب عندنا. رأينا هذا المعلم وقصصنا عليه قصتنا فلم يكد يسمع أول الحديث حتى أظهر عناية؛ لأنه تسلم كتاب الأطباء منذ أيام، وأخذ يبحث عن هؤلاء المسافرين الذين يوشكون أن يحملوا الطاعون إلى قريته دون أن يوفق إليهم، فلما رآنا خيل إليه أن قد ظفر بطلبته. وأؤكد لك أنا قد تكلمنا كثيرا لنقنعه بأنه ليس في حاجة إلى إحالتنا على الطبيب. على هذا النحو انتهت رحلتنا، وما كنت لأقص عليك هذا القصص لولا أن فيه عبرة لا بأس بالتفكير فيها. أرأيت إلى مئات من المسافرين يضطربون ويحزنون يوما كاملا؟ أرأيت إلى مصلحة الصحة في مرسيليا تضطرب وتعنى هذه العناية وتتكلف هذه النفقات؟ أرأيت إلى مئات من العمد في قرى فرنسا يضطربون ويشفقون من الطاعون أن يصيب قراهم؟ كل ذلك لأن رجلا ظمئ فأكل بطيخة وشرب أقداحا من الماء المثلج!
أشهد أن هذه الحياة لا تخلو من عبث، بل أشهد أن هذه الحياة كلها لون من ألوان العبث وفن من فنون المزاح، تضحك حينا وتحزن حينا آخر، وهي مضحكة حين تحزن ومحزنة حين تضحك، هي عبث كلها. نعم! إني لأفكر في أمر هذه البطيخة التي استتبعت ما استتبعت من الأحداث فلا أضحك ولا أمزح، وكثيرا ما ضحكت ومزحت حين كنت أفكر في أمرها، ولا أضحك الآن ولا أمزح، وإنما أفكر في هذا الأمر مع حزن شديد؛ لأني أرى أن الحياة كلها تجري على نحو ما جرى أمر هذه البطيخة؛ ذلك أن أنباء مصر قد وصلت إلي فقرأت فيها ما قرأت، وابتسمت فيها لأشياء، وبكيت فيها لأشياء أخرى، ولم يبق لي من هذا البكاء وذلك الابتسام إلا أني تركت أصدقاء كنت أتمنى لقاءهم بعد عودتي، وأتحدث بما سأجد من لذة حين ألقاهم، وأستأنف معهم صلات الصفاء، وتركت كذلك خصوما كنت أفكر في أني سأعود إلى خصومتهم، وسألقى منهم شرا وسيلقون مني شرا، فإذا أنا الآن مقتنع بهذه الحقيقة المؤلمة، وهي أني لن أجد هؤلاء الأصدقاء ولن أجد هؤلاء الخصوم. لن أصافي أولئك ولن أخاصم هؤلاء؛ لأن الله قد آثرهم بالحياة في تلك الدار التي لا تجري فيها الأمور على نحو ما تجري عليه في حياتنا من اللهو والعبث . •••
انتهى بنا سفر طويل لم يخل من مشقة إلى هذا البلد الصغير الذي قضينا فيه أسابيع ما أظن أني قضيت مثلها في بلد قبله. ليس بالقرية ولا بالمدينة، ولكنه شيء بين بين، فيه حضارة المدن ولا سيما في الصيف حين يأوي إليه الناس من كل صوب يلتمسون الراحة، ويستمتعون بالطبيعة التي تريك فنونا من الجمال قلما تظفر بها في غير هذه البيئة من فرنسا، فيه حضارة المدن وفيه سذاجة القرى، فأنت تجد فيه من العادات والخصال ما يذكرك بما كنت تقرأ من تاريخ هذا القسم من فرنسا قبل أن تبلغ أوروبا ما بلغت من هذا الرقي الحديث. تجد قوما يحتفون بأزيائهم القديمة، ويتحدثون لهجتهم الخاصة التي لا يفهمها الفرنسيون من غير هذا الإقليم، فإذا تحدثوا الفرنسية فلهم فيها لهجة تميزهم من غيرهم من الناس، ولهم عاداتهم في عباداتهم وفي غير عباداتهم من مظاهر حياتهم العامة، ولكني لم أكتب لأحدثك عن هؤلاء الناس، ولا لأحدثك عن هذا البلد، فلست أكتب رحلة، وإنما هي خواطر خطرت لي أتحدث بها إليك من حين إلى حين.
لا أعرف مكانا كهذا المكان يدعو إلى التفكير والتأمل، ويبعث فيك نشاطا نفسيا غريبا ينطقك بالشعر إن كنت شاعرا، ويحبب إليك قراءة الشعراء إن لم يكن لك حظ من الخيال. لا أغلو ولا أبالغ؛ فأنت لا تكاد تخطو في هذا البلد أو حوله خطوة إلا سمعت هذه الأنغام الموسيقية اللذيذة التي تختلف لينا وعنفا، وتتباين نحافة وضخامة، والتي تتغنى بها هذه الغدران المتدفقة من أعلى الجبل. في كل مكان غدير ينحدر أو نهير يجري أو سيل يتدفق. هنا غدير هادئ يسعى في لين ورقة فيسمعك نغما رقيقا عذبا، وهنا نهير ليس بالهادئ ولا بالثائر، تسمع له فلا تستنيم ولا تضطرب، وإنما تقف وقد استعذبت الحياة ووددت لو تستزيد منها، وهنالك سيل ثائر ينحدر في عنف، ويدفع بين يديه صغار الأحجار وضخامها، ويسمعك هديرا كقصف الرعد يأخذ عليك سمعك، ثم يأخذ عليك نفسك، ثم يبهرك فإذا أنت لا تسمع من حولك ، وإذا أنت كلك إعجاب بهذا الجلال الذي لا حد له، وكل هذه الغدران والنهيرات والسيول تسعى وتجري وتتدفق شاقة غابات تختلف كثافة ونحافة، وتأخذ جوانبها من كل مكان، وقد اختلفت فيها الأشجار، وانبثت في أرضها أنواع من العشب والزهر لا يبلغها الإحصاء ولا ينالها العد، وامتلأ الجو من عبير هذه الأزهار، وأنفاس هذه الأشجار، وريح هذه الأعشاب بشيء من العطر لا تستطيع أن تميزه ولا أن تحلله إلى أجزائه، ولكنك تستمتع به استمتاعا غريبا، وتكاد تلمس بيديك ما يبعث في جسمك من الحياة، وإلى هذا النغم المائي، وإلى عبير هذه الغابات تضيف الطير ألحانها المختلفة التي تصل إلى أذنيك في سهولة ويسر إذا كنت إلى غدير هادئ أو نهر غير ثائر، والتي لا يصل إلى سمعك منها إلا أطراف خفية دقيقة مختلفة إذا كنت إلى سيل ثائر مضطرب. ثم أنت لا تسعى في هذه الأرض على مكان سهل منبسط، وإنما أنت مصعد أبدا أو منحدر أبدا، ويظهر أن الذين يبصرون يجدون في هذا التصعيد والانحدار روعة لا تعد لها روعة، يشرفون فيروعهم منظر ثم ينحدرون فيروعهم منظر آخر، ويظهر أن هذه المناظر المختلفة الرائعة تتباين إلى غير حد باختلاف الجو صفوا وكدرا، وباختلاف ما ترسل الشمس من أشعتها على هذه القمم المحيطة بك، والتي يجللها الثلج أبدا، والتي تقدم إليك من مختلف الألوان نماذج ساحرة.
وأجمل ما يكون هذا المكان وأشد ما تكون فيه تأثرا وشعورا بضآلة الإنسان وجلال الطبيعة حين يظلم الجو، وتكفهر السماء، وتتكاثف السحب بعضها فوق بعض؛ منها ما هو فوقك، ومنها ما هو تحت قدميك، ومنها ما يكاد يحاذيك. ثم يضطرب هذا كله ويصطدم فإذا رعد يقصف قصفا رائعا مهيبا، وإذا برق يأخذ أنحاء الجو، وإذا الجبال المحيطة تردد أصداء هذا الرعد القاصف، وإذا هذه السحب قد انشقت فانهمر المطر انهمارا، وإذا هي ساعة أو بعض ساعة وقد هدأ كل شيء، واستنار كل شيء، وظهرت الشمس ساطعة بهية، ومر بهذه الغابات والأزهار والأعشاب نسيم عليل بليل يحمل إليك عطرا نديا.
في هذا البلد «أرجليس» «جازو» قضينا ثلاثة أسابيع، وفيه فكرت كثيرا وتأملت كثيرا ووددت كثيرا لو استطعت أن أكتب، ولكن الله أراد ألا أكتب، وكنت قد أردت ذلك أيضا.
نعم، كنت قد بلغت من التعب حظا عظيما قبل أن أترك مصر، وكنت قد انتهيت من ذلك إلى أن كرهت القراءة والكتابة وكل ما يقرأ وكل ما يكتب، فعزمت إذا أتاح الله لي السفر أن أقضي شهرا كاملا لا أقرأ فيه ولا حتى أسمع بقراءة ولا إملاء، وقد تم لي ذلك وأقسم لقد كنت به شقيا كل الشقاء، ذلك أنا نخطئ الخطأ كله في تقدير آلامنا وفي تقدير لذاتنا وفي تقدير حاجاتنا. يبلغ بنا الألم أقصاه أحيانا فيخيل إلينا أنه قد بلغ بنا أقصاه حقا، وأنا لن نستطيع أن نحتمل ألما فوق ما احتملنا، ثم نتمنى الراحة ونطمح إلى اللذة، فنقيس الراحة التي نتمناها، واللذة التي نطمح إليها بمقياس التعب الذي لقيناه والألم الذي احتملناه، نتمنى راحة مطلقة ولذة لا حد لها، فإذا أتيح لنا أن نستريح فما أسرع ما نمل اللذة وما أسرع ما نتمنى الألم! كذلك كنت في «أرجليس» ضيق الذرع بهذه الراحة التي اضطررت نفسي إليها، شديد السأم لهذه اللذة التي طالما طمعت فيها، عظيم التمني لذلك الألم الذي طالما شكوت منه، وكانت زوجتي تضحك مني وتتخذني سخرية، وربما رقت لي فقرأت علي فصلا أو فصولا من كتاب، ولكنها كانت قد آلت كما آليت أن أستريح فلا أحدثك عن هذه الراحة الثقيلة.
هناك خاطر يخطر لي في كثير من الأحيان، ولست أدري أيخطر لغيري من الناس أو هو مقصور علي؛ لأن حالي الطبيعية هي التي تضطرني إليه ... ذلك أني أبغض نفسي أشد البغض، وأبغض معها الحياة، وأرى كل شيء سيئا مرذولا، فأسأم كل شيء، وأزهد في كل شيء، وإنما تعرض لي هذه العلة إذا اتصلت خلوتي إلى نفسي كما اتصلت في هذه الراحة التي أكرهت نفسي عليها. إذا اتصلت خلوتي إلى نفسي فلم أقرأ ولم أكتب ولم أشترك في الحياة العامة، وإنما انقطعت إلى نفسي أحيا هذه الحياة الخاصة الفاترة التي تكاد تنحصر في الحياة الجسمية، في هذا الطور من أطوار الحياة يخلو الإنسان إلى نفسه حقا، وإذا كان العقل الإنساني لا يعرف الراحة ولا يستطيعها، وإنما هو مفكر أبدا مشتغل أبدا، فإن العقل في أول هذه الخلوة يمضي في عمله وتفكيره معتمدا على ما بقي له من المادة الفكرية أثناء العمل وقبل الراحة. فإذا فرغ من هذه المادة بحثا وتفكيرا احتاج إلى تجديدها، احتاج إلى الغذاء المعنوي كما يحتاج الجسم إلى الغذاء المادي، ولكنه قد أكره نفسه على الراحة، وأخذ نفسه بألا يقرأ ولا يعمل، وهو مع ذلك مضطر إلى التفكير بطبيعته، وهنا الشر كل الشر، فهو يبدأ في أن يفكر تفكيرا خطرا، يبدأ في أن يتخذ نفسه موضوعا للتفكير كما تبدأ المعدة الخالية في هضم نفسها، يفكر الإنسان في نفسه فيحللها، ويبالغ في تحليلها، ويدرس الدقائق من عواطفه ومشاعره وأهوائه درسا مفصلا دقيقا، فلا يرى من هذا كله إلا ما يشعره بأنه ضئيل ضعيف، بأنه ليس شيئا يذكر، بأنه ليس شيئا يستحق الحياة، وربما فكر في الحياة فرأى أنها ليست شيئا يستحق العناية.
وإذن فالسأم يقوم شيئا فشيئا حتى ينتهي إلى السخط وإلى سوء الخلق وإلى التشاؤم، وما أظن إلا أن كثيرا من هؤلاء الفلاسفة المتشائمين قد اتخذوا مذهب التشاؤم دينا لهم؛ لأنهم فكروا في أنفسهم وحللوها، ودرسوها أكثر مما ينبغي. لا أميل إلى أن يفكر الإنسان في نفسه كثيرا، فالإنسان لا يستحق هذا التفكير، وإنما أميل إلى أن يشغل الإنسان نفسه عن نفسه بالقراءة والحديث والعمل، والاستمتاع بلذات الحياة التي أباحاها الله والأخلاق. ولولا هذه اللذات التي قدمت لك وصفها في أول الكلمة، ولولا أني كنت أشغل بها نفسي عن نفسي كلما أحسست الحاجة إلى التفكير، لأصابني شيء من سوء الخلق غير قليل؛ لذلك تعبت في «أرجليس» ولم أسترح. فلم أقض يوما هادئا، ولعلي لم أقض ساعات متصلة في اطمئنان وهدوء ، وإنما كنت طوال الوقت أضطرب في الأرض، وأهيم في أنحائها متنقلا من غابة إلى غابة ومن شاطئ إلى شاطئ ومن قرية إلى قرية، أترك هذا المرج لأسعى إلى مرج آخر، وأدع هذه القرية لأزور قرية أخرى، وكذلك قضيت هذه الأسابيع لم يحس عقلي جوعا، ولم يستمتع جسمي براحة، وكان من بين القرى أو المدن التي قضيت فيها يوما وفكرت فيها كثيرا مدينة «لورد».
البوليجين في 12 اغسطس سنة 1924 (2) مدينة لورد
Lourdes
يجب أن نعدو مع الطير لندرك القطار الأول ولنبلغ «لورد» في مبتدأ النهار، وغدونا مع الطير فإذا جو بارد يلفح الوجه زمهريره، وينسيك أنك في أواخر شهر يوليو، وإذا الحاجة ماسة شديدة إلى المعطف، وإذن لا بد من إخفاء اليدين ومن ستر العنق والوجه، ولكنا أبينا أن نصطنع من ذلك شيئا عنادا لهذا الجو ولهذه الطبيعة التي تريد أن تغير الأشياء فتقر الشتاء مكان الصيف. أبينا إلا أن نحتفظ بلباس المصطافين، ومضينا في طريقنا لا نحفل بهذا الهواء البارد، ولا نحفل بهذا المطر الذي أخذ ينهمر بعد حين، والذي ما أسرع ما اخترق ثيابنا الصيفية، وبعث فينا اضطراب العصفور بلله القطر، ولكننا مضينا في عنادنا ولم نحفل بهذا الاضطراب، وأبينا إلا أن نعتبر أنفسنا في الصيف، ولم لا؟ ألم نتعود في مصر ضروبا من الصبر والمقاومة وألوانا من الجلد والاحتمال؟ ومضى القطار بنا حتى بلغنا «لورد» قبل الساعة التاسعة صباحا. فإذا مدينة كأحسن ما نعرف من المدن الفرنسية موقعا، يشرف عليها الجبل ويجري من تحتها النهر، يتردد فيها هواء خفيف ولكنه ممتلئ حياة ونشاطا لا يكاد يمسك حتى يجعلك حياة ونشاطا، فإذا أنت أقدر ما تكون على الحركة وأرغب ما تكون فيها، وإذا أنت أقدر ما تكون على التفكير وأشوق ما تكون إليه، ولم نكد نترك المحطة ونندفع في الشارع الذي ينتهي إلى المغارة حتى أحاطت بنا جموع من الرجال والنساء كلهم يعرض بضاعته، وكلهم يلح في عرضها، وكلهم يتملقك ويترضاك، وما هذه البضاعة إلا الفنادق وإلا الغرف في منازل بعض السيدات اللاتي نزلن في هذا الفصل عن بعض حجرهن وغرفهن واتخذنها تجارة ومصدرا للكسب.
يتقدم إليك هذا السائق ليأخذ متاعك إلى سيارته الفخمة التي ستنتهي بك إن شئت إلى فندق كذا، وهو ليس غاليا ولا مسرفا في الشطط، على أن فيه كل ما تحتاج إليه من أسباب الراحة ووسائل النعيم، ويتقدم إليك هذا السائق ليأخذ متاعك إلى عربته التي ستنتهي بك إلى فندق كذا، وهو فندق حسن الموقع تشرف منه على مناظر بديعة، وليس بينه وبين الغار إلا دقائق، أما الأجر فقليل، وتتقدم إليك هذه السيدة باشة مبتسمة تعرض عليك غرفة جميلة واسعة حسن الأثاث تشرف منها على الغار، أما الأجر فنستطيع أن نتفق عليه، وثق بأن ستكون مسرورا، ولكننا نجتهد في أن نخلص من هؤلاء الناس جميعا، فلم نأت «لورد» لنأوي إلى فندق أو خان، ولا لنمكث فيها أياما، وإنما أتيناها لنمكث فيها ساعات ثم نعود أدراجنا، فقد زرنا «لورد» وزرناها وأكثرنا من زيارتها، ولولا شيء سمعناه أمس لما فكرنا هذه السنة في أن نراها، ولكننا نتحدث فيما بيننا ونحن نشق صفوف هذه الجموع المزدحمة أمام المحطة بأن الفصل سيئ هذه السنة في «لورد»، وأن تجار هذه المدينة سيشقون بهذا الصيف. فقد كانت «لورد» دائما شديدة الغلاء، ولا سيما في شهري يوليو وأغسطس؛ حيث يزدحم عليها الحجيج من كل صوب، وحيث تضيق بالأجيال المختلفة التي تؤمها من أقطار الأرض المسيحية كلها.
نعم! الفصل سيئ في هذه السنة؛ فالحجيج قليل والفنادق بعيدة كل البعد عن أن تسترد شيئا من نفقاتها الضخمة، وهذه الحوانيت الكثيرة التي لا تكاد تحصى، والتي تكتظ بألوان البضائع المختلفة، ولا سيما هذه البضائع التي تخصص للتقوى والعبادة. هذه الحوانيت محزونة كئيبة تحس الكساد وتألم له، فالناس لا يزدحمون عليها، وهم لا يستبقون إلى الصلبان والسبح والتمائم، وإنما يمرون بهذا كله معرضين عنه زاهدين فيه، وما مصدر هذا الكساد؟ وما علة هذا الإحجام عن الحج في هذا العام؟ أما أنا فضحكت، وعللت ذلك بانتصار حزب الشمال في الانتخابات الفرنسية الأخيرة. فأنت تعلم أن حزب الشمال الفرنسي ملحد مسرف في الإلحاد إلى حد أنه يتخذ الإلحاد دينا، وإذ قد انتصر هذا الحزب، وانتصر بالطرق الديمقراطية الصحيحة؛ أي برضا الفرنسيين وإرادتهم، فلا بد من أن يكون هناك اتصال بين انتصار الإلحاد وكساد التجارة في «لورد» وإحجام الناس عن الحج إليها، وأما زوجي فضحكت وسخرت مني ومن حزب الشمال ومن أحزاب اليمين أيضا، وأخذت تلتمس العلة لهذا الكساد، وإحجام الناس عن الحج إلى «لورد» في ظروف الحياة الاقتصادية التي ارتفعت لها حاجات الناس ارتفاعا شديدا. ألم ترتفع أجور السكك الحديدية ارتفاعا فاحشا أحجم له الناس لا عن الحج إلى «لورد» وحدها، بل عن الحج إلى هذه المواقع الطبيعية البديعة في الجبل وعلى سواحل البحر. فالفصل ليس سيئا في «لورد» وحدها، وإنما هو سيئ في هذا الإقليم كله، وما أحسب إلا أنه سيئ في جميع مواضع الراحة في فرنسا. ومن هم الذين يحجون إلى «لورد»؟ ألم تكن كثرتهم المطلقة من الفقراء، والذين يشبهون الفقراء، والذين يحتاجون إلى الحساب والتدقيق في الحساب ليعيشوا فضلا عن أن يستمتعوا بشيء من اللهو والراحة، أو أن يبيحوا لأنفسهم سياحة من السياحات؟
الظروف الاقتصادية إذن هي التي صرفت الناس عن «لورد» لا الظروف الدينية ولا الظروف السياسية، ومهما يكن من شيء فقد زرنا «لورد» ومضينا في شوراعها، وانتهينا إلى الغار وإلى الينبوع، فإذا حولهما جماعات من الناس لا تذكر بالقياس إلى تلك الجماعات التي كنا نراها من قبل، ولكنها مع ذلك كثيرة، ولكنها مع ذلك بائسة، ولكنها مع ذلك تملأ القلوب حزنا وحسرة، ولكنها مع ذلك تدعو العقل إلى التفكير، وتبعث الإنسان إذا كان جافيا غليظ الطبع على أن يسخر من الإنسان، وتبعثه إن كان رقيقا حساسا على أن يعطف على الإنسان. انظر إلى هؤلاء الناس الذين انبثوا حول الغار والينبوع حاسرين يصلون ويضرعون ويتوسلون، ويتمسحون بالأحجار، ويغمسون أيديهم في الماء ويشربون منه، وفيهم المكفوف وفيهم المقعد وفيهم من أصابته ضروب الشلل وفيهم من ألح عليهم الجذام وفيهم من أنهكتهم العلل المتباينة، وفيهم الأصحاء أقبلوا يتضرعون لأبنائهم وبناتهم وآبائهم وأمهاتهم وإخوانهم وأخواتهم، كل هؤلاء منبثون حول الغار والينبوع لا يضحكون ولا يلهون، ولا يحفلون بجمال الطبيعة، ولا يستمتعون بروعة المنظر، ولا يكترثون لهذا الجو الذي قد يبرد حتى يبعث الرعدة وقد يسخن حتى يتصبب له العرق، وهم منصرفون عن هذا كله إلى صلاتهم يبتهلون إلى العذراء التي ظهرت في هذا المكان سنة 1858 للفتاة «برنديت» وأوحت إليها أن تأمر الناس بإقامة كنيسة لها في هذا المكان، وأثبتت ظهورها بإخراج هذا الينبوع الذي تفجر عنه الصخر أمام هذه الفتاة الراعية فرآه الناس وآمنوا له، وصدقوا الفتاة، وتحولت له هذه القرية التي كانت خاملة إلى مدينة ضخمة فيها من أسباب الترف وألوان النعيم ما لم تبلغه مدن كثيرة قديمة العهد بالنمو في هذا الإقليم.
يبتهل هؤلاء الناس إلى هذه العذراء أن تشفي مرضاهم، وينتظرون الساعة المعينة التي يقوم فيها رجال الدين بحركاتهم اليومية فيغمسون المرضى في الماء المقدس، ماء الينبوع، ويصلون ويبتهلون وينتظرون المعجزة، فتواتيهم حينا وتخلفهم حينا، ومن سوء حظ «لورد» ورجال الدين في هذا العام أن العذراء لم تحدث معجزة منذ ابتدأ الفصل، وهم يبتهلون ويتضرعون ويلحون في الابتهال والتضرع، ويغمسون المرضى في الماء ويخرجونهم منه، ثم يردونهم إليه ويخرجونهم منه، والأساقفة يترددون على المدينة ويشرفون على هذه الحفلات والصلوات، ولكن العذراء عنهم معرضة لا تسمع لهم ولا تلتفت إليهم، وكانت قد عودتهم أن تحدث لهم في كل عام معجزة أو معجزات، فما لها هذا العام قد تركت مدينتها وأعرضت عن عبادها؟ أما أنا فضحكت هذه المرة كما ضحكت في المرة الأولى، وقلت إن العذراء مغضبة؛ لأن حزب الشمال قد انتصر في الانتخاب، ولو قد انتصر حزب اليمين لما تصرم يوم من أيام هذا الفصل دون أن تحدث العذراء معجزة تضطرب لها أرجاء الأرض، ولو قد انتصر حزب الوسط الذي ليس هو بالمؤمن ولا بالملحد، ولكنه على كل حال قد استأنف العلاقات السياسية مع «البابا » لما رضيت العذراء أن يتصرم الفصل أو جزء عظيم منه دون أن تحدث معجزة أو معجزات، ولكن زوجي زجرتني زجرا شديدا وهي تقول: ما يصلح هذا الوضع لمثل هذا الهذيان، فأرجئه إلى حيث تخلو إلى نفسك فلا تؤذ به أحدا ... فسكت، ولكني لم أحدثك إلى الآن عن السبب الذي من أجله فكرت في أن أزور «لورد» هذا العام، وهو سبب لا يحتاج إلى أن يكون موضوعا للحديث، ولكنه مع ذلك كلفني هذه السياحة القصيرة، وأزعجني عن مضجعي ولما تشرق الشمس. ذلك أني سمعت القسيس يخطب الناس في «أرجليس» ويقرأ عليهم منشورا أصدره «البابا» رفع به «برنديت» - هذه الفتاة الراعية التي ظهرت لها العذراء في «لورد» - إلى منزلة السعداء، التي ليس فوقها إلا منزلة واحدة فيما أظن هي منزلة القديسين.
قرأ القسيس هذا المنشور، ثم انتقل منه إلى حياة «برنديت» فذكرها مفصلة، حتى إذا بلغ ظهور العذراء لهذه الفتاة الراعية أخذ يلح في إثبات ذلك بالأدلة المختلفة، ثم أخذ يسرد المعجزات أو طائفة من المعجزات التي أحدثتها العذراء في «لورد»، فإن هذه المعجزات لا يمكن أن تحصى، وأخذ يذكر لنا معجزات قائمة بين أيدينا لا سبيل إلى جحودها، فهذه السيدة التي تتردد في الكنيسة لتجلس الناس وتتقاضى منهم أجور الكراسي وتتقاضى منهم الصدقات، هذه السيدة التي ترونها جميعا في حركاتها ونشاطها وخفتها، هذه السيدة انظروا إليها تسعى بينكم. ليس بينها وبين أشدكم قوة فرق. انظروا إليها، لقد كانت مقعدة فأطلقت العذراء ساقيها في «لورد»، وأنتم أهل هذه المدينة تعرفون فلانة وتعرفون علتها التي أعيت الأطباء أعواما، لقد شفتها العذراء في العام الماضي، وما أظن أن منكم من يجرؤ على إنكار هذه الواقعة ...
وفي الحق أن أهل المدينة لا ينكرون هذه الواقعة ولا الواقعة التي سبقتها، ولكن في الحق أيضا أني رأيت امرأتين؛ إحداهما بدالة تبيع ألوان البقل وضروبا من المتاع وهي عرجاء أصابها ألم في القدم منذ سنين، وعجز الأطباء عن شفائه، ولم تغن فيه المياه المعدنية المختلفة شيئا، وهذه المرأة تتردد كل عام إلى «لورد» فتشرب من ينبوعها، وتستحم في أحواضها كما كانت تتردد إلى المدن والقرى التي تمتاز بمياهها المعدنية الحارة والباردة، وتصلي إلى العذراء وتبتهل دون أن تحدث العذراء فيها معجزة، وهي غير يائسة ولا قانطة، بل هي تعتزم السفر إلى لورد بعد أيام. والأخرى امرأة عرجاء أيضا، ولدت معوجة الساقين فهي لا تمشي وإنما تحجل، وتجد في ذلك مشقة شديدة. رأيتها في بعض الرياضات؛ لأنها مكلفة أن تحرس ممر القطار في طريق مسلوكة، وكنا قد أخطأنا الطريق إلى المدينة فما زالت معنا حتى اهتدينا، وقد قطعت بنا طرقا مجهولة شاقة، فتحدثنا إليها أكثر من نصف ساعة، وعرفنا علتها، وعرفنا أنها ألحت على العذراء، وشربت كثيرا من ينبوع «لورد»، وانغمست كثيرا في أحواض «لورد»، ولكن العذراء لم تلتفت إليها، فيئست من العذراء، وجحدت «لورد» وسخرت منها، ورضيت علتها واطمانت إليها. رأيت هاتين المرأتين ولكنهما - فيما يظهر - لا تصلحان حجة على أنصار «لورد»؛ فالعذراء ليست مكلفة أن تشفي كل مريض، وإنما هي تشفي من تريد أن تشفي. ومن يدري؟ لعلها تشفي المرأتين في يوم من الأيام. سمعت ما سمعت ورأيت ما رأيت، فاشتقت إلى زيارة «لورد» وطمعت في أن تظهر معجزة يوم زيارتي، ولست أمزح ولا ألهو فإن المعجزات قد ظهرت في «لورد»، وما أظن إلا أنها ستظهر أيضا، غير أن العلماء يعللون هذه المعجزات تعليلا ويعللها القسيسون تعليلا آخر، وأنت حر في أن تصدق العلماء أو في أن تصدق القسيسين. أما أنا فقد طمعت في أن أرى المعجزة، ولكني لم أر شيئا. ثم طمعت في أن أسمع بالمعجزة أثناء إقامتي في «أرجليس»، على مسافة قصيرة من «لورد»، ولكني لم أسمع شيئا. ثم سافرت من «أرجليس» وإني لفي القطار إلى حيث أقيم الآن، وإذا سيدتان تتحدثان ... ماذا أسمع؟ أصغيت ثم استعادت السيدتين حديثهما.
ظهرت المعجزة في لورد منذ يومين اثنين، ذلك أن أسرة إسبانية أقبلت إلى لورد ومعها فتاة مقعدة فلم يكد رجال الدين يغمسون هذه الفتاة في الحوض ، ويفرغون من صلاتهم ودعائهم حتى نهضت الفتاة معتدلة القوام. لا أقول تسعى بل تجري. ظهرت المعجزة في لورد، وذاع أمرها، وتحقق الناس صحتها، واعترف بذلك مكتب الإثبات الطبي الذي أقيم في لورد؛ ليثبت صحة المعجزات أو ينكرها، وإذن فسيحسن الفصل في لورد هذا العام، ولكني آسف الأسف كله؛ لأني لم أسمع بهذه المعجزة إلا في القطار على بعد عشر ساعات من لورد.
بوليجان «فرنسا» في 19 أغسطس سنة 1924 (3) الخيل! الخيل!
دوى هذا النداء في أرجاء الغابة، وما أسرع ما استجاب له الفرسان يهرعون من كل صوب حتى بلغوا جيادهم فامتطوها، وما هي إلا أن أخذت تعدو بهم عدوا سريعا، ولكنه منسجم تنظمه ألحان الموسيقى التي لا تخلو من عذوبة ساذجة، ولا تبعث على حرب، ولا تدعو إلى قتال؛ ذلك أن هؤلاء الفرسان لم يكونوا رجالا، وإنما كانوا أطفالا، وأن هذه الخيل لم تكن جيادا مطهمة كريمة النسب، وإنما كانت جيادا من الخشب.
دعا الداعي: الخيل! الخيل! فأسرع الأطفال إلى الخيل فامتطوها، وأسرعت الخيل فدارت بهؤلاء الأطفال، وأسرعت الموسيقى فعزفت لهم ألحانها، ووقف الكبار من رجال ونساء ينظرون ويبسمون فرحين مبتهجين بما يستمتع به أبناؤهم من هذا اللهو البريء، ثم انتهت دورة الخيل وآن دفع الأجر، وتقدم الناس يؤدون هذا الأجر عن أبنائهم، فإذا هذا الأجر مضاعف هذا المساء، وإذا الذي يتقاضاه من الناس قسيس يزدان بلباسه التيلي، وإذا الناس يبذلون ما يطلب إليهم عن طيب نفس وقرة عين، وإذا القسيس يستأنف دعاءه بصوته الضخم: الخيل! الخيل! وإذا الأطفال يسرعون إلى هذه الخيل فيمتطونها وإذا الموسيقى تستأنف لحنها. وقضى القسيس مساءه على هذه الحال يدعو إلى الخيل ويشرف على دورة الخيل ويتقاضى أجور الخيل.
وعلى مسافة قصيرة من هذا القسيس الذي وقف مساءه على تلهية الأطفال وجمع المال طائفة من السيدات، من خيرة السيدات من ذوات المكانة في المدينة، قد اتخذن لباس الخدم وطفن على الناس يقدمن إليهم ألوان الحلوى وصنوف الفاكهة وأكؤس الشاي، ويقدمن مع هذه الأطعمة والأشربة بسمات عذبة وضحكات حلوة ولحظات فتانة، ويتقاضين أجر هذا كله أضعافا مضاعفة. وعلى مسافة من هؤلاء السيدات طائفة أخرى من الفتيات الناشئات يطفن على الناس بأوراق النصيب، والناس يتهافتون على هذا كله يطعمون ويشربون ويشترون الورق ويمزحون ويفتنون في اللهو النزيه افتنان الأطفال في اللهو البريء. ذلك أن المدينة قد أقامت في هذا اليوم حفلا لعمل من أعمال البر، فأدى كل واحد من أهل المدينة ما للبر عليه من حق، دفع هذا ماله ووقف هذا وقفه، وآثر هذا بلهوه هذا العمل الخيري. وليس في هذا الأمر بدع، فحفلات البر مألوفة في أوروبا ومصر، وأسواق البر معروفة هنا وهناك. والخلقيون يختلفون اختلافا شديدا في الحكم على هذه الحفلات والأسواق، قوم يحمدونها لأنها تؤدي إلى الخير، وقوم يمقتونها لأنها لا تخلو من لهو وتكلف، ولأن الخير خليق أن يصدر عن الإنسان كما تصدر الأشياء الفطرية في غير حيلة ولا تصنع. ليس في هذه الحفلات بدع إذن، وما كنت لأحدثك عنها لولا أن رأيت هذا القسيس قد اختار لنفسه هذا النوع من العمل، فقضى ساعات من نهاره لا يقدس الله، ولا يقرأ الإنجيل، ولا يتغنى بهذه الأغاني التي يقصر عليها القسيسون ظهر يوم الأحد عادة في كنائسهم، وإنما يشرف على لهو الأطفال، ودورة الخيل، ويصيح بأعلى صوته من حين إلى حين: الخيل! الخيل! ويتوسم وجوه الناس فيأخذ منهم أجر الخيل متناسبا مع ما توسم في وجوههم من ثراء أو عسر. لولا أني رأيت هذا القسيس وسمعته لما فكرت في أن أتحدث إليك بشيء عن هذا الحفل، بل لقد كنت أود لو لم أكتب بهذا الحديث إلى «السياسة» ولا إلى صحيفة سيارة. كنت أود لو جعلت هذا الحديث موضوع رسالة خاصة أبعث بها إلى صديق من أصدقائي علماء الدين الإسلامي في مصر، أبعث بها إلى الأستاذ الزنكلوني مثلا! ولكني أحببت أن تكون هذه الرسالة ذائعة يقرؤها الأزهريون جميعا، ويفكرون فيها قليلا أو كثيرا.
لست أخفي على الأزهريين وعلى علماء الدين خاصة، أني أعجبت بهذا القسيس، وتمنيت لو أرى علماء الدين عندنا يشرفون على مثل هذه الخيل، ويدعون إليها مثل هؤلاء الأطفال، ويتقاضون على ذلك مثل هذا الأجر، يضاعفونه ما شاءت لهم حاجة الأعمال الخيرية التي يدعو إليها الدين أو التي تمس إليها حاجة الفقراء والبائسين في مصر.
أعتقد أن علماء الدين في حاجة شديدة إلى الوقار والمهابة، وأن حاجتهم إلى الوقار والمهابة تحظر عليهم حركات ومواقف تباح لغيرهم من الناس، ولكني أعتقد أن هذا القسيس الذي كان يدعو الأطفال إلى الخيل لم ينزل من وقاره عن قليل ولا كثير، وإنما أضاف إلى هيبته هيبة، وإلى وقاره وقارا، وأدى عمله الديني كما ينبغي أن يؤديه حين سلك إلى الخير هذه السبيل الخصبة التي تجمع له من المال ما يحتاج إليه دون أن يتكلف استجداء أو يتحمل العناء في دعوة الناس إلى الصدقة والإحسان. فما الذي يمنع رجال الدين في مصر أن يسلكوا مثل هذه السبل؟ ما الذي يمنع رجال الدين؟ يمنعهم أنهم يعيشون في عصرهم هذا دون أن يكونوا من أهله، ودون أن يشعروا شعورا صحيحا بحاجاته وضروراته ووسائل العيش فيه، ثم يمنعهم أن الدولة تدر عليهم أرزاقا قد لا تكون كثيرة ولا غزيرة ولكنها الآن أكثر وأغزر منها منذ عشر سنين، هي بحيث تمكنهم من الحياة الهادئة المطمئنة، وما أحسبهم يطمعون - مع الأسف الشديد - في أكثر من الحياة المطمئنة. ثم يمنعهم شيء آخر هو أجل من هذا كله خطرا، وأنا قائله ومعتذر إلى علماء الدين من هذه الصراحة في القول؛ يمنعهم أن الواجب الذي يشعرون به ويعتقدون أنهم مكلفون أداءه في هذه الحياة ضيق جدا، أضيق من الواجب الحقيقي الذي يفرضه عليهم الدين وحاجة الاجتماع. هم يعتقدون أنهم علماء؛ أي إن الله قد أودعهم علوم الدين؛ فهم يبذلون هذه العلوم للناس في الأزهر وملحقاته، وهم يصلون ويشرفون على إقامة الشعائر الدينية الرسمية. وإذا ألقوا دروسهم، وأدوا صلواتهم، وألقى بعضهم من حين إلى حين خطب الوعظ، فقد أدوا ما يجب عليهم لله والناس. وإذ كان الناس لا يطمعون في علوم الدين اليوم كما كانوا يطمعون فيها في القرن الماضي، وإذ كان الناس لا يختلفون إلى المساجد في هذه الأيام كما كانوا يختلفون إليها في الأيام الماضية، فقد أصبح نفع العلماء للهيئة الاجتماعية - كما يقولون - محدودا، قليلا، وسيشتد قلة مع مضي الزمن؛ لأن اختلاف الناس إلى الأزهر سيقل غدا كما قل اليوم، ومن هنا يزيد العلماء على حاجة الاجتماع، وتصبح طائفتهم بعد زمان طويل أو قصير طائفة لا تشتد الحاجة إليها. إذن فالعلماء بين اثنين، إما أن يقاربوا بين أنفسهم وبين العصر الذي يعيشون فيه، وأن يصبحوا كغيرهم من الناس يشعرون بما يشعر به معاصروهم، وإما أن يستعدوا لهذا اليوم الذي ليس منه بد، والذي يصبحون فيه عالة على الجماعة المصرية لا يرجى منهم خير، ولا يعتمد عليهم في نفع.
نعم! يتصور العلماء واجبهم تصورا ضيقا جدا، فهم مكلفون شيئا آخر غير إلقاء الدروس وإقامة الصلوات، هم مكلفون أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، ولم يقل أحد إن إلقاء الدروس وإقامة الصلاة هما كل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. هم مكلفون أن يشتركوا في جميع أعمال الخير، هم مكلفون أن يحتملوا ألوان العناء في كشف الضر عن البائسين. هم مكلفون ألا تخلو منهم جماعة خيرية. هم مكلفون ألا تخلو محلة في مصر من آثارهم الخيرية. هم مكلفون أن يتصوروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تصورا صحيحا واسعا يجعلهم عضوا نافعا في الجماعة.
لو يعلم رجال الدين عندنا ماذا يصنع رجال الدين في أوروبا من هذه الناحية لدهشوا دهشا عظيما، ولعلموا أنهم بعيدون كل البعد عن أداء واجبهم الديني. كتبت من أوروبا في السنة الماضية فصولا عن رجال الدين الغربيين، وعن هذا الجهد العظيم الذي يبذلونه ليكون حظهم من العلم والفن كحظ غيرهم من رجال العلم والفن، وذكرت هذا الأسقف الذي اشترك في مؤتمر التاريخ في بروكسل، وذكرت هؤلاء القسيسين الذين قدموا إلى هذا المؤتمر مذكرات قيمة تمس فروع التاريخ على اختلافها، وتمنيت لو استطاع عالم من علماء الدين عندنا أن يشترك في المؤتمر الجغرافي الذي سيقام في مصر في العام المقبل. أما في هذا الفصل، فلست أذكر علم رجال الدين الغربيين، ولا اجتهادهم في تحصيل العلم، وإنما أذكر تصورهم لواجبهم الديني، وهو مع الأسف الشديد أصح وأرقى من تصور علمائنا لواجبهم.
اذهب إلى أصغر قرية وأحقرها من قرى أوروبا وتبين عمل القسيس في هذه القرية، تجده عظيما، شديد التشعب، فهو يؤدي قبل كل شيء واجبه الديني المعقد في الكنيسة، يقيم هذه الصلوات الكثيرة المتنوعة، ويتقبل اعترافات المؤمنين إلى غير ذلك من أعمال الكنيسة. وهو يعنى بكنيسته عناية مادية، فيشرف لا على أن تكون نظيفة حسنة النظام، بل على أن تزدان بما استطاع أن يزينها به من آثار الفن، ثم هو بعد هذا أستاذ ديني لأطفال القرية جميعا يختلفون إليه في كل يوم يأخذون عنه مبادئ الدين وأصوله، ثم هو موسيقي بحكم عمله الديني، وهو أستاذ للموسيقى في قريته، ثم هو متغلغل في حياة القرية لا يفلت من يده مولود ولا ميت، يتلقى المولود ليعمده ويزور المحتضر ليصلي عليه ويلهمه كلمة الدين، وهو يجود بنفسه، ويودعه إلى قبره. ثم هو بعد هذا كله مكلف بحكم الدين أن يبحث عن الضعفاء وذوي الحاجة فيواسيهم ويعزيهم، ويلقى ألوان العناء في حمل الناس على الصدقات، يأخذ من أغنيائهم ما يرده على فقرائهم، ثم هو بعد هذا وذاك رجل طلعة يريد أن يتعلم، فهو يختص بدرس نوع من أنواع العلم أو لون من ألوان الفن.
هذه خلاصة حياة القسيس في قرى أوروبا ومدنها، فأين منها حياة رجال الدين في الشرق الإسلامي؟ ومن هنا انتهت أوروبا إلى ما انتهت إليه من الإلحاد والكفر ورفض الدين، ولكنها لم تستطع - ولن تستطيع - أن تخلص من القسيسين؛ ذلك لأن القسيسين يتطورون مع أوروبا، ويحتالون في ألا تفوتهم الجماعات أو تفلت من أيديهم، ويسلكون السبل المختلفة ليصلوا إلى قلوب الناس من طريق الدين إن كانوا مؤمنين، ومن طريق العلم إن كانوا علماء، ومن طريق الفن إن كانوا فنيين، ومن طريق الخير إن كان شيء من هذا لا يعنيهم. ومن هنا كان القسيس في أوروبا جزءا غير منفصل من الجماعات، لا يستغني عن الجماعة، ولا تستغني الجماعة عنه. ومن هنا انفصلت الكنيسة عن الدولة في فرنسا - مثلا - وانقطعت معونة الدولة للكنيسة، فما انهارت الكنيسة، ولا افتقر رجالها، وإنما أدى الناس إلى الكنيسة ورجالها أضعاف ما كانت تؤديه إليهم الدولة. وهذه مدارس الكنيسة في فرنسا تزاحم مدارس الدولة فتزحمها، فأين رجال الدين في الشرق الإسلامي من رجال الدين في الغرب المسيحي؟ وماذا يرى الأستاذ الزنكلوني والأستاذ أبو العيون وأصحابهما في هذا كله؟ وأيهما أجدى وأليق بالكرامة؟ أن يعمل رجال الدين حتى يكرهوا الدولة والأمة على أن يشعروا بالحاجة إليهم، أم لا يعملوا وإنما يلحون في الطلب، ويبالغون في الإلحاح، ويحرصون على أن يتدخلوا في كل شيء دون أن يشعر الناس بنفعهم حين يتدخلون في كل شيء؟ أما إني أتمنى على الأساتذة علماء الدين أن يفكروا في هذا ويطيلوا التفكير فيه، فقد يجدون فيه عظة وعبرة. ثم لا أخفي عليهم أني معجب بهذا القسيس الذي سمعته يدعو الأطفال إلى الخيل، وأتمنى أن أجد بين شيوخنا من يستطيع في يوم من الأيام أن يدعو الأطفال إلى الخيل دون أن يجد من جبته وعمامته ما يصرفه عن ذلك أو يزهده فيه.
البوليجين في 21 أغسطس سنة 1924 (4) باريس
أريد أن أكتب عن باريس، ولكني لا أدري ماذا أقول عن باريس، لا لأن الكلام يعوزني، ولا لأن الخواطر تنقصني، بل لأن لدي خواطر لا أستطيع أن أحصيها، ولا أن أنظمها، ولأن لدي كلاما لا أستطيع أن يؤثر بعضه على بعض، فما أكثر ما أريد أن أقول، وما أشد عجزي عن تسطير ما أريد أن أقول! وماذا تريد أن أفعل ولست من الفن ورقة القلب بحيث كان الكاتب الفرنسي «رينان» الذي زار عاصمة العالم القديم فقدم إلى آلهتها هذه الآية الفنية الخالدة التي هي صلاته إلى آلهة الحكمة في أتينا؟ ماذا تريد أن أفعل وليس لي حظ «رينان » من الفن ، ولا من رقة القلب، وقد حرمني الله كل خيال أو قدرة على التصرف في الخيال، ومع ذلك ففي باريس آلهة يستحقون أن يتقدم إليهم الإنسان بالصلاة كما تقدم «رينان» إلى آلهة الحكمة في مدينة أتينا؟
في باريس علم لا يقاس إليه علم الأتينيين، وفي باريس فلسفة لا تقاس إليها فلسفة الأتينيين، وفي باريس حرية لا تذكر معها حرية الأتينيين، وفي باريس حضارة تهينها إن قرنت إليها حضارة الأتينيين، وفي باريس حياة يعجز الفرد مهما تكن قوته عن فهمها والإحاطة بها، والتعمق في تحليلها، ثم يعجز الفرد مهما تكن قوته عن أن يعطيك منها صورة صحيحة أو مقاربة. ليس بين أتينا وباريس إلا شبه واحد، وهو أن أتينا كانت عاصمة العالم القديم، وأن باريس عاصمة العالم الحديث. فإذا قررنا هذا الشبه فيجب أن نقرر ما بين المدينتين من فرق، وهو عظيم أعظم من أن نتصوره، هو الفرق بين العالم القديم والعالم الحديث.
أنا مفتون بأتينا وفلسفتها وفلاسفتها وحريتها وزعمائها، ولكني على هذه الفتنة لا أستطيع أن أقيس أتينا إلى باريس.
علم الأتينيين وفلسفتهم، ماذا كانا بالقياس إلى ما في باريس من علم وفلسفة؟ كانا محاولة ساذجة غليظة فيها ضعف الأطفال وغرورهم لفهم الحياة وتفسيرها. حرية الأتينيين، ماذا كانت بالقياس إلى الحرية في باريس؟ كانت نوعا من الامتياز لطائفة من الناس وضربا من التسلط والاحتكار انتهى بمصادرة حرية الرأي وبالحكم على سقراط بالموت. أما باريس فيكفي أن تصل إليها، وأن تعيش فيها يوما أو بعض يوم لتشعر بما لها من عظمة وجلال وحق في الخلود. لست في حاجة إلى أن تفهم، ولست في حاجة إلى أن تحلل، ولست في حاجة إلى أن تكون عالما أو أديبا لتكبر باريس أو تقدر مكانتها في الحياة الحديثة، وإنما يكفي أن تكون قادرا على أن ترى، وقادرا على أن تسمع، وقادرا على أن تتنسم الهواء، وأنا زعيم لك بأنك ستقدر باريس وتكبرها وتحبها.
ليس لي حظ «رينان» في الفن لأقدم إلى باريس الخالدة مثل ما قدم هو إلى أتينا الخالدة، وليس لي حظ هذا الصديق المسافر الذي يرسل مذكراته إلى «السياسة» من حين إلى حين والذي أحسبه عاد الآن إلى مصر، أقول ليس لي حظ من حلاوة الفكاهة ودقة الملاحظة وخفة الروح وسلامة الذوق لأحدثك عن باريس بشيء يشبه ما حدثك به عنها، وإنما أنا بعيد كل البعد عن هذه الخصال التي امتاز بها هذا الصديق، فجعلت فصوله ومقالاته حلوة عذبة، أو جعلتها الحلاوة والعذوبة نفسهما. ولكن لي وجها خاصا في حب باريس والإعجاب بها والحياة فيها. وأحسب أن لكل إنسان يحب باريس وجها خاصا في حبه لهذه المدينة، فأنت لا تستطيع أن تحبها من كل وجه؛ لأنها أوسع من حياتك وأعظم من قدرتك على الحب، وأرفع وأجل من أن يحيط بها فرد أو أفراد. أما حين كنت مقيما في الجبل أخرج من حين إلى حين للرياضة فأزور القرى وأتبين ما فيها من جمال طبيعي أو إنساني، فقد كنت لا أصل إلى قرية أو محلة إلا حاولت أن أشرب من مائها، وكان يخيل إلي أني متى ذقت هذا الماء الذي ينحدر إلى هذه القرية أو المحلة، ويعيش منه أهلها فقد اتصلت نفسي بهذه القرية أو المحلة، وشاركت أهلها في شيء من الأشياء. كذلك كنت وأحسبني سأكون أبدا لا أبلغ مكانا إلا حاولت أن تكون بيني وبينه صلة قوية أو ضعيفة. أما إذا بلغت باريس فلست أطمع في أن أشرب من مائها لأوجد الصلة بيني وبين أهلها، وإنما أطمع في أشياء أخرى بها توجد هذه الصلة. ولا أعتقد أني في باريس حقا إلا إذا أرضيت نفسي من هذه الأشياء، يجب أن أشتري كتابا في العلم أو في الأدب، وأن أقرأ منه فصلا أو فصولا، ويجب أن أذهب إلى ملعب من ملاعب التمثيل الهازل أو الجاد، وأن أصفق مع المصفقين، وأضحك مع الضاحكين، أو أبكي مع الباكين. ثم يجب أن أذهب إلى مكان من هذه الأمكنة التي يختلف فيها الباريسيون إلى آيات الموسيقى فأستمع لهذا اللحن البديع، وأنسى أمامه نفسي ساعة أو ساعتين. فإذا اشتريت كتابا وقرأت، وإذا ذهبت إلى ملعب التمثيل وتأثرت، وإذا سمعت الموسيقى وذهلت لها، فأنا في باريس حقا، أشعر بما يشعر به الباريسيون، وقد وجدت بيني وبينهم هذه الصلة التي أحب أن توجد بيني وبين كل مدينة أو قرية أزورها.
ولغيري وجوه أخرى في حب باريس. هناك من يحب باريس لما يجد فيها من هذه الحركة العنيفة، حركة الحياة العملية، وهناك من يحب باريس لأن فيها «مونمارتر»، وهناك من يحب باريس لأن فيها للفرد حرية لا تعدلها حرية، وضروبا من اللذات منها المباح ومنها المنكر، منها ما يستطيع الإنسان أن يعلنه إلى الناس جميعا، ومنها ما يحب الإنسان أن يخفيه حتى على نفسه. وهناك وجوه أخرى لا يكاد يبلغها الإحصاء، ولكنها كلها تنتهي إلى نتيجة واحدة وهي أن شعوب الأرض جميعا قد تحب فرنسا وقد تكرهها، وقد تكون سلما لها أو حربا عليها، ولكنها كلها مجمعة على حب باريس وإيثار الإقامة فيها حينا من الدهر أو شطرا من العمر.
ولقد قرأت منذ أسابيع فصلا نقلته جريدة «الطان» عن إحدى الصحف الأمريكية الكبرى، حاول فيه كاتبه أن يتقصى الأسباب التي تحمل الناس جميعا على أن يحبوا فرنسا ويؤثروا الإقامة فيها وفي باريس خاصة، فأعجبني هذا الفصل؛ لأنه لا يخلو من صواب ولا من طرافة، ولكنه بعيد كل البعد عن أن يحيط بأطراف المسألة حقا. يظهر أن الأميركيين يحبون فرنسا عامة وباريس خاصة؛ لأن فيها سهولة العيش ولين الحياة، وضروبا من اللذة لا يجدونها في بلادهم، أهمها لذة الطعام والشراب. فيظهر أن الله لم يرزق بلدا من البلاد من المهارة في إجادة الطعام ما رزق فرنسا، ويظهر أنه لم يرزق بلدا من البلاد من جودة الأشربة ما رزق فرنسا، فكثير من الأجانب الذين يهرعون إلى فرنسا في جميع أجزاء السنة إنما يهرعون إليها لأنهم يأكلون فيها فيجدون الأكل، ويشربون فيها فيجدون الشراب. وكثير منهم يهرعون إلى فرنسا وإلى باريس خاصة لأنهم يجدون في الشعب الفرنسي والباريسي لينا في الخلق، وصفاء في الطبع، ورفقا في المعاملة، وحلاوة في الصلات لا يجدونها في بلد آخر. وكثير منهم يهرعون إلى فرنسا وإلى باريس لأنهم يجدون في فرنسا وفي باريس شيئا من الفرح والابتهاج والابتسام للحياة مهما تكن صروفها، ومهما تكن خطوبها، لا يجدونه في غير فرنسا وفي غير باريس. وهناك أسباب أخرى ذكرها هذا الكاتب وأسباب لم يذكرها. وماذا يعنينا أن نوفق إلى إحصاء الأسباب التي تحجب فرنسا إلى الناس وتحملهم على أن يهرعوا إلى باريس كلما وجدوا إلى ذلك سبيلا؟ ماذا يعنينا من هذا كله ونحن لا نكتب تاريخا ولا فلسفة، وإنما نلاحظ حقيقة لا تحتمل شكا ولا إنكارا: وهي أن الناس جميعا مهما تختلف أهواؤهم بالقياس إلى فرنسا فهم يحبونها ويحبون منها باريس بنوع خاص.
لست كهذا العالم المصري الذي كان يحب باريس، وكان إذا وصل إليها تمرغ على أرضها كما كان يتمرغ قيس بن ذريح على آثار لبنى! لست كهذا العالم. فما حدثتني نفسي في يوم من الأيام أن أهوي إلى أرض باريس لثما وتقبيلا، بل إن في باريس لأماكن كثيرة يعرفها المصريون الذين اختلفوا إلى هذه المدينة ولا أعرفها ولم تحدثني نفسي بأن أعرفها. وإن في باريس لأماكن كثيرة أكرهها وأمقت الاختلاف إليها، ولكني أعشق في باريس مكانا أعتقد أنه أقدس مكان في العالم الحديث، وأنه الرأس المفكر لهذا العالم، لا أستثني منه بلدا ولا مكانا، وهو الحي اللاتيني. أنا أعشق هذا الحي وأهيم به هياما، وأعلن في ضعف وتواضع أني لا أكاد أحس نفسي فيه ولا أكاد أشعر بأني أمشي في شوارعه حتى أشعر أن قد تجدد شبابي واستأنفت كل ما فقدت من نشاط، فأنا أتنفس في حرية، وأفكر في حرية، وأتحرك في حرية، وأنا أحب الحياة وأحرص عليها، وأتمنى منها المزيد. وأقول إن هذا الحي اللاتيني هو أقدس مكان في العالم الحديث وهو الرأس المفكر لهذا العالم، ولست أقول هذا عبثا، ولا يدفعني إليه الحب والإعجاب، وإنما هو الحق الذي لا يقبل شكا ولا جدالا. وإني لأشعر بشيء من المهابة والإجلال لا أستطيع وصفه كلما ذهبت إلى هذه الرقعة من الأرض التي يقوم فيها «البنطيون»، وترتفع فيها كنيسة «سانت جنفييف». أشعر بهذه المهابة وهذا الإجلال لأن هذه الرقعة الصغيرة من الأرض كانت مصدر النور الذي انبعث في أوروبا المظلمة أثناء القرون الوسطى قبل أن تظهر النهضة في إيطاليا؛ لأن هذه الرقعة كانت مهد الفلسفة ومأواها حين لم تكن فرنسا كلها ولا أوروبا كلها إلا ميدانا تصطرع فيه المطامع والمنافع أقبح صراع وأشنعه. كانت هذه الرقعة من باريس مصدر الحياة العقلية لأوروبا كلها في القرون الوسطى. ولقد تغير الزمان ودارت الأيام دوراتها المختلفة وعبثت الخطوب والأهوال بالعالم الحديث، وظل هذا المكان من باريس مصدر الحياة العقلية للعالم كله، أليست تقوم فيه جامعة «السربون»؟ أليست تقوم فيه «الكوليج دي فرانس»؟ ولقد أحب أن أجد مهدا علميا في أوروبا أو أمريكا أقرنه إلى «السربون»، وإلى «الكوليج دي فرانس»، وأحصي له من الآثار في إحياء العقل الإنساني وترقيته ما يقرب من آثار «السربون» و«الكوليج دي فرانس»، فيعييني البحث ويخطئني ما أريد.
إن فرنسا تستطيع أن تتعرض للأزمات المختلفة، وأن تتجشم من الأهوال ضروبا وصروفا، وأن تنزل بها المحنة بعد المحنة والبلاء بعد البلاء، وإن فرنسا لتستطيع أن تبلغ من المجد ما تريد وما لا تريد، وأن تحرز من ألوان الظفر ما تحب وما لا تحب، وإن فرنسا لتستطيع أن تنزل من قلوب الناس منزلة البغض أو منزلة الحب. تستطيع فرنسا أن تفعل هذا كله وأن تتعرض لهذا كله، ولكنها واثقة بالخلود، واثقة بإكبار الناس إياها، وتقديسهم لها ما بقي فيها الحي اللاتيني، وما قامت في هذا الحي «السربون» و«الكوليج دي فرانس».
باريس في 9 سبتمبر سنة 1924 (5) في ملاهي باريس
نعم! فقد لهوت، وكانت رغبتي في اللهو من البواعث القوية التي حببت إلي الذهاب إلى باريس. ولم أخفي ذلك وأكتمه وأنا أعلم والناس جميعا يعلمون أن المسافر إلى باريس أو غيرها من مدن أوروبا إنما يتخذ اللهو غرضا من الأغراض الأساسية في برنامج رحلته؟ وهل كان السفر نفسه إلا ضربا من اللهو، وفنا من فنون العبث، يعمد إليه المتعبون ليستريحوا، ويرغب فيه المستريحون ليتعبوا؟
وكنت متعبا، وكنت أريد أن أستريح. وكنت أرى الراحة في أن ألهو عن هذه الأشياء التي قضيت فيها العام كله فأجهدتني، وبغضت إلي الحياة.
وكنت وما زلت أعتقد أن من الحق للناس علي، وأن من الحق لي على نفسي، أن أعود إلى هذه الأشياء التي سئمتها نفسي وسئمتني، وأن أستأنف هذا العمل الذي أجهدني طوال العام الماضي حتى بغض إلي الحياة. وكنت أعلم أني لن أستطيع العودة إلى هذه الأشياء واستئناف هذا العمل إلا إذا استرحت ولهوت، وأخذت من الراحة واللهو بحظ عظيم. وقد فعلت، وقد عدت إلى مصر، وقد استأنفت هذا العمل الشاق، فإذا هو هين لين لا عسر فيه ولا مشقة، ولكني أعلم أنه سيعسر، وأنه سيشق، وأني سأسأمه وأنه سيسأمني، وأني سأنصرف عنه وأنه سيزهد في، وأني سأحتاج إلى الراحة واللهو وأني سأستريح وألهو ثم أستأنف الجد والعمل.
وكذلك حياتنا نتعب لنستريح ونستريح لنتعب حتى يأتي هذا اليوم الذي لا تعب بعده ولا راحة.
إذن فقد لهوت في باريس، لا أكتم ذلك ولا أخفيه، ولم أكتمه أو أخفيه وليس فيه والحمد لله مأثم ولا مدعاة إلى لوم، وإنما هو ضحك بريء، وعبث تطمئن إليه النفس الهادئة التي لا تعبث بها الأهواء، ولا تعصف بها الشهوات؟
لهوت في باريس واختلفت فيها إلى أندية اللهو التي هي زينة تلك المدينة وبهجتها، ولها في رفع شأن باريس وتقديمها على غيرها من مدن الأرض أثر قد لا يكون أقل من أثر «السربون» و«الكوليج دي فرانس» والمجامع العلمية المختلفة. ولم لا؟ أليست جامعة باريس ومعاهدها العلمية ملجأ للعقل الإنساني تأوي إليه ثمراته ونتائج بحثه في العلوم والفنون المختلفة؟ وهل أندية اللهو الباريسي البريء إلا ملاجئ للعقل الإنساني والشعور الإنساني؟ فيها تظهر ثمراتها الحلوة والمرة، وفيها يتعلم الإنسان من الإنسان، ويظهر الإنسان على الإنسان، وفيها يتعلم الإنسان كيف يكون حيوانا اجتماعيا كما يقول أرسطاطاليس، أو مدنيا بالطبع كما يقول فلاسفة العرب.
لست أدري أيشعر المصريون المتعبون الذين يذهبون إلى باريس بمثل ما كنت أشعر به هذا الصيف، فقد كنت شديد الميل إلى أندية الهزل والضحك، شديد الانصراف عن أندية الجد والعبوس. لم أكن أميل في هذا الصيف إلى بيت موليير ولا إلى ما يمثل فيه من جد، بل لم أكن أميل بوجه ما إلى التراجيديا، إنما كان ميلي كله إلى الكوميديا من جهة وإلى الموسيقى من جهة أخرى.
ولقد حاولت أن أتبين في نفسي أسباب هذا الميل إلى ما يضحك ويلهي والانصراف عما يحزن ويعظم، فلم أوفق إلا إلى سبب واحد لا أدري أخطأ هو أم صواب! ذلك أننا «مفطومون» في مصر - كما يقول الفرنسيون - من اللهو الصريح البريء، ومن الضحك الذي يريح النفس حقا ويجلو عن القلب أصداء الحياة العاملة. وهذه الحياة العاملة نفسها كئيبة في مصر منذ سنين، وقد أثقلتها الهموم وأفعمتها الأحزان، فنحن مشفقون على منافعنا العامة نخشى أن يعبث بها الخصوم في الخارج أو أن يضيعها المواطنون في الداخل. ونحن مشفقون على منافعنا الخاصة نخشى أن تعبث بها الخصومات الحزبية وتأتي عليها العواصف السياسية. نحن قلقون لا نطمئن إلى شيء ولا نثق بشيء ولا نبسم لشيء. فليس عجيبا إذا خلصنا من هذا الجو القلق المضطرب أن نتهالك على هذه الأشياء التي حرمناها في مصر وحال بيننا وبينها طبعنا من جهة واضطرابنا السياسي والاجتماعي من جهة أخرى.
نعم! فطبعنا لا يخلو من ظلمة، ومزاجنا أقرب إلى المراراة والحزن منه إلى الدعابة والابتسام.
نحن لا نلهو لأننا لا نعرف اللهو، ولأن في طباعنا نفورا من اللهو. ولست أدري أمخطئ أنا أم مصيب في هذه الملاحظة، وهي أننا كنا بعد الثورة الوطنية الأخيرة قد أخذنا نتعلم اللهو بل نسرف فيه، فكانت الأغاني الفكاهية ذائعة عامة، وكان التمثيل الفكاهي رائجا منشرا، وكنت لا تكاد تمضي في الشوارع العامة إلا سمعت الأطفال والشبان من العمال ومن آليهم يتغنون أغاني «كشكش»، وكنت لا تكاد تمر بين الدور في الأحياء الراقية إذا أقبل المساء أو جن الليل، إلا سمعت البيانو يوقع ألحان كشكش، وربما وقفت لاستماع صوت رخيم عذب يتغنى مع هذا الإيقاع. وكان أصحاب الأخلاق وأهل الحرص على الآداب العامة ينكرون هذا الفساد ويشفقون منه، وكنا نقول إن هذا الانحلال الخلقي عرض من أعراض الثورة. وكنا نستبشر به لأن الثورة الفرنسية قد استتبعت مثله، فكان الفرنسيون يجاهدون أعداءهم الداخليين والخارجيين، وكانوا يحتملون آلام الجوع والفاقة، ولكنهم كانوا يلهون ويسرفون في اللهو، وربما كانوا يستعينون باللهو على ما كانوا يأتون من جلائل الأعمال ويحتملون من أثقال الحياة.
كنا كذلك، وأظن أن السلطة العامة احتاجت في بعض الأحيان إلى أن تدخل في الأمر وتكفكف من غلواء المسرفين، فأقفلت - أو حاولت تقفل - بعض المراقص. أما الآن فأحسب أن هذا قد تغير وأننا قد انصرفنا عن اللهو انصرافا واضحا.
انصرفنا عن اللهو دون أن يعظم حظنا من الجد، فليست حياتنا العامة والخاصة أكثر إنتاجا وأشد خصبا الآن منها حين كنا نلهو ونعبث. ولعلي لا أغلو في الخطأ إذا لاحظت أن حياتنا الدستورية هي التي صرفتنا عما كنا فيه من لهو، وأزالت عن شفاهنا هذا الابتسام للحياة؛ ذلك لأننا اعتقدنا يوم نفذ الدستور وأشرف البرلمان على الحكم أن الأمر قد رد إلى أهله، وأننا مقبلون على ساعات الجد والعمل فانتظرنا وما زلنا ننتظر.
ولم لا نقول كلمة الحق؟ كانت الوزارات التي أشرفت على الحكم قبل الدستور قليلة الحظ من ثقة الجماهير، فلم يكن الناس يحفلون بها، ولا ينتظرون منها خيرا، بل كانوا يسيئون بها الظن ويتخذونها موضعا للعبث والنقد، وكانت أعمالها وقراراتها تلهم الممثلين الهازلين والمغنيين العابثين. وكان الناس يرتاحون إلى الضحك منها واتخاذها سخرية وهزءا. أما الآن فقد أشرف على الحكم رجال كانت تحبهم الجماهير وتفتن بهم، فلم يكن من الميسور أن تتخذهم الجماهير موضوعا للهو والعبث. وإذا لم تعبث الجماهير بحكامها ولم تسخر من وزرائها ونوابها فهي مضطرة إلى الحزن والكآبة.
سلني عما يميز الديمقراطية حقا، أجبك بأن النظام الديمقراطي الصحيح هو الذي يتيح للجماهير أن تلهو على حساب حكوماتها بل على حساب أبطالها. فإذا أردت دليلا ناطقا بصدق هذا التعريف فاذهب إلى باريس واختلف إلى أندية اللهو فيها واسمع إلى ما يقال عن «هريو» و«دومرج» وعن «بوانكاريه» و«ملران»، وانظر إلى هذه الجماهير الفرنسية المختلفة تتهالك ضحكا من وزرائها ورؤساء جمهوريتها، أستغفر الله، بل من علمائها وكتابها. ومهما أنس فلن أنسى أغنيتين سمعتهما في باريس ورأيت ابتهاج الجماهير لهما. في إحداهما مقارنة بين أمعاء المسيو هريو رئيس الوزارة الفرنسية القائمة وأمعاء المسيو بوانكاريه رئيس الوزارة الفرنسية المستقيلة، وفي الأخرى عبث بالمسيو هريو حين يعمد إلى التليفون.
ولكني قد بعدت أشد البعد عما كنت أريد أن أتحدث إليك فيه، وهو ملاهي باريس، وقد يحسن أن أعود إلى هذا الحديث.
لم أكن حسن الحظ هذا الصيف، وما أظن أن غيري كان أحسن حظا مني، فقد وصلنا إلى باريس أيام الراحة حين يتفرق عنها الممثلون النابهون ليجوبوا أقطار الأرض الفرنسية والأجنبية وليعرضوا فنهم على المصطافين في سواحل البحر ومدن المياه، وحين يستريح الكتاب استعدادا لفصل الشتاء؛ إذ يعرضون آثارهم الجديدة على الجمهور الباريسي، وقد عاد من مصايفه إلى باريس، وحين تجتهد الملاعب التمثيلية في أن تستغل ما لديها من قصص الفصل الماضي لتلهي بها السائحين الذين يمرون بباريس. ومع ذلك فقد لهوت حقا وضحكت كثيرا.
ولقد يكون من العسير أن أذكر دون أن أضحك قصة شهدتها في ملعب «الباليه رويال» عنوانها «قبلني»، كان الممثلون يمثلونها للمرات الأخيرة ويستعدون لتمثيل قصة أخرى ظهرت أول هذا الشهر، ومع ذلك فقد كان الملعب مكتظا بالنظارة. والغريب من أمر باريس أنك تستطيع أن تزورها في أي فصل من فصول السنة، وأن تختلف إلى ملاعبها وأنديتها وبيوتها التجارية، فستجدها دائما مكتظة بالناس، وستضطر دائما إلى أن تتخذ الحيطة لتبلغ منها ما تريد.
تريد أن تشهد قصة تمثيلية فيجب أن تؤجر كرسيك في الملعب قبل يوم التمثيل . تريد أن تشتري شيئا في أحد البيوت التجارية الكبرى فيجب أن تذهب في الصباح أو أن تكون صبورا محتملا إن ذهبت في المساء.
ذهبت إلى الملعب بعد ظهر يوم من أيام الآحاد الباريسية، ولم أكن قد احتطت وكان المطر عنيفا ثقيلا، فلم أجد إلا كراسي فاحشة الغلاء، فاتخذت منها كرسيين، وأعترف بأني لم آسف على ما أنفقت؛ لأني ضحكت بأكثر من ستين فرنكا!
أسرة شريفة كانت غنية ثم أصابها الفقر، تقيم في قصرها المرهون محتملة ألوانا من الضيق، ثم تصبح ذات يوم وإذا القصر قد بيع من أجنبي، وإذا هي مضطرة إلى أن تترك هذا القصر الذي تتوارثه منذ خمسة قرون. ولكن لهذه الأسرة شابا مسرفا في اللعب والعبث قد أدى واجبه الوطني أثناء الحرب، وعرف في الخندق صديقا من الطبقات المنحطة أمه تبيع الفاكهة، وقد انقضت الحرب واغتنى ابن بائعة الفاكهة حتى أصبح ضخم الثروة، فكتب إليه صديقه الشريف يقترض منه مالا لأنه خسر في اللعب، وأقبل هذا الصديق يحمل إلى صديقه ما أراد. فانظر إلى هذه الأسرة النبيلة تأبى أن تقبله في القصر، وأن تضيفه أياما، حتى إذا قبلت ذلك بعد مشقة أخذت تتبرم بالفتى وتزدريه؛ لأنه لا يعرف طرائق الحياة الأرستقراطية. وكانت عمة الشاب النبيل أشد الأسرة بغضا له وتبرما به، لا تكاد تلحظه ولا تكاد تحسب لوجوده حسابا. ولكن الفتى علم ببؤس هذه الأسرة واضطرارها إلى أن تترك القصر، فأسرع فاشتراه سرا، ثم أخذت الأسرة تظهر شيئا فشيئا على هذا السر حتى علمت به، وإذا هي ألعوبة في يد هذا الشاب الذي تزدريه ولا تضيفه إلا كارهة. ولكن هذا الشاب كريم خير؛ فهو يعرض القصر على الأسرة ولا يبتغي له إلا ثمنا ضئيلا، هو أن «يقبل» هذه المرأة التي تزدريه وتغلو في بغضه، فإذا عرض عليهم هذه الصفقة اضطربوا لها اضطرابا شديدا، فأما الأسرة كلها فتقبل، وأما هذه المرأة فتأبى وتنفر، ثم تذكر أنها قد تطرد من القصر، وأن الأسرة قد تصبح مشردة، فتضطر إلى القبول مقتنعة بأنها تقدم نفسها ضحية في سبيل الاحتفاظ بالكرامة والتراث القديم. وقد استعدت لهذه التضحية كما استعدت «إيفيجيني» لتضحي على مذبح أرتميس. ثم خلت إلى الفتى فوقفت موقف الجلال، وقالت له في ازدراء وسخرية وإذعان للقضاء المحتوم: «قبلني.» ولكن الفتى كريم، فهو لا يريد أن يقبل هذه المرأة، وإنما يكفيه أنها قد أذعنت لما يريد، وهو مستعد لأن ينزل للأسرة عن هذا القصر. ولكن المرأة قد دهشت لهذا الانصراف عن تقبيلها، وكأنها تعجب بكرم هذا الفتى، وكأنها في الوقت نفسه تسخط على هذا الكرم، وكأنها كانت تحرص على هذه القبلة دون أن تعلم بهذا الحرص، وكأنها ترى عدول الفتى عن تقبيلها إهانة لها وإصغارا لجمالها. تشعر بهذا كله شعورا واضحا غامضا في وقت واحد.
وكنت ترى الفتى يكره هذه المرأة ويريد أن يذلها. ولكنك تراه الآن لا يكرهها بل يكبرها، ولا يريد أن يذلها بل يريد أن يجلها، وإذا هو يعلن إليها حبه في هذه اللغة الشعبية الغليظة الصريحة، وإذا هي تضطرب لهذا الحب اضطرابا عنيفا، وإذا الحب قد أزال ما كان بينهما من مسافة مادية ومعنوية، وإذا هو يتجاوز القبلة، فإذا كان الصبح فهي آسفة نادمة تنقطع لوعة وندما لأنها اقترفت هذا الإثم مع رجل ليس من طبقتها، وهي تعلم أن نساء من أسرتها قد اقترفن هذه الخطيئة، ولكن إحداهن اقترفتها مع رجل من رجال القصر الملكي والأخرى مع كردينال، أما هي فقد اقترفتها مع رجل أمه كانت تبيع الفاكهة. وهي تريد أن تأخذ نفسها بأشد أنواع العقوبة، تريد أن تزهد في الحياة وأن تذهب إلى الدير، والفتى بين يديها يعتذر ويستغفر، ويعلن إليها في ضراعة ومذلة أنه سيبرح القصر حتى لا ترى وجهه البغيض، فإذا سمعت هذه الجملة غضبت غضبا لا حد له وعنفت الفتى تعنيفا ثقيلا قائلة: أهكذا تريد أن تسليني عن هذه النكبة المنكرة؟! ثم فهمنا أنها تريد نوعا آخر من أنواع التسلية، وفنا آخر من فنون النسيان والعزاء ...!
ولست أتم لك تلخيص القصة ، وإنما يكفي أن تعلم أنها تنتهي بالزواج بين هذين المحبين؛ لأن شريفا إنجليزيا تبنى الفتى ومنحه ألقاب شرفه، فأصبح كفئا لعشيقته.
ولم تبنى الشريف الإنجليزي هذا الفتي؟ لا تسل عن ذلك؛ فقد يكون في الجواب على هذا السؤال ما يفضح أم هذا الفتى وقد ماتت؛ ولا ينبغي أن يذكر الموتى إلا بخير.
على أني قد زرت ملاعب أخرى وشهدت فيها قصصا أخرى، وسأتحدث عنها في فصل آخر. (6) زوج ألين
كنت أريد أن أضحك حين ذهبت إلى ملعب ميشيل لأشهد تمثيل هذه القصة «زوج ألين»، وكنت واثقا بأنني سأضحك وسأضحك كثيرا؛ لأن العنوان في نفسه مضحك، ولأن القصة كانت تمثل لأول مرة، فلم يكن النقاد قد كتبوا عنها بعد، ولأن أسماء الممثلين الذين اشتركوا في تمثيلها كانت تدل على طائفة من الذين مهروا في الفن المضحك. فأسرعت إلى الملعب مبتهجا، وكأني كنت أضحك مقدما، وكذلك شأن الناس في باريس يذوقون مقدما ما يبتغون من لذة؛ لأنهم يعلمون أن هذه اللذة ستكون قوية حادة، وأنهم سيظفرون منها بأكثر مما يبتغون.
ذهبنا إلى الملعب ضاحكين، ولم يكد يرفع الستار حتى أغرقنا في الضحك، ولكن ما هي إلا دقائق حتى استحال هذا الضحك إلى حزن وعبوس، وحتى أحسسنا في أنفسنا شعورا غريبا ليس من اليسير تفسيره؛ لأنه شيء ليس بالسرور الخالص ولا بالحزن الخالص، أو قل إنه شيء أبلغ أثرا في النفس من الحزن الخالص، ولكنه يكرهك مع ذلك على الابتسام، وربما أكرهك على الضحك والإغراق فيه. تبسم وأنت عابس، وتضحك وأنت محزون.
ذلك لأن الممثل يعرض عليك من خصال الإنسان ما يضحكك مظهره أردت أم لم ترد، وما يحزنك مخبره رضيت أم لم ترض.
لا يكاد يرفع الستار حتى ترى امرأة متقدمة في السن، أقرب إلى الشيخوخة منها إلى التوسط في العمر، لباسها ملائم لسنها وملائم لمصدرها ولطبقتها الاجتماعية، فلا تكاد تسمع حديثها حتى تحس أنها ليست من باريس، وإنما وفدت من الأقاليم، وحتى تفهم أنها من هذه الطبقة الغامضة التي لا تبلغ أوساط الناس ، ولا تريد أن تنحط إلى سفلتهم. قد مات عنها زوجها وترك لها ابنة هي «ألين»، وهي بارعة الجمال، رشيقة القد، عذبة الصوت، وقد ضاقت الحياة بها وبابنتها، فلجأتا إلى باريس، وآواهما رجل موسيقي بارع في فنه، ولكنه سيئ الحظ بهذا الفن، لا يكسب حياته إلا بمشقة، أحب الفتاة فآواها وآوى أمها، وأصبح أستاذها وعشيقها والقيم على حياتها. وقد مهرت الفتاة في الغناء كما مهرت في الرقص، وتقدمت إلى أحد الملاعب الباريسية، فقبلت فيه مغنية راقصة، وهي تبدأ عملها هذه الليلة وأمها تنتظرها متأثرة، مضطربة فرحة، مشفقة تقدر الفوز وتريد أن تحتفل به، فهي تعد مائدة عليها من الطعام والشراب هذه الألوان التي لا يرضاها الموسرون، ولا يظفر بها المعسرون إلا بعد الجهد والعناء، وهي تتحدث بكل ما في نفسها إلى خادم لها حديثة السن، خفيفة الحركة، مسرفة في القول، فلا تكاد تسمع حوارهما حتى يأخذك الضحك فتغرق فيه حين ترى هذه المرأة التي تكاد تكون شيخة تتحدث في لهجة الجد إلى هذه الفتاة التي تكاد تكون طفلة! وهما في هذا الحديث الذي تريانه جدا ونضحك نحن منه، إذ يدخل الموسيقي فرحا، قد ملأه الفرح اضطرابا، فهو يبكي ولكن بكاءه نفسه مضحك، وهو يعلن إلى الأم فوز ابنتها ويحاول أن يمثل لها هذا الفوز، فيجتهد في تقليد الفتاة حين غنت بعض المقطوعات التي أعجب بها الجمهور، والأم سعيدة مغتبطة، ولكنها مع ذلك ليست راضية؛ لأنها تكره الملاهي، وكانت تود لو استطاعت أن تجد عنها منصرفا لابنتها. أما الموسيقي فسعيد بهذا الفوز ولكنه مشفق منه؛ مشفق لأنه يخشى أن تنصرف الفتاة عنه إلى هؤلاء النظارة الأغنياء الذي سيرونها في الملهى وسيتملقونها.
تحس منه ذلك، وتحس أيضا أنه يحاول كتمان هذا الخوف، وقد أقبلت الفتاة فرحة، مبتهجة، متأثرة، فهي تقبل أمها وتضم عاشقها وتشكره، ولكن لن يتاح لهؤلاء الناس أن يحتفلوا بهذا الفوز فيما بينهم، فقد أقبل مدير الملهى وأعوانه ورجل غني من زعماء الصناعة، يهنئون الفتاة بهذا الفوز، ويدعونها إلى أن تنفق معهم شطرا من الليل في حانة من هذه الحانات التي يفد إليها الباريسيون إذا خرجوا من الملاعب، فيأكلون ويشربون ويعبثون، ونحن نحس أنهم عرضوا ذلك على الفتاة فقبلته قبل أن تعود إلى أهلها. ولكنها تظهر التردد الآن؛ لأنها لا تريد أن تترك صاحبها. ما أسرع ما يدعو القوم صاحبها إلى الذهاب معهم، فيعتذر ويلحون، وتظهر هي الرغبة فيقبل كارها، وينصرفون على أن يرسلوا إليهما السيارة بعد حين. فإذا خلا العاشقان رأينا هذه الأشياء التي تطير القلوب سرورا وتقطبها حزنا. رأينا هذا الموسيقي يريد أن يلبس زي السمر، فإذا ثيابه وأدواته من الرداءة والبلى بحيث يخجله ذلك ويؤذيه، ولكنه مبتسم يجتهد في أن يكون حسن الزينة، وإذا هو يفتقد أزراره، فإذا وجد منها واحدا أخطأه الآخر، وصاحبته تتزين، وقد أعارها الملعب ثوب الرقص فهي فيه خلابة بارعة. ولكن كثيرا من أدوات الزينة ينقصها، وهي تشكو ذلك مغتاظة، فإذا أحست من صاحبها الألم ابتسمت وتكلفت تهوين الأمر عليه، وصاحبها يعدها بمضاعفة العمل ليكسب لها ما تحتاج إليه. وقد أقبلت السيارة فانظر إلى الأم مبتهجة، مفتونة بجمال ابنتها، وانظر إليها تتبع ابنتها وقد أخذت بفضل ثوبها حتى لا يصيبه غبار السلم، وانظر إلى الخادم الطفلة تسبقهم جميعا وفي يدها الشمعة تضيء السلم، وانظر إلى العاشق محزونا يتكلف الابتهاج، وبائسا يتكلف النعيم.
فإذا كان الفصل الثاني فقد تغير هذا كله، وسترى قوما تنكرهم لأن النعمة ألمت بهم فأزالت كل ما رأيت في الفصل الماضي من مظاهر البؤس؛ ذلك لأن «ألين» قد اشتهر أمرها وظهر نبوغها، فابتسمت لها الثروة وأصبحت لا تشكو عسرا ولا ضيقا، وظهرت آثار ذلك حولها، فأما أمها فليست شيخة ولا كالشيخة، وإنما هي امرأة وسط فيها قوة وشباب، تلبس على آخر طراز، وتزدان على آخر طراز، وقد تغيرت لهجتها فهي باريسية، وتغير صوتها فهو رخيم، وتغيرت حركاتها فهي رشيقة ممتازة. وأما الموسيقي فقد أصبح شابا قويا بادي الظرف، حسن الزينة، رائع المنظر، وقد اقترن بصاحبته. وكذلك الخادم تغيرت وامتازت . والغريب أنها ليست وحدها في البيت، بل يشاركها غلام عليه العناية بغرف الاستقبال وما إليها. ولسنا في باريس ولا في ذلك البيت الذي يضاء بالشمع ويخشى غباره على فضل الثياب، وإنما نحن في بيت أنيق فخم في مصطاف على ساحل البحر، يجمع أرقى الطبقات وأغناها إذا أقبل الصيف من كل عام. ونحن نرى مدير الملعب وصاحبته وأعوانه وذلك الرجل الغني يترددون على «ألين» فيلعبون ويصفقون، ونحن نرى زوج «ألين» سعيدا مغتبطا ينبئ صديقه بأن الله قد أذن له أن يكون غنيا، وأنه يضع قصة موسيقية ستنال الجائزة من غيرك شك، وأنه سيكون ناقدا موسيقيا لصحيفة كبرى، وأن كل شيء في الحياة يبسم له. ولكن انظر إلى القوم قد أقبلوا، وانظر إلى الموسيقي قد خرج مع صديقه في بعض شأنه، وانظر إلى «ألين» قد خلت إلى الرجل الغني بينما يجلس الآخرون أمام غرفة الاستقبال يرقبون عودة الزوج وكأنهم يلعبون. واسمع إلى هذا الحديث يقع بين «ألين» وبين صاحبها الغني، فإذا هما عاشقان وإذا هي تخون زوجها، وإذا هذه الخيانة مصدر ما ترى من نعيم، ولكن هذا الرجل ضيق الصدر بهذا الزوج الغبي.
ضيق الصدر لأنه يريد أن يستأثر بصاحبته، وهذا الزوج الغبي يحول بينه وبين ذلك. وفي الحق أغبي هذا الزوج حقا أم هو متغاب؟ أليس يتكلف الغفلة ليستمتع بنعيم الحياة؟
ذلك شيء يفترضه الغني وتأباه «ألين»، وهما في الحديث والعبث إذ يسمعان صياح أصحابهما الذين يلعبون: «لقد أقبل فلان! لقد أقبل فلان!»
تنبها، فانفصلا، ودخل الموسيقي وانصرف القوم، وأخذ الزوجان يتحدثان، فإذا الرجل محزون بائس، وإذا امرأته اللعوب تسأله عن مصدر هذا الحزن، فيتردد ثم يجيبها بأنه سمع الناس يذكرونه فيقولون «زوج ألين» ولا يسمونه باسمه، وبأنه رآهم يشيرون إليه ويبتسمون، فهو إذن يشك، وهي تدافعه عن هذا الشك بما أوتيت من حيلة ودل ودعابة. وانظر إليه قد أخذ حقيبة امرأته ونظر فيها فإذا مقدار ضخم من المال فلا يزداد إلا شكا. وانظر إليه يذكر أن امرأته لعبت الميسر أمس وخسرت كثيرا ولم تنبئه بشيء، وإنما سمع بذلك عفوا، فهو لا يزداد إلا شكا. وانظر إليه قد استكشف عند امرأته عقدا من الجوهر لا علم له به، فلا يزداد إلا شكا. ولكنها ماهرة وهو عاشق، فتستطيع أن تخدعه عن أمرها وأن تستميله إليها، وأن تخلبه بما تبذل من لذة، وهو أغبى من غلامه الذي يفهم كل شيء، ويتحدث إلى زميلته الخادم بكل شيء.
فإذا كان الفصل الثالث تحدث الموسيقي إلى صديقه وقد استيقن كل شيء، وأصبح لا يشك في خيانة امرأته.
ذلك أن القوم اعتزموا الخروج للنزهة وتخلف عنهم متكلفا العمل، ثم تبعهم وهم لا يعلمون فلم ير فيهم زوجه، ولم ير فيهم ذلك الرجل الغني، وإذن فقد كذبت عليه امرأته حين زعمت أنها خارجة للنزهة وأنفقت يومها مع صاحبها. ونحن نعلم ذلك لأننا سمعناه في الفصل الثاني. وانظر إلى هذا الموسيقي متألما محزونا ولكنه متجلد صبور، يعلن إلى صديقه أنه سيترك هذه الحياة كلها وسيعود إلى حياته الأولى: حياة البؤس والشرف والكرامة، ولكنه يريد أن يلهو قبل هذه العودة، وإنه للهو أليم.
أقبل القوم جميعا من نزهتهم وفيهم «ألين» وفيهم الرجل الغني، وكلهم يقص ما رآه ويصف جمال النزهة، والموسيقي مبتهج يتحدث إليهم جميعا حديث من لا يشك في شيء، وأنت ترى من القوم جميعا أنهم يسخرون منه، ويرون فيه الغفلة، وقد هموا بالانصراف ليلتقوا بعد حين إلى مائدة العشاء في الحانة. وإذا الموسيقي يمسك الرجل الغني ليبقى معه حينا. فإذا انصرف القوم وخلا الزوجان إلى هذا الرجل الغني بدأت طائفة من المواقف المؤثرة التي تملؤك عطفا على الزوج، وسخطا على امرأته، وإعجابا بالكاتب والممثلين. انظر إلى هذا الزوج الموتور يريد أن ينتقم لنفسه ولكرامته، ولكنه لا يريد أن يكون سخيفا، ولا ضحكة، ولا مجرما، فهو لا يريد العنف ولا سفك الدم، وإنما يريد أن يكون مترفقا في انتقامه. انظر إليه يعذب الخائنين عذابا أليما لأن موضعه الضمير، يستثير غيرة الرجل الغني بما يبدي من التلطف لامرأته، وبما يتكلف من مداعبتها وقد ضمها إليه، ثم أجلسها على حجره، وأخذ يداعبها هذه المداعبة المشروعة بين الزوجين، والتي لا تكون إلا في الخلوة، والرجل ينظر ويتألم دون أن يستطيع اعتراضا أو احتجاجا، والمرأة خجلة ذليلة بين هذين الرجلين اللذين يتقاسمانها، وهي تتكلف الحياء لتخلص من هذا الموقف الأليم، ولكن الزوج لا يحفل بحيائها ولا بألمها. وهو الآن ينتقل من المداعبة إلى الحديث، فيقص على صاحبه أسرار الزوجية، وما تمنحه امرأته من لذة إذا خلت إليه. حتى إذا قضى وطره من تعذيب الخائنين وإذلالهما أطلق امرأته فذهبت لتصلح من شأنها قبل العشاء، وخلا هو إلى الخائن.
وهنا موقف ليس أقل من الموقف الذي سبقه جمالا وتأثيرا. هذا الزوج يتحدث إلى عاشق امرأته، فما هي إلا أن يعلن إليه أنه يعلم كل شيء، فإذا وجم الرجل وسأله عما يريد وانتظر الكارثة، أعلن الزوج إليه أنه لا يريد شيئا وأنه راض بهذه الحال، وإذا الرجل الخائن شديد الازدراء لهذا الزوج الذي لا يجري الدم في عروقه، والذي يرضى أن تكون امرأته شركا بينه وبين غيره. يريد أن ينصرف فيمسكه الزوج؛ إذ ليس بد من الاتفاق على أشياء وتدبير مصالح لا بد من تدبيرها، هما شريكان في المرأة وقد يمكن أن يكونا غدا شريكين في طفل تلده هذه المرأة. وما زال هذا الزوج يرقى في تمثيل الضعة والمهانة والخيانة والإثم حتى يكشف عن أخس ما في النفس الإنسانية من عاطفة. إنه يلهو، وهو يلهو بازدراء الإنسان، فإذا بلغ من ذلك ما يريد أطلق الرجل وقد اتفق معه على أن يأتي بعد حين ليحمل هذه المرأة في سيارته إلى حيث يريد. ثم تقبل المرأة فيلقاها زوجها مبتسما، وتأخذ في عتابه على ما أباح من أسرار الزوجية، فما يزال بها حتى يعلن إليها أنه عالم بكل شيء، وراض عن كل شيء، وقابل لهذه الشركة التي تضمن لهما الثروة والنعيم.
وإذا المرأة تزدري زوجها حقا وتحتقره احتقارا لا حد له، وإذا هي تتألم حقا لأنها كانت تريد أن يحبها زوجها ، وأن يكون شديد الغيرة عليها، فإذا هي ترى نفسها متاعا يتقسمه رجلان. ولكن الزوج قد أطال الصبر والتكلف وغلا في كظم عواطفه، فهو لا يستطيع الآن صبرا، وانظر إليه وقد انفجر كما ينفجر البركان، فهو ثائر فائر لا يكاد يملك نفسه، ولا يكاد يمسكها عن اغتيال هذه المرأة، وقد ظهر حبه قويا عنيفا، وظهرت غيرته، وكلها روع وهول وهو يصيح بامرأته: «أترين في ما يدلك على أنني قواد؟» والمرأة وجلة مضطربة ولكنها سعيدة مغتبطة لأنها تشهد الحب والغيرة، ولأن زوجها لا ينظر إليها نظره إلى المتاع، وهي تريد أن تستغفر وتريد أن تتوب، ولكن الزوج يحاول طردها، ثم يبدو له فيطرد نفسه، وقد أنبأها أن صاحبها سيأتي بعد حين ليحملها في سيارته، وقد انصرف وتركها تعسة، بائسة تنتحب وتصيح. ولكن السيارة قد أقبلت، وهي تدعو بالباب، فانظر إلى هذه المرأة قد نهضت متثاقلة إلى المرآة، فأصلحت من شعرها ووجهها، وخرجت في هدوء تجيب داعي اللهو والثروة والنعيم.
القسم الرابع: بين العلم والدين
1
الناس معنيون في هذه الأيام عندنا بالخصومة بين العلم والدين. وقد بدأت عنايتهم بهذه الخصومة تشتد منذ السنة الماضية، حين ظهر كتاب «الإسلام وأصول والحكم»، فنهض له رجال الدين ينكرونه ويكفرون صاحبه، ويستعدون عليه السلطان السياسي. وزادت هذه العناية شدة حين ظهر في هذه السنة كتاب «في الشعر الجاهلي»، فنهض له رجال الدين أيضا ينكرونه، ويكفرون صاحبه، ويستعدون عليه السلطان السياسي.
والحق أن هذه الخصومة بين العلم والدين - كما قلت في غير هذا الموضع - قديمة يرجع عهدها إلى أول الحياة العقلية الفلسفية. والحق أيضا أن هذه الخصومة بين العلم والدين ستظل قوية متصلة ما قام العلم وما قام الدين؛ لأن الخلاف بينهما - كما سترى - أساسي جوهري، لا سبيل إلى إزالته ولا إلى تخفيفه إلا إذا استطاع كل واحد منهما أن ينسى صاحبه نسيانا تاما، ويعرض عنه إعراضا مطلقا. وقد نعرض بعد قليل لهذا الموضوع في شيء من التفصيل والإسهاب. ولكن الذي نحب أن نلاحظه منذ الآن هو أن التفكير في هذه الخصومة بين العلم والدين قد حمل بعض المفكرين على أن يلتمسوا لها أسبابا قريبة أو بعيدة، وعلى أن يسألوا أنفسهم أليس إلى إزالتها من سبيل؟ وقد نشأ عن هذا التفكير نوع من الفلسفة قيم، كثرت فيه الكتب والمباحث. ولسنا نريد أن نعرض له إلا من ناحية واحدة وهي الناحية التي تتصل بالسياسة وتحملها على أن تنتصر للعلم مرة وللدين مرة أخرى، وعلى أن تعتز حينا بهذا وحينا بذاك. وإذا عرضنا لهذا الموضوع فلسنا نريد إلا شيئا واحدا هو تحقيق التوازن بين هذه المؤثرات الثلاثة في حياة الأفراد والجماعات، وهي العلم والسياسة والدين.
الحق أن الخصومة لم تكد تنشأ بين العلم والدين، أو بين العقل والدين، حتى دخلت فيها السياسة فأفسدتها وانصرفت بها عن وجهها المعقول إلى وجه آخر، لم يخل من الإثم بل من الإجرام.
أول خصومة ظاهرة بين العقل والدين هي هذه التي نشأت في آخر القرن الخامس قبل المسيح، حين أخذ سقراط يطوف في شوارع أتينا ومعه حواره وفلسفته، يقف بهما حينا عند هذا الحذاء، وحينا آخر عند الحمام، ومرة في أحد الميادين العامة، ومرة أخرى في نادي الألعاب الرياضية، ويدعو إليه الشبان والكهول والشيوخ أحيانا فيحاورهم في الحق والعدل والواجب والقصد، وما إلى ذلك من هذه المسائل التي كانت تشغل الشعب الأتيني في ذلك الوقت.
لم يكن سقراط يتخذ عداوة الدين مذهبا، ولا الخروج عليه غاية لفلسفته أو حواره، بل نستطيع أن نقول إنه كان من أشد معاصريه محافظة واعتدالا، فهو إنما كان يخاصم السوفسطائية، ويريد أن يهدم مذاهبهم في الشك، وأن يرد إلى العقل سلطانه، ويبين أن حقائق الأشياء ثابتة، ولكنه كان يحاور على طريقة السوفسطائية، وكان يتخذ الشك سبيلا إلى اليقين، ولم يكن يكره أن يضع كل شيء موضع البحث، وأن يعرض كل شيء للشك حينا وللإنكار حينا آخر، فلم يسلم الدين ولا غيره مما كانت تحتفظ به الجماعة الأتينية من خطر هذا الشك والإنكار. ولم يسلم الدين من خطر هذا الشك ، ولم يسلم منه النظام السياسي الأتيني أيضا، فقد كان سقراط يحاور في كل شيء، ويعرض - كما قلنا - كل شيء للشك والإنكار. وكان الشعب الأتيني في آخر القرن الخامس قبل المسيح حريصا مسرفا في الحرص على نظامه الديمقراطي الذي ائتمر به الأرستقراطيون غير مرة، فعرضوه للخطر وأزالوه حينا ما. فلم يكن من الغريب أن يكره الشعب الأتيني كل فلسفة تمس هذا النظام الديمقراطي، أو تعرضه للشك، أو لتصرف عنه الشباب قليلا أو كثيرا. ولم تكن الديمقراطية الأتينية قد وصلت إلى ما وصلت إليه بعض الديمقراطيات الحديثة من الفصل بين الدولة والدين، وإنما كانت تقيم السياسة على الدين وترى الدين أصلا من أصول وجودها، أساسا من أسس حياتها، وفصلا من فصول نظامها السياسي. فكانت فلسفة سقراط أمام الديمقراطية الأتينية آثمة من وجهين: آثمة لأنها تعرض النظام نفسه للخطر، وآثمة لأنها تعرض الدين للخطر. ومن هنا لم يكد خصوم سقراط يقفونه موقف القضاء من الشعب حتى تظهر تدخل السياسة في الخصومة بين العقل والدين، وكان موقف سقراط من قضاته أثناء الدفاع وبعد الحكم محنقا، يثير السخط ويدعو إلى القسوة. فقسا القضاة وأثمت السياسة حين قضت بالموت على أبي الفلسفة.
ومن ذلك الوقت أصبحت الخصومة بين العقل والدين، أو قل بين العلم والدين، أمرا لا مندوحة عنه: يخاف الدين كل فلسفة وكل علم، ويرتاب العلم بكل دين. ومن ذلك الوقت تحدد موقف السياسة بين هذين الخصمين، وظهر أنه لن يكون موقف إصلاح بينهما، وإنما هو موقف إفساد وإحراج وإثارة للحفيظة والحقد.
لم يقف سخط السياسة الأتينية على الفلسفة عند القضاء على سقراط وإنفاذها هذا القضاء فيه، وإنما تجاوزه إلى اضطهاد تلاميذه والشك فيهم، فتفرقوا في الأرض، واستخفت الفلسفة من أتينا حينا. فلما عادت إليها وسعتها، ولكن مع شيء كثير جدا من التحفظ والارتياب، فما اطمأنت الديمقراطية الأتينية يوما إلى أفلاطون، ولا رضيت على أرسطاليس، والناس جميعا يعلمون أن المعلم الأول كاد يقف من القضاء موقف سقراط لولا أن هرب من أتينا.
2
ليست الخصومة بين العلم والدين إذن مقصورة على ما نعرف من الخصومة بين الديانات السماوية والعلم والفلسفة أثناء القرون الوسطى وفي هذا العصر الحديث، وإنما هي - كما رأيت - قديمة، قد ظهرت بين الديانة الوثنية اليونانية وبين فلسفة سقراط وتلاميذه. ومع ذلك فقد كانت الديانة الوثنية اليونانية من أيسر الديانات وأقربها إلى السذاجة وأقلها حظا من التعصب. وحسبك أن هذه الديانة اليونانية كانت تخلو خلوا تاما من مؤثرين عنيفين: أحدهما الكلام، والآخر الإكليروس. لم يكن للديانات اليونانية كلام أو لاهوت، بل لم تكن للديانات اليونانية عقائد محددة، وإنما كانت هذه الديانات عبادات وطقوسا - كما يقولون - لا أكثر ولا أقل. لم تكن للآلهة صفات معروفة معينة يكفر من ينكرها أو يشك فيها، ولم يكن لليونان علم يشبه هذا العلم الذي يتقنه اليهود والنصارى والمسلمون وهو علم اللاهوت. وكذلك لم يكن لليونان قسيسون يحتكرون هذا العلم ويقومون على حماية الدين وصيانته من عبث العابثين، أو إلحاد الملحدين، وإنما كان كل يوناني قادرا على أن يؤدي للآلهة ما يجب لهم من عبادة. وكان زعيم الأسرة قسيسها، وكان زعماء المدينة كهنتها. وإذا لم يكن للدين لاهوت يفرضه على الناس فرضا، وإذا لم يكن للدين هيئة قسيسين أو كهنة يحتكرون حمايته والقيام عليه، فخليق بهذا الدين أن يكون قليل الحظ من التعصب والجمود، وخليق بهذا الدين أن يكون قليل الحظ من مصادرة العقل ومخاصمة حرية الرأي والوقوف في سبيل التطور والرقي.
ومع هذا كله فقد اختصم هذا الدين الساذج اليسير مع الفلسفة وانتهت الخصومة بموت سقراط؛ ذلك لأن الخلاف بين العلم والدين لا يستمد قوته وعنفه من الفرق بين جوهري العلم والدين فحسب، وإنما يستمد قوته وعنفه من مصدر آخر، هو أن الدين حظ الكثرة، والعلم حظ القلة، فسواد الناس مؤمن ديان، مهما يختلف العصر والطور والمكان، والعلماء أو المفلسفون قلة دائما. فليس غريبا أن تظهر الخصومة قوية عنيفة بين هذه القلة الشاذة التي نسميها العلماء أو الفلاسفة، والتي تفكر على نحو خاص لم يألفه الناس، وليس من اليسير عليهم أن يألفوه، والتي لا تكتفي بالتفكير لنفسها، وإنما تريد أن تفكر لنفسها وللناس أيضا، والتي إذا فكرت وانتهى تفكيرها إلى رأي لم تكتف بإذاعته وترويجه، وإنما تذود عنه وتجادل، وتسرف في الذود والجدال. والتي لا تكتفي بهذا كله، وإنما تحرص على التأثر بتفكيرها وما ينتهي إليه من رأي، وتحرص على أن تلائم بين حياتها العملية وحياتها العقلية، فتمتاز من الناس من ناحيتين مختلفتين: تمتاز منهم في حياتهم اليومية، وتمتاز منهم في القول والتفكير. وأنت تعلم أن السواد أشد ما يكون كرها للتفوق، وأعظم ما يكون بغضا للامتياز؛ فهو يريد دائما أن يكون الناس سواسية في كل شيء، سواسية في القول والعمل، سواسية في الأكل والشرب والنوم والمشي، وغيرها من مظاهر الحياة. وأنت مهما تبحث عن أسباب التطور التي اضطربت لها المدن القديمة ودالت لها الدول الحديثة، فستجد في مقدمة هذه الأسباب سببا محققا هو بغض السواد للتفوق والامتياز، وطموحه إلى المساواة بين الناس. فإذا كان هذا التفوق يمس أصلا من أصول الحياة العامة، بل يمس أيسر هذه الأصول وأقربها تناولا وأشدها اتصالا بالضمائر والنفوس وتأثيرا في الحياة اليومية، نقول إذا كان التفوق يمس هذا الأصل الذي هو الدين، فخليق بالسواد أن يبغضه ويثور به، وينكل بالمتفوقين تنكيلا متى استطاع إلى ذلك سبيلا.
وكذلك كان ميل السواد في أتينا، وكذلك كان موقفه من سقراط وتلاميذه.
3
على أن تقرير هذا الأصل، وهو بغض السواد للجديد، لا ينتهي بنا إلى هذه النتيجة وحدها، وإنما يعيننا على فهم حقائق أخرى وقعت في العصور القديمة والوسطى، ولم يحاول الباحثون أن يردوها إلى أصولها الصحيحة، فالسواد لا يكره تفوق العلماء وحدهم، وإنما يكره التفوق من حيث هو. قل إن شئت إنه يكره كل جديد، وهو مضطر بحكم هذا الكره إلى أن يقاوم هذا الجديد ما استطاع، فإما أن ينتصر فلا جديد، وإما أن ينخذل فيتسلط الجديد شيئا فشيئا حتى يصبح قديما، ويستعير من خصمه الأول كل الأسلحة التي حاربه بها، ليدافع بها عن نفسه، ويناهض بها كل جديد. ومن هنا نستطيع أن نفهم أن السواد القديم اليوناني والروماني لم يحارب الفلسفة وحدها، وإنما حارب الدين أيضا. فأما اليونان فقد وقفوا موقف الخصومة من ديانات شرقية حاولت أن تنبث في بلادهم، ووفقوا بعض التوفيق في هذا الموقف، فلم تستطع الديانات الشرقية أن تنتشر في البلاد اليونانية جهرة، وإنما ارتدت عنها ارتدادا أو انتشرت فيها خلسة فكونت لنفسها جماعات سرية تؤدي واجباتها من وراء ستار.
وأما الرومان فكرهوا في أول الأمر فلسفة اليونان أشد الكره؛ لقوها بالازدراء، ثم قاوموها مقاومة سياسية، فحظروا درسها، وبلغ بهم ذلك أن زعيما من زعمائهم هو «كاتو القديم» توسل إلى مجلس الشيوخ في أن يتعجل في قضاء حاجة لبعض السفراء اليونانيين ليترك هؤلاء السفراء المدينة ويستريح منهم سواد الشعب. وكان بين هؤلاء السفراء فلاسفة انتهزوا سفارتهم فرصة لإلقاء محاضرات فلسفية في روما. ولكن الرومان لم يكرهوا الفلسفة اليونانية وحدها، وإنما كرهوا معها كل جديد أيضا، وليس أدل على ذلك من اللفظ الذي اصطلح الرومان عليه للتعبير عن الثورة وقلب النظام فهو «الشيء الجديد». فهم لا يقولون إن فلانا يريد أن يثور، أو إن فلانا ثار، وإنما يقولون: إن فلانا يريد أن يحدث شيئا جديدا. ذلك أن الرومان كانوا من أشد الشعوب القديمة في الغرب محافظة وحرصا على القديم. ومع أن دينهم لم يكن أشد من الدين اليوناني تعقيدا، ومع أنه لم يكن كالديانات السماوية يعتمد على كلام أو لاهوت، فقد كان يمتاز من الدين اليوناني امتيازا قويا من وجهين؛ الأول: أنه كان أشد من الدين اليوناني تسلطا على حياة الفرد والجماعة، فقد كان الفرد الروماني من أشد الناس طيرة واشفاقا، يخاف من كل شيء، ويرى تأثير الآلهة في كل شيء، ويحرص على أن يتملقهم ويترضاهم. وكان وجود الأسرة نفسها قائما على أصول من الدين. وكانت الجماعة الرومانية كالفرد الروماني حذرة متطيرة، وكان وجودها السياسي كوجود الأسرة قائما على أصول ثابتة من الدين. ونحن لا نعرف عند اليونان زجرا ولا عيافة ولا قيافة ، ولكننا نرى هذا كله عند الرومان، ونراه مؤثرا أشد التأثير في الحياة الخاصة والعامة جميعا. الثاني: أن هذا الفرق بين الفرد اليوناني والروماني من حيث التأثر بالدين قد استتبع نتيجته الطبيعية، وهي أن تكون عناية السياسة بالدين ملائمة لشدة ما لهذا الدين من التأثير في نفوس الأفراد والجماعات، فنظمت حماية السياسة بالدين في روما تنظيما قويا، وقام في روما شيء يشبه «الإكليروس» له سلطته الدينية وله امتيازاته أيضا.
وإذ كان رئيس الدولة سواء أكان ملكا أو قنصلا، إنما يستمد سلطته من الشعب بعد استشارة الآلهة، أو قل من الآلهة بعد استشارة الشعب، فقد كان الواجب الأول على الملك أو القنصلين حماية الدين. وكذلك قامت بحماية الدين في روما جماعة «الإكليروس» وهيئة الحكومة ومجلس الشيوخ الذي كان واجبه الأول حماية ما ترك الآباء. فلا تعجب إذا رأيت الرومانيين يقاومون الجديد مهما يكن، ويشتدون في مقاومته إذا مس الدين. ولا تعجب إذا رأيت الرومان في عصورهم الأولى يبغضون أشد البغض ويناهضون أشد المناهضة هذه الديانات الأجنبية التي حاولت أن تنبث في روما بعد أن انبسط سلطان روما على الأرض.
4
كل هذا يرجع إلى أصل واحد، وهو أن الدين أقوى ما يمثل نفس السواد، فالسواد به كلف، وله محب، وعليه حريص، وعنه ذائد، يبذل في ذلك ما يستطيع من قوة وجهد. وقد قلت منذ حين إن حرص السواد على دينه لا يكلفه محاربة العلم والفلسفة وحدهما، وإنما يكلفه محاربة كل جديد من شأنه أن يمس الدين. ومن غريب الأمر أنك إذا فكرت قليلا فيما تسميه خصومة بين العلم والدين، رأيت أن بعض الديانات أو أن الديانات السماوية نفسها قد كان ينظر إليها كما ينظر إلى العلم؛ أي إن الديانات القديمة كانت تكره دين اليهود والنصارى وتحاربهما كما كانت تكره فلسفة سقراط وتحاربها، لا لشيء إلا أن ديني اليهود والنصارى كانا جديدين مخالفين لطبيعة هذه الديانات الوثنية القديمة. ولسنا في حاجة إلى أن نقف بك عند هذه الحرب المنكرة التي أثارتها وثنية الرومان على دين اليهود أولا وعلى دين النصارى ثانيا، فأنت تعرف من تفصيل هذه الحرب وعن اضطهاد الوثنية للهودية والنصرانية ما يغنينا عن مثل هذا الاستطراد، ولكننا نلاحظ أن الأسباب التي حملت الوثنية الرومانية على أن تنكر توحيد اليهود والنصارى وتنصب له الحرب وتمزق أهله تمزيقا، هي بعينها الأسباب التي حملت وثنية اليونان في آخر القرن الخامس قبل المسيح على أن تقضي على سقراط وتذيقه الموت. هي بعينها الأسباب التي تتصل بعواطف السواد وميوله الدينية من ناحية، وبالسياسة واستخدامها لهذه العواطف والميول من ناحية أخرى. ولعلك تقتنع بهذا اقتناعا لا يقبل الشك إذا فكرت في طبيعة الإمبراطورية الرومانية التي حاربت اليهودية والنصرانية قرونا متصلة.
كانت هذه الإمبراطورية الرومانية تقوم على الدين كما كانت الديمقراطية الأتينية والأرستقراطية الرومانية تقومان على الدين أيضا. وكان الإمبراطور قد جمع إليه السلطان الديني والسياسي، وأخذ الناس بعبادته في أقطار الأرض على أنه ممثل روما التي كانت تعبد إبان العصر الجمهوري، وعلى أنه خليفة الله في أرضه. وكانت الشعوب الوثنية الخاضعة للسلطان الروماني لا ترى بأسا بعبادة قيصر، كما أنها لم تكن ترى بأسا بعبادة روما. وكانت عبادة قيصر يسيرة على الشعوب الشرقية، وعلى المصريين منهم بنوع خاص، وقد ألفت هذه الشعوب منذ أول الزمان عبادة السادة الملوك. وكانت هذه العبادة عسيرة أول الأمر على اليونانيين الذين لم يألفوا من قبل عبادة الأفراد، والذين ضحكوا من الإسكندر حين تقدم إليهم أن يعبدوه. ولكن اليونان خالطوا الأمم الشرقية واتصلوا بها، وكان لهم فيها ملوك عبدوا كما عبد الفراعنة وعظماء الفرس، فهان عليهم الأمر ومضوا فيه جادين حينا ولاعبين حينا آخر كدأبهم في كل شيء. إنما هذا الشعب السامي الذي بعد عهده بالوثنية منذ حين طويل، والذي ألف التوحيد وأمعن فيه، وهو شعب إسرائيل، لم يستطيع أن يفهم عبادة روما ولا عبادة قيصر، كما أنه لم يستطع أن يفهم عبادة فرعون ولا أن يدين لآلهة بابل وآشور. ومن هنا كانت ديانة هذا الشعب السامي منكرة ثقيلة على الرومان لأنها تخالف ديانتهم الوثنية وتخالف سياستهم القائمة على هذه الديانة. وجاءت النصرانية فكانت أشد مخالفة لطبيعة الوثنية ولطبيعة السياسة القائمة عليها من اليهودية، فلم يتردد قياصرة الرومان في محاربة هذه النصرانية إلا ريثما فهموا خطرها على السياسة والدين. ولدينا أقدم نص تاريخي يتصل باضطهاد النصارى، وهو استفتاء من أحد حكام الأقاليم للإمبراطور «تراجانوس»، آخر القرن الأول للمسيح، في أمر هذه المتنصرة وما ينبغي أن يتخذ نحوها من سياسة، وقد اعتاد المؤرخون أن يثنوا على هذا الإمبراطور؛ لأن رده على مستفتيه كان رفيقا لينا، ومع ذلك فإن الإمبراطور لم يطلب إلى مستفتيه أن يقر حرية الدين، ولا أن يدع المتنصرة، وإنما طلب إليه ألا يحفل بما يرفع إليه الجواسيس، فأما معاقبة النصراني الذي تثبت نصرانيته فلم يكن منهما بد؛ لأن النصرانية كانت خروجا على السياسة وعلى دين الدولة معا.
وعلى هذا النحو من تعاون السواد وحكومة السواد، أو قل على هذا النحو من استغلال السياسة لعواطف السواد سفكت دماء النصارى في الشرق والغرب.
وامض بعد ذلك في تاريخ النصرانية، فسترى أنها صبرت وصابرت وجاهدت حتى كان لها النصر، وأصبحت في القرن الرابع ديانة الدولة الرومانية، فلم تظفر بهذه المكانة السياسية حتى استغلتها فأسرفت في استغلالها، وسفكت دماء الأتينيين، وهدمت معابدهم وصادرت أموالهم كما سفك الوثنيون دماء النصارى وهدموا بيعهم وصادروا أموالهم. ومنذ ذلك الوقت كانت محالفة بين الوثنية والفلسفة، لا لشيء إلا لأن هذه الفلسفة قديمة كالوثنية، مخالفة لطبيعة المسيحية كما أن الوثنية مخالفة لهذه الطبيعة. فأنت ترى أن الفلسفة كانت عدو الوثنية ولقيت منها ألوان الاضطهاد. وأنت ترى أن الفلسفة هي التي أعانت على إعداد الشعوب القديمة للمسيحية وترقية العقل القديم والمباعدة بينه وبين الوثنية، ولكنك ترى أن المسيحية لم تكد تظفر بالسلطان حتى أنكرت العدو والصديق، ونصبت الحرب للوثنية والفلسفة معا. وأنت تعلم أن الأمر انتهى بالفلسفة إلى أن التمست لها دارا لا يتسلط فيها المسيح، فهاجرت إلى الفرس واستظلت بلواء الساسانين. وعندنا أن المسيحية لو لم تظفر بسلطانها السياسي لما خاصمت الفلسفة ولما تورطت فيما تورطت فيه من الجحود وإنكار الجميل. فهي مدينة بكثير للأفلاطونية القديمة، وهي مدينة بكثير للأفلاطونية الجديدة. ويخيل إلينا أن طبيعة المسيحية الخالصة، وطبيعة الأفلاطونية الخالصة، لم يكن بينهما من الخلاف ما ينتهي بهما إلى الخصومة والحرب، لولا أن السياسة قد دخلت بينهما فأفسدت الأمر عليهما جميعا.
5
بل في الأمر ما هو أشد غرابة من هذا كله، فقد وقعت نفس هذه الخصومة بين الديانات السماوية السامية نفسها وعلى النحو الذي وقعت به بين هذه الديانات وبين الديانات الوثنية القديمة. نريد أن الديانات اليهودية اعتبرت المسيح مجددا مبتدعا فأنكرته، ونصبت له الحرب على نفس النحو الذي أنكر الأتينيون به سقراط ونصبوا له الحرب. ونريد أن نقول إن المسيحية بعد انتصارها قد اعتبرت النبي مجددا فأنكرته ونصبت له ولدينه الحرب. وكل ما بين الإسلام والمسيحية من الفرق من هذه الناحية، هو أن المسيحية لبثت حينا طويلا لا تعتز بالسلطان السياسي، فطال اضطهادها ولقيت ما لقيت من بلاء، وأن الإسلام لم يلبث بعيدا عن السلطان السياسي إلا أعواما ريثما تمت الهجرة، فما كاد يظفر بهذا السلطان حتى دافع عن نفسه فناهض الوثنية واليهودية والنصرانية، وكان النصر له آخر الأمر.
فالخصومة في حقيقة الأمر ليست بين العلم والدين، ولا بين الوثنية واليهودية والنصرانية والإسلام، ولا هي بين دين ودين، وإنما هي أعم من ذلك وأيسر، هي بين القديم والجديد، هي بين السكون والحركة، هي بين الجمود والتطور. وإلا فكيف تستطيع أن تفهم أن يلقى سقراط والمسيح ومحمد - عليهما السلام - اضطهادا من نوع واحد؟ وكيف تستطيع أن تفهم أن يتشابه موقف الوثنية والمسيحية واليهودية على اختلاف الأمكنة والأزمنة وأجيال الناس وطبائع جنسياتهم؟ كيف تستطيع أن تفهم تشابه هذه المواقف جميعا، إذا لم تردها إلى أصل واحد، وهو الخصومة بين القديم والجديد، أو استغلال السياسة للخصومة بين القديم والجديد؟ وما الذي كان بعد أن تم النصر للإسلام في ناحية من أنحاء الأرض، وانقسم العالم القديم بينه وبين النصرانية، فاستأثر الإسلام بالشرق واستأثرت المسيحية بالغرب.
نحب أن تفكر في الأمر تفكيرا علميا مجردا من الهوى مبرأ من الغرض، لا يتأثر بالعصبية الجنسية ولا الدينية، فسترى أن الأمر قد سار في الشرق والغرب على أسلوب واحد، فلم يكد الإسلام ينتصر ويستقر في الأرض، ويظفر بالسلطان السياسي ويفرغ من الحرب والفتوح، حتى كره ملوكه الجديد، وأكثروا الحرص على القديم، واستغلوا ميل العامة إلى القديم وحرصهم عليه، واتخذوا هذا الاستغلال وسيلة إلى الحكم والتسلط، فأنكروا كل جديد وحاربوه. وعلى هذه النحو سارت المسيحية في أوروبا. وكان لأصحاب الدينين صرعى في الشرق والغرب، وكان العلم موضع الاضطهاد في هذين القطرين من الأرض. ولكن هنا وقفة يجب أن نقفها لنكون منصفين، فالحق أن ليس في طبيعة الإسلام ولا في طبيعة المسيحية ما يدعو إلى الاضطهاد ولا إلى محاربة الجديد ولا إلى مناهضة حرية الرأي. ولك أن تقرأ القرآن والأناجيل وتمعن في القراءة، ولك أن تبحث وتمعن في البحث، فلن تجد نصا أو شبه نص ينكر التجديد ويدعو إلى مناهضته، أو يأخذ العقول بالجمود أو يحظر عليها حرية الرأي قليلا أو كثيرا، ليس في الإسلام ولا في المسيحية إذن ما يدعو إلى مناهضة حرية الرأي، لم يكن في الوثنية اليونانية أو الرومانية ما يدعو إلى مناهضة حرية الرأي أيضا. ومع ذلك فقد أثم الوثنيون وأثم اليهود والنصارى والمسلمون، واعتدوا جميعا على حرية الرأي اعتداء يختلف قوة وضعفا.
أليس مصدر هذا في حقيقة الأمر إنما هو استغلال السياسة لعواطف السواد؟ بلى، ولولا أن السياسة تريد أن تتخذ ما تستطيع من الطرق والوسائل لتتسلط على نفوس الناس وتتملق عواطف السواد، لما قتل الأتينيون سقراط، ولما حاول اليهود صلب المسيح، وما سفك الرومان دماء اليهود والنصارى، ولما أخرجت قريش محمدا وأصحابه من ديارهم، ولما عذب ابن رشد و«جليلي»، ولما حرق من حرق وشرد من شرد من العلماء والمفكرين.
وشيء آخر لا بد من إثباته لنكون منصفين، وهو أن تبعات المسيحيين أثقل من تبعات المسلمين في مناهضة العلم ومحاربة حرية الرأي، فأنت تستطيع أن تعد العلماء والمفكرين الذين أوذوا في البلاد الإسلامية، وأنت تستطيع أن تلاحظ أنهم قليلون جدا، وأن تلاحظ أيضا أنهم لم يلقوا من الأذى إلا قليلا. ولكن تستطيع أن تعد العلماء والمفكرين الذين أوذوا في ظل المسيحية، فستراهم كثيرين جدا، وسترى أنهم لقوا من الأذى ألوانا منكرة أخفها السجن، وأقساها الموت والعذاب بين هذين اللونين. ومصدر هذا أن الإسلام حر طلق ليس له ما للمسيحية من «الإكليروس» والكنيسة المنظمة، وأن الإسلام حر طلق أيضا لا يأخذ العقل الإنساني بما لا يطيق، ولا يكرهه على الإيمان بما لا يفهم، ولا يضع أمامه الأسرار التي يجب أن يقبلها دون رؤية أو تفكير. ومصدر ذلك أيضا أن الإسلام حر طلق لم يجعل للحكومة على الناس سبيلا فيما يفكرون ويرون، وإنما اتخذ هذه القاعدة السمحة أساسا لسياسته بإزاء حرية الرأي:
لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي
وهو إذن لم يمنح السلطة السياسية على الناس حق الموت والحياة، وإنما بين حدود الله تبيينا وعرف الأفراد حقوقهم وواجباتهم، ورسم للحكومة في هذا الوجه طريقا لا تعدوه حتى تأثم. فليس للحكومة المسلمة أن تعذب مسلما أو تؤذيه وهو يعلن إيمانه بالله ورسوله، وإنما موقف الحكومة المسلمة موقف الإسلام نفسه لا تتحرك إلا حين يتعرض الإسلام للخطر. هو موقف دفاع لا موقف هجوم؛ ومصدر ذلك أيضا أن الإسلام من أشد الديانات نصرا للتجديد ونعيا على الذين يسرفون في نصر القديم، وكثيرة جدا في القرآن هذه الآيات التي تسخر من المشركين الذين عاصروا النبي أو لم يعاصروه؛ لأنهم أبوا الإجابة إلى دين الله حرصا على القديم وكراهة أن يعبدوا ما لم يكن يعبد آباؤهم.
كل هذا جعل الحكومة الإسلامية وعلماء الدين من المسلمين أقل ميلا إلى الاضطهاد وأشد احتراما لحرية الرأي من الحكومات المسيحية ورجال الدين من المسيحيين. وقد يكون من الخير أن نلاحظ أن المسلمين لم يعرفوا اضطهادا لحرية الرأي في عصورهم الأولى، حين كانت الحكومة عربية خالصة منصرفة إلى الشئون السياسية وحدها، غير متدخلة في حياة الأفراد ولا فيما يرون. فلسنا نعرف أيام الخلفاء الراشدين اضطهادا لحرية الرأي، ولسنا نعرف شيئا من ذلك أيام بني أمية، مع أن البدع ظهرت وكثرت في هذه الأيام؛ ذلك لأن الحكومة في تلك العصور كانت عربية خالصة، والعربي حر بطبعه، ولأن الحكومة في تلك العصور كانت قريبة إلى الأصول الإسلامية الخالصة، وأصول الإسلام حرة بطبعها، فلما كان عصر بني العباس، وتسلطت على المسلمين حكومة عربية في ظاهر الأمر، أعجمية في حقيقته، ظهرت الخصومة بين العلم والدين، وظهر اضطهاد الحكومة لحرية الرأي، فكان ما كان من تتبع الزنادقة أول أيام بني العباس، على أن الزنادقة كانوا يتحدون الإسلام حقا ويحاولون الإفساد في الأرض أحيانا. ثم كان ما كان من تتبع الذين يخالفون رأي الخليفة في الدين، وفتنة الناس في آرائهم أيام المأمون، ثم كان ما كان من تسلط الترك وتسلط الجمود معهم على الحياة الدينية والعقلية. فأنت ترى معي أن الإسلام والمسيحية بريئان من اضطهاد الرأي ومناهضة العلم، وأن إثم ذلك واقع حقا على السياسة التي تدخلت بين الدين والعلم أو بين السواد والعلماء. ولما كان حظ رجال الدين المسيحي من سلطان السياسة أعظم من حظ رجال الدين الإسلامي، كان اعتداء «الإكليروس» المسيحي على الحرية أشد خطرا وأبعد أثرا.
6
ولك الآن أن تعكس الأمر، فإن الدين لم يعتد وحده على العلم، بل اعتدى العلم على الدين أيضا حين آل إليه السلطان. وقد رأيت أن المسيحية اعتدت على الوثنية وحاربتها بنفس الأسلحة التي حاربتها الوثنية بها. وقد رأيت أنا لا نرى الخصومة بين العلم والدين من حيث هما علم ودين، وإنما نراها واقعة بين القديم والجديد من حيث هما قديم وجديد. ولو أن سواد الناس عني بالمسائل اللغوية والأدبية عنايته بمسائل الدين، لكان من المجددين في اللغة والأدب صرعى وشهداء كما كان من المجددين في العلم والدين والفلسفة. ونحن نرى في أول هذا العصر الحديث حركة تدعو إلى حرية الرأي وإلى التجديد في كل شيء في العلم والأدب والفلسفة والدين. فأما المظهر الديني لهذه الحركة فالبروتستانتية، وأما المظر العلمي فحياة «جليلي» و«كوبرنيك» ومن إليهما من العلماء. وأما المظهر الفلسفي فحياة «ديكارت» و«باكون» و«ولبنينز» و«سبينوزا» ومن إليهم. وأما المظهر الأدبي والفني فكل هذه الحركة القوية الخاصة التي نلحظها في إيطاليا ثم في فرنسا ثم في إنجلترا، والتي أخرجت من أخرجت من الشعراء والكتاب والمصورين والمثالين. نرى هذا كله ولكننا لا نرى الحرب بين القديم والجديد عنيفة تنتهي إلى سفك الدماء، لا في المظهر الديني الخالص، أو في ما يكون من الخصومة بين المظهر الديني والمظهر العلمي الفلسفي.
فأنت تعلم ما سفك من الدماء بين الكاثوليك والبروتستانت، وأنت تعلم ما لقي العلماء والفلاسفة من أذى رجال الدين، وأنت تعلم أن ديكارت إنما آثر حياته في هولندا - كما يقول رينان - لأن الناس كانوا عنه في شغل بتجارتهم. وإذن فلا بد من أمرين لتكون الخصومة بين العلم والدين، أو بين الحرية والدين، عنيفة منكرة؛ أحدهما أن يعنى السواد بهذه الخصومة، والثاني أن تستغل السياسة عناية هذا السواد. ولولا أن السواد عني بالخصومة بين الكاثوليكية والبروتستانتية وبالخصومة بين العلم والدين، ولولا أن السياسة اعتزت بهذا السواد لما سفك دم ولا حرق عالم ولا أوذي فيلسوف. على أن البروتستانتية قاومت حتى كان لها النصر، واستأثرت بجزء عظيم من أوروبا، وعلى أن العلم والفلسفة قاوما حتى كان لهما النصر، واستأثرا بالعقول في أوروبا أثناء القرن الثامن عشر. وليس هنا موضع البحث عن الأسباب التي أتاحت للعلم والفلسفة الاستئثار بعقول كثير من سواد الناس أثناء هذا القرن الثامن عشر. ولكن هناك حقيقة واقعة لا تقبل الشك، وهي أن العقل الأوروبي تطور في هذا العصر تطورا شديدا غريبا، فنصب الحرب لهذين الحليفين اللذين أذلاه حينا، وهما السياسة الملكية والكنيسة الكاثوليكية، نصب الحرب لهذين الحليفين، واعتز في حربه هذه بالعلم والفلسفة، وظل يجاهد حتى كانت الثورة الفرنسية. وهنا انعكست الآية، وأثم العلم والفلسفة، أو قل أثم أصحاب العلم والفلسفة كما أثم أصحاب الدين من قبل ، فاضطهد الدين اضطهادا شديدا، ولقي رجال الدين ضروبا من المحن والفتن، وكان الذين يفتنون رجال الدين ويمتحنونهم هم أولئك الذين كانوا متأثرين بفسلفة «فولتير» و«مونتسكيو» و«جان جاك روسو» و«ديدرو» وغيرهم.
وكان قوام هذه الفلسفة من الوجهة العملية والنظرية إنما هو الدعوة إلى حرية الرأي وإلى التسامح؛ فما بال هذه الفلسفة التي كانت تدعو إلى الحرية والتسامح قد استحالت عدوا للحرية والتسامح. أما الفلسفة نفسها فلم تتغير، ولم تنكر الحرية ولم تنصب لها الحرب. وإنما ذنبها وإثمها أنها ظفرت بعد الثورة الفرنسية بالمكانة السياسية الرسمية، فطغت أو طغى أصحابها وأسرفوا في الطغيان. أمرها من ذلك كأمر المسيحية، كانت تعذب وتضطهد وتدعو أثناء ذلك إلى الحرية والتسامح، حتى إذا أصبحت دين الدولة طغى أصحابها وأسرفوا في الطغيان. فالإثم في حقيقة الأمر ليس إثم الدين ولا إثم العلم ولا إثم الفلسفة، وإنما هو إثم هذه الدخيلة التي تتوسط بين هذين العدوين فتسلح أحدهما على الآخر وتستغل هذا لمنفعتها الخاصة.
وفي الحق أني أحاول أن أفهم كيف يستطيع الدين أو العلم أن يعتدي على الحرية العلمية أو الدينية إذا لم تمده السياسة بالذخائر والسلاح، فلا أجد إلى هذا الفهم سبيلا. تصور بلدا وقفت السياسة فيه موقف الحيدة المطلقة بين العلم والدين، فكفت أيدي الناس عن الناس، وأقرت الأمن في نصابه، وتركت للعلم حريته، وللدين حريته، فما الذي يمكن أن يقع من العنف بين العلماء ورجال الدين؟ لا شيء إلا الخصومة الكلامية، لا شيء إلا المناقشة والجدل، ومن الذي يستطيع أن يرى شرا في المناقشة أو الجدل؟
7
سنظن بعد أن نقرأ هذا كله أنا لا نرى الخصومة قوية بين العلم والدين نفسهما، وإنما نرى أن السياسة تستغلهما لمنفعتها، ولو تركتهما لتصافيا وائتلفا ... كلا! نحن لا نرى هذا الرأي، وإنما نرى ما قلناه في أول هذا البحث من أن الخصومة بين العلم والدين أساسية جوهرية لا سبيل إلى اتقائها ولا إلى التخلص منها. هي أساسية جوهرية لأن العلم والدين لا يتصلان بملكة واحدة من ملكات الإنسان، وإنما يتصل أحدهما بالشعور ويتصل الآخر بالعقل، يتأثر أحدهما بالخيال ويستأثر بالعواطف، ولا يتأثر الآخر بالخيال إلا بمقدار ولا يعنى بالعاطفة إلا من حيث هي موضوع لدرسه وتحليله. والخصومة بين العلم والدين أساسية جوهرية؛ لأن الدين أسن من العلم، ولأنه كان في العصور القديمة كل شيء: كان دينا وكان علما، ولأن العلم جاء بعد ذلك فغير هذا القسم العلمي من الدين، وأبى الدين أن يذعن لهذا التغيير، وأبى العلم أن ينزل عما ظفر به من الثمرات. فلن يتفقا إلا إذا جحد أحدهما شخصيته كما قلت في غير هذا المكان.
والخصومة بين العلم والدين أساسية جوهرية؛ لأن الدين يرى لنفسه الثبات والاستقرار، ولأن العلم يرى نفسه التغير والتجدد، فلا يمكن أن يتفقا إلا أن ينزل أحدهما عن شخصيته.
والخصومة بين العلم والدين أساسية جوهرية؛ لأن أحدهما عظيم جليل، واسع المدى بعيد الأمد، لا حد له ولا انتهاء لموضوعه، ولأن الآخر متواضع ضئيل محدود المطامع بطيء الخطى يقدم ثم لا يكره أن يحجم، ويمضي ثم لا يكره أن يرتد، ويبني ثم لا يتحرج من الهدم، فلا يمكن أن يتفقا إلا أن ينزل أحدهما عن شخصيته.
فالخصومة بينهما أمر لا بد منه. ولكن المسألة في حقيقة الأمر ليست في أن الخصومة واقعة أو غير واقعة، وإنما هي في أن الخصومة ضارة أو نافعة، أو بعبارة أدق: المسألة هي أن نعرف هل كتب على الإنسانية أن تشقى بالعلم والدين، أم هل كتب على الإنسانية أن تسعد بالعلم والدين؟ أما نحن فنعتقد أن الإنسانية تستطيع أن تسعد بالعلم والدين جميعا، وأنها ملزمة إذا لم تستطع أن تسعد بهما أن تجتهد في ألا تشقى بهما. وسبيل ذلك عندنا واضحة، وهي أن ينزع السلاح - كما يقولون - من يد العلم والدين، أو قل سبيل ذلك أن ترغم السياسة على أن تقف موقف الحيدة من هذين الخصمين. فالعلم في نفسه لا يريد ولا يستطيع الأذى، والدين في نفسه لا يريد ولا يستطيع الأذى، ولكن السياسة تريد وتستطيع الأذى غالبا. وهي كما قلت تتخذ العلم حينا وسيلة إلى هذا الأذى وتتخذ الدين حينا آخر وسيلة إليه. وهب السياسة لم تطع رجال الدين ولم تشتر نفوسهم وضمائرهم، ولم تهيئ لهم من أسباب الرغد والنعيم ما يصرفهم عن الله، ويجعل الدين في أيديهم سلعا تباع وتشترى، أو هب السياسة لم تفسد نفوس العلماء وضمائرهم وأخلاقهم، ولم تشترهم بالمناصب وأسباب السلطان، ولم تمنحهم من أسباب الرغد والنعيم ما يحولهم عن البحث العلمي الهادئ، إلى هذه الخصومة العنيفة العقيمة. هب السياسة لم تشغل أولئك ولا هؤلاء، ولم تمكن السواد من أن ينتصر لأولئك أو هؤلاء، فماذا تكون النتيجة؟ تكون أن يمضي رجال الدين في حياتهم الدينية، ورجال العلم في حياتهم العلمية، وأن ينصرف السواد إلى حياته العملية المنتجة منتفعا بالدين فيما بينه وبين الله، منتفعا بالعلم في تدبير شئونه اليومية، وأن تزول هذه الخصومات المنكرة التي تقسم الناس شيعا وأحزابا، وتغري بعضهم ببعض وتجعل بعضهم لبعض عدوا، وتبث فيهم ألوان الرذيلة وحب الكيد والوقيعة، وما إليها من الرذائل الفاحشة. وهل تظن أن وقف السياسة هذا الموقف شيء عسير حقا؟ كلا! قد كان عسيرا قبل هذا العصر الحديث حين لم يكن بد للحكومة من أن تستغل الدين أو من أن تستغل العلم. فأما هذا العصر الذي نحن فيه فقد استطاعت السياسة أن تستقل وأن تمشي على قدميها دون أن تعتمد على عصا دينية أو علمية؛ ذلك لأن فكرة الوطنية وما يتصل بها من المنافع الاقتصادية والسياسية الخالصة قامت الآن في تكوين الدول وتدبير سياستها مقام فكرة الدين، أو مقام هذه النظريات الفلسفية الميتافيزيقية التي كانت تقوم عليها الحكومة من قبل. وأين هي الحكومة التي تستطيع الآن أن تزعم أنها تقوم على الدين أو أنها تقوم لحماية الدين، أو أنها تقوم على أساس ما من هذه الأسس الفلسفية المختلفة: حماية الواجب أو حماية الحق أو حماية العدل؟ أين هي الحكومة التي تستطيع أن تجهر بشيء من ذلك دون أن يضحك منها الناس جميعا ، وأن يكون رعاياها أول الضاحكين؟ أتستطيع الحكومة المصرية مثلا أن تزعم أنها إنما تقوم على الإسلام وبالإسلام وللإسلام؟ كلا. كما أن الحكومة الفرنسية لا تستطيع أن تزعم أنها إنما تقوم على المسيحية وبالمسيحية وللمسيحية. ومع ذلك فقد كانت مصر موئل الإسلام في جميع عصورها الإسلامية! ومع ذلك فقد كان ملوك فرنسا يلقبون أنفسهم أصحاب الجلالة المسيحية! ومع ذلك فقد كان ملوك مصر وسلاطينها يعاهدون ملوك أوروبا باسم المسلمين ويزعمون لأنفسهم حماية بيت المقدس والحرمين الشريفين! ومع ذلك كان ملوك فرنسا يعاهدون دول الشرق الإسلامي باسم المسيحية، ويزعمون لأنفسهم حماية المسيحية في بلاد الإسلام!
كان هذا كله، ولكن هذا كله قد تغير، فمصر لا تستطيع أن تزعم أنها حامية بيت المقدس أو الحرمين الشريفين، أو أنها الناطقة بلسان المسلمين الذائدة عن حوض الإسلام. بل لست أدري أتستطيع مصر الآن أن تزعم أنها تحمي الإسلام في أقطارها الخاصة ولا تتجاوز حدوده عمدا أو كرها؟ ولا تستطيع فرنسا أن تزعم لنفسها حماية المسيحية في الأقطار الإسلامية، بل لا تستطيع أن تزعم لنفسها حماية المسيحية في أقطارها الخاصة. لا تقوم الحكومة المصرية الحديثة ولا الحكومة الفرنسية الحديثة على أساس من دين ولا من علم ولا من فلسفة، وإنما تقوم الحكومة الحديثة في أقطار الأرض المتحضرة الآن على أساس سياسي خالص من المنفعة الاقتصادية والمدنية لا أكثر ولا أقل. وقد فرغ الناس من هذا وأصبحوا لا يفكرون في أن الحكومة تقوم على الدين أو لا تقوم عليه، فإن فكروا في صلة بين الدين والحكومة - وهذا قليل نادر - فإنما يفكرون في طبيعة الموقف الذي يجب أن تقفه الحكومة الحرة الصالحة من دين الكثرة والقلة. أتعترف بهذه الديانات أم تنكرها أم تجهلها في غير اعتراف ولا إنكار؟
8
نعم إن دستورنا المصري قد نص في صراحة أن الإسلام دين الدولة، وكان هذا النص مصدر فرقة، لا نقول بين المسلمين وغير المسلمين من أهل مصر، فقد رضيت القلة المسيحية وغير المسيحية هذا النص ولم تحاور فيه، ولم تر فيه على نفسها مضاضة أو خطرا، وإنما نقول إنه كان مصدر فرقة بين المسلمين أنفسهم، فهم لم يفهموه على وجه واحد ولم يتفقوا في تحقيق النتائج التي يجب أن تترتب عليه. فأما عامة الناس فلم تلتفت إلى هذا النص ولم تحفل به، وأكبر ظننا أنها ما كانت لتشعر بشيء لو لم يوجد هذا النص في الدستور؛ فعامة الناس في مصر منصرفون بطبعهم إلى حياتهم العملية، مستعدون أحسن الاستعداد وأقواه للاتصال بأزمنتهم وأمكنتهم وللملاءمة بين حياتهم وبين ضرورات التطور، وهم يعلمون أن الإسلام بخير، وأن الصلوات ستقام، وأن رمضان سيصام، وأن الحج سيؤدى، وهم يذهبون في القيام بواجباتهم الدينية مذهب غيرهم من الناس المعتدلين، لا هم بالمسرفين في التدين، ولا هم بالمسرفين في العصيان والفسوق. فسواء عليهم أنص الدستور أم لم ينص أن الإسلام دين الدولة، وسواء عليهم أسيطرت الحكومة أم لم تسيطر على شعائر الدين، ما دامت هذه الشعائر قائمة محترمة.
إنما وقعت الفرقة حول هذا النص بين فريقين من المسلمين المصريين: أحدهما المستنيرون المدنيون، والآخر شيوخ الأزهر ورجال الدين. فأما المستنيرون فقد فهموا أن الدستور حين ينص أن الإسلام دين الدولة، لا يريد أن يعلن احترامه لدين الكثرة وما توارثت من تقاليد، ويكلف الحكومة مقدارا قليلا من الواجبات التي تتصل بهذه التقاليد، فلما أرادوا تحليل هذا كله فهموا أن هذا النص لا يزيد على تقرير الواقع من أن رئيس الدولة في مصر يجب أن يكون مسلما، ومن أن شعائر الإسلام يجب أن تقام بعد صدور الدستور، كما كانت تقام قبل صدوره، فلا تغلق المساجد، ولا يعطل الحج، ولا تعمل الحكومة في أيام الأعياد الإسلامية، ولا ينقطع إطلاق المدافع في رمضان، ولا يلغى الحفل بالمحمل، ولا الحفل بالمولد النبوي، ولا تنفق أموال الأوقاف الإسلامية في غير ما رصدها له الواقفون، ولم يخطر لهؤلاء المستنيرين في يوم من الأيام أن هذا النص سيكلف الحكومة واجبات جديدة دينية، أو أنه سيحدث في الدولة نظما لم يكن لها بها عهد من قبل ؛ ذلك لأنهم كانوا وما يزالون يقدرون أن مصر تمضي إلى الأمام وتسرع في الاتصال بالمدنية الغربية، وتريد أن تحقق ما قال إسماعيل من أنها جزء من أوروبا. ولأنهم كانوا وما يزالون يقدرون أن في الإسلام من اللين والمرونة ما يمكنه من التطور مع الزمن وملاءمة الظروف المختلفة، ويعصمه من الجمود والسكون، ويحول بينه وبين أن يكون عقبة في سبيل الرقي الاجتماعي والاقتصادي، ولأنهم كانوا وما يزالون يقدرون أن حكومة مصر قد اضطرت بحكم هذه الحياة الحديثة إلى أن تأتي من الأمر ما لم يكن يبيحه الإسلام من قبل، فهي تعامل المصارف، وتنظم الربا، وتبيح ألوانا من المعصية، بل تستغلها أحيانا. فإذا كان نص الدستور أن الإسلام دين الدولة يدل على معناه حقا، فلا أقل من تغيير كل هذه المحادثات، ولا أقل من أن يغير نصوصا تكفل حرية الرأي وتبيح للناس أن يلحدوا، وتسوي بين المسلم وغير المسلم في الحقوق والواجبات، وما كان الإسلام ليبيح الإلحاد ولا ليسمح للملحد أن يعلن إلحاده وخروجه على الدين، وأحكام المرتد معروفة في الإسلام، وما كان الإسلام ليسوي بين المسلم وغير المسلم في بلد يكون هو فيها الدين الرسمي.
فهم المستنيرون هذا كله، ولم يعارضوا في هذا النص حين أعلنت لجنة الدستور أنها ستضعه في الدستور، بل هم فريق منهم أن يعارض لأنه خشي أن يفهم هذا النص على غير وجهه، فما زالوا به حتى كفوه عن المعارضة، واضطروه إلى السكوت، وقالوا: نص فيه إرضاء لعاطفة السواد وطمأنة للشيوخ فهو لا يضر، وأكبر الظن أن قد يفيد.
ولكن الشيوخ فهموا هذا النص فهما آخر، أو قل إنهم فهموه كما فهمه غيرهم، ولكنهم تكلفوا أن يظهروا أنهم يفهمونه فهما آخر، واتخذوه تكأة وتعلة يعتمدون عليها في تحقيق ضروب من المطامع والأغراض السياسية وغير السياسية. فهموا أن الإسلام دين الدولة؛ أي إن الدولة يجب أن تكون دولة إسلامية بالمعنى القديم حقا؛ أي إن الدولة يجب أن تتكلف واجبات ما كانت تتكلفها من قبل. وعلى ذلك أخذوا يطالبون بأمور ما كانوا يطالبون بها قبل الدستور، وذهب فريق منهم على رأسه نفر من هيئة كبار العلماء إلى أبعد حد ممكن، فكتبوا يطلبون ألا يصدر الدستور لأن المسلمين ليسوا في حاجة إلى دستور وضعي ومعهم كتاب الله وسنة رسول الله، وذهب بعضهم إلى أن طلب إلى لجنة الدستور أن تنص أن المسلم لا يكلف القيام بالواجبات الوطنية إذا كانت هذه الواجبات معارضة للإسلام، وفسروا ذلك بأن المسلم يجب أن يكون في حل من رفض الخدمة العسكرية حين يكلف الوقوف في وجه أمة مسلمة كالأمة التركية مثلا. ولكن هذه المطالب كلها أهملت إهمالا ومضت لجنة الدستور في عملها حتى أتمته والشيوخ فيها ممثلون. وليس هنا موضع التعريض أو التصريح بما كان للشيوخ من سعي أثناء إعداد الدستور وقبل صدوره، ولكنا نكتفي بأن نلاحظ أنهم أو بأن كثرتهم لم تكن تبتسم للدستور حقا. وصدر الدستور وابتهج به الناس جميعا، واطمأن إليه الناس جميعا، إلا الشيوخ، فإنهم لم يكتفوا بقبول الدستور والرضا بما فيه من المساواة والحريات المكفولة، بل استغلوه استغلالا منكرا في حوادث مختلفة، أهمها حادثة «الإسلام وأصول الحكم»، وحادثة كتاب «في الشعر الجاهلي»، وإليك نظرية الشيوخ في استغلال هذا النص الذي ما كان يفكر واحد من أعضاء لجنة الدستور في أنه سيستغل وسيخلق في مصر حزبا خطرا على الحرية، بل خطرا على الحياة السياسية المصرية كلها. يقول الشيوخ إن الدستور قد نص أن الإسلام دين الدولة، ومعنى ذلك أن الدولة مكلفة بحكم الدستور حماية الإسلام من كل ما يمسه أو يعرضه للخطر، ومعنى ذلك أن الدولة مكلفة أن تضرب على أيدي الملحدين وتحول بينهم وبين الإلحاد أو تحول بينهم وبين إعلان الإلحاد على أقل تقدير. ومعنى ذلك أن الدولة مكلفة أن تمحو حرية الرأي محوا في كل ما من شأنه أن يمس الإسلام من قريب أو بعيد، سواء أصدر ذلك عن مسلم أو عن غير مسلم.
ومعنى ذلك أن الدولة مكلفة بحكم الدستور أن تسمع ما يقوله الشيوخ في هذا الباب ، فإذا أعلن أحد رأيا أو ألف كتابا، أو نشر فصلا، أو اتخذ زيا، ورأى الشيوخ في هذا كله مخالفة للدين ونبهوا الحكومة إلى ذلك، فعلى الحكومة بحكم الدستور أن تسمع لهم وتعاقب من يخالف الدين أو يمسه: بالطرد أولا إن كان موظفا، ثم بتقديمه إلى القضاء بعد ذلك، ثم «بإعدام جسم الجريمة» كما يقول رجال القانون على كل حال. ومما زاد الأمر تعقيدا والموقف حرجا بين المستنيرين ورجال الدين بإزاء هذا الوجه من وجوه الحرية الدستورية أمران: أحدهما أن النظام السياسي القديم كان قد أنشأ في مصر شيئا يسمى هيئة كبار العلماء، وجعل لهذا الشيء حقوقا وألوانا من السلطان على طائفة من الناس، وجعل لهذا الشيء ضربا من السيطرة المعنوية على أمور الدين في مصر.
وكان المعقول أن صدور الدستور يجب أن يمحو من هذا النظام القديم كل ما لا يتفق مع نصوص الدستور نفسه، ولكن هيئة كبار العلماء ظلت قائمة مستمتعة بحقوقها محتفظة بسلطانها وسيطرتها، لا تعتز بهما ولا تستغلهما لأنها لم تكن تلتفت من هذا كله إلا إلى ما يمنحها من المرتبات ومنازل الشرف، حتى صدر كتاب «الإسلام وأصول الحكم»، فأحست هيئة كبار العلماء، أو أريد منها أن تحس، أن لها حقوقا وسلطانا، واستغلت هيئة كبار العلماء، أو أريد منها أن تستغل، تلك الحقوق وهذا السلطان. الثاني أن الدستور لم يكد يصدر حتى عطل، أو كاد يعطل، فقد صدر الدستور في أوائل سنة 1923 ولكن البرلمان لم يأتلف إلا في أوائل 1924، وكانت الحكومة القائمة بين صدور الدستور وانعقاد البرلمان لأول مرة حكومة ضعف وتفريط في كل شيء، كانت حكومة لا تعتمد على نفسها، ولا تستطيع أن تثبت على قدميها إلا أن يسندها مسند من اليمين إن مالت إلى اليمين، أو مسند من الشمال إن مالت إلى الشمال، ولم يكن يسندها مسند اليمين أو مسند الشمال عفوا ولا ابتغاء مرضاة الله، وإنما كان يسندها هذا المسند أو ذاك لمنافع ومطامع. فقوي في ظل هذه الحكومة الضعيفة أمر الرجعية، وكثر الريش في أجنحة الشيوخ، وطلب الأزهر أمورا فما أسرع ما أجيب إليها، وكان أظهر هذه الأمور إلغاء مدرسة القضاء - أو مسخها - وإنشاء أقسام التخصص في الأزهر.
ثم انعقد البرلمان فانصرف بطبيعة الحال إلى ما كان ينبغي أن ينصرف إليه من المسألة السياسية الخارجية. وبينما هو منصرف إلى هذه المسألة السياسية الخارجية تحرك الشيوخ، أو قل تحرك الأزهر كله، أو قل حرك الأزهر تحريكا فظهرت له مطالب غريبة ضخمة فيها إعنات وإحراج وتعمل، ورفعت هذه المطالب إلى الحكومة البرلمانية الشعبية يومئذ مع شيء من الإلحاح ومع شيء من الضجيج والعجيج والمظاهرات الغريبة داخل الأزهر وفي شوارع المدينة وميادينها وعند القصر، وهمت الحكومة البرلمانية أن تأخذ بالحزم أمام هذه الحركة الغريبة التي لم يكن يعرف أيهما أعظم فيها أثرا؛ أحظ الدين أم حظ السياسة والمنفعة! ولكن الحوادث المنكرة التي حدثت آخر تلك السنة ذهبت بالبرلمان وبالحكومة البرلمانية، وقامت في مصر يومئذ حكومة أخرى أشبه شيء بتلك الحكومة التي كانت قائمة بين صدور الدستور وائتلاف البرلمان، حكومة ضعف وتردد واضطراب، حكومة تميل إلى اليمين حينا فتكاد تهوي لولا أن يسندها مسند ويتقاضى على هذا ثمنا، وتميل إلى الشمال حينا فتكاد تهوي لولا أن يسندها مسند ويتقاضى على هذا ثمنا أيضا.
وكان من الأثمان التي دفعتها هذه الحكومة الاستماع للأزهريين والنزول عندما كانوا يريدون، واستغلال هذا في الخصومة السياسية الحزبية، فما أسرع ما ألفت لجنة وزارية درست مطالب الأزهريين وقبلتها وأخذت في تنفيذها. وبهذا تقدم الأزهر خطوة أخرى في سبيل السيطرة والسلطان، وأحس الأزهريون أنهم يستطيعون أن يخيفوا الحكومات ويكرهوها على أن تذعن لهم وتنزل عند ما يريدون. وكانت نتيجة هذا كله أن ألغيت أو مسخت «دار العلوم»، كما ألغيت أو مسخت مدرسة القضاء من قبل، وأن احتكر الشيوخ أو كادوا يحتكرون التعليم الأولي، وأن زادت مخصصات الأزهر المالية، وأن قوي في وزارة المعارف الميل إلى نشر التعليم الديني في مدارس الحكومة كلها من طريق الأزهريين، وكانت الفكرة الأساسية الخفية أن يكلف الأزهر نشر هذا التعليم الديني وأن ينبث شيوخ الأزهر في مدارس الحكومة كلها. وكانت النتيجة السياسية الخطرة لهذا كله أن تكون في مصر - أو أخذ يتكون فيها - حزب رجعي يناهض الحرية والرقي، ويتخذ الدين ورجال الدين تكأة يعتمد عليها في الوصول إلى هذه الغاية. وفي أثناء ذلك ظهر كتاب «الإسلام وأصول الحكم» فاستغل في سبيله كل ما تقدم وظهر أن في مصر حزبا سياسيا يتخذ الدين وسيلة لمناهضة حرية الرأي بنفس الوسائل التي كانت تناهض بها أثناء القرون الوسطى في أوروبا. أنكر الكتاب وحوكم صاحبه وأخرج من صف العلماء وفصل من منصبه، وانتهى هذا كله بأزمة سياسية حادة ظهر في أول الأمر أن هذا الحزب السياسي الديني هو الذي انتفع بها واستفاد منها، فقد أخرج وزير من الوزارة واستقال معه طائفة من أصحابه، فقبلت استقالاتهم في سرور وابتهاج، واعتز رئيس الوزراء بالنيابة يومئذ بأنه نصير الدين وحاميه والذائد عن حوضه. وكان كل هذا يشد أزر الشيوخ ويقوم إيمانهم بأن النص الذي يشتمل عليه الدستور يكلف الحكومة واجبات ما كانت تتكلفها من قبل. فلم يعرف تاريخ مصر الحديث شيئا من اضطهاد حرية الرأي باسم السياسة والدين قبل صدور الدستور وحين كانت مصر خاضعة لسلطان الخلافة التركية يشبه ما كان من ذلك بعد صدور الدستور وبعد انقطاع الأسباب بين مصر وسلطان الخلافة، بل بعد انهيار الخلافة نفسها.
ومهما يكن من شيء فقد استيقن رجال الدين أنهم مؤيدون، وأن لهم عضدا يسندهم، فطمعوا وأسرفوا في الطمع. ومما يظهر هذا الطمع حادثتان؛ إحداهما حادثة الأزياء في دار العلوم، هذه الحادثة التي وقفت فيها الحكومة موقف الخادم المطيع لصاحب الفضيلة مولانا الأكبر شيخ الجامع الأزهر، والتي انتهت كما يعلم الناس جميعا بشيء من الإذعان فيه إفساد للأخلاق، وإكراه للشبان على النفاق. فقد أخذ طلاب دار العلوم يذهبون إلى مدرستهم في زي الشيوخ، وقد اتخذوا من تحت هذا الزي زيا آخر يظهرونه متى خرجوا من المدرسة. والحادثة الثانية أن بعض الممثلين هم بالسفر إلى أوروبا ليلعب قصة تمثيلية فيها شخص النبي
صلى الله عليه وسلم ، فغضب الشيوخ لذلك وطلبوا إلى وزارة الداخلية أن تمنع هذا الممثل مما كان يريد، وأن تتخذ لذلك ما ترى من الوسائل حتى الوسيلة السياسية، فتخاطب الحكومة الفرنسية في أن تمنع تمثيل هذه القصة في بلادها، وكان هذا الممثل طيعا هينا فأذعن لأمر الداخلية ومضى الشيوخ.
واتخذت مشيخة الأزهر لنفسها منذ ذلك الوقت اسم الرياسة الدينية العليا، وهو اسم مبتدع لا يعرفه الإسلام، ولا يؤمن له مسلم يعرف واجباته الدينية حقا، وكثرت فتاوى «الرياسة الدينية العليا»، ولم ينس أحد بعد فتواها في تحريم القلانس على المسلمين. وفي أثناء هذا كله ظهر كتاب «في الشعر الجاهلي»، وهنا اصطدمت السلطة الدينية بالحرية العلمية اصطداما عنيفا، فلم يكن صاحب هذا الكتاب من علماء الأزهر، ولا خاضعا لهيئة كبار العلماء، ولم يكن فردا مطلقا من الناس، وإنما كان أستاذا في معهد علمي يرى لنفسه الحرية المطلقة كلها في الرأي، ويرى لنفسه السيادة فيما يدرس وما ينشر، لا يحده في ذلك إلا القانون. وهنا ظهر الفرق بين الأزهريين وغيرهم من المستنيرين في فهم هذا النص الذي يثبت أن الإسلام دين الدولة. فأما الشيوخ فقد زعموا أن الحكومة مكلفة لا حماية الإسلام وحده بل حماية الدستور؛ لأن هذا الأستاذ قد خالف الإسلام وهو موظف يعلم أبناء المسلمين، ويتقاضى أجره من أموال المسلمين، وما كان لحكومة ينص دستورها أن الإسلام دينها الرسمي أن تسمح لأحد موظفيها بمخالفة الإسلام. وعلى ذلك طلبت الرياسة الدينية العليا إلى الحكومة أن تفصل هذا الموظف من منصبه وتقفه أمام القضاء وتصادر كتبه. والناس جميعا يعلمون ماذا كان من أمر الخلاف بين الجامعة والأزهر في هذا الموضوع.
وخلاصة هذا القصص الطويل أن هذا النص الذي أثبت في الدستور قد فرق بين المسلمين المصريين، وأنشأ في مصر قوة سياسية دينية منظمة أو كالمنظمة تؤيد الرجعية وتجر مصر جرا عنيفا إلى الوراء، وأنشأ في مصر خاصة وفي الشرق الإسلامي عامة هذه المسألة التي لم تكن معروفة في الشرق الإسلامي من قبل، أثناء العصر الحديث، وهي مسألة الخصومة الدينية السياسية بين العلم والدين. ولسنا في حاجة إلى أن نسأل أخير هذا أم شر؟ ولسنا في حاجة أيضا إلى أن نسأل عن طبيعة هذه الخصومة وما ستنتهي إليه غدا أو بعد غد، إنما يكفي أن نلاحظ أن هذه الخصومة حقيقة واقعة، وأن في مصر فريقا من الناس يمضون مع الزمن ويسايرون التطور ويريدون أن يستمتعوا وأن يستمتع غيرهم بما كفل الدستور من حرية الرأي، وأن في مصر فريقا آخر من الناس ينكر هذه الحرية أو لا يبيحها إلا بمقدار، وإذن فلا بد من اتخاذ موقف منتج حاسم بإزاء هذه الخصومة بين أولئك وهؤلاء، فما هذا الموقف؟ وما عسى أن تكون نتائجه؟ أما إن كان المصريون يريدون أن ينتفعوا بتجارب الأمم من قبلهم، وأن يختصروا الطريق إلى الرقي، وأن يصلوا إلى حياتهم السياسية والاجتماعية الصالحة في غير عنف ولا مشقة ولا اضطراب، فسبيلهم إلى ذلك يسيرة واضحة يمكن أن تختصر في كلمة واحدة، وهي أن تقف السياسة من رجال العلم ورجال الدين موقف الحيدة التامة. وأما إن كان المصريون يريدون أن يجربوا كما جربت الأمم من قبلهم، وأن يسلكوا إلى حياتهم السياسية والاجتماعية الصالحة تلك الطريق الطويلة المعوجة الملتوية التي تنبت فيها العقاب وتأخذها الأخطار من جوانبها، فسبيلهم إلى ذلك واضحة يسيرة يمكن أن تختصر في كلمة واحدة، وهي أن تستغل السياسة هذه الخصومة بين العلم والدين فتعتز برجال العلم حينا، وحينئذ تضطهد رجال الدين، وتعتز برجال الدين حينا آخر، ويومئذ تضطهد رجال العلم، وتحتمل في سبيل ذلك من التبعات مثل ما احتملته السياسة المسيحية حين كانت تحرق العلماء وتذيقهم ألوان العذاب لترضي رجال الدين، وحين كانت تشرد القسيسين وتهدر دماءهم لترضي رجال العلم.
9
ولكن كل شيء في مصر يدل على أننا لا نريد الطرق الطوال المعوجة، ولا نحب إضاعة الوقت، وإنما نكتفي بما جربت الأمم من قبل، ونجني ما ظفرت به من ثمرات الرقي. دستورنا المصري أوضح دليل على ذلك، فهو دستور حديث كأحدث النظم الدستورية المعروفة، وهو دستور بريء من الرجعية ومن هذا اللون من الاعتدال البطيء، وحسبك أنا كنا نرى في نظامنا السياسي الانتخاب ذا الدرجتين، فما كادت الأمة تتمتع بسلطانها حتى أسرعت إلى الانتخاب ذي الدرجة الواحدة، وحسبك أن وزارتنا مسئولة أمام برلماننا بنفس الطريقة التي تسأل بها الوزارات أما البرلمان في فرنسا وإنجلترا وغيرهما من بلاد أوروبا. كل هذا يدل على أننا معتزمون حقا أن نختصر الطرق. وإذا كانت هذه خطتنا بإزاء الحياة السياسية والاجتماعية، فيجب أن تكون - وما أشك في أنها ستكون - خطتنا بإزاء حياتنا العلمية والدينية. على أننا مضطرون إلى ذلك اضطرارا، فنحن لا نحيا لأنفسنا وحدنا، وإنما نحيا لأنفسنا ولغيرنا من الأمم، ونحن متصلون رضينا أم كرهنا بأمم الغرب المتحضرة، ونحن حريصون على أن نظفر، لا أقول بعطف هذه الأمم، بل أقول بإكبارها لنا واحترامها لمنزلتنا السياسية والاجتماعية. وإذن فنحن مضطرون أن نساير هذه الأمم ونعيش كما تعيش، ونحن لا نستطيع أن نعيش في القرن العشرين كما كانت تعيش فرنسا في القرن الرابع أو الخامس عشر بحجة أننا حديثو عهد بهذه النظم الحديثة. نحن نريد أن نظفر من الاستقلال بما يقفنا من إنجلترا وفرنسا موقف الند من الند، فيجب أن نعيش كما تعيش إنجلترا وفرنسا لتطمئن إنجلترا وفرنسا إلى ما نطلب من الاستقلال. ونحن مضطرون إلى أن نحاول التخلص من الامتيازات الأجنبية، فيجب أن نعيش في بلادنا كما يعيش الأجانب في بلادهم، وأن نستمتع من الحرية بمثل ما يستمتعون به، ليطمئن الأجانب إلى إلغاء الامتيازات. ثم نحن مضطرون إلى أن نعيش، ولن نستطيع أن نعيش إلا إذا اتخذنا أسباب الحياة الحديثة، فنحن محتاجون أن ننتفع بالبخار والكهرباء، ونستغل الطبيعة كلها لحياتنا ومنافعنا، والعلم وحده سبيلنا إلى ذلك، وهو سبيلنا إلى ذلك على أن ندرسه كما يدرسه الأوروبيون لا كما يدرسه آباؤنا منذ قرون، وويل لنا يوم نعدل عن طب باستور وكلودبرنار إلى طب ابن سينا وداود الأنطاكي. وهذا العلم الحديث الذي لا نستطيع أن نستغني عنه لا يمكنه أن يعيش ولا أن يثمر إلا في جو كله حرية وتسامح، فنحن بين اثنتين: إما أن نؤثر الحياة وإذن فلا مندوحة عن الحرية، وإما أن نؤثر الموت، وإذن فلنا أن نختار الجمود.
القسم الخامس: بين الجد والهزل
(1) الأدب والأدباء
لم أكن في مصر حين سأل «أحد الأزهريين» كاتبا من كتاب السياسة اليومية عن الأدب والأدباء، وحين تفضل هذا الكاتب الأديب من «كتاب السياسة» فأحال سائله على «أساتذة الأدب في الجامعة والمدارس العالية». ولو كنت في مصر حين ألقي هذا السؤال وكانت هذه الإحالة، لما أجبت ولا فكرت في الإجابة؛ لأني أعرف هذا الكاتب الأديب من كتاب «السياسة»، وأعرف مكره الظريف، وأعرف أنه يحب دائما أن يلهو ويلهي الناس بالخصومة بين الكتاب ولا سيما أنصار القديم والجديد منهم. وأذكر أنه تكلف هذه الحيلة في السنة الماضية فانخدعت له طائفة من الكتاب والأدباء، واختصموا في القديم والجديد، وضحك منهم ماكرنا الظريف، كما ضحك منهم ماكرون آخرون ليسوا أقل من صاحبنا مكرا وظرفا. ومع أني لا أكره لماكرنا الظريف هذا أن يلهو ويضحك، فقد أبيت في السنة الماضية أن ألهيه وأضحكه. ولو كنت في مصر حين سئل وأحال هذه السنة لتركت إلهاءه وإضحاكه للأستاذ الجليل الشيخ علام سلامة ومن إليه من هؤلاء الذين يرون الجد حيث لا يكون إلا الهزل والدعابة، فيجدون ويتكلفون ويضحك من يريد أن يضحك ويلهو من يريد أن يلهو، ويستريح كتاب «السياسة» من بعض الجهد لأنهم يجدون من يملأ لهم أنهارا، ويضيقون أحيانا لأنهم يضطرون إلى نشر ما يكرهون وإلى إرجاء ما يؤثرون نشره.
ولكنني عدت إلى مصر وكان أول ما استقبلته من الحياة الأدبية هذا الفصل الممتع الذي نشرته «السياسة الأسبوعية» الماضية للأستاذ الجليل الشيخ علام سلامة، المدرس بمدرسة دار العلوم. ولست أدري لم أحسست ميلا شديدا جدا إلى الكتابة بعد أن فرغت من قراءة هذا الفصل، ولست أدري لم رضيت أن ألهي ماكرنا الظريف وأضحكه هذه المرة، وقد كنت أكره ذلك وآباه من قبل ...
فقد قرأت كلاما كثيرا ممتعا يشبه هذا الكلام الممتع الذي نشره الأستاذ الشيخ علام، وأنا أنفق حياتي في قراءة كلام كثير يشبه هذا الكلام، فلا أحس ميلا إلى الكتابة، ولا أجد من نفسي رغبة فيها، ولعل مصدر هذا الميل أن الأستاذ الشيخ علام قليل الكتابة في الصحف، أو أنه قليل الكتابة الممضاة في الصحف، فلا أقل من أن نتلقى فصله الممتع بشيء من التحية، ونتمنى أن يطلق الله قلمه فيسطر لنا في كل أسبوع فصلا يذهب فيه هذا النحو من مذاهب البحث اللذيذة الممتعة.
ولعل مصدر هذا الميل أيضا أن الأستاذ الشيخ علام قد وعد في آخر فصله الممتع بأن يتورط فيما تورط الكتاب فيه من أمر القديم والجديد، وإن لم تكن هناك صلة بين فصله الممتع وبين القديم والجديد. مهما يكن من شيء فأنا أريد أن أكتب في هذا الموضوع، وأن أبدأ بتحية الأستاذ الشيخ علام وتهنئة الصحف بفصوله الأدبية القيمة التي بدأت بدءا حسنا، والتي ستتصل اتصالا حسنا إن شاء الله، ولو أن لي أن آخذ الأستاذ الجليل بشيء في هذا الفصل لوقفت معه وقفات قصيرة عند مسائل يسيرة يحسن أن نلم بها إلماما؛ لأن الأمانة العلمية تريد هذا الإلمام.
فصل الأستاذ الشيخ علام يذكرني بطائفة من الكتاب والعلماء، مات بعضهم منذ قرون، وتوفي بعضهم منذ سنين، ولا يزال بعضهم حيا يتنفس من هواء مصر ويشرب من ماء النيل. وكنت أحب للأستاذ الشيخ علام أن يسمي هؤلاء العلماء والكتاب، أو يومئ إليهم؛ ليعرف الناس ما لهم وما له، ففي ذلك وفاء لهؤلاء العلماء والكتاب، وفي ذلك إنصاف للأستاذ الشيخ علام نفسه.
فمن يدري لعل الأستاذ قد أضاف من عنده إلى ما قال أولئك الكتاب والعلماء أشياء قيمة وعظيمة الخطر لا ينبغي أن تضاف إلى غيره، وإذا أذن لي الأستاذ أن أنصفه وأنصف أصحابه، فإني أسمي منهم ثلاثة أو أربعة من غير إطالة ولا إملال.
فأما أولهم فصاحب «لسان العرب»، فقد يظهر أن الأستاذ عندما أراد أن يبين المعنى اللغوي لكلمة الأدب، نقل ما جاء في «اللسان» نقلا في غير تحفظ ولا فقه ولا نقد ولا احتياط. نقل ما جاء في «اللسان» حتى الشواهد نظما ونثرا، وحتى وصف البعير بأنه أديب. وربما كان هذا النقل مفيدا، وهو على كل حال حق للأستاذ، ولكن من حق صاحب «اللسان» أو من حق أصحاب المعاجم أن يشار إليهم إذا نقل عنهم ... ومن حق القراء أن يعرفوا أن ما يكتبه الأستاذ قد نقل نقلا أو استنبط استنباطا.
وأما الثاني فالمرحوم اليازجي صاحب «مجلة الضياء»، فأنا أذكر أني كنت أقرأ في هذه المجلة أيام الصبا، وكنت أحب هذه المباحث اللغوية التي كان يعرض لها صاحب هذه المجلة، والتي كان يبين لنا فيها كيف تختلف الكلمات في حرف واحد يقع أول الكلمة أو آخرها أو في وسطها، فلا يكون هذا الاختلاف دليلا على بعد ما بينها في المعنى وإنما يكون دليلا على تقاربها في المعنى كما تقاربت في اللفظ: كوكز ولكز ونكز ووهز ولهز ونهز، وغمز ولمز وهمز، ولطم ولكم ولدم ولتم. ولست أدري لم نسي اللثم، فرب لثمة أشبهت لطمة! وأظن أن من حق اليازجي أن يذكر كصاحب «اللسان»، ويخيل إلي أن للأستاذ الشيخ علام زميلا في دار العلوم، هو الأستاذ الشيخ أحمد عمر الإسكندري، يذهب هذا المذهب فيما يسميه فقه اللغة، ويدرسه درسا مفصلا لتلاميذه، وأحسب أنه قد أمعن في هذا البحث إمعانا قيما فكان من حقه أن يذكر أيضا.
ثم أذكر رجلا آخر كان من الحق أن يذكر ويثنى عليه وهو مصطفى صادق الرافعي، فقد بحث مصطفى صادق الرافعي في كتابه عن كلمة الأدب وأطوارها ومعانيها. ومن الغريب أن الشبه شديد جدا بين بحث الأستاذ الشيخ علام وبحث الأستاذ الرافعي، وكل ما بينهما أن الرافعي قرأ اللسان وفهمه ولم يأخذ منه إلا ما احتاج إليه، وأن الشيخ علام نقل اللسان نقلا في غير نقد ولا فقه كما قلت، وأن الرافعي رأى نصوصا تضاف إلى القدماء شك في صحتها فنفى بعضها وأعرض عن بعضها الآخر ، وأن الشيخ علام أخذ هذه النصوص على علاتها في غير نقد ولا فقه أيضا. وأن الرافعي رأى نصا أضافه صاحب «العقد الفريد» إلى ابن عباس، وأضافه الجاحظ إلى حفيد ابن عباس، فدرس وآثر رواية الجاحظ عن نقد وفقه، وأن الشيخ علام لم ينقد ولم يحاول الفقه، وإن ردد الرواية بين الرجلين ترديدا دون أن يشعر بالأثر العظيم الذي ينشأ عن صحة إحدى الروايتين، لا أقول في صحة كلمة الأدب، بل أقول في تاريخ العلم نفسه، فلو صحت رواية العقد الفريد لكان عبد الله بن عباس عالما بأصول النحو ملما باصطلاحاته قبل أن تتم نشأة النحو.
فأنت ترى أن الأستاذ الشيخ علام ظلم نفسه وظلم طائفة من الذين سبقوه وعاهدوه حين أرسل فصله إرسالا دون أن يسمي من أخذ عنهم أو سار سيرتهم في البحث. وقد علم الله ما أعطف على الرافعي ولا أميل إلى فنه، ولكني أحب أن أنصف الرجل وأشهد أن فصله أمتن وأقوم وأدل على الفقه من فصل الأستاذ الشيخ علام. •••
وأنا بعد أخالف الرجلين جميعا في أصل هذه الكلمة؛ أخالفهما لأن مذهبهما لا يقنعني، فأنا لا أفهم هذه الصلة التي يتكلفانها ويتكلفها من قبلهما أصحاب المعاجم بين لفظ الأدب وبين هذا الفعل المعروف «أدب الناس إذا دعاهم إلى الطعام»، ولست أريد أن آخذ في مناقشة لغوية تثقل على قراء «السياسة»، وتمل هذا الماكر الذي اضطرني واضطر الشيخ علام إلى الكتابة في هذا الموضوع، وإنما أقول في إيجاز أني أذهب في أصل هذه الكلمة مذهب الأستاذ نالينو وأخذها من الدأب، بتقديم الدال على الهمزة المفتوحة، ومعناه العادة والشأن والحال. ولست أري شيئا من الغرابة في أن تكون كلمة الدأب قد استحالت إلى كلمة الأدب، فقدمت العين فيها على الفاء نقلا، ولا سيما إذا لوحظ أن هذا النقل مألوف في الجمع، فقد جمعت الكلمة على أدآب ثم وضعت عينها موضع الفاء فقيل آداب، كما قيل آرام وآبار، ثم خيل إلى الناس أن كلمة الآداب هذه جمع أدب لا جمع دأب، فنشأ هذا المفرد، واشتق منه التأديب، وأصله فيما يظهر تعليم الناس ما ورث من العادات والسنن؛ أي تعليمهم ما ورث من الآداب بتقديم الدال. وأكبر الظن أن كلمة الأدب وما اشتق منها محدثة، أريد أنها نشأت بعد الإسلام لا قبله. وقد لاحظ الرافعي أن هذه الكلمة على خفتها وظرفها لم تستعمل قافية في الشعر القديم. وأراد الأستاذ الشيخ علام - فيما يظهر - أن يرد على الرافعي من طرف خفي، فروى البيت الذي يضاف إلى أم ثواب والذي رواه صاحب الحماسة:
أنشأ يخرق أثوابي ويضربني
أبعد شيبي يبغي عندي الأدبا!
وفي البيت رواية أخرى: «أنشا يمزق أثوابي يؤدبني»، وفيه رواية أخرى: «أبعد شيبي عندي يبتغي الأدبا». وحسبي أن تختلف الروايات في البيت إلى هذا الحد لأشك فيه ولا أتخذه أساسا للغة.
ولست أدري أوفق الرافعي أم لم يوفق حين قال إن هذه الكلمة لم ترد قافية في الشعر القديم، ولكن هذا لا يعنيني، فرأيي في الشعر الذي سبق الإسلام معروف، فهو عندي لا يثبت شيئا ولا يصلح دليلا على شيء. فإذا ثبت استعمال الكلمة في الشعر الذي نظم بعد الإسلام فذلك لا ينقض ما أذهب إليه من أن هذه الكلمة حديثة عرفت بعد القرآن. ومما يرجح هذا أن الأستاذ الشيخ علام نفسه يقول في شيء من الحزن والرثاء، إن هذه الكلمة قد أدركتها حرفة الأدب فلم تذكر في القرآن، والحق أنها لم تذكر في القرآن، وإنما ذكر في القرآن الدأب بسكون الهمزة، ومعناه العادة كالدأب بتحريكها. والأمر لا يقف عند هذا الحد، بل إن هذه الكلمة لا توجد في اللغات السامية المعروفة. وإذن فهي كلمة عربية خالصة للعرب دون غيرهم من الشعوب السامية. ونظن أنها من هذه الكلمات التي نشأت عندما تطورت قريش واتسعت هذا الاتساع العظيم بعد ظهور الإسلام.
أنا إذن لا أوافق الرافعي ولا الشيخ علام في اشتقاق الأدب من الأدب بمعنى الدعاء، ولكني لا أرى بأسا بما كتب الرافعي في كتابه عن معاني هذه الكلمة وأطوارها وإن كان قد أوجز هذا البحث إيجازا شديدا.
وسواء أكانت كلمة الأدب مشتقة من الأدب أو من الدأب، فإن الخلاف بين الشيخ علام وبيني لا يقف عند اللفظ، وإنما يتجاوزه إلى المعنى أيضا. ولست أريد أن أناقش الأستاذ في المعاني القديمة لهذه الكلمة، ولا أن أقف عند هذا الكلام الذي يضيفه إلى النبي وعمر وعلي ومعاوية في غير نقد ولا احتياط، وإنما أقف عند جملة واحدة أرى أنها تشخص الأستاذ الشيخ علام وأصحابه من أنصار القديم تشخيصا مضحكا، وهذه الجملة هي قول الأستاذ:
وكل علم من العلوم له غاية ينتهي عندها فتكمل مباحثه، إلا هذا العلم وعلم والتاريخ، فإنهما يزيدان كل يوم ولن يزالا في نمو مطرد.
وما كنت أعرف قبل اليوم أن «لكل علم غاية ينتهي عندها فتكمل مباحثه إلا علم الأدب والتاريخ» حتى جاء الأستاذ فأنبأني بهذا النبأ الغريب الذي هو فصل ما بين أنصار القديم وأنصار الجديد.
فنحن نعلم أن الحركة العلمية لن تنتهي من فرع من فروع العلوم إلا يوم يفنى العقل الإنساني ويحال بينه وبين البحث والتفكير، ولا أعرف علما من العلوم انتهى عند غايته، وكملت مباحثه، وقيلت فيه الكلمة الأخيرة، وإنما أعرف أن كل علم قابل لأن يتغير ويتجدد ويحذف جحودا. وقد كان أهل القرون الوسطى يعتقدون أن علم الفلك قد انتهى عند غايته، وكملت مباحثه، وقيلت فيه الكلمة الأخيرة، ثم جاء من أنبأ بأن العلم لم يبدأ وإنما هي كرة منتقلة متحركة، وأن أفلاك السماء لم يستكشف منها إلا أقلها وأضألها. وكانوا يعتقدون أن فلسفة أرستطاليس هي خاتمة الفلسفة وخلاصتها، وكلمتها الأخيرة، فجاء ديكارت وأنبأهم أن فلسفة أرستطاليس هي بدء الفلسفة لا آخرها ولا وسطها. وكان الناس منذ سنين يرون أنهم قد وصلوا في الطبيعة والرياضة إلى نتائج علمية بعيد أن تنقض، فجاء هنري بوانكاريه، وأينشتين، وأظهرا أن نقض هذه النتائج ليس بالشيء العسير.
ولعل الأستاذ الشيخ علام يعتقد أن الأمر في العلم كالأمر في النحو عند صاحب الورقة الصفراء الذي كتبت له قواعد فحفظها ، وخيل إليه أنه قد حفظ النحو كله. نعم هذه الجملة تشخص الغلاة من أنصار القديم تشخيصا لذيذا، فهم يرون أنه يكفي أن يحفظ أحدهم جملا من العلم ليكون قد ألم بالعلم كله. ولعلهم يمتازون بأنهم يؤمنون بأن كل شيء قد انتهى وأقفل بابه، فلا يمكن أن يضاف إليه ولا أن يزداد فيه. ولقد جاء الأستاذ الشيخ علام بمعجزة حين استطاع أن يعلن أن الأدب لا ينتهي عند غاية، ولا تكمل مباحثه كما تكمل مباحث العلوم الأخرى. وما رأي الأستاذ إذا قلت له إن النحو لم تكمل مباحثه بعد، رغم ما كتبه سيبويه وابن خروف وابن عصفور وابن هشام وابن مالك، ومن إليهم من أعلام الشرق والغرب الإسلاميين؟ بل ما رأي الأستاذ إذا قلت له إن كل علوم اللغة العربية لم تنته عند غايتها ولم تكمل مباحثها، بل هي في حاجة إلى التجديد واستئناف الدرس، ولا سيما النحو والصرف وعلوم البلاغة؟ وما رأي الأستاذ إن قلت له إن الأدب العربي كله محتاج إلى التجديد واستئناف الدرس؟
هنا يظهر الفرق بين الأستاذ وبيني. ولإظهار هذا الفرق في الفهم والفقه والمنهج كتبت هذا الفصل الطويل. يرى الأستاذ وأصحابه أن لكل علم غاية يقف عندها، وتكمل مباحثه إلا الأدب، فهو لا ينتهي عند غاية، وإنما يزداد في كل يوم. ونرى نحن أن ليس لعلم من العلوم غاية ينتهي عندها، وأن لا أمل في أن تكمل مباحث علم من العلوم، وإنما كل شيء في العلم قابل للتغيير، واستئناف البحث عنه، والأدب أشد أنواع العلم قبولا للتغيير والتجديد.
وهنا نقف عند تعريف الأستاذ الشيخ علام للأدب وقفة قصيرة، فهو تعريف قديم يحتاج أيضا إلى التجديد. وأنا أنقل لك هذا التعريف الذي يقول عنه الأستاذ إنه موجز وإنه منطقي، فسترى أنه ليس من الإيجاز ولا المنطق في شيء. قال الأستاذ:
هو علم مأثور الكلام، منثوره ومنظومه، قديمه وحديثه، وما يتصل بذلك من أخبار بارعة، ونوادر رائعة، وملح مستعذبة، وطرف مستغربة، مع الإلمام من كل علم بأمهات مباحثه .
ولست أحفل بهذه السجعات الرائعة البارعة، فأنا أراها أقرب إلى اللغو منها إلى أي شيء آخر. ولكني أبحث عن الإيجاز في هذا التعريف فلا أظفر به. أما المنطق فلنبحث عنه معا، أيهما أديب: من حفظ مأثور الكلام نظما ونثرا ولقنه الطلاب، أم من أنشأ هذا الكلام المأثور؟ وأيهما الأدب: حفظ مأثور الكلام أم إنشاؤه؟ وإذن فما رأي الأستاذ الشيخ علام في نفسه، أأديب هو لأنه يحفظ مأثور الكلام نثرا ونظما، ويلقنه للطلاب، ولكنه ليس شاعرا ولا ناثرا؟ وإذا لم يكن شاعرا ولا ناثرا وكان أديبا، فما رأيه في شوقي أأديب هو أم غير أديب؟ وإذا لم يكن أديبا وكان الأديب هو الشاعر الناثر ليس غير، فما رأيه في نفسه وأمثاله من الذين يدرسون الأدب ويفرغون له، وفي أي طبقة من طبقات العلماء يضعهم؟ وفي أي مكانة ينزلهم؟ ألا يرى الأستاذ أن تعريفه ليس منطقيا لأنه لا يمنع ولا يجمع؟ وما معنى قوله علم مأثور الكلام؟ وهنا أحب أن أكون أزهريا، أيريد العلم بمأثور الكلام فلا يكون هو أديبا لأنه ليس من الذين ينشئون هذا المأثور؟ ونحن نستطيع أن ندور مع الأستاذ في هذه الدائرة إلى غير حد، ولكنا نقف ونلاحظ أن تعريف الأستاذ لم يغن شيئا. •••
وفي الحق أني أميل أن أقسم الأدب إلى قسمين: أدب المنشئين وأدب الناقدين الدارسين، أو قل أدب الكتاب والشعراء وأدب العلماء من المؤرخين والناقدين، فشوقي أديب، وهو الأديب حقا؛ لأنه ينتج الأدب إنتاجا، وهو أديب منشئ، ولكنه ليس عالما بالأدب لا يستطيع درسه ولا تصويره ولا تعليمه ولا تأريخه. والشيخ علام أديب ولكنه ليس أديبا منشئا؛ لأنه ليس شاعرا ولا ناثرا ولا صاحب فن، وإنما هو حافظ لآثار الكتاب والشعراء يرويها ويلقنها وينقدها، يوفق في ذلك حينا ويخطئه التوفيق حينا. والأدباء المنشئون يختلفون: فمنهم النابغة الفذ، ومنهم المتوسط، ومنهم المسف. والأدباء والعلماء يختلفون: فمنهم المجود ذو الرأي، ومنهم الآلة الحاكية أو الببغاء.
وأولئك وهؤلاء تختلف مذاهبهم في إنشاء الأدب ودرسه: فمنهم المقلد ، ومنهم المجتهد المبتكر، ومنهم من يذهب مذهب الحرية، ومنهم من يؤثر مذهب الرق، ومنهم من ينحو نحو الفلسفة، ومنهم من ينحو نحو النقل والرواية. وأين هذا كله من التعريف الذي جاء به الشيخ علام من إيجاز ومنطق كما يقول! ولكني قلت لك منذ حين إن الأستاذ الشيخ علام يمثل أنصار القديم حقا، فتعريفه قديم، ألم يعتمد فيه على ابن خلدون؟ وأسلوبه في هذا التعريف قديم، ألم يسجع كأهل القرن الرابع؟ ألم يصطنع فيه ألفاظ هؤلاء الناس؟
الأستاذ وأمثاله - كما قلت في الشعر الجاهلي - كتب قديمة متحركة أو قطع من كتب وصل بعضها ببعض.
ولنفرغ من مناقشة الأستاذ، ولنجب ماكرنا الظريف وسائله الذي اضطرنا إلى هذا العناء كله، فالأدب عندنا أدبان: أدب إنشاء، هو هذا الذي ينتجه الكتاب والشعراء من أصحاب الفن. وأدب علم ودرس، وهو هذا الذي ينتجه النقاد ومؤرخو الآداب. والأدب الأول فن كله، والأدب الثاني مزاج من الفن والعلم. وقوام الأدبين شخصية الأديب التي يجب أن تظهر في كل ما يصدر عنه ظهورا واضحا.
وقوام الأدبين أيضا اتصال الأديب بعصره اتصالا يمكن من تمثيل ذوقه الفني إن كان منشئا، وحياته العقلية إن كان ناقدا أو مؤرخا. ليس أديبا منشئا هذا الذي ينظم الشعر فلا يتجاوز ما قال القدماء في اللفظ والمعنى والأسلوب. وليس أديبا ناقدا هذا الذي يدرس الأدب فلا يتجاوز ما قال المبرد والجاحظ وأبو الفرج وصاحب العقد الفريد، وإنما الأديب المنشئ من يقرأ معاصروه أدبه فيرون فيه أنفسهم، وإنما الأديب الناقد من يقرأ معاصروه نقده فلا يشعرون بأن بينهم وبينه بعد ما بينهم وبين القدماء.
وهنا تسألني: ماذا تصنع بالقدماء؟ والجواب يسير: أصنع بالقدماء ما صنعوا هم بأنفسهم، فأنا ألتمس عصورهم في هذه المرآة، ولا ألتمس منهم العصر الذي أعيش فيه. ولقد كنت أضرب منذ أيام مثلا للأدباء من أهل مصر: ما رأي أنصار القديم لو طلبنا إليهم أن يهمل ما وصل إليه العلم الحديث في الطبيعة والطب، وأن يعتمد في كليتي العلوم والطب على إشارات ابن سينا وقانونه، أيرضون أم يصيحون ويستغيثون؟ لا أشك في أن الأستاذ الشيخ علام يستغيث بالله والناس يوم يعرف أن طب «باستور» و«كلود برنار» قد أهمل، وأن طبيبه سيعالجه منذ اليوم كما كان يعالج ابن سينا أو الحارث بن كلدة أو داود الأنطاكي.
ومع ذلك فالأمر في الأدب كالأمر في الطبيعة والطب، لا ينبغي أن يهمل طب ابن سينا وطبيعته؛ لأنهما يمثلان عصرا من عصور الحياة العلمية، فهما يدرسان على أنهما فصل من تاريخ الطب والطبيعة. ولا يهمل أدب المبرد والجاحظ؛ لأنهما يمثلان مظهرا من مظاهر الحياة الأدبية، فهما يدرسان على أنهما فصل من تاريخ الأدب. ولكننا نجدد الأدب درسا وإنشاء كما يجدد الطبيعيون والأطباء طبيعتهم وطبهم عملا ونظرا.
فما رأي الأستاذ الشيخ علام وأصحابه في هذا الكلام؟ أما أنا فواثق أنهم ينكرونه الإنكار كله ولا يطمئنون إليه. وهم مكرهون على هذا الإنكار؛ فلو قد قبلوا ما ندعو إليه لما استطاعوا أن يعيشوا؛ ذلك أنهم غير قادرين على التجديد، هم يؤثرون القديم، ومن القديم يعيشون. أما نحن فلا نؤثر القديم، ولا نؤثر الجديد؛ لأننا لسنا في حاجة إلى أحدهما لنعيش، وإنما نؤثرهما معا وندرسهما معا؛ لأننا لا نبغي إلا العلم، وإلا العلم خالصا من كل شيء. (2) خطرات نفس للدكتور منصور فهمي
كنت أتحدث منذ أشهر إلى عالم كبير من علماء الفرنسيين في مصر، وكان يشكو إلي أن أعماله الإدارية تستغرق أكثر وقته وتصرفه عن الدرس، بل عن متابعة الصحف والمجلات العلمية التي تعنيه؛ لأنها تتصل بالمادة التي يدرسها. قال: فإذا كان الشتاء، شغل العلماء في مصر عن علمهم بهذه الحياة الاجتماعية العتيقة المفعمة بالزيارة والاستقبال، والتي تلتهم آخر النهار وشطرا من الليل في أكثر أيام الأسبوع. فالعالم في مصر مضيع للوقت والجهد، يصرف وجه النهار في حياة يومية عادية هي قوام عيشه، وينفق آخر النهار في حياة اجتماعية خاملة هي قوام مركزه في الدائرة الاجتماعية التي يدور فيها، وهو إن فرط في تلك الحياة الإدارية مقصر يتعرض للوم واحتمال التبعات الثقيلة ، وإن قصر في هذه الحياة الاجتماعية أنكرته بيئته، وأعرض عنه نظراؤه، واتهم بالكبرياء والفتور والجفوة والإهمال. وكل هذه خصال لا يحب أن يتصف بها الرجل الذي يريد أن يعيش في مصر هادئا مطمئنا. فإذا فرغ العالم من حياته الإدارية والاجتماعية فقد انقضى النهار وتقدم الليل، وينظر فإذا هو أمام حقوق لأهله لم يؤد منها شيئا، وأما حقوق لنفسه لم يفكر فيها، ثم يقهره ضعف الجسم فيأوي إلى مضجعه يقضي فيه بقية الليل بين أرق مضن ونوم ثقيل، ثم يستقبل غده بمثل ما أنفق فيه أمسه. وعلى هذا النحو تمر الأيام والأسابيع والشهور، والعالم منصرف عن علمه منهمك فيما لا يجد فيه لذة ولا غناء.
قال صاحبي: وأستطيع أن أؤكد لك أني إذا خلوت إلى نفسي - وقلما أخلو إليها - وفكرت في ذاك، ضاقت بي الحياة، وضقت بها، واستيقنت أن حياة العلماء في مصر تضحية مؤلمة مستمرة. فالناس في بلادنا لا يثقلون العلماء بأعباء الزيارة والاستقبال، ولا يشقون عليهم بالدعوة إلى الشاي والعشاء، والسيدات لا يتخذن زينة يظهرنها في غرفات الاستقبال كلما خطر لهن أن يستقبلن أو في الحفلات الساهرة كلما خطر لهن أن يحتفلن.
ولو أن رجال السربون والكوليج دي فرانس اختلفوا إلى غرفات الاستقبال وشهدوا ما يقام في باريس من حفلات في الليل وأخرى في النهار، لما كانت السربون والكوليج دي فرانس عقل فرنسا المفكر وقلبها النابض الحساس.
قلت: ومع ذلك فقلما تخلو غرف الاستقبال الباريسية من عالم أو أديب يلتف حوله السيدات، فيلقين عليه أسئلة حلوة مريحة، ويسمعن منه أجوبة عذبة مرضية، فيها فكاهة لا تخلو من مرارة، وفيها جد لا يخلو من سخرية. وأحسب أن الفرق بين فرنسا ومصر إنما هو كثرة العلماء والأدباء في الأولى وقلتهم في الثانية؛ فعندكم من العلماء والأدباء من يفرغون للجامعة، ويعكفون في المعامل ودور الكتب، وعندكم من العلماء والأدباء من يشهدون المحافل، ويزينون المجالس، ويرضون حاجة السيدات إلى المفاخرة بمن يحضر يوم استقبالهم من رجال العلم والأدب والحرب والسياسة والقضاء . أما نحن فالمستنيرون عندنا قليل، فضلا عن العلماء والأدباء المتميزين. فليس عجيبا أن تشق الحياة على الظاهرين من علمائنا وأدبائنا، وأن تتخطفهم المجالس وتتنافس غرف الاستقبال أيها يزدان بأكبر عدد ممكن منهم.
قال صاحبي: ليكن مصدر ذلك ما تحب أن يكون، ولكن الشيء الذي لا شك فيه هو أن نتيجة ذلك ثقيلة مؤلمة. فلو قد رأيت ما يجتمع في مكتبي من الصحف والمجلات والرسائل والكتب التي تنتظر أن أقرأها لراعك الأمر. وجاءت سيدة ففرقت بين صاحبي وبيني بابتسامة عذبة ومزاح ظريف.
كنت أفكر في هذا الحديث منذ أيام حين كنت أستعد للسفر، وحين كان صاحبي يسألني عما أريد أن أصطحب من كتب، فتأخذني حيرة لا أكاد أصفها ولا أصورها.
فقد انقضى العام ولم أقرأ شيئا. هذه كتب قديمة طبعت واستخرجت من دور الكتب في الشرق والغرب، ومن الحق علي لنفسي أن أقرأها أو أنظر فيها، وقد كنت أتحرق شوقا إليها قبل أن تقدمها إلى المطبعة وتجعلها يسيرة قريبة المنال. وهذه مقالات نشرها العلماء المستشرقون في مجلاتهم المختلفة، ومن الحق علي أن أقرأها أو ألم بها، لأعرف ما يقول الزملاء فيما أفرغ لدرسه من العلم. وهذه مقالات نشرها الأدباء المعاصرون في مصر، وحفظها صاحبي لأقرأها متى أتيح لي الوقت، فمن الحق علي أن أعرف ما يقول المعاصرون من المصريين والشرقيين لأعيش على بصيرة وفهم للعصر الذي أحيا فيه. وهذه كتب ألفها فلان وفلان من الأصدقاء أو من الأدباء المتميزين، ومن الحق علي لنفسي ولهؤلاء الأدباء أن أقرأ ما يكتبون لأحيا على أقل تقدير حياة الرجل المثقف الذي يلم بما يظهر حوله من فكرة أو رأي أو مذهب. كل هذا مجتمع في مكتبي وصاحبي يسألني عما أحب أن أحمل منه إلى أوروبا. ومهما تكن رغبتي في القراءة شديدة أثناء هذه الرحلة فأنا أحب أن أقرأ ما سأجده في أوروبا من كتب وصحف. وأنا لا أذهب لأوروبا للقراءة وحدها، وإنما أريد أن أستريح وأن أرفه على النفس، أطوف في الأرض وأشهد الملاعب وأسمع للموسيقى والغناء ، فالطاقة محدودة، والوقت محدود، وهذه زوجتي تلفتني إلى أن الحقائب محدودة أيضا، وإلى أنها لم تصنع لتفعم بالكتب، وإنما صنعت لتوضع فيها الثياب، وما يحتاج إليه المسافر من أدوات ليس إلى الاستغناء عنها من سبيل. وهي تحدد ما أستطيع حمله من كتب على أن يوضع بعضه في هذه وبعضه في تلك، ويحمل صاحبي بعضه الآخر فيضعه في حقيبته. وأنا أضيق بهذا كله فأكره الإقامة والسفر وأمقت الجد والكسل، ثم أخرج عن طوري فأفرض كتبا لا بد من حملها مهما يكن من شيء، وأترك لزوجي وصاحبي أن يتخيرا بعد ذلك ما يشاءان وما تتسع له حقائبهما من هذه الكتب المكدسة.
وقد وصلت الآن إلى فينا، واستقر بي المقام فيها أنتظر مؤتمر المستشرقين، وأنا أسأل صاحبي: ماذا حملت من كتب المعاصرين؟ فيجيب مبتسما: لقد حملت ما تحب أن تقرأ؛ حملت كتاب التراجم لهيكل، وحملت كتاب البهاء زهير لمصطفى عبد الرازق، وحملت كتاب خطرات نفس لمنصور فهمي. لقد وفقت إلى حسن الاختيار، ولكن ألم تحمل مصرع كليوباترة لشوقي؟ قال صاحبي دهشا: ولم أحمله وقد قرأته في الصيف الماضي؟ وأنكرت من صاحبي إهمال هذا الكتاب، فقد كنت أحب أن أعيد النظر فيه، فأنكرت جوابه، فقد كنت أحب أن أتحدث عن هذا الكتاب إلى الناس، ولكن لا بد مما ليس منه بد. فلأقرأ ما بين يدي، ولأبدأ بآخر هذه الكتب ظهورا وهو خطرات نفس. ولست حديث عهد بهذا الكتاب، فقد تبعته منذ نشأته الأولى وسايرته نحو خمس عشرة سنة حين كانت فصوله المختلفة تنشر في الصحف شيئا فشيئا، فأرى بعضها قبل أن يظهر، وأرى بعضها مع غيري من القراء. وكنت من الذين طلبوا إلى منصور أن يجمع هذه الفصول في سفر مستقل كما نفعل جميعا حين نؤلف من فصولنا التي تنشرها الصحف أسفارا نجمع متفرقها، ونسهل على الناس قراءتها والرجوع إليها. وإذا كان صديقنا منصور حريصا على أن يجمع خطرات نفسه لأنها تمثل صباه وشبابه، وهو يحب أن يرجع إلى ماضي حياته ليحب ما فيه من ذكرى، فإن أصدقاءه يحرصون على مثل ما يحرص عليه؛ لأنهم يحبون أن تجتمع لديهم حياة صديقهم في صباه وشبابه وكهولته، فيقفوا عند هذه الحياة وقفات فيها حب ومودة ووفاء. وربما كان فيها عتب وخصومة واختلاف في الرأي، فمهما يكن الكاتب مستقلا، قوي النفس، عظيم الشخصية، فهو متصل ببيئته، متصل بمعاصريه، يلائمهم أحيانا فيرضون وينافرهم أحيانا أخرى فينكرون. وكذلك حياة الأديب في كل بيئة وفي كل جيل: هو مخدوع، يحسب أنه يكتب لنفسه لأنه يحس من العواطف والأهواء ما لا يجد بدا من إعلانه، فهو يرفه على نفسه حين يكتب أو ينظم الشعر، ولكنه في حقيقة الأمر يكتب للناس، ذلك بأنه كائن اجتماعي محتاج إلى أن يعطي الناس، ويأخذ منهم، فهو لا يستطيع أن يكتفي بما يحس في نفسه، بل لا بد له من أن يشرك الناس فيما يحس.
وقد يوفق إلى ما يريد فيشاركه الناس فيما يحس ويرى، وقد لا يوفق فلا يشاركه منهم أحد أو لا يشاركه منهم إلا القليل.
ويخدع الأديب نفسه من ناحية أخرى حين يألف الإذاعة والنشر، ويحس من الناس ميلا إليه، ورغبة في آثاره، فيمضي في الإذاعة والنشر معتقدا أنه يكتب للناس، وهو في حقيقة الأمر يكتب لنفسه لأنه أحب رضا الناس عنه، وميلهم إليه وكلفهم به، فهو يستزيد حين يكتب من هذا الرضا والميل والكلف. فإذا زعم الأديب أنه يكتب لنفسه وحدها فهو مخطئ، وإنما الحق أنه حين يكتب يؤدي عملا اجتماعيا فيه له وللناس لذة ومتعة. ومهما يكن إلحاح الملحين عن أخذنا في جمع ما تفرق من آثارنا، ومهما يكن ترددنا في الاستجاية لهذا الإلحاح، فإن الأسباب التي دعتنا إلى نشر فصولنا في الصحف هي بنفسها التي تدعونا إلى أن نؤلف من هذه الفصول أسفارا تذاع مرة أخرى في المكتبات بعد أن أذيعت في الصحف اليومية أو الأسبوعية أو الشهرية.
وبينما كنت أقرأ هذه المقدمة الطريفة التي قدمها منصور بين يدي هذه الخطرات في طورها الجديد، لفتتني حاشية قرأتها مرة ومرة فأنكرتها بعض الشيء؛ ذلك أن صديقنا يزعم فيها أنه لم يغير من فصوله شيئا إلا ما كان من إعراب لفظ أو تصحيح آخر، وأنه قد عهد في ذلك إلى الأستاذ صادق عنبر فتولاه عنه، وهو يشكر للأستاذ هذا الفضل شكرا جميلا.
واشتد إنكاري لهذه الحاشية حين أظهرني صاحبي على فصل لصديقنا هيكل لم يكد يتجاوز فيه هذه الأسطر من كتاب منصور. فقد وقف عندها وقفة طويلة يسجل على نفسه وعلى منصور وعلى الكتاب المعاصرين ضعفا ظاهرا في اللغة العربية وقصورا عن إحسان الانتفاع بها واعترافا بهذه القصور. وأنا أعترف بأني لم أفهم هذه الحاشية، فلو قد كان صديقنا منصور معترفا بضعفه في العربية مكبرا لها، لعرض فصوله على الأستاذ صادق عنبر أو على غيره ليعرب ألفاظه ويصححها قبل أن يدفعها إلى الصحف، ولكنه لم يفعل، فهل أحس هذا الضعف واعترف به حين أراد أن يجمع هذه الفصول في كتاب؟ وأغرب من هذا أن نقرأ الفصول مجموعة فلا نجد فرقا لغويا بينها في هذه السفر، وبينها في الأهرام والسفور: ففيها ما فيها من صواب لغوي كبير وخطأ لغوي قليل يغفر لمنصور؛ لأنه لم يزعم لنفسه في يوم من الأيام تفوقا في اللغة أو عصمة من الخطأ فيها، وإنما عرفته دائما يأسف لأنه لم يظفر من اللغة بما كان يريد.
في هذه الفصول مجموعة أغلاط لغوية كانت فيها متفرقة، ولم يصححها الأستاذ صادق عنبر ولم يعربها؛ لأنه لم يكلف تصحيح اللغة ولا إعرابها، وإنما كلف تصحيح التجارب المطبعية طبقا للأصل الذي دفعه إليه المؤلف، فأحسن الأستاذ صادق عنبر هذا التصحيح، وإلا فكيف ترك الأستاذ صادق عنبر الذراع مذكرة تذكيرا لا يحتمل الشك في صفحة 32؟ وكيف ترك الأستاذ صادق عنبر في صفحة 83 هذا الاستعمال العددي الذي لا يخلو من غرابة، وهو «من نيف وعشر سنين»، وأنا لا أذكر هذين المثلين إلا لأثبت أن الأستاذ صادق عنبر لم يعرب ألفاظا ولم يصحح أخرى، ولم يطلب إليه منصور ذلك، وإنما صحح تجارب المطبعة، فأراد منصور أن يشكر له هذا الجهد، فأسرف في التعبير كما أسرف صديقنا هيكل في استنباط ما استنبط من هذه الحاشية.
وبعد، فمن الحق أن نقف عند ما يمكن أن يوجد في كتاب منصور من انحراف قليل عن طريق العرب في التعبير، فليس منصور صاحب ألفاظ ولا هو يزعم لنفسه ذلك، وإنما هو صاحب معان غزيرة غنية، وخطرات قيمة خصبة. وأنا أريد في هذا الفصل أن أقف عند هذه الخطرات وقفة قصيرة، لأحقق إلى حد ما هذه الشخصية الأدبية التي تمثلها، وهي شخصية صديقنا منصور.
ليست هذه الشخصية قوية إلى حد الطغيان، وليست ضعيفة إلى حد الفتور، وليست هادئة إلى حد الاطمئنان، ولكنها شخصية ثائرة جامحة، دون أن يكون في ثورتها أو جموحها هذا العنف الذي لا يذر شيئا أتى عليه إلا دمره تدميرا، فصديقنا منصور ثائر ولكنه لا يحطم شيئا، جامح ولكنه لا يلبث أن يعود ويطمئن إلى ما يطمئن إليه الناس. هو ثائر ماهر يستطيع أن يخترق الزجاج وينفذ منه إلى ما وراءه دون أن يحطم أو يحدث فيه صدعا؛ ذلك لأنه ينفذ منه ببصره لا بجسمه. وإذا شئت التعبير الدقيق فقل إنه يرى التجديد ويحبه دون أن يقدم عليه؛ لأنه يؤثر العافية ويفضل الانتظار. وليس في ذلك شيء من الغرابة، فصديقنا منصور شديد التأثر بفريقين من الفلاسفة؛ أحدهما فلاسفة القرن الثامن عشر في فرنسا، والآخر فلاسفة الاجتماع في آخر القرن الماضي وأول هذا القرن الذي نحن فيه. فأما الفريق الأول فأنت تعلم أنهم أعدوا الثورة الفرنسية ولم يشهدوها، ولو شهدوها لنفروا منها نفورا شديدا. وأنت تعلم مقدار ما كان من الفرق بين الحياة العقلية والشعورية والحياة العملية لروسو وفولتير. وأما الفريق الثاني فأصحاب علم وملاحظة، لا يعنون إلا بأن يلاحظوا ويستنبطوا ويتركوا للحوادث طريقها إلى إنشاء التاريخ.
والغريب من أمر صديقنا منصور أنه تأثر بفيلسوفين مختلفين اختلافا شديدا؛ أحدهما روسو، وهو صاحب الشعور الدقيق والعواطف الحادة والمزاج المضطرب والخيال الخصب، والآخر دوركيم، وهو صاحب العقل المستقيم والمنهج العلمي الدقيق، وأبعد الناس عن التأثر بالعاطفة والخضوع للشعور، فهو يدرس الجماعة كما يدرس صاحب الحيوان والنبات في معمله.
وأثر روسو في الخطرات أشد وأظهر من أثر دوركيم؛ فالخطرات حديث العواطف، وهو حديث وجه إلى الكثرة من الناس، فلا ينبغي أن يكون حديثا علميا يخاطب العقل الخالص؛ لأن هذا العقل الخالص لا يوجد في الشوارع، وإنما يوجد في المكاتب المغلقة، ولم يتحدث منصور إلى أهل المكاتب المغلقة، وإنما يتحدث إلى الناس الذين يغدون ويروحون ويمشون في الأسواق، ويختلفون إلى الأندية والملاهي.
ولو أني أردت أن أحدد تأثير روسو في خطرات منصور لأشرت إلى هذا الطموح الظاهر إلى مثل أعلى من الخير يلتمسه منصور، كما كان يلتمسه روسو في الطبيعة الحرة الساذجة التي لم تفسدها الحضارة، ولم يمسخها التكلف، والتي يجدها في الريف، وفي بعض الطبقات من الناس، ثم لأشرت إلى العاطفة الدينية في خطرات منصور، فهي قوية جدا تبلغ التصوف أحيانا، ولكنها غريبة جدا لا تكاد توفق إلى تحديدها: فيها من الإسلام وفيها من الروح اليوناني، وفيها من الروح المصري القديم، وفيها من مذهب وحدة الوجود.
وأنت تستطيع أن تجد هذا كله في الفصول التي كتبها منصور حين رحل إلى بلاد اليونان سنة 1923 ووقف على الأكروبوليس متأثرا بوقفة رينان.
1
على أن هناك فرقا عظيما جدا بين رينان ومنصور حين وقف في الأكروبوليس، فقد كان رينان أديبا وفيلسوفا ومؤرخا. أما منصور فكان أديبا وفيلسوفا ليس غير. وكم كنت أحب أن يقرأ شيئا من تاريخ اليونان قبل أن يذهب إلى أتينا، فهناك فصل أسفت له أشد الأسف، ولو استشارني منصور لأشرت عليه بحذفه؛ لا لضعف في معناه أو لفظه فهو قوي المعنى جيد اللفظ،
2
ولكن لبعده عن الحق، ولأنه أراد أن ينصف آلهة المصريين القدماء فظلم آلهة اليونان ظلما شديدا. عنوان هذا الفصل هو «وقفة بالحصن المقدس: العرق دساس». أراد منصور أن يتقرب إلى آلهة الحسن في أتينا، وما أشك في أنه أراد الإلهة أتينا نفسها، وإن كانت عنايتها بالحسن أقل مما ظن منصور بكثير . إنما أفروديت هي التي تعنى بالحسن، ومع ذلك فالصورة التي تخيلها منصور من الحسن ليرضي الإلهة اليونانية بعيدة كل البعد عما يرضي آلهة اليونان، قريبة كل القرب إلى ما يرضي الغانيات في القاهرة أو باريس. فقد أراد منصور أن يتجمل بأحسن ثيابه، ويرجل شعره ويصلح من شاربيه، ويتعطر بأحسن الطيب، ويضع في صدره زهرة غضة ويرسل عليه سلسلة ذهبية، ويضع في أصبعه خاتما يتألق، ثم ذهب يشتري عصا، وبينما التاجر يعرض عليه أظرف ما عنده من العصي رأى عصا تمتاز بالمتانة والصلابة والشدة فآثرها؛ لأنه ذكر المصريين وآلهتهم وأنهم كانوا يمتازون بالقوة والمتانة، فانصرف إليهم وانحرف عن الآلهة اليونانية معتذرا إليها، لأنه من قوم كانوا يؤثرون القوة، ولم ينس منصور إلا شيئا واحدا ولكنه عظيم الخطر جدا، وهو أن الإلهة أتينا كانت إلهة الحكمة من ناحية وإلهة الحرب من ناحية أخرى، وأنها خرجت من رأس أبيها كأقوى ما تكون سلاحا واستعدادا للحرب، وأظن أن إلهة الحكمة والحرب لا تنقصها المتانة والقوة، ذلك إلى أن إلهة الحسن نفسها وهي أفروديت كانت عند اليونان قوية شديدة البأس، دافعت عن طروادة فأحسنت الدفاع وكادت تنتصر. فأنت ترى أن جمال هذه الفصل قد ذهب لأن كاتبه لم يكن مؤرخا حين كتبه.
ولأعد إلى ما كنت فيه من وصف العاطفة الدينية في خطرات منصور، فقد قلت إنها قوية حادة، وأن فيها من الديانات المختلفة والمذاهب الفلسفية ما يذكر برينان، ويكفي أن تنظر إلى هذا الفصل الذي يشبه فيه الجمال بالله وبالقوة الخفية؛ لأنه يعرف بآثاره دون أن تدرك حقيقته، لتحس من قوة هذه العاطفة وسعتها ما يثبت صحة ما أقول.
ولروسو تأثير آخر في خطرات منصور كاد يجعله كاتبا بارعا من الوجهة اللفظية لولا أنه لم يدرس اللغة العربية درسا عميقا، ذلك أن روسو قد بث في نفس منصور قوة غريبة تكرهه على أن يظهر ما يشعر به قويا كما يشعر به؛ أي في قوة وعنف، فيحمله ذلك على أن يخترع صورا من التعبير ليست مألوفة، وكانت خليقة أن تبقى وتؤرخ عصرا من عصور اللغة لو استقامت لصاحبها طرق التعبير، ولو أنه تأنى وتمهل ولم يخرجها عجلان مسرعا.
وأنت تجد صورة قوية من هذا في الفصل الذي كتبه يودع به العام، فيأخذ يفكر ويستعرض الحوادث وينتظر آخر لحظة في السنة، حتى إذا أخذت الساعة تدق خيل إليه أن كل دقة من دقاتها تحصي أثرا من آثار العام، فأعلن بهذه الصورة الغريبة الطريفة التي كادت تكون بديعة لولا أنه تعجل ولم تستقم له اللغة، فأصبحت صورة مضحكة، أو داعية إلى الابتسام. وأنا أنقلها لك لترى صحة ما أقول:
تن ... سخرت من الغافلين حتى صحوا من الشدة والمحن ...
تن ... أغريت الإنسان بالذهب الوهاج فتهافت على ناره كما يتهافت على النور الفراش ...
تن ... جعلت في الناس والأمم من يعملون لقتل الضعيف ولو كان بريئا ...
تن ... آويت اللص وسترت الخديعة، وكثيرا ما أعليت الباطل على الحق ...
تن ... نفرت بين قلوب، وأشعلت ضغائن، وأثرت فتننا ...
تن ... صرفت الناس عن وجهك يا الله ليعمدوا إلى الأثرة والشهوات ...
تن ... تمخضت بآراء وقدمت عظات وعبرا، ولكن الناس لا يفقهون ...
تن ... أحرقت أفئدة وأجريت دموعا وشربت دماء ...
تن ... كم من صحيح أضعفت ... وكم من عزيز أذللت ... وكم من عليل داويت ...
تن ... جردت أشجارا من ورقها الأصفر الجاف ... وأبدلتها منه ورقا جديدا ... وجعلت عليها زهرا نضيرا ...
تن ... صرفت العاشقين وهم في سكرات القبل عن مرارة العيش. ثم أخذتهم أخذ الجبار فبدلت هناءهم تعسا. وبدلت سعادتهم شقوة وجحيما ...
تن ... لبيك اللهم لبيك ...
هذه الآثار القوية المختلفة التي تركها روسو في نفس منصور جعلت منه كاتبا، ليس كغيره من الكتاب المعاصرين، نزعته الفلسفية في جوهرها غريبة بعض الشيء لأنها لا تلائم العصر الذي نحن فيه، ولكنها في شكلها وظاهرها مألوفة يحبها الناس؛ لأنها سهلة تدعو في يسر ولين وقوة إلى الخير، وإلى الفضائل التي أحبها الناس وألفوا حبها، تدعو إلى الرحمة والإشفاق والبر والحنان والوفاء، وما إلى ذلك من الفضائل الاجتماعية والفردية. ولا بد هنا من الإشارة إلى ناحية أخرى لا تتم بدونها شخصية منصور، وهي شرقيته، فمنصور مؤمن بالرابطة الشرقية إيمانا قويا قديما، لعله يعتمد على الوراثة والمزاج الفطري أكثر مما يعتمد على الروية والتفكير العقلي. والذين يعرفون صديقنا منصورا يشكون في أن أشد الأوتار التي تتألف منها نفسه حسا واضطرابا وترديدا لأصداء الحياة إنما هو حبه للشرق وفناؤه فيه.
كان شرقيا حين كان طالبا للعلم في باريس، كان يألف الشرقيين أكثر مما يألف الغربيين، كان يألف الشرقيين على اختلافهم، كان يألف أبناء الشرق القريب من العرب والترك، وكان يألف أبناء الشرق الأوسط من الفرس، وكان يحس من نفسه ميلا لا يخلو من حنان إلى أبناء الشرق الأوروبي من الروسيين والبولونيين. ثم عاد إلى مصر، فلما ضاقت به واضطر إلى الرحيل عنها نفى نفسه إلى الشرق، فهاجر إلى قسطنطينية وأقام فيها حتى ردته الحرب إلى وطنه، فعاد شرقيا كما تركه شرقيا. ولم يكد يشترك في الحياة الاجتماعية الظاهرة حتى كان نشاطه قويا عنيفا يكاد يبلغ التعصب في إنشاء الرابطة الشرقية وتأييدها، وهو الآن من أقطابها الظاهرين. وهو في هذا كله يصدر عن العاطفة والوراثة أكثر مما يصدر عن الروية والتفكير. وقد أثرت شرقيته هذه في خطرات نفسه كما أثرت في حياته العملية وصلاته الاجتماعية، فهو في الخطرات شرقي، لولا الحياء وخشية أن يوصف بالرجعية لآثر القديم الشرقي على الجديد الغربي في غير تحفظ ولا احتياط، وأحسب أنه سينتهي على مر الزمن إلى هذا الموقف فيصبح محافظا مسرفا في المحافظة.
وهو في صلاته الاجتماعية قريب من بيئة المحافظين المعتدلين الذين لا يكرهون التجديد، ولكنهم لا يقدمون عليه إلا في استحياء. وهو يعد بين الأزهريين أصدقاء يحبهم ويحبونه، ويميل إليهم ويكلفون به. وقد لاحظ الأستاذ حبيب هذه الخصلة في صديقنا منصور ومصطفى عبد الرازق، فأشار في بحثه الأخير عن المعاصرين من أدباء مصر إلى أنهما يستمتعان برضى البيئات المحافظة.
أما أثر علماء الاجتماع المعاصرين في منصور فلا يكاد يظهر في الخطرات إلا حين يتحدث منصور عن الجماعة، فنراه يفهمها ويصفها على نحو ما كان يفهمها ويصفها دوركيم. ولكني قلت آنفا إن صديقنا لم يتحدث في الخطرات إلى العلماء، وإنما تحدث إلى الكثرة من الناس، فلم يكن من اليسير أن تصور الخطرات حياته العلمية، وهو بخيل إلى الآن بإظهار هذه الحياة العلمية في كتاب ينشره على الناس، وهو يزعم في تواضع فلسفي أنه لا يحب أن يظهر هذا الكتاب حتى يتم نضجه العقلي، كأنه يريد أن يخيل إلى الناس أن عقله لم ينضج بعد، ولكن أصدقاءه وطلابه في الجامعة لا يطمئنون إلى هذا التواضع، ولا يسحرهم هذا الخيال، فهم يتمنون على الأستاذ أن يفرغ لهم قليلا، وأن يبيح لهم شيئا من آثار عقله الذي تم نضجه منذ دهر طويل.
أثارت الخطرات في نفسي هذه المعاني، ولما أقرأ منها إلا نصفها أو ما دون النصف، ولست أدري متى أقف لو انتظرت بكتابة هذا الفصل أن أقرأ الكتاب كله. وإنك ترى معي أني قد أطلت وأسرفت في الإطالة، فلأتم وحدي قراءة هذا الكتاب القيم.
فينا، يونيو سنة 1930 (3) ديكارت
شيخان من أنصار القديم قرآ كتاب «الشعر الجاهلي» الذي أذعته منذ أسابيع، وكانا قد سمعا به قبل أن يظهر، وكانا قد أزمعا الرد عليه بعد ظهوره. فلما ظهر الكتاب قرآه كله أو بعضه، فاعترضهما فيه اسم ديكارت ومنهجه الفلسفي. والله يصرف الكون كما يريد، ويجري الأقدار فيه كما يحب، وقد أراد الله أن يظهر اسم ديكارت وفلسفته منذ ثلاثة قرون، وأن يطبع العصر الحديث كله بطابع ديكارت، وأن يتغلغل تأثير ديكارت كاسم أرستطاليس عنوانا لطور من أطوار الحياة الإنسانية العامة التي تلزم الأجيال مهما تختلف بها الأزمنة والأمكنة. أراد الله هذا كله، وأراد معه شيئا آخر هو أن يظل ديكارت مجهولا عند طائفة من شيوخ الأدب في مصر، لا يعرفون اسمه ولا مذهبه، ولا يدركون كيف يؤكل، وإن دروا كيف تؤكل الكتف، ولا يعرفون كيف يشرب، وإن عرفوا كيف تشرب القهوة والشاي، وكيف يشرب الخروب والعرقسوس. وإذا أراد الله أمرا فلا مرد له ، وليس لنا أن نذعن للقضاء ونصبر لجهل شيوخ الأدب العربي اسم ديكارت وفلسفة ديكارت في العصر الذي يحرص الإنسان فيه على أن يعلم كلما استطاع أن يعلم.
ومن غريب الأمر أن شيوخ الأدب القديم يرون ويكتبون كما كان يرى الأدباء القدماء، ويكتبون: أن الأديب «هو من يأخذ من كل شيء بطرف.» كذلك قال شيخ الأدب في دار العلوم، وإنما أريد الأستاذ الشيخ علام، قال ذلك في «السياسة» منذ أسبوعين، ولم يكن في ذلك مجددا، وإنما كان يحكي القدماء ويرددهم. وقد كان المبرد حريصا كل الحرص على أن يأخذ الأديب من كل شيء بطرف، وظهر ذلك في كتاب الكامل ظهورا واضحا، حتى إنك لترى فيه بابا قال المبرد في عنوانه: «باب نذكر فيه من كل شيء شيئا.» وكتب الأدب العربي القديمة كلها قائمة على هذا النحو من تصور الأدب والأديب. والأستاذ الشيخ علام وأصحابه يرون رأي القدماء، ويكتبون أن الأديب يجب أن يلم من كل شيء بطرف، ولكنهم لا يلمون من كل شيء بطرف، بل يجهلون ديكارت وفلسفته، وأثره البعيد في حياة العقل والشعور كما قلنا.
وهم يجهلون ناسا آخرين غير ديكارت، وأشياء أخرى غير فلسفة ديكارت، ولكنهم مع ذلك يرون أنهم أدباء، وأنهم قد ألموا من كل شيء بطرف، ومعذرتهم في هذا قائمة: فديكارت ليس شيئا وفلسفته ليست شيئا، والحق عليهم أن يلموا من كل «شيء» بطرف. فأما ما ليس «شيئا» فلا ينبغي أن يلموا منه بقليل ولا كثير، فإذا أردت أن تعرف لم لا يكون ديكارت شيئا من الأشياء، ففي جواب ذلك قولان؛ أحدهما أن الشيء الذي ينبغي أن يلم الأدباء بطرف منه هو الشيء الرسمي الذي اشتمل عليه برنامج التعليم الرسمي في وزارة المعارف، فعلى الأديب أن يلم بعلوم العربية، وأن يلم بالرياضيات والطبيعيات. وليس في البرنامج الرسمي لوزارة المعارف ذكر ديكارت ولا فلسفة ديكارت، وإذن فهما ليسا في الورقة الصفراء ... وإذن فليس الأديب مكلفا أن يلم منهما بطرف لأنهما ليسا شيئا.
هذا أحد القولين، وهناك قول آخر ، وهو أن الشيء الذي ينبغي أن يلم الأديب منه بطرف هو الشرقي القديم ... أستغفر الله العظيم وأتوب إليه، بل هو العربي القديم. مصر الفراعنة ليست شيئا، ومصر اليونان والرومان ليست شيئا، وليس الأديب مكلفا أن يلم منها بطرف، وأقسم ما يعرف الأستاذ الشيخ علام وأصحابه لها طعما ... أستغفر الله العظيم وأتوب إليه، بل الشيء هو العربي القديم الذي لا يتجاوز بلاد العرب والشام والعراق في العصور العربية الأولى والأندلس في بعض عصورها الإسلامية، فأما مصر الفاطميين والمماليك، فأما أفريقيا الشمالية، فليست شيئا وللأدباء أن يجهلوها، وهم يجهلونها بإذن الله. وإذن فأوروبا ليست شيئا، وإذن فديكارت ليس شيئا وفلسفته ليست شيئا. وجهل أوروبا وديكارت وفلسفته ليس من الأمور التي تعاب على الأديب. ورحم الله شيخا من شيوخنا في الأزهر أراد أن يرفع في يوم من الأيام ظلامة إلى المحافظة، فلم يستطع أن يكتب ما كان يريد، فاستعان بأحد «أبناء المدارس» معتذرا أو مفاخرا بأنه لا يحسن مثل هذا السخف الجديد. فلشيوخ الأدب أن يعتذروا أو أن يفاخروا بأنهم يجهلون ديكارت وفلسفته لأنهما ليسا شيئا، ولأن من السخف أن يضيع الأديب وقته في درسهما، وخير من ذلك وأجدى أن ينكب الأديب على فقرة من فقرات الحريري، أو مقامة من مقامات البديع، أو بيت من شعر امرئ القيس.
ولكن حظ الأديب سيئ أبدا، وأنت لم تنس بعد حرفة الأدب التي قتلت ابن المعتز، ونتفت لحية الحريري، وحالت بين لفظ الأدب وبين الورود في القرآن، فالأدب لذيذ ولكنه شؤم على أهله. ومن شؤم الأدب على الأدباء أن كتابا ظهر في هذه الأيام يقال له «الشعر الجاهلي» ويجب على الأدباء أن ينقدوه وينقضوه ويهدموه ويهدموا كاتبه، ويتقربوا بهذا النقد والنقض والهدم إلى الله أو ... إلى الشيطان. وقد أقسموا ليفعلن، وقد بدءوا يفعلون، فما هي إلا أن اعترضهم هذا الشيء، وهو اسم ديكارت وفلسفة ديكارت.
والحق نقول إن موقفهم بإزاء هذا الاسم والفسلفة كان بديعا لا يخلو من فكاهة وظرف؛ فأما أحد هذين الشيخين اللذين ذكرتهما في أول هذا الفصل، واللذين أهدي إليهما هذا البحث، فقد كتب في تواضع يشبه الكبرياء أنه لا يعرف ديكارت ولا مذهبه، وأنه يظن أو يرجح أن مذهب ديكارت قريب من المذاهب الإسلامية، وأن صاحب «الشعر الجاهلي» قد حرف هذا المذهب لحاجة في نفسه أو كما قال الشيخ. وأما الآخر فعزيز عليه أن يتكبر أو يتواضع على هذا النحو، وهو قد تعود أن يستغل الرافعي واليازجي والسكندري وابن مكرم دون أن يذكرهم أو يشير إليهم، فلم لا يستغل في أمر ديكارت حيا أو ميتا يشبه هؤلاء؟ وقد بحث بين الأموات فلم يجد، وبحث بين الأحياء فلم يجد من كتب عن ديكارت أو أشار إليه، وهو لا يعرف لغة ديكارت ولا لغة أجنبية أخرى.
وإذن فليلجأ إلى أحد الذين يعرفون لغة من هذه اللغات ليقص عليه أمر ديكارت ويلخص له فلسفته، حتى إذا استقام له ذلك في صفحات أو أسطر تكلم عن ديكارت وفلسفته كلام العالم المحقق، وأثبت لصاحب «الشعر الجاهلي» أنه لا يفهم ديكارت، ولا يحسن تخريج مذهبه الفلسفي. وكان قد تفوق على زميله الذي يكتب في «الأهرام» فعرف من أمر ديكارت وفلسفته ما لم يعرف هذا الشيخ المسكين.
وأنا أحد الذين يعرفون لغة أجنبية، وأحد الذين يحسنون لغة ديكارت، وأحد الذين قرءوا كتب ديكارت، وأحد الذين قرءوا ما كتب عن ديكارت. وأنا أريد أن أهدي إلى الشيخين بحثا عن حياة ديكارت وفلسفته، ليتما به أدبهما ويستعينا به على هدم كتاب الشعر الجاهلي، والتهام صاحب هذا الكتاب التهاما. وأنا مخلص فيما أكتب، فأنا أحب أن يلتهمني الشيخان؛ لأني أعرف أن حلقيهما إن استطاعا ازدرادي فستعجز معدتاهما عن هضمي.
أنا أهدي إلى الشيخين بحثي عن حياة ديكارت، ولكني أهديه إليهما على أن يقرآه ويفقهاه فقها «حسنا» لا يشبه فقههما «للشعر الجاهلي» ولا للسان العرب، ولا لما كتب الرافعي أو أملى السكندري. وأنا أهدي هذا البحث إلى الذين يعرفون ديكارت من المتفرنجة والمتعلمين على اختلافهم، ذلك أني أعلم من أمر ديكارت ما لا يعلم الناس في مصر، فقد كنت أريد أن أضع فيه كتابا، واضطرني ذلك إلى كثير من البحث والتحقيق، وإلى ألوان من الاستقصاء والاستقراء. ولكني لا آسف على ما لقيت من عناء، فقد وصلت إلى نتائج غريبة قيمة، لو أعلنتها في فرنسا لاندكت لها السربون، ولاضطربت لها الكوليج دي فرانس، ولأعلن لها المجمع العلمي الفرنسي إفلاسه ... لا تضحك ولا تعجب فلست أحدثك إلا بالحق الذي لا شك فيه ولا غبار عليه. ويكفي أن تعلم أني استكشفت طائفة من الكتب المخطوطة التي كتبت في النصف الثاني للقرن السابع عشر بعد أن مات ديكارت بسنين قليلة، والتي كانت محفوظة في مكتبة الملك الخاصة، حتى إذا كانت الثورة الفرنسية، وتبدد ما في القصر ضاعت هذه الكتب، ولم يستطع أن يظفر بها الذين أنشئوا المكتبة الأهلية في باريس بعد الثورة، وأخذت أسرة من الأسر الشريفة تتوارث هذه الكتب، حتى انتهت إلى صديق لي فرنسي، كان يدرس معي، وهو يقيم في ريف بورجونيا، فدعاني في بعض فصول الصيف أن أقضي عنده أياما ففعلت، وأظهرني على مكتبة آبائه، فإذا فيها هذه الكتب المخطوطة، فدرسناها معا، ولم نستوف درسنا بعد، وسنقدمه إلى السربون يوم نستوفيه، وسننشر هذه الكتب على الناس، وسنودع أصولها المخطوطة المكتبة الأهلية بباريس، وسيعلم الناس يومئذ أنهم لم يؤتوا من العلم عن ديكارت إلا قليلا، وستعلم الحكومة الفرنسية يومئذ أن هذه الطبعة الرسمية التي نشرتها في اثني عشر مجلدا ضخما لا تشتمل إلا على ما كان يكتبه ديكارت ليلهو ويعبث ويلهي الناس عن فلسفته الصحيحة.
فديكارت كأرستطاليس يذهب في الفلسفة مذهبين مختلفين أحدهما يعلنه إلى الناس، فإنهم يستطيعون أن يفهموه وأن يسيغوه، والآخر يحتفظ به لنفسه وللأصفياء من تلاميذه، ولا يذيعه في الجماهير لأنه أعسر وأدسم من أن تحتمله عقولهم.
وقد ظفرت الحكومة الفرنسية بالقسم الأول من آثار ديكارت، فعهدت إلى عالمين من أكبر علماء فرنسا بتحقيقه ونشره ففعلا، ووقع هذا القسم في اثني عشر مجلدا ضخما كما قلت لك، ولكن من يقرأ هذه الطبعة الرسمية أو هذه المطبوعة الرسمية - على رأي وحيد - ويقارن بينها وبين ما سننشره قريبا، سيرى أن ديكارت كان غريبا حقا؛ فقد كان يأتلف من شخصين يختلفان فيما بينهما كل الاختلاف؛ أحدهما فيلسوف معتدل معقول يكتب بالفرنسية حينا، وباللاتينية حينا آخر، ويتناول فيما يكتب كل ما تناوله الفلاسفة من قبله، ويذهب فيما يكتب مذهب التجديد، فيخيل إليك أنه سيؤسس فلسفة جديدة تهدم ما أقامه أرستطاليس وتلاميذه؛ ذلك لأنه يتخذ لفلسفته هذه قاعدة لم يألفها الناس، هي نسيان القديم والبراءة منه كله، وافتراض أنه لم يكن، حتى إذا قرأت هذه الفلسفة وتعمقت فيها لم تجد جديدا. ولا شيئا يشبه الجديد، وإنما هو كلام ككلام الفلاسفة فيه كثير من الحدود والقضايا والأقيسة. ومع ذلك فقد فتن الناس بهذا الشخص، واعتبروه أبا الفلسفة الحديثة، ومؤسس العلم الجديد. ولكن الشخص الثاني هو الذي لفتنا وبهرنا، لما فيه من غرابة كنا ننتظر كل شيء إلا إياها؛ ذلك أن ديكارت لم يكن مسيحيا ولا فيلسوفا، ولا من أصحاب التجديد، ولا من أنصار هذه الحقائق الثابتة التي ألفها الناس، وإنما كان مسلما ديانا متصوفا مغرقا في التصوف، شطاحا مسرفا في الشطح. انتهى به هذا كله إلى شيء لا أستطيع أن أسميه إلا «إظهار الكرامات». ولعل أحسن طريق لشرح هذه الناحية الخفية من حياة ديكارت أن ألخص لك في شيء من الإيجاز بعض ما كتبه ديكارت عن نفسه، وما وجدناه في هذه الكتب «المخطوطة» التي حدثتك عنها آنفا.
ولد ديكارت في القرن السادس عشر للمسيح، وكانت أسرته فقيرة، شديدة المحافظة على العادات القديمة والسنن الموروثة، فلما شب أرسلته أسرته إلى مدرسة اليسوعيين، فتعلم فيها على نحو ما كان اليسوعيون يعلمون. أتقن اللاهوت وفلسفة العصور الوسطى واللغتين اللاتينية واليونانية، ولكنه كان ذكيا حاد الذهن، مستعدا للنقد والشك، فاضطربت نفسه اضطرابا شديدا حين أحس تناقضا بين قواعد اللاهوت وفلسفة أرستطاليس، ولكنه لم يظهر من هذا الشك شيئا؛ لأنه كان محافظا كأبويه وأساتذته اليسوعيين. على أنه لم يكد يدع المدرسة حتى سئم الحياة التي وجهه إليها أبواه، وهي حياة الحرب، فانصرف إلى السياحة، ولقي في هولاندا رجلا شيخا من اليهود، يقال له دروكلكسيس بن كراباك. قال ديكارت: كان لهذا الشيخ تأثير غريب في نفسي، لا أدري أكان مصدره ذكاءه وفطنته أم غرابة شكله واختلاف أطواره العجيبة. كان قصيرا ضخما، عريض ما بين الكتفين، صغير العينين غائرهما، ولكن عينيه كانتا شديدتي التوقد كأنهما شعلتان تضطربان، عرش الأذنين، دقيق الأنف، غليظ الشفتين، مرسل اللحية، فأما صوته فلا أعرف أني سمعت صوتا يشبهه. أما في حديثه العادي فكان غليظا متهدجا أشبه شيء بالرعد، فإذا ناقش أو ناظر في العلم كان نحيف الصوت حاده خلاب الحديث.
ولا أعرف أني رأيت عالما يحيط بمثل ما كان يحيط به هذا الرجل مما كتب الأولون والآخرون، كان يهودي الجنس والمولد، ولكنه لم يكن يهودي الدين، وأحسب أنه قد ورث شيئا من آبائه الذين خالطوا المسلمين مخالطة شديدة في إسبانيا. كان غنيا ولكنه شديد الزهد فيما كان يملك من ثروة، إلا أنه كان يحب الاستمتاع بالطيب من لذات الحياة، وكان يعجبني في بيته شيئان: مائدته ومكتبته. تحدثت إليه في الفلسفة وفي اللاهوت، فسمع مني وتحدث إلي، وما هي إلا أن فتنت به وشغف بي، وأصبحت لا أستطيع عن لقائه صبرا. وقد كان في حديثه إلي ماهرا لبقا، يلقي إلي أغرب الآراء، وكأنه يحدثني عن الجو والمطر، حتى إذا آنس مني اطمئنانا إليه، وثقة بكل ما يقول، كشف لي عن دخيلة نفسه، فإذا هو لا يؤمن بالمسيحية ولا اليهودية، ولا يحب الإلحاد ولا الملحدين، وإنما اتخذ لنفسه دينا كنت أسمع به، ولا أعرف من حقيقته شيئا، فلما رغبت إليه في أن يظهرني على دقائق هذا الدين أطال الصمت، ثم قال في هدوء: ما أحب أن أظهر لك هذا الدين، وإنما أحب أن يظهر لك الدين نفسه فاتبعني، ثم مضى بي إلى مكتبته واستخرج سفرا ضخما دفعه إلي، وقال اقرأ هذا، فإذا فرغت منه فلنتحدث. ثم تركني ومضى ونظرت في الكتاب فإذا هو باللاتينية، وإذا هو ترجمة لكتاب كتبه أحد المسلمين في القرن العاشر للمسيح، يقال له الطواسين، ويقال لصاحبه الحلاج،
3
ولم أكد أمضي في هذا الكتاب حتى أحسست كأن بيني وبين الحقائق سترا صفيقا، وكأن هذا الستر أخذ يرتفع شيئا فشيئا، ويظهر لي من ورائه عالم بديع غريب خلاب، وأخذت نفسي تمتلئ شوقا إلى هذا العالم وهياما به. أنفقت في قراءة هذا الكتاب أياما ثلاثة، فلما فرغت منها أنكرت نفسي وأنكرت ما حولي من الأشياء ومن حولي من الناس. ولقيني دروكلكسيس فلم يظهر عجبا ولا إنكارا.
وإذا كنت لا أزال حيا إلى الآن، وإذا كنت قد استطعت أن أنشر في الناس كتبا أعجبتهم، وأكتب لنفسي كتبا قرءوها، وإذا كان صوتي قد وصل إلى أقصى أطراف الأرض، وتنافس الملوك في عشرتي والاستئثار بي، أنا مدين بهذا كله لدروكلكسيس بن كراباك؛ ذلك أني خرجت من قراءة ذلك الكتاب مفتونا، أريد أن أعلن إلى الناس إيماني بهذا الدين الجديد، وأناضل عنه بما أملك من قوة. ولكنه حال بيني وبين ذلك، وكان يقول لي في هدوء: احذر أن يصيبك ما أصاب الحلاج فلا تنتفع بحياتك، ولا تنفع بها الناس، والحياة أغلى وأنفس من أن تبذل في غير نفع، فاكتم ما أنت فيه وأنفق حياتك في التسبيح والتقديس، وانفع الناس ما استطعت إلى نفعهم سبيلا.
من ذلك الوقت آثرت العزلة، وعشت هذه المعيشة التي كان الناس يعجبون من أمرها.
وفي الحق أن حياة ديكارت كانت غريبة، فقد كان ينفقها في موقد له لا يخرج منه إلا مضطرا، وكان يقسم وقته أربعة أقسام؛ أحدها لما يحتاج إليه جسمه من العناية المادية، وكان يقتصد في هذه العناية اقتصادا شديدا، لا يأخذ من الأكل والشرب والنوم إلا بما يمسك عليه الحياة، والثاني ينفقه في الكتابة والتأليف فيما ينفع الناس في هذه الحياة العاجلة، والثالث في التفكير الفلسفي والإشراقي، والرابع في التسبيح والتقديس وتلاوة صيغة معينة أخذها عن شيخه دروكلكسيس بن كراباك. وكان لترديده إياها تأثير عظيم في حياته العملية والعقلية، قال ديكارت:
بينا أنا في موقدي ذات يوم أردد ما تعودت ترديده من صيغ التسبيح والتقديس، إذ أخذتني غفوة، فرأيت فيما يرى النائم كأن سقف البيت قد انشق، وكأن طائرا قد هوى إلى الموقد، له شكل الهدهد، ولكنه أكبر منه حجما وأعرض منه جناحا، وكأن هذا الطائر قد وقف قبالة الموقد محدقا في، منصتا لما أقول، وكأنه قد أنكر صمتي ونومي، فقال في لغة لاتينية تبينتها في وضوح وجلاء: عجبا لهذا الصامت النائم والفلك يدور، وشيخه في خطر. فاستيقظت لهذا الصوت في شيء من الانزعاج، ونظرت فلم أر شيئا، ولكني أشفقت على دروكلكسيس وأردت أن أراه، فسعيت إليه من فوري ولم أكد أسأل عنه حتى حدثت أنه مريض، وأن الطبيب يخشى عليه. فأدخلت عليه، فإذا هو في سريره شاحب ضعيف يتردد نفسه قويا في صدر فارغ، فجثوت عند سريره، وأخذت أدعوه في رفق، وكأنه كان نائما فانتبه وقال: هأنذا قد أقبلت، لقد أرسلت أدعوك وكنت أخشى أن أفارق هذه الحياة قبل أن أراك، فهل جاءك رسولي؟ قلت: من رسولك؟ قال: بريبيش، قلت: هذا اسم لم أسمعه من قبل! قال: ولكنك رأيت مسماه منذ حين، هو طائر يشبه الهدهد ويتكلم لاتينية سيسرون، فاحفظ اسمه فسينفعك، وادعه كلما احتجت إلى شيء شاق، ومره بما شئت فستجد منه طاعة وإخلاصا ونصحا، واعلم أنه موكل بزعماء المتصوفة منذ كانوا، يقدمهم ويقضي حاجاتهم، لا يجد في ذلك مشقة ولا عسرا، وهو فوق العلة، وفوق الموت حتى تنقرض طائفة المتصوفة ويموت بعد آخرهم بقليل. خدم متصوفة الهند قبل المسيح بآلاف السنين، وأشرف على بناء الأهرام، وأملى ما كتب فيها من طلاسم، وأعان فيثاغورس، ورافق أفلاطون في سياحته، ولزم الحلاج وابن الفارض ومحيي الدين بن العربي، وسيلزمك منذ غد، وسيعينك على سياحات لا بد من أن تسيحها في الأرض، فأنت مضطر إلى زيارة البيئات الصوفية في بغداد والقاهرة وتلمسان وفارس، على أني مؤد إليك أمانة يتناقلها زعماء الصوفية ويتوارثونها وهي لهم نافعة، فخذها فأنت زعيم الصوفية بعدي.
ثم أخرج من تحت وسادته علبة صغيرة من الذهب، أشبه شيء بعلب النشوق التي يصطنعها الشيوخ في مصر، وقال: احتفظ بها ولا تفتحها إلا حين يطلب ذلك إليك صديقنا بريبيش، واحفظ عني هاتين الصيغتين تستقبل بأولاهما النهار وبآخرهما المساء ما حييت، ثم همس بالصيغتين في أذني على أنهما سر لا يباح إلا لزعيم. وما هي بعد ذلك إلا أن اضطرب جسمه اضطرابا شديدا ثم هدأ وقد فارقته الحياة، وإذا بريبيش قد ظهر في الغرفة، وقال في هدوء: انصرف فقد مضى صاحبك، ودع هذا الجسم لأهله فليس لك به شأن، فخرجت.
وهنا يصف ديكارت حزنه على صاحبه في عبارات مؤثرة حقا، ولكن صحف «السياسة» محدودة، فلأدع حزن ديكارت، ولأتم ما أنا فيه من ذكر حياته الغريبة.
أصبح ديكارت بعد انصرافه من عند صاحبه، فاستقبل النهار بالصيغة التي أداها إليه دروكلكسيس. وما كاد يستقر في موقده حتى جاءه بريبيش، فقال: ما أنت وهذا الموقد، وما أنت والكتابة والتفكير؟ هلم إلى سياحتك. قال ديكارت لبريبيش: ولكني لم أعدد لهذه السياحة شيئا، فدعني أدبر أمري. قال بريبيش: ومتى دبر الصوفية لأنفسهم أمرا! قم فانطلق معي. ومضى في الجو قريبا من الأرض يسايره فيلسوفنا حتى خرجا من المدينة، وإذا جرة ضخمة من الفخار قد نقشت عليها نقوش وتصاوير لم ير مثلها ديكارت. قال بريبيش: امتط هذه الجرة وردد صيغة المساء مرات، ففعل، وإذا الجرة تصعد به في الجو حتى أشفق على نفسه، ولكن الجرة ماضية، ماضية في الجو لا تلوي على شيء، والطائر مواز لها يمضي في رفق ويتلو في إعجاب خطبة من خطب سيسرون التي ألقاها في مجلس الشيوخ الروماني يعنف بها كاتيلينا، وهو يحلل هذه الخطبة ويظهر للفيلسوف ما فيها من آيات البلاغة. ومضيا على هذا النحو ساعات، وإذا بريبيش يقول لصاحبه: انظر إلى الأرض، فينظر فلا يرى إلا أمواجا تلتطم وتصطخب، فيسأل صاحبه: أين نحن؟ فيجيبه: نحن نعبر البحر إلى الإسكندرية.
وانتصف النهار، أحس فيلسوفنا الجوع والظمأ، فيسأل الطائر : من لنا بطعام وشراب؟ قال بريبيش: والعلبة التي أهداها إليك أمس دروكلكسيس أين هي؟ هي معي. إذن فأخرجها وافتحها، فيخرج العلبة ويفتحها فلا يروعه إلا فتاة ظريفة قد خرجت منها مبتسمة محيية مصفقة، وإذا فتيان وفتيات قد أقبلوا إليها من الجو مسرعين، وإذا هي تأمرهم بلغة لا يفهمها ديكارت فيسائل صاحبه ما هذه اللغة؟ فيجيبه: هي اللغة السريانية التي لا بد لك من أن تتعلمها بعد حين. وما هي إلا لحظات حتى وقفت الجرة في الجو لا تتقدم ولا تتأخر، ونصبت أمامها في الجو مائدة فخمة صفت عليها الصحاف والأكواب من الذهب والفضة، وقدمت عليها ألوان من الطعام لا عهد لديكارت بلذتها وحسن مذاقها في الفم وموقعها في المعدة، فأكل الفيلسوف وشرب، ومن حوله الطير تصدح بأنغام لذيذة حلوة، حتى إذا تم له من ذلك ما اشتهى رفعت المائدة، واستخفى كل شيء، وأقبلت الفتاة السريانية مبتسمة قائلة في ظرف وخفة: والآن فأدخلني علبتي، فيفتح لها الفيلسوف العلبة فتستخفي فيها، وتستأنف الجرة سيرها في الجو. ويأخذ بريبيش في قراءة لخطبة التاج التي ألقاها ديموستين على الأتينيين محللا مستنبطا أسرار البلاغة اليونانية، فإذا سأله ديكارت عن حبه اللاتينية واليونانية، قال: أنا موكل بالأدب أحبه وأنفق فيه حياتي، ولست أؤثر أدبا على أدب، وإنما أحيط بالآداب كلها. وأنت تعلم أن الأديب يجب أن يلم من كل شيء بطرف، قال ذلك أدباء العرب وسيقوله في آخر الزمان منهم رجل يقال له الشيخ علام، وإذا كنت قد تلوت عليك خطبة سيسرون وخطبة ديموستين، فذاك لأنك تعرف اللغة اللاتينية واليونانية، وسأتلو عليك غدا قصيدة عربية وضعها رجل يقال له خلف الأحمر، ونسبها إلى شاعر يقال له النابغة الذبياني، وهي قصيدة جيدة لا يشك سامعها في أنها قديمة، وقد استشهد النحاة بشيء كثير منها على قواعد النحو العربي.
قال ديكارت: وأي فائدة في تلاوة هذه القصيدة أو غيرها من الشعر العربي، وأنا أجهل لغة الحلاج، ولا أستطيع أن أقرأ هذا الكتاب القيم كتاب الطواسين إلا في هذه الترجمة اللاتينية التي نشرت في القرن الثالث عشر، والتي أرجح أنها لا تخلو من خطأ.
قال بريبيش: ستعرف اللغة العربية وتتقنها إذا أمسيت، فليس يباح لك أن تدخل بلدا دون أن تعرف لغة أهله، وإذا كنت ستزور أطراف الأرض كلها فستعرف لغات الناس جميعا، قال ديكارت: ومن لي بذلك؟ قال بريبيش: أنا لك به، انظر إلى هذه العلبة الصغيرة، إنها تحتوي اللغات جميعا، فيها أقراص تشبه أقراص النعناع، كل واحد منها يمثل لغة من اللغات، فإذا أشرفنا على البلاد العربية فسأدفع إليك قرص اللغة العربية تزدرده، فإذا أنت أقدر الناس على أن تنشد وتفهم وتنقد ما ينسب إلى امرئ القيس من شعر، وما يضاف إلى تأبط شرا من سخف، وما يحكى عن قس بن ساعدة من وعظ وإرشاد، وإذا أنت من أقدر الناس على مناقشة سيبويه والخليل والمبرد فيما تركوا من قواعد النحو والعروض والقافية والصرف، فانتظر. وانتظر ديكارت حتى إذا مالت الشمس إلى الغروب نظر فإذا من تحته مدينة يموج الناس فيها موجا. قال لصاحبه: ما هذه المدينة؟ قال: هي مدينة طنطا يحتفل الناس فيها بمولد السيد أحمد البدوي، فازدرد هذا القرص، ففعل، وقال بريبيش كلمات هوت لها الجرة إلى الأرض، ونظر ديكارت فإذا هو واقف على قدميه قال له بريبيش: ضع هذه القلنسوة على رأسك لتستخفي عن أعين الناس، ففعل، ومضى مع صاحبه يزور المولد ويجلس في كل خيمة لحظة ثم دخلا المسجد واختلطا بالشيوخ والطلاب والزائرين والذاكرين.
وعلى هذا النحو الذي يفصله ديكارت تفصيلا ممتعا قضى صاحبنا سنتين كاملتين مطوفا في أقطار الشرق الإسلامي كله، متقنا لغاتها وعاداتها، ذاكرا مع الذاكرين، متيما مع المتيمين، دائرا مع الدائرين، يلتهم النار حينا ويبتلع الزجاج آخر، وينتطق بالحيات والأفاعي، ويمشي على الماء ويطير في السماء، ويزور الجن في الأرض السابعة، والملائكة في السماء الرابعة، حتى إذا قضى من هذا كله وطرا وعلم من أسرار الكون ما يضمره الشرق وحده، عاد إلى هولاندا فمكث في موقده أشهرا يكتب ويقدس ويأتيه بريبيش كل مساء فيقضي عنده ساعة ثم ينصرف، حتى جاءه ذات يوم فقال: أحسب أنك قد أحببت الراحة وكرهت مشقة السفر، ومع ذلك فلا بد لك من رحلة أخرى ليست أقل مشقة ولا نفعا من رحلتك الأولى، فقم على اسم الله. قال ديكارت: ألا ننتظر إشراق النهار؟ قال: كلا، وما أنت والنهار والليل؟ الجرة تنتظر وعلبتك كفيلة بحاجات السفر وعلبتي كفيلة بتعلم اللغات، وسأتلو عليك في هذه الرحلة آيات ألمانية وروسية لم تظهر بعد؛ لأن أصحابها لم يخلقوا، ولكنهم سيخلقون وسيحدثون هذه الآيات فيعجب بها الناس، سأتلو عليك ما سيحدثه جوت وهنري هين وتلستوي وغيرهم من أعلام الشعر والنثر والفلسفة في القرن الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين، ثم سأتلو عليك كتابا يكتبه بعد سنين يهودي يتأثر بمذهبك اسمه سبينوزا، سيكتب في الأخلاق والفلسفة، متأثرا بهذا الكلام الفارغ الذي تكتبه للناس في أوقات الفراغ، وسيظن أنه وصل إلى الحق وسيلقى من الناس إكبارا واحتقارا. وقد استصحبت كتابا شرقيا عربيا سيظهر في الربع الأول من القرن العشرين في مدينة القاهرة، وهو كلام فارغ ككلامك هذا الذي تنشره على الناس، واسمه يدل على أنه فارغ وهو كتاب «في أوقات الفراغ»، الذي سينشره على الناس كاتب ظريف مفكر يجد حينا ويعبث أحيانا، أديب ولكنه يحب السياسة ويرشح نفسه للانتخاب في مجلس النواب، واسمه محمد حسين هيكل. فأنت ترى أن رحلتنا ستكون قيمة سهلة، ولا سيما حين أتلو عليك كتابا باللغة العربية سيضعه مصري في القرن التاسع عشر يقال له الشيخ محمد عبده، ويترجمه في القرن العشرين عالمان يقال لأحدهما مصطفى عبد الرازق وللآخر برنار ميشيل، وسترى أن هذا الشيخ المصري المسلم متأثر تأثرا تاما بفلسفتك هذه الفارغة التي تفسد بها عقول الناس، وتنشئ لهم بها علما جديدا، سيمكنهم من استعباد البخار والكهرباء والماء والهواء والصعود إلى السماء. قم بنا.
فقاما وامتطى فيلسوفنا جرته ومضيا نحو الشمال. واستمرا في رحلتهما أياما وليالي متنقلين من أدب إلى أدب، ومن فن إلى فن، حتى استقبلهما في صباح يوم مشرق جبل شاهق لا يصل الطرف إلى قمته، قال ديكارت: أين نحن؟ قال بريبيش: نحن في أقصى الأرض من ناحيتها الشمالية، وهذا الجبل الذي تراه هو سورها الذي يأخذها من جميع أطرافها. قال ديكارت مصفقا: هذا جبل قاف؟ قال بريبيش: نعم هو جبل قاف. قال: ديكارت: ليس وراءه إلا الماء الذي لا حد له طولا ولا عرضا ولا عمقا، والذي لا يحيا فيه شيء. قال بريبيش: أخطأت فسترى أن في هذا الماء حياة وأحياء.
قال ديكارت: ماذا تقول؟ سنقتحم هذا الجبل؟ قال بريبيش: وما جئت بك إلا لنقتحمه. إن من ورائه قوما ينتظرونك لتنشر فيهم الدعوة إلى الحق، وتخرجهم من الظلمات إلى النور، دع هذه الجرة فهي لا تغني عنك شيئا. قال ديكارت: وكيف تصعد في هذا الجبل؟ قال بريبيش: أترى إلى هذا السحاب المتراكم، ستهبط منه سحابة تحملنا إلى حيث نريد. وهبطت سحابة فإذا شيء أشبه بعربة من الذهب والخالص، فيه وسائد من الحرير والإستبرق، وأكواب ملئ بعضها من الشاي وبعضها من القهوة، وبعضها من اللبن، وعلبة نشوق وسجائر مختلفة منها الطويل والقصير، والضخم والنحيف، ولكنها كلها عطرة أرجة يتضوع منها نشر يشبه العنبر، وفيها شيشة وجوزة، وفيها نرد وشطرنج ودومينو، وما إلى ذلك من أدوات اللعب. جلس الفيلسوف ومعه بريبيش وأخذ في تدخين الشيشة لأنه كان قد جرب ذلك في دمشق فأحبه، أما بريبيش فأخذ يدخن الجوزة لأنه كان كثير الاختلاف إلى حي من أحياء القاهرة في باب الشعرية، وهناك تعلم هذا النحو من التدخين.
وصعدت بهما السحابة في السماء حتى انتهت بهما إلى قمة الجبل، فهم ديكارت بالخروج فأمسكه بريبيش قائلا: لا تخرج حتى تشرب قدحا من اللبن وكأسا من اللبن وكأسا من القهوة وحتى تنشق؛ فكل هذه الأشياء من ثمرات الأرض التي تتركها، ولا بد من أن نذوقها الآن لنضمن لأنفسنا العودة إلى هذه الأرض أحياء أو أمواتا، فإن نحن لم نفعل فسيقوم جبل قاف حائلا بيننا وبين الأرض آخر الدهر. شربا ودخنا وخرجا. فإذا طائر عظيم لا يستطيع الطرف أن يحيط به قد حلق كأنه ينتظر أمرا، قال ديكارت: ماذا أرى؟ قال: هذا الطائر الذي تراه هو بلاجوست، وهو السفينة التي يتخذها الأحياء فيما وراء جبل قاف لمواصلاتهم، فامتط هذا الطائر فسأكون معك، وسترى أنه يقطع في لحظات ما تقطعه سفنكم في أيام. واستقر على جناح الطائر وما هي إلا لحظات قصار حتى هوى بهما إلى جزيرة عظيمة فيها غابات كثيفة ومروج خضر، ولكن أهلها لا يتجاوز ارتفاع أحدهم شبرا، عراض يتجاوز عرض أحدهم مترا، وهم يضحكون أبدا، ولهم فيما بينهم حديث كقصف الرعد، وهم يدخنون ولكن بآذانهم، يدخل الدخان في إحدى الأذنين فيخرج من الأخرى، وليس لكل واحد منهم إلا عين واحدة قد استقرت في وسط جبهته، ولكنها ضخمة متوقدة يتطاير منها شرر مخيف. قال ديكارت: ولكني لا أفهم شيئا مما يقولون. قال بريبيش: هذا قرصهم فازدرده تفهم لغتهم.
وأخذ ديكارت يسمع لغتهم ويفهمها، فقال لصاحبه: ألست ترى معي أن هذه اللغة تشبه اللغة البلغارية شبها شديدا، قال بريبيش: هي أصل اللغة البلغارية، وهؤلاء الناس هم آباء البلغار، كانت فيهم ثورة منذ آلاف السنين انتصرت فيها الديمقراطية على الأشراف فأجلتهم عن بلادهم، فعبروا جبل قاف، وهناك في أرضكم أثر فيهم الجو، فأخذ من عرضهم، وزاد في طولهم، فاستقامت لهم هيئات وقامات كهيئات الناس وقاماتهم، ومضوا في طريقهم حتى انتهوا إلى الأرض التي تسمى الآن بلغاريا، فاحتلوها واستعمروها. وهم الذين تحدثوا إلى فقهاء المسلمين عن أرض تشرق فيها الشمس ستة أشهر فليس فيها ليل، وتغيب عنها ستة أشهر فليس فيها نهار، وقد وضع فقهاء المسلمين أحكاما فقهية لأهل هذه البلاد تمس أوقات الصلاة بنوع خاص. وقد جئت لتنشر الإسلام في هذه الأرض، فعلم الناس كيف يؤقتون الصلاة حين تشرق الشمس، وحين تغرب، وامض بنا فإن «قاطرينا» تنتظرك في قصرها. قال ديكارت: من قاطرينا؟ قال بريبيش: هي ملكة هذه الجزيرة، حدثتها عنك وأنبأتها بنبئك، فهي تنتظرك، وقد زارها من قبلك دروكلكسيس، وزارها الحلاج، وزارها فيثاغورس. قال ديكارت: هي إذن خالدة لا تموت! قال بريبيش: إن الخلود لم يكتب لأحد، كل شيء هالك إلا وجه الله، ولكن ملوك هذه البلاد كتب لهم طول الأعمار. فأعمارهم لا تعد بالسنين ولا بالقرون وإنما تعد بالآلاف. وقد ولدت قاطرينا سنة 3505 قبل المسيح، وملوك هذه البلاد إذا بلغوا من العمر ثلاثة آلاف سنة جاءهم النبأ بالعام الذي سيموتون فيه. وقاطرينا تعلم أنها ستموت سنة 1917 حين يقرب الألمان من مدينة باريس في الحرب العالمية الكبرى التي ستكون في ذلك الزمان. وهي مشوقة إلى أن تراك لتأخذ عنك العلم والحق والدين، وتنفق ما بقي لها من الدهر في عبادة وتقرب إلى الله، تاركة أمر الملك لولي العهد الذي يبلغ من العمر الآن ألفي سنة، واسمه ساباتيه بن أرابيشا.
ومضيا حتى انتهيا إلى القصر، فإذا فخامة وضخامة وترف لا عهد لفيلسوفنا بها، وإذا الملكة القصيرة العريضة تنتظره مبتسمة، وإذا هو لم يكد يجلس إليها حتى أخذت تتحدث إليه وتسأله. واتصل مجلسهما ساعات فتنت فيها الملكة بفلسفة ديكارت فتنة لا حد لها، ولم تأذن له بالانصراف ليستريح إلا كارهة، وأخذ فيلسوفنا يتردد على الملكة يعلمها ويفقهها في الدين والتصوف، وهي به مشغوفة، ولكن جو هذه الجزيرة لا يلائم طبيعة أهل هذه الأرض، فقد أخذ ديكارت يلاحظ أن قامته تقصر وتعرض، وشكا ذلك إلى بريبيش فقال له: ألم أنبئك أن أهل هذه البلاد حين هاجروا إلى أرضكم ضاقوا وطالوا حتى أصبحوا مثلكم؟ فأهل أرضكم إذا جاءوا إلى هذه البلاد قصروا وعرضوا حتى أصبحوا كغيرهم من سكانها. ولكن السن كانت تقدمت بديكارت فلم يستطيع أن يقاوم امتداد جسمه من ناحية وانكماشه من ناحية أخرى، فتوفي عام 1650.
وقد وصف بريبيش في كتاب أرسله إلى الحكومة الفرنسية مع جثة ديكارت مقدار ما أصاب الملكة من جزع وحزن لفقد هذا الفيلسوف قبل أن تنتشر مذاهبه القيمة في رعيتها. قال بريبيش في آخر كتابه: والرأي عندي ألا يسافر الزعماء الذين سيخلفون ديكارت إلى ما وراء جبل قاف إلا في منتصف الألف الثالث بعد المسيح؛ ففي ذلك الوقت قد يتشابه ويتقارب ما دون الجبل وما وراءه بحيث يصبح طول الناس جميعا أربعة أشبار وعرضهم أربعة أمتار، وفي ذلك اليوم قد يكون فن الطيران قد تقدم ويستطيع الناس أن يقتحموا جبل قاف، ويعبروا بحر كاف، ويصلوا إلى جزيرة نون في سهولة ويسر. قال بريبيش: على أني الموكل بهؤلاء الزعماء فلا أسمح لأحد منهم بزيارة قاطرينا أو ابنها ساباتيه بن أرابيشا إلا حين يئين الأوان لهذه الزيارات. •••
هذا ما أحببت أن أهديه إلى الشيخين الجليلين من حياة ديكارت، وأنا أعتمد على ذكائهما في فهم فلسفته من هذا الفصل، فللرجل نوعان من الفلسفة؛ أحدهما سخيف ضعيف، هو الذي اعتمدت عليه في كتاب الشعر الجاهلي؛ لأني لست من أهل التصوف، ولا القادرين على الشطح والنطح، والآخر قيم ممتع، خصب لذيذ، يلتمس في كتب الحلاج ومحيي الدين بن العربي، وفي كتاب الدياربي وشمس المعارف الكبرى، وفي رسالة صغيرة توجد في مكتبة الأستاذ الجليل أحمد زكي باشا بقسم المخطوطات يقال لها «دومة في نومة». •••
أما بعد؛ فإني أقسم لصاحب المعالي وزير المعارف، ولوكيلها وسكرتيرها العام، وأعضاء مكتبها الفني، ولناظر دار العلوم وأساتذتها وطلابها، لو سئل تلميذ أوروبي عن ديكارت في امتحان الشهادة الثانوية وجهله كما يجهله أساتذة هذه المدرسة العالية، لحيل بينه وبين الشهادة التي يطلبها. وإذن فأنا أقترح عليهم أحد أمرين: إما أن يكلفوا أحد العلماء بإلقاء محاضرات في تاريخ الفلسفة للأساتذة وللشيوخ منهم بنوع خاص؛ ليستطيعوا أن يكونوا أدباء وأن يلموا «من كل شيء بطرف»، وإما أن يأخذوا هذا الفصل الذي أكتبه ملخصا فينشروه، ويأخذوا الأساتذة والطلاب بقراءته وفهمه، فليس ينبغي أن يكون في مدارسنا العالية أستاذ أو طالب يجهل اسم ديكارت أو فلسفته، أو أثره في هذا العصر الحديث.
अज्ञात पृष्ठ