مقدمة‏

رءوس في السماء‏

الروح والشيطان‏

عفو الملك‏

حلقات النصر‏

شاعر وملك‏

مال وبنون‏

النصر المبين‏

عودة وغفران‏

نبل وخيانة‏

كتيبة الأهوال‏

الفتح الأول‏

أصحاب الفيل‏

وا معتصماه‏

ضيف وأبناء‏

ستار الخير‏

مقدمة‏

رءوس في السماء‏

الروح والشيطان‏

عفو الملك‏

حلقات النصر‏

شاعر وملك‏

مال وبنون‏

النصر المبين‏

عودة وغفران‏

نبل وخيانة‏

كتيبة الأهوال‏

الفتح الأول‏

أصحاب الفيل‏

وا معتصماه‏

ضيف وأبناء‏

ستار الخير‏

من أقاصيص العرب

من أقاصيص العرب

تمثيليات إذاعية

تأليف

ثروت أباظة

مقدمة

إن التقديم لكتاب أمر في غاية التعقيد للكاتب، وهو أكثر تعقيدا إذا كان الكاتب يقدم لعمل له، ويزداد الأمر سوءا إذا كان هذا العمل الذي يقدم له عملا فنيا. وقد ظللت عمري أعتقد أن الكاتب الذي يقدم لعمل فني له كأنه يعلن القراء بشيء من شيئين؛ إما أنه عجز عن قول ما يريد قوله بعمله الفني المجرد، وإما أنه يعلن القارئ بأنه لن يستطيع التغلغل إلى أعماق فنه ليصل إلى المعاني العميقة التي يحتويها هذا العمل. ولست أدري أي الإعلانين أكثر سخافة من صاحبه!

ولكنني مع ذلك أعتقد أن هذا العمل الذي بين يديك يحتاج إلى تقديم، فهي المرة الأولى التي ألتقي فيها بك بعمل مثل هذا، فهذه تمثيليات إذاعية، كتبتها جميعا لتذاع. والتمثيلية الإذاعية - كما تعرف - تعتمد على الأذن؛ فشأنها شأن الأغنية، النص فيها جزء من العمل وليس العمل كله، فالنص الروائي أو نص القصة القصيرة نص تكتمل جوانبه بمجرد انتهاء الكاتب منه. أما النص الغنائي والإذاعي فنص تبدأ مقدماته بانتهاء الكاتب منه، ويظل ينتظره بعد ذلك المخرج أو الملحن، والممثلون أو المغني، ولكن أليس هذا شأن الأعمال الدرامية جميعها؟! وهل هناك ما يمنعك أن تقرأ القصيدة الغنائية وتستمتع بها دون اللحن والأداء؟! أو هل هناك ما يمنعك من قراءة المسرحية والاستمتاع بها دون الإخراج والتمثيل؟!

بل إن جان بول سارتر يذهب إلى أبعد من هذا، فيقدم إليك في كتاب مقروء سيناريو أعده للسينما، وقد قرأته أنا واستمتعت به غاية الاستمتاع.

ألا ترى معي أن العمل الجيد حبيب إلى النفس مهما يكن الشكل الذي يقدم إليك فيه؟ وأرجوك ألا تعتقد أنني أزكي عملي لديك؛ فما أحسست بالخوف منك قدر خوفي وأنا أقدم إليك هذا الكتاب بين يديك، ومصادر الخشية كثيرة.

فقد كنت أكتب هذه التمثيليات وأنا لا أفكر إلا في أذنك، والأذن لا تمسك بالكلمة وإنما تسمعها وتلقي بها في سرعة خاطفة إلى العقل الذي ما يلبث أن ينتظر الكلمة التالية، ثم ها أنا ذا أقدمها إلى عينيك الواعية، لتنعم فيها النظر، ثم تنعم وتعرضها بعد ذلك على عقلك في هدوء واطمئنان ودعة، ويروح عقلك يفكر فيها لا يشغله شيء، ولا بأس عليه أن يقبل الوقوف ويطيله، وماذا وراءه؟ الكتاب في يده، ويستطيع الكتاب أن ينتظر الأجيال، فأنا هنا ألتقي بك في موقف لم أعد نفسي له، وكل ما أتمناه أن أنجو من سخطك لأفوز ببعض من رضائك، أو لأفوز - على الأقل - بالنجاة من السخط.

وأنا أخشى أيضا من الجملة التي كنت أتوخى فيها شيئا من الموسيقى اللفظية لعلها ترضيك عند السماع، ولا أدري كيف ستستقبلها عند القراءة؟

وأخشى من الانتقالات السريعة التي تعتمد عليها التمثيلية الإذاعية ولم تألفها التمثيلية المقروءة.

أشياء كثيرة أخشاها، ولكن ألا تحف الخشية بكل تجربة جديدة؟ وإني أجرب معك هذه التجربة. وفي التجربة يجب أن يتكاتف مقدم التجربة مع مستقبليها فماذا عليك لو أنك أعنتني بالصبر تكافئ به هذه الخشية التي أحسها منك؟

ولقد شجعني على القيام بهذه التجربة اللغة التي كتبت بها هذه التمثيليات؛ فاعتقادي أن النص إذا كان مكتوبا باللغة العامية يصبح من العسير تقديمه في كتب؛ فإن وجود لغتين في أدبنا يضيع على هذا الأدب كثيرا مما هو جدير بالنشر. فمهما يدافع كتاب العامية عنها فإنهم لم يستطيعوا حتى الآن أن يقنعوا القارئ أن يقرأ الأدب العامي. لا يستطيع القارئ أن يقرأ العامية؛ فهي مقروءة تصبح بالنسبة إليه لغة جديدة. ولعل هذا هو السبب في أن كتاب التمثيلية الإذاعية لم يقبلوا على نشرها.

وقد شجعني على تقديم هذا الكتاب إليك أنني كتبت التمثيليات جميعها باللغة العربية، ولن تجد تنافرا بين الشخصيات واللغة التي يتكلمون بها؛ فهم جميعا يعيشون في أزمان كان الكلام المنطوق فيه عربيا خالصا.

وشجعني أيضا أنني قلت في نفسي إن التمثيلية الإذاعية تعتمد على الأذن وحدها حين يستقبلها المستمع، ثم هو يهيئ بعقله وخياله المنظر والحركة، فماذا عليه لو أبدل الأذن بالعين، وأبقى على عقله وخياله في إنشاء المنظر وتأليف الحركة؟ فالقارئ للتمثيلية الإذاعية مؤلف مع المؤلف، كما أن المستمع لها يؤلف مع المؤلف.

لعلك أحسست من هذه المقدمة أنني أحاول أن أشجع نفسي على تقديم هذا الكتاب إليك، لا تكذب إحساسك؛ فإن هذا ما أحاول أن أقوم به، فإن رضيت فشكرا لله، وإن لم، فما علي بأس أنني حاولت، وما التوفيق إلا من عند الله.

ثروت أباظة

رءوس في السماء

المذيع :

في قصر الخليفة «أبو جعفر المنصور» يجلس بين خاصته الأقربين، إنهم يزنون كل كلمة ويتحسسون كل حرف. إنه أبو جعفر المنصور مؤسس الدولة العباسية، شديد كريم في شدته، قاس رحيم في قسوته، عادل جبار في عدله. احذروا، احذروا أن تغضبوه أيها القوم. إنه المنصور. إن الباب ليفتح. إنه عبد الخليفة، ماذا يقول؟

الخادم :

رجل يقول إنه من الشام يلتمس الإذن بالدخول في خطير من الأمر.

الخليفة :

أوتعرفه؟

الخادم :

لا يا مولاي، لم أره قبل اليوم، ولكن وجهه ينبئ عن جليل. آذن له؟

الخليفة :

إئذن.

أحد الجالسين :

ألا يأذن مولاي لأحدنا يراه فيسأله عما يريد؟

الخليفة :

بل أراه أنا فما في ذلك ضير.

الخادم (معلنا) :

إبراهيم بن علي، من الشام.

إبراهيم :

جئت يا مولاي في أمر أراه جد خطير.

الخليفة :

نعم، إني أرى دلائل خطورته في عينيك. أدل به.

إبراهيم :

أدلي به على انفراد يا مولاي.

الخليفة :

ولم؟

إبراهيم :

هو السر وأخشى أن يذيع.

الخليفة :

إن من ترى هم حفظة سري.

إبراهيم :

ولكنه سري يا مولاي، وأخشى عليه أن يذيع.

الخليفة :

حسنا إذن.

أصوات :

أتأذن لنا يا مولاي؟

الخليفة :

لا بأس بكم، انتظروني في الحجرة المجاورة (بعد فترة يسمع فيها أصوات خروج القوم وإقفال الباب) .

الخليفة :

هات ما عندك.

إبراهيم :

أنت يا مولاي تؤسس الدولة العباسية، فتوطد أركانها، وقد سمعت أن مولاي في حاجة إلى المال.

الخليفة :

نعم، لقد أنفقت أموالا كثيرة.

إبراهيم :

في الشام رجل يدعى محمد بن القاسم، لديه من المال ما تريد.

الخليفة :

ويحك يا رجل! أتريدني أن أسلب الناس أموالهم؟!

إبراهيم :

حاشاك يا مولاي، والعدل أساسك، ولكن هذه الأموال ليست ملكا لابن القاسم هذا.

الخليفة :

فلمن هي؟

إبراهيم :

هي أموال بني أمية، استأمنوا هذا الرجل عليها، فهي في بيته، إن أمر بها مولاي حملت إليه.

الخليفة :

وأنت ما نفعك؟

إبراهيم :

إن هذا الرجل يا مولاي قد أخذ يجمع الناس منذ أيام، وقد ذهبت فيمن ذهب. إنه يدعوهم إلى الثورة يا مولاي وإن عنده من الأموال ما يقيم به ثورات لا ثورة. وخشيت أن يشعلها فتنة لا تخمد، فقصدت إليك تخمدها وهي بعد ما تزال هينة.

الخليفة (يصفق) :

يا مرجان، ادع حمدان رئيس الشرطة.

مرجان :

أمر مولاي.

الخليفة :

وأنت يا إبراهيم، انزل ضيفا على قصري.

مرجان :

حمدان رئيس الشرطة يا مولاي.

الخليفة :

أريد نفرا من جندك الأقوياء ليذهبوا إلى الشام، هناك رجل ... (موسيقى.)

أموال ليست ملكا لابن القاسم هذا.

المذيع :

يا لك من مسكين يا ابن القاسم! ترى أتدري إلى أي دوامة ألقى بك القدر؟ إنه أبو جعفر المنصور. نعم معذور أنت حين تجلس إلى زوجك هذه الجلسة الهادئة ترسل نفسك على سجيتها وشريكة حياتك إلى جانبك تغمرك بفيض كريم من حنوها، فإذا أنت في هدوء سابغ وسعادة وهناء. معذور أنت، فما تدري بعد أي لقاء ينتظرك وأي رجل؟

الزوجة :

لقد أسرفت على نفسك يا أبا القاسم، فإني لأراك مربد الوجه كعهدي بك إذا نال النصب من نفسك.

ابن القاسم :

إنه خازني.

الزوجة :

صديقك الذي جعلته خازنك المشرف على تجارتك؟

ابن القاسم :

ومن غيره؟ لقد تهيأت لي فرصة ما أدري ألعنها أم أحمدها. لقد كشفت فيه عن سارق حقير، ولو كان قد سألني ما سرق ما منعته.

الزوجة :

إنها النفس الوضيعة يا ابن القاسم، وما لك فيها من يد. كم دينارا سرق منك؟

ابن القاسم :

ليس المال ما آلمني، ولكنها صداقة تخان وأمانة تهتك ونفس تنحط.

الزوجة :

وماذا فعلت به، أسلمته للشرطة؟

ابن القاسم :

أهكذا تعهدينني أسلم صديقي للشرطة؟

الزوجة :

بل تسلم خائن الأمانة.

ابن القاسم :

أولست أنا من ائتمنه؟

الزوجة :

أوتسكت إذن؟

ابن القاسم :

وماذا أفعل؟

الزوجة :

حقا ما تفعل! أنت ابن القاسم لا تفعل شيئا، ولكن لو كان غيرك في مكانك.

ابن القاسم :

ولكن غيري لم يكن في مكاني.

الزوجة :

نعم أنت على حق، لقد كنت في مكان نفسك. لعلك أيضا لم تسأله لم سرق. ولعلك أيضا أعطيته شيئا على سبيل المكافأة.

ابن القاسم :

بل سألته: هل سرقته؟ فقال: مبلغا احتجت إليه. قلت: فخذ هذا عليه واترك خدمتي.

الزوجة :

الله الله! ما أضيعك لحق نفسك!

ابن القاسم :

بل ما أحفظني لحق الصديق!

الزوجة :

ما أبصرك في معاملة الخائن!

ابن القاسم :

بل ما أقساني في معاملته! ما كان لي أن أفضح فعلته.

الزوجة :

وحق أولاك لا تزد كلمة. لقد كدت أجن. قم على بركة فأصب بعض النوم بعد أن أصابك هذا النصب من الضمير. قم فنم، أو انتظر حتى آتيك بشيء من الطعام أعددته لك.

ابن القاسم :

ما أخلصك! علي به. (قرع شديد على الباب.)

صوت :

باسم أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور افتحوا الباب. (جونج.)

ابن القاسم :

السلام على أمير المؤمنين.

الخليفة :

لا سلام عليك يا ابن القاسم.

ابن القاسم :

سبحانه وتعالى! لقد قال: وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها.

الخليفة :

أو ردوها.

ابن القاسم :

أراك فهمت من الرد عدم السلام؟

أمير المؤمنين :

على الخائن نعم.

ابن القاسم :

رضي الله عن عمر. لقد قال: «البينة على من ادعى.»

الخليفة :

واليمين على من أنكر.

ابن القاسم :

فأين البينة؟

الخليفة :

فهل تقسم؟

ابن القاسم :

وهل أنكرت؟

الخليفة :

فأنت مقر؟

ابن القاسم :

فهل ادعيت؟

الخليفة :

أتكذبني؟

ابن القاسم :

فيم يا مولاي؟ أنا لا أعرف جريمتي.

الخليفة :

لا تعرفها! ففيم كلامك؟!

ابن القاسم :

أنا لا أتكلم، بل أجيب.

الخليفة :

ألا تعرف فيم جئت من بلادك إلى هنا؟

ابن القاسم :

بل أعرف أن أمير المؤمنين أعزه الله أمر بي فجئت.

الخليفة :

ألا تعرف أنك جئت لأسألك عن أموال بني أمية التي تخفيها عندك؟

ابن القاسم :

أوتهمة هذه يا مولاي؟

الخليفة :

إن شئت أن تسميها كذلك فسمها.

ابن القاسم :

فإن كان عندي مال؟!

الخليفة :

فأنا أريده.

ابن القاسم :

أدامك الله. أوارث أنت لبني أمية؟!

الخليفة :

بل القيم على أموال المسلمين.

ابن القاسم :

أدام الله الأمير، فإن بني أمية تجار عادت عليهم التجارة بالربح الأوفر.

الخليفة :

أعلم ذلك، ولكن ما شأنه وما نحن فيه؟! كانوا أغنياء نعم.

ابن القاسم :

رعى الله الخليفة، فكيف يعرف أن المال الذي عندي على خالص ملك المسلمين وليس ملكا خاصا لبني أمية؟!

الخليفة :

الحرب تهدد المسلمين ونحن في حاجة إلى المال.

ابن القاسم :

أخون الأمانة إذن؟!

الخليفة :

هذا شأنك.

ابن القاسم :

بل شأنك، فماذا أنت قاض إن حملت أمامك متهما بخيانة الأمانة؟

الخليفة :

خيانة الأمانة أكرم من خيانة الوطن.

ابن القاسم :

ليس للكرامة شأن بالخيانة على أي نوع لها.

الخليفة :

احمل هذا المال إلي، لقد سئمت اللجاجة.

ابن القاسم :

أهو أمر خليفة أم أمر قاض؟

الخليفة :

بل أمر مسلم يدافع عن دينه.

ابن القاسم :

أتدافع عن دينك بالخروج عليه؟!

الخليفة :

ماذا تقول أيها الرجل؟!

ابن القاسم :

عفوا مولاي، إنه الحق.

الخليفة :

وما أدراك أنه الحق؟!

ابن القاسم :

إن كنت مخطئا، فسل قاضي القضاة وحكمه فيصل.

الخليفة :

ماذا تقول أيها القاضي؟

القاضي :

أرى مولاي أن الرجل محق فيما يذهب إليه. لا يخلص هذا المال إليك عن طريق عادل أبدا.

الخليفة :

إنه مال الخونة!

القاضي :

لا يصادر الشرع مال الخونة!

الخليفة :

لقد خرجوا على الشرع.

القاضي :

بل خرجوا على بني العباس، وحتى لو كانوا خرجوا على الدين، أرأيت النبي يأخذ من الكفرة غير الجزية؟ لقد كان في نطقهم بالشهادة الموحدة خلاص لهم من دفع الجزية.

الخليفة :

أأترك الخونة يعبثون بالأموال في بلاد الله؟!

القاضي :

إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وليست مصادرة أموالهم من هذا في شيء.

الخليفة :

ولكنني أريد هذا المال.

القاضي :

فمر به أمر من لا ينظر إلى العدل.

الخليفة :

وماذا يقول الشرع؟

القاضي :

الشرع. يقول ما جاء عن طريق محرم فهو محرم، وارتكابه إثم.

الخليفة :

فالمال له؟

القاضي :

له ومن بعث محمدا بالحق.

ابن القاسم :

ليس لي يا مولاي؛ فلست في حاجة إليه، ولكنه لبني أمية.

الخليفة :

لك أو لهم، إن الأمر لم يعد يهمني، ولكن أتظنني تاركك تعبث في الأرض وتشعلها ثورات؟!

ابن القاسم :

فماذا أنت فاعل بي يا مولاي؟

الخليفة :

سأسجنك.

ابن القاسم :

وتهمتي.

الخليفة :

إشعال الثورات في الشام، وتأليب الناس على حكم العباسيين، والتحيز لبني أمية.

ابن القاسم :

فهل عند مولاي دليل لأي تهمة من هاته التهم؟

الخليفة :

لقد أدلى لي بذلك من لا تكذب شهادته.

ابن القاسم :

أآخذ بشهادة واحدة من شخص لا أعرف حتى اسمه؟!

الخليفة :

ذلك شأني.

ابن القاسم :

ولكنك خليفة الله في الأرض!

الخليفة :

لقد أسمحت لك في المال، فأما أن أتركك فدون هذا الموت.

ابن القاسم :

الأمر لك في ذلك، ولكن لي عيالا وزوجة، ألا يسمح مولاي بمن يخبرهم؟

الخليفة :

ولا هذا، فإن سجنك لن يطول وسوف أتحرى أمرك، حتى أتبين جلاءه، فإن كنت بريئا أطلقتك، وإن أدانتك الحجة قتلتك.

ابن القاسم :

هيأ الله لك السبيل العادل، وكشف لك من أمري ما استتر.

الخليفة :

يشرفك أن ينكشف ما استتر؟

ابن القاسم :

كل الشرف.

الخليفة :

حسنا إذن. علي بحمدان رئيس الشرطة.

خادم :

أمر مولاي.

الخليفة :

سوف أبقيك عنده حتى يبين أمرك.

الخليفة :

يا حمدان، إن هذا الرجل أسيرك، إن هرب فقدت حياتك.

حمدان :

من (في لهجة من عرف شخصا)

أنت؟!

الخليفة :

أتعرفه؟

حمدان (متلجلجا) :

لا، لا يا مولاي لا أعرفه.

الخليفة :

حسنا إذن، سر برجلك وحذار يا حمدان، حذار أن يفلت.

حمدان :

يفلت! وعمري يا مولاي (يقفل الباب) . (موسيقى.)

الخليفة :

أين سجينك يا حمدان؟

حمدان :

أطلقته يا مولاي.

الخليفة :

أطلقته، ولم يهرب؟

حمدان :

أطلقته ولم يهرب.

حمدان :

أطلقته يا مولاي.

الخليفة :

حياتك دونه.

حمدان :

وحياتي ملكك.

الخليفة :

ويلك! أبعد صادق خدمتك لي تخون أمري؟!

حمدان :

بل فعلت ما أوجب علي كريم خلقك. فعلت ما لو لم أفعله لقتلتني.

الخليفة :

ولكنني قاتلك بما فعلت.

حمدان :

أحبب بها قتلة!

الخليفة :

ويحك، إن لك لشأنا!

حمدان :

وأي شأن! خرجت من عند مولاي ومعي أسيري. (موسيقى.)

حمدان :

مرحبا ابن القاسم، نزلت سهلا.

ابن القاسم :

مرحى بك حمدان. أي سهل ذلك الذي نزلت؟! هل بعد هذا الوعر وعر؟ شك ولا خيانة وسجن ولا تهمة! وخليفة قاس يشيد ملكه فهو أخشى ما يكون عليه، وصديق غادر يتجاهل صديقه وهو أحسن الناس معرفة به.

حمدان :

أنت محق في كل ما تذهب إليه، ولكن أين الصديق الذي تجاهل صديقه؟

ابن القاسم :

حقا، إن أحدا من الناس لا يمكن أن يعرف نفسه. أتجاهل هذا يا حمدان أم جهل؟!

حمدان :

جهل.

ابن القاسم :

ألا تعرف الصديق الذي تجاهل صديقه؟

حمدان :

لعلك تعنيني.

ابن القاسم :

وهل هناك غيرك؟ ألم تتجاهلني الآن أمام الخليفة؟!

حمدان :

ألم تدر ما قصدت إليه بذلك؟

ابن القاسم :

أقسمت لم أدره.

حمدان :

إنك أذكى من هذا.

ابن القاسم :

يجول بذهني أمر.

حمدان :

هو ما يجول بذهنك، قله.

ابن القاسم :

لك الخير، أتطلقني؟

حمدان :

وما في ذلك؟ نعم، فأنت طليق.

ابن القاسم :

إي والله إنه السهل الذي نزلت به. ورأسك؟

حمدان :

فداك.

ابن القاسم :

حمدان.

حمدان :

نعم يا ابن القاسم، فداك رأسي.

ابن القاسم :

ولكن الأمر لا يستقيم.

حمدان :

بل يستقيم، ولا تناقش. اذهب. اذهب فأنت طليق.

ابن القاسم :

لست فاعلا يا حمدان، لست فاعلا.

حمدان :

إن لم تفعل قتلت نفسي بين يديك. أأحمل جميلا ولا أرده، اذهب يا ابن القاسم، اذهب أقسمت عليك، أقسمت.

ابن القاسم :

أقسمت أنا لا تقسم فأنا ذاهب، ذاهب يا حمدان ولن أنسى.

حمدان :

في حفظ الله.

ابن القاسم :

وبقيت في حفظه. (تنتهي الموسيقى.)

حمدان :

وهكذا يا مولاي أطلقت الأسير.

الخليفة :

أجننت يا حمدان، أتقص علي هذه القصة ولا أدري سبب إطلاقك له؟ إلا أنه رفض أن تطلقه.

حمدان :

ليس هذا يا مولاي.

الخليفة :

ألأنك تعرفه؟

حمدان :

نعم مولاي هو ذاك.

الخليفة :

الله الله في الخلافة، أصبحت معرفتك بشخص كافية للخروج على أمري.

حمدان :

معاذ الله يا مولاي، مر بأولادي أقتلهم بين يديك.

الخليفة :

تكلم إذن، ما الذي حملك على ما فعلت؟

حمدان :

قصة طويلة يا مولاي.

الخليفة :

قصها، قل.

حمدان :

تذكر يا مولاي يوم أرسلتني إلى الشام في حملة تأديبية؟ كان الجنود معي قلة، وكنت قد أرسلت أطلب المدد، وقبل أن يصل هجم الأعداء هجمة شديدة مزقت القلة الضعيفة التي معي، وأزمع الأعداء قتلي، فجريت في الأزقة وهم خلفي، ولا أعرف أين أختفي حتى صادفت بابا، هو باب ابن القاسم هذا، بابه يا مولاي دخلت إليه (جونج) .

ابن القاسم :

ويحك! على رسلك أيها الغريب، إن للبيت حرمته.

حمدان :

قائد جيش الخليفة أبي جعفر المنصور، الجيش الذي هزم، والقائد مطارد، وحالتي على ما ترى، غريب ليس له قوة، ضعيف ولا عون، قائد ولا جند، لاجئ ببابك مستجير، فهل من مجير؟

ابن القاسم :

عرفت المنزل يا أخا العرب. ادخل هنا.

حمدان :

يجدونني.

ابن القاسم :

ادخل. سوف أمنعهم.

حمدان :

ليس لك بهم طاقة، إنهم العدد الكثير.

ابن القاسم :

حسنا، حسنا، ادخل في هذه الحجرة مع زوجي وسوف ترى.

الزوجة :

تعال أسرع، أسرع حتى أقفل الباب بالمزلاج. (صوت باب يقفل يتبعه لغط كثير.)

أصوات :

نعم، رأيته يدخل هذا البيت.

صوت :

أين الرجل يا ابن القاسم؟

صوت :

الذي دخل هنا.

ابن القاسم :

لم أره.

صوت :

لقد رأيناه.

ابن القاسم :

كذبت رؤيتكم.

صوت :

نفتش البيت حجرة حجرة.

ابن القاسم :

أمن حقكم هذا؟

صوت :

بل من واجبنا. إنه قائد الحملة التأديبية.

صوت :

أسلمه لنا يا ابن القاسم لنؤدبه نحن.

ابن القاسم :

كرما مني أترك البيت. فتشوا، فإن وجدتموه فهو لكم.

صوت :

ابحث في هذه الغرفة.

صوت آخر :

وأنت فنقب هذه الحجرة .

صوت :

وأنت فاذهب إلى أعلى المنزل.

أصوات :

لم نجد أحدا. إنه ليس هنا.

صوت :

بقيت هذه الحجرة، افتحها. (صوت محاولة لفتح باب.)

ابن القاسم :

أقصروا، إن زوجتي هنا.

صوت :

لا بد أن ندخل الحجرة ولتحجب زوجتك.

الزوجة (يظهر صوتها خارجا من خلف الباب) :

اخسئوا أيها الرجال، كيف يذهب بكم الظن أن أدخل غريبا إلى حجرتي وأبقى معه وزوجي بالمنزل، وأنا من تعرفون جميعا نسبها، ألا تخجلون؟ تسبونني في منزلي؟

صوت :

لقد ألقمتنا ما لا طاقة لنا به. إنها على صواب.

آخر :

لا شك في ذلك. لقد أخطأنا في شأنها.

آخر :

فماذا تنتظرون إذن؟ هيا اتركوا منزل الرجل، إن ابن القاسم لأعز علينا من أن نغضبه.

آخر :

لا بد أن الرجل قد ذهب إلى منزل آخر.

آخر :

فيم بقاؤنا إذن؟ هلم بنا.

أصوات (خارجة) :

هلم، هلم.

حمدان :

أنقذتني أنقذك الله.

الزوجة :

لا تقل. إن هذا بيت الغريب.

حمدان :

نعم إنه البيت، ملجأ الملتجئ وحمى المحتمي، أبقاك الله لزوجك، وأبقى لك زوجك، ومد عليكما في هذا البيت ظلال الخير المقيم، وشعاع البركة الدائمة، أبقاكم الله.

حمدان :

وأنقذت - يا مولاي - وكان هذا الرجل الذي عهدت إلي به هو من أنقذني، ولم أره قبلها. أدخلني إلى حجرة زوجته وهو لا يعرفني، وأنقذني من موت محقق وهو لا يعلم مني شيئا غير ما قلته، أفلا أطلقه؟ ألا أرد المعروف بشيء منه؟

الخليفة :

وتخالف أمري؟

حمدان :

بل أطيعه.

الخليفة :

أتطلق الرجل وتطيعني؟!

حمدان :

أطيع روح أوامرك وأخالف صريحها.

الخليفة :

أوتأمر روح بشيء يخالف صريحها؟!

حمدان :

يا مولاي، إنك لم تعرف ما فعله لي هذا الرجل، فإذا أنا أطلقته فمعتمد على خلق كريم فيك يأبى أن أبقي المعروف على كتفي لا أزيح بعضا منه. كنت واثقا أنك حين تعلم ما فعله هذا الرجل لأجلي ستعفو عنه.

الخليفة :

ولكنه أمر رئيس، وأنت رجل حرب.

حمدان :

ولكن الرئيس أبو جعفر، وأنا إنسان قبل أن أكون رجل حرب.

الخليفة :

ما هكذا تقوم الدول. سأسجنك حتى أرى في أمرك.

حمدان :

القتل أهون يا مولاي. أيقوم بحراستي من كنت رئيسا له؟!

الخليفة :

أقتلك إذن؟

حمدان :

ذلك شأنك، منذ متى كنت ملكا لنفسي؟! لقد عشت سيفا لك، إن شئت رميت بي أعداءك، أو شئت أعدمتني، أو شئت حطمتني.

صوت :

بل تبقى في يده يحطم بك أعداءه، ويذود بك عن الدين، ولا زلت السيف المشرع في سبيل الله.

حمدان :

من؟ ابن القاسم؟ ماذا أتى بك؟

ابن القاسم :

رأسك، أفصلها عن جسدك لأنعم أنا بالحرية؟!

الخليفة :

إنك والله لرجل، فمن أدراك أني لن أقتلك؟!

ابن القاسم :

وما أدراك يا مولاي أني أطمع في عفوك؟

الخليفة :

لا والله لا أقتلك أبدا.

ابن القاسم :

فاعلم إذن يا مولاي أنه لا مال عندي لبني أمية، وإنما أنا عباسي معروف بنسبتي لك.

الخليفة :

ويحك! لم أخفيت هذا؟

ابن القاسم :

أإن كنت أخبرتك به تصدقني؟ أإن كنت قلت لك أن لا مال عندي لبني أمية كنت تصدقني؟

الخليفة :

كنت أبحث.

ابن القاسم :

وإذا لم تجد؟ إنما كنت تعتقد أنني أخفيت المال في مكان لا تصل إليه يمين. لا يا مولاي إنما جئت أدافع الحجة بالحجة والدليل بالدليل، وأنت العدل العادل.

الخليفة :

إنك والله لأكثر عقلا من أن تقيم ثورة.

ابن القاسم :

لي رجاء.

الخليفة :

قله.

ابن القاسم :

من الواشي؟

الخليفة :

رجل من الشام يدعى إبراهيم بن علي.

ابن القاسم :

لقد كان خازنا لي وصديقا، اختلس مني بعض المال فأخرجته وأعطيته بعضا آخر.

الخليفة :

اسمع أيها الرجل، لقد جعلتك خازنا لأموال الدولة، وجعلت هذا الواشي بيدك فافعل به ما تريد.

ابن القاسم :

أما خازن الأموال يا مولاي فشكرا؛ فإني تاجر لي كثير من العملاء أخشى أن أغضبهم بتركي لهم، وأما إبراهيم فأمره إليك.

الخليفة :

إن شئت يا ابن القاسم فإني أقتل هذا الواشي.

ابن القاسم :

إلا هذا يا مولاي؛ فإن له أولادا وزوجة. أبقه يجر عليهم الرزق، أجرى الله بالخير يمينك.

الخليفة :

ما تشاء أيها الكريم. وإذا أردت أمرا فبحسبك أن تعرف أنك صديق الخليفة.

ابن القاسم :

وحسبي شرفا، أنا عبد الخليفة ملك يمينه ناشر فضله ذاكر معروفه مهتد بهديه ملتمس رضاه. سلام على أمير المؤمنين.

المذيع :

هكذا، أيها الرجل، وهكذا أيها القائد، وهكذا أيها الخليفة، بكم وبأشباهكم إن كان لكم أشباه تقوم الدول، ويعلو البناء، ويشتد الأزر، وترتفع الهامات. إنه الإباء، إنه الترفع، إنها الرجولة، إنها الكرامة، إنها ... إنها رءوس في السماء.

الروح والشيطان

سيف (هامسا في حذر) :

بروحي أنت أمامة، قصدت إلي والليل منضور الجوانب بأشعة القمر، والعيون حوالينا مفتحة تعد علينا الخلجات.

أمامة :

لا تخش العيون يا سيف؛ فالعيون لا ترى إلا ما نبديه. أما ما تنضم عليه قلوبنا فهيهات للعيون أن تراه.

سيف :

وكيف خرجت؟ ألم يرك أبوك؟

أمامة :

لا، لم يرني، وكيف تعتقد أني أتأخر عن مكان أنت فيه؟ الله لي يا سيف، أنت لا تحبني؟

سيف :

لا أحبك ويلي! ويلي من نفسك إن كنت لا أحبك، نهاري ظلام ما دمت بعيدا عنك، وليلي شوك ما دمت لم أرك فيه، وفؤادي ممزق ما دمت لم ألاقك، والناس بأجمعهم مهما يشتد بهم الزحام فراغ في عيني ما دمت غير ناظر إليك. كل حديث لا تقولينه، وكل كلام لا يتحدث عنك هذر من الهذر وسخف وخرافة. لا أحبك ويلي! ويلي من نفسي إن كنت لا أحبك! فماذا يا ترى يكون حالي لو كنت أحبك؟! أمامة إني أحبك.

أمامة :

كلام، أحسنت الكلام.

سيف :

إذن فليس هذا هو ما ينبض به قلبك؟ إذن فأنت لا تحبينني؟

أمامة :

لا أحبك! فمن أحب؟ أنت فتى الحي وفارسه، وإنك البطل المظفر، وإنك الشجاع الذي لا يثنيه هول أو يرده جليل، وإنك أعظم الفتيان جمالا، ممشوق القوام، فكأنما أنت تمثال من تماثيل الفرس أو إله من آلهة الإغريق.

سيف :

أحببت في زائلا يا أمامة؛ فقد يزول الجمال، وقد يغلظ القوام فيتحطم أمام عينيك تمثال الإغريق وإله الفرس.

أمامة :

ويلي بربك، لا تقل هذا. لا بربك، لا أطيق.

سيف :

أما تحبين في غير القوام الممشوق، والوجه الحلو؟

أمامة :

وأنت ماذا تحب في، هيه، ماذا تحب ؟

سيف :

أجادة أنت في سؤالك؟

أمامة :

وما لي لا أجد؟

سيف :

لأني أحبك جميعا، أحبك أمامة، بكل شيء فيك، الظاهر منك وما تستره الضلوع، أحب وجهك وقوامك، وخلقك ورداءك، وأناملك الدقيقة هذه، وخفقة عينيك وأنت تستمعين إلي وابتسامة ثغرك هذه وأنت فرحانة بكلامي، وأحب هذه النونة التي تبدو وكأنها توقيع خالقك على وجهك بعد أن خلقك فأعجبه ما خلق فأراد أن يشرفه بهذا التوقيع الحلو الذي لا يبدو إلا مع السرور والفرح والضحك، نعم هذه النونة، أحبها، أحبك جميعا، أحبك بلا استثناء، أحبك كلا لا أستثني منه جزءا، أحبك هكذا وما أظن أن الحب إلا هذا.

أمامة (تضحك ضحكة صغيرة) :

وأما أنا فأحب ذراعيك المفتولتين، وأحبك تمشي في الحي فتشير صديقاتي إليك هامسات، ثم ترد الواحدة منهن صديقتها عنك، وتحذرها أن تقترب منك؛ لأنك رجلي أنا، فكلهن يعلمن أنك رجلي أنا، وأحبك تذهب إلى الحرب ثم تعود فيقول الناس إن سيفا كان فارسا، وأحبك أن يتحدث الرجال، فيقولون ليس بين فتياننا من هو مثل سيف، أحبك سيف.

سيف :

فلو أن عروة ابن عمك سبقني في الفروسية، ولو أنك سمعت صديقاتك يتهامسن عنه بينهن، ولو أنه ذهب إلى الحرب، ثم عاد، فسمعت الرجال يتناقلون عنه الحديث، ولو أنني مرضت يوما فلم أسر بين صديقاتك، إذن لتركتني إلى عروة إن كان السابق أو إلى أي فتى آخر إن كان هذا الآخر هو السابق، أهكذا يا أمامة؟

أمامة :

سيف، مالي أراك متشككا في حبي لك؟ أشك في حبي وقد جئتك وقبلت اللقاء بك مرات ومرات والعيون حولنا من كل مكان؟!

سيف :

لا أدري والله يا أمامة، أجئت إلي أم إلى ذراعي المفتولة وقوامي الممشوق، وحديث الناس عني، وتهامس النسوة حولي، لا أدري يا أمامة.

أمامة :

وما أنت؟! ألست أنت، أنت القوام الممشوق والذراع المفتولة وحديث الناس، وتهامس النسوة؟ أي فرق بين الاثنين؟ لماذا تفرق بين نفسك وصفاتك؟

سيف :

أخاف يا أمامة.

أمامة :

أتخاف من نفسك، أتغار من صفاتك؟

سيف :

إن كنت أحببت هذه الصفات وحدها فأنت تحبينها غدا، في أي فتى يتصف بها. أما إن كنت أحببتها في لأنها في فأنت تحبينني.

أمامة :

تحيرني يا سيف، فوالله ما أدري منذ متى ينفصل الإنسان عن صفاته ويغار منها؟ إني أحبك يا سيف.

سيف :

ما أشد خوفي من حبك وما أعظم حيرتي فيه! أهو حب لسيف أم لذراع سيف؟ لا أدري!

أمامة :

لا أفهمك سيف الليلة، فهلم بنا، فقد أوشك القمر أن يرتحل وقد أوغل المساء. هلم بنا.

أمامة :

على لقاء يا سيف. (موسيقى تصاحب المشهد.)

سيف :

أمامة.

أمامة :

سيف، أنت لا تدري ما حل بي.

سيف :

ماذا، ماذا حل بك؟

أمامة :

تركتك في آخر لقاء وسعيت إلى منزلي، وقبل أن أصل إليه نبت لي من مكان خفي عروة ابن عمي. (تنقطع الموسيقى.)

عروة :

من أين يا أمامة؟

أمامة :

وما شأنك يا عروة؟

عروة :

فشأن من إذن إن لم يكن شأني؟

أمامة :

شأن أبي وأمي. هل أنت أمي؟

عروة :

أمني تسخرين يا أمامة؟

أمامة :

فما تعرضك لي في الطريق، وما سؤالك من أين وإلى أين؟

عروة :

فإني أعرف أين كنت وأنت ابنة عمي، فإن تناولك الناس بشر فقد أصابني هذا الشر.

أمامة :

فلا شأن لك بي.

عروة :

بل هو شأني، وإني ذاهب اليوم إلى أبيك، لأخطبك.

أمامة :

اكشف الستار إذن عن نواياك، فذلك إذن ما تريد.

عروة :

وأي عيب في أن أطلب الزواج بابنة عمي؟!

أمامة :

لا عيب في ذلك، ولكنك تهددني بما تدعي أنك تعرفه.

عروة :

إنما أردت أن أستر عليك.

أمامة :

لا شأن لك بأن تستر علي.

عروة :

فإن كنت أحبك؟

أمامة :

أتحب من لا يحبك؟

عروة :

ألا تحبينني يا أمامة؟

أمامة :

أما تعرف هذا؟

عروة :

كنت أكذب نفسي.

أمامة :

بل لا تكذب نفسك.

عروة :

فماذا تكرهين في؟

أمامة :

وماذا أحب فيك؟!

عروة :

ألست فارس القبيلة وفتاها؟

أمامة :

بل أنت من فرسانها وفتيانها.

عروة :

فمن الفارس فيها والفتى؟

أمامة :

أما تعرفه؟

عروة :

أظنني أعرفه.

أمامة :

بل إنك تعرفه.

عروة :

في غد تسمعين عني يا أمامة.

أمامة :

فدع حديثك إلى الغد حين أسمع بك.

عروة :

في غد تسمعين. (تعود الموسيقى.)

أمامة :

أخاف أن يشي بنا إلى أبي يا سيف.

سيف :

ليس هذا ما أخشاه.

أمامة :

فماذا تخشى؟

سيف (سارحا) :

ليس هذا ما أخشاه.

أمامة :

لقد أوعدني.

سيف :

بل لقد وعدك.

أمامة :

ماذا تعني؟

سيف :

سيظل عروة ولا عمل له إلا المران على السيف والفروسية حتى يصبح فتى القبيلة.

أمامة :

ولكنك ستظل السابق عليه.

سيف :

والله لا أدري يا أمامة، والله لا أدري.

أمامة :

وماذا أنت فاعل الآن؟ (تنقطع الموسيقى.)

سيف :

يا أبا أمامة، جئت أخطب إليك أمامة.

أمامة :

نعم الرجل أنت يا سيف، وإني قبلت. (أصوات فرح وطبول.)

سيف :

أحسنت الأيام إلينا يا أمامة.

أمامة :

أي زوجي الحبيب. لقد أحسنت.

سيف :

سنجعل أيامنا كلها أفراحا.

أمامة :

أما أنا ففي فرح دائم. بحسبي أن يقال عني إني زوج، وبحسبي أن أراك في جمالك الحلو هذا.

سيف :

أما أنا فبحسبي أني تزوجت من حبي. أحسنت الأيام يا أمامة. أحسنت الأيام. (موسيقى تنتهي بصياح وضجيج.)

صوت :

إلينا فتيان القبيلة، الحرب، الحرب. (يخفت الضجيج.)

أمامة :

سيف، أنت ماض إلى الحرب؟

سيف :

نعم يا أمامة، إني ماض إليها.

أمامة :

فعد سالما يا سيف، وعد بطلا يا سيف.

سيف :

اسألي ربك لنا الخير يا أمامة.

أمامة :

الخير رفيقك يا سيف. (موسيقى.)

أم عروة :

أنت ماض إلى الحرب؟

عروة :

أجل يا أم.

أم عروة :

فكن رجلا يا عروة.

عروة :

أعرفتني غير ذلك يا أم؟

أم عروة :

لا وربك يا بني، الله جارك يا ولدي، الله جارك. (موسيقى تنتهي بضجة حرب.)

صوت :

عليك بسيف، إن أنت قتلت سيفا انتصرنا.

آخر :

وكيف لي بسيف، وها أنت ذا تراه كالإعصار الجارف يدور في الميدان كالهول المبين؟

الأول :

نذهب إليه جماعة ونحيط به.

الثاني :

نفعل ذلك، هلم، هلم أسعد، هلم إسحاق، هلم أيمن، هلم جميعا، أحيطوا بسيف. (تعلو ضجة الحرب لحظة ثم تخفت.)

سيف :

الله معي يا أعداء، الله ...

الأول :

خذ هذه.

سيف :

بل خذها أنت.

الثاني :

فهذا إلى قلبك.

ثالث :

الموت لك.

سيف :

بل لك أنت.

رابع :

تقدموا جميعا واضربوا.

سيف :

آه!

عروة :

لبيك سيف، لبيك أخاه، عروة إلى جانبك. (موسيقى حزينة هادئة.)

عروة :

كيف هو الآن يا أمامة؟

أمامة :

يصحو لحظة ويغيب ساعات.

عروة :

ابذلي في العناية به، غاية الجهد يا أمامة. لقد كان فارس الحرب وفتاها.

أمامة :

بل سمعنا أنك أنت من كنت فارسها وفتاها؟

عروة :

والله ما أحس القوم بي إلا بعد جرح سيف، ولو لم يجتمع عليه الأعداء ما استطاعوا أن يصيبوه.

أمامة :

ثم قيل إنك كنت خيرا منه؟

عروة :

إنما الناس ألسنة تنطق بغير تفكير. لا والله كان سيف خير من حارب في قبائلنا.

أمامة :

ولكن الناس يمتدحون شجاعتك.

عروة :

لأن سيفا جريح، والناس أصدقاء القوي أعداء الضعيف يسيرون مع السائر ولا يرحمون من أعياه السير في سبيلهم.

أمامة :

تذم الناس وما ذموك؟!

عروة :

أقسم أني لا أذمهم وإنما أصفهم، ضعاف يحبون القوي ويتملقونه، فإن ضعف نسوا قوته وانهالوا عليه بألوان من الأكاذيب.

أمامة :

لك الله عروة. ما أرى إلا أنك تدافع عن صديقك سيف.

عروة :

لم يكن سيف صديقي في يوم من الأيام، وإنما كان الأمل الذي أتطلع إليه والذي أرجو أن أصبح مثله.

أمامة :

وها أنت ذا قد أصبحت خيرا منه.

عروة :

كذب والله من قال هذا، أين أنا من سيف، أين أنا منه؟ ارعي سيفا فلم يبق منه إلا أنت بعد أن ماتت أمه.

أمامة :

حادثتني عن سيف وعن الناس وعن نفسك (مترددة)

ولم تقل شيئا عن غير هذا؟

عروة (كمن فهم ويريد ألا يفهم) :

ماذا تقصدين يا أمامة؟

أمامة :

أذكرك بحديث بيننا وتأبى أن تذكره.

عروة :

أي حديث؟

أمامة :

أما تذكر منه شيئا؟

عروة :

أذكر أنني حادثتك منذ أنت فتاة لم تتزوجي، عرضت عليك نفسي فأبيت، ثم تزوجت يا أمامة، فأي حديث بيننا؟

أمامة :

ألا تريد أن تذكره؟

عروة :

لا والله لن أذكره أبدا. أأذكره وأنت زوجة خير فتياننا؟! أأذكره وزوجك هنا جريح؟! جريح في سبيلنا جميعا، لست الفتى العربي إن أنا ذكرته لك. لا يا أمامة، لا يا زوجة سيف.

أمامة :

وأين سيف مني الآن؟ إنه مريض، جريح، غائب عن الحياة!

عروة :

بل إنه يملأ الحياة بسيرته وماضيه. لا يا أمامة، لا حديث بيننا أبدا. سلام عليك.

أمامة (في لهفة) :

انتظر.

سيف (صوت ضعيف) :

أمامة.

أمامة :

لبيك سيف.

سيف :

من ذا الذي تحادثين؟

أمامة :

إنه عروة يا سيف.

سيف :

مرحبا بالرجل. أدخليه أمامة. (جملة موسيقية.)

عروة :

أعانك الله يا سيف.

سيف :

أنقذتني يا عروة، لولاك لكنت الآن قتيلا.

عروة :

لا تقل هذا يا سيف. إنما أنقذت سيف قبيلتنا وفتاها، إنما أنقذتك لنفسي يا سيف.

سيف :

الله وحده كفيل بشكرانك يا عروة، الله وحده هو الكفيل. (موسيقى.)

عروة :

كيف حاله يا أمامة؟

أمامة :

كما هو يا عروة.

عروة :

فسلام عليك يا أمامة.

أمامة :

أما تجلس قليلا؟

عروة :

أجلس إليك وأنت زوجة سيف؟ لا يا أمامة، سلام عليك.

أمامة :

عليك السلام! (موسيقى.)

صوت (صدى) :

وأنت زوجة سيف؟ لا، وأنت زوجة سيف؟ لا.

أمامة :

سيف.

سيف (في صوت ضعيف) :

لبيك أمامة.

أمامة :

طال بك المرض.

سيف :

أجل يا أمامة، طال بي المرض.

أمامة :

وبعد يا سيف؟

سيف :

أدرك ما بنفسك يا أمامة.

أمامة :

لقد كنت دائما الذكي اللبيب.

سيف :

لو كنت ذكيا ما تزوجتك يا أمامة، ولكن الحب يعمي فعميت. كنت أدري أنك تحبين سيفي وذراعي ولا تحبينني. كان يجب ألا أتزوجك يا أمامة.

أمامة :

قضاء الله يا سيف.

سيف :

بل قضاء الشيطان الذي في نفسك يا أمامة، الله أرحم بعباده من الغدر بالمريض، والتنكر للجريح.

أمامة :

سيف.

سيف :

أنت طالق يا أمامة، طلاقا بائنا لا رجعة فيه. اذهبي يا أمامة واستغفري الله كثيرا، فما أظنه يغفر لك. (موسيقى.)

أمامة (في لهفة) :

عروة إلى عروة.

عروة :

ماذا يا أمامة؟

أمامة :

عودا إلى حديثنا يا عروة.

عروة :

بل لا عود والله.

أمامة (في فرح من تخفي أمرا جليلا) :

ولماذا يا عروة؟

عروة :

إنك زوج سيف.

أمامة :

فماذا تراك تقول إن هو طلقني؟

عروة :

أوطلقك؟

أمامة :

ماذا تقول إن هو طلقني؟

عروة :

أجيبيني. أطلقك سيف؟

أمامة :

نعم.

عروة :

فأنت من طلبت إليه ذلك؟

أمامة :

وما يهمك أنت؟

عروة :

ويلك من الأيام يا أمامة! ويلك من الأيام!

أمامة :

ألا تحبني يا عروة؟

عروة :

والله لو كنت أحبك قدر حبي للحياة، لكرهتك الآن قدر كرهي للموت.

أمامة :

عروة.

عروة :

أتطلبين الطلاق من زوجك الجريح لأنه جريح؟! ومن أين لي أنني لن أجرح غدا، فتتركيني كما تركت زوجك؟!

أمامة :

فماذا أفعل يا عروة؟

عروة :

اذهبي إلى كهف بعيد عن الناس وانقطعي عن كل من عرفك، فإنك تذكرين البشر بمقدار الشر الكامن في نفوسهم، والناس لا يحبون أن يذكروا الشر الكامن في نفوسهم، اذهبي بعيدا، لا يراك أحد واستغفري الله وأطيلي الصلاة له؛ فقد يغفر الله، فهو وحده الذي يغفر الذنوب.

أمامة :

عروة.

عروة :

لا تنطقي باسمي يا صورة الشيطان، اذهبي إلى لا لقاء، ولا عودة، لا كان يوم لقيتك فيه ولا كان يوم ولدت فيه. (موسيقى.)

عروة :

سيف!

سيف :

مرحبا يا عروة.

عروة :

لقد جئت وأمي إليك نقيم لديك حتى يزيل الله عنك اليأس.

سيف :

بمثلك تجمل الدنيا يا عروة، فلا حياة إن لم تعطر نواحيها. إن الدنيا كلها أصبحت شيطانا واحدا كبيرا بلا رجعة ولا خير ولا حب.

عروة :

فداؤك نحن يا سيف.

سيف :

بمثلك تجمل الدنيا يا عروة، فلا حياة إن لم تعطر نواحيها بهذه الروح الطيبة التي تسري في قلوب أمثالك. مرحبا عروة، مرحبا بالحياة فيك. (موسيقى، ختام.)

عفو الملك

أبو القاسم :

هو الحب يا سامية يترقرق في دماء الكريم، فتزداد كرما. ويتسرب إلى نفس الخبيث فتكرم، هو الحب ذلك الجمال تعتذر به الدنيا عن شرورها، هو الحب بغيره لا حياة وبإجدابه لا مياه، هو الحب.

سامية :

حسبك أبا قاسم، منذ متى اتخذت الشعر صناعة؟ إن ما تهيئ نفسك له من ملك وجاه وما يتطلبه هذا المكان من قسوة وقوة لا يتفق وما تنساب به اليوم من شعر يكاد ينتظم.

أبو القاسم :

إنما السلطان عاطفة وعقل، إن فقدت واحدة منهما فلست بالحكم خليقا.

سامية :

غبت عني اليوم كثيرا، في أي العنصرين شغلك؛ أهي العاطفة، أم هو العقل؟

أبو القاسم :

والله لا أدري كيف أجيب؛ فقد كان كلاهما منذ اليوم شاغلي.

سامية (غاضبة) :

ويلك أبا القاسم، أعاطفة ولا أراك، فلمن؟

أبو القاسم (في ضحكة مسرورة) :

لرجل ورب الكعبة، لرجل.

سامية (مستمرة في غضبها) :

أكذا؟ فمن؟

أبو القاسم :

قصدني اليوم ابن إسماعيل.

سامية :

ابن القاضي المتوفى؟

أبو القاسم :

أجل هو.

سامية :

ماذا يريد؟

أبو القاسم :

فهو يخشى أن يعين في مكان أبيه غيره، فجاء يرجوني أن أقصد إلى شريكي في الإمارة وأزكيه لديه.

سامية :

فنعم السعاية، فقد كان أبوه من خير الناس وهو على نسج أبيه ينسج. يقال عنه إنه واسع الاطلاع رحب التفكير ولولا بعض الجشع فيه لامتنعت سيرته عن الثلب، فما قال الأمير؟ (موسيقى قطع. في قصر الخليفة.)

خادم بالباب :

أبو القاسم محمد أمير الدولة الشرقية وابن إسماعيل ابن القاضي المتوفى.

الخليفة :

مرحبا بالأمير، زورة كريمة.

أبو القاسم :

شفيعا جئت إليك.

الخليفة :

فمرحبا بالشفيع. أعقوبة فأرفعها أم جائزة فأنيلها؟

أبو القاسم :

بل حق فتوطده.

الخليفة :

بقيت للحق، وأنار الله لنا سبيله.

أبو القاسم :

ابن إسماعيل.

الخليفة :

مكان أبيه يريد؟

أبو القاسم :

هو ما حزرت.

الخليفة :

هو لك يا ابن إسماعيل؛ فإنك والله قد شفعت من لا تخيب له شفاعة.

ابن إسماعيل :

أطال الله بقاء الأميرين.

الخليفة :

فما ديدنك في القضاء؟

ابن إسماعيل :

ديدني، ديدني كتاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري يقول آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك.

الخليفة :

ألا بينت لنا ما يقصده رضي الله عنه في قوله آس بين الناس في وجهك ومجلسك؟

ابن إسماعيل :

يريد من قاضيه ألا يبتسم لأحد ويعبس لآخر، وألا يقرب شخصا ليبعد غيره. آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك.

الخليفة :

وهل أنت مستطيع ما تأخذ به نفسك؟

ابن إسماعيل :

فأنا باذل غاية الجهد.

الخليفة :

جوابك يدل على الصدق. في وجهك يا ابن إسماعيل وفي مجلسك آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك، والحق حق.

ابن إسماعيل :

نعم أعرفه، فهو قديم.

الخليفة :

قديم قدم الزمن.

ابن إسماعيل :

إني عليه حفيظ.

الخليفة :

وأنت بحفظه خليق. أعلنوا ابن إسماعيل قاضيا للقضاة. (موسيقى.)

سامية :

وفق الله كل ما تسعى له.

أبو القاسم :

إن دعوة أنالها من شفتيك هي التوفيق.

سامية :

أراك عدت للشعر.

أبو القاسم :

وما تريدين من زوج يخلو إلى زوجه التي يحب؟

سامية :

أريد أن يكلمها في حقيقة ما يشغله. إن الأعداء يتحرشون بك من كل جانب، ويتنمرون بملكك من كل سبيل، وأنت تكتم ما تنثني عليه، وتضمر غير ما تبدي، فتثيرها في نفسي نارين؛ إحداهما خوفا عليك وخشية على ملكك، وأخرى غيظا منك وحنقا عليك، ألا تشركني فيما تفعل كأني أصغر عن فهمك وأتفه عما يشغلك أو ...

أبو القاسم :

حسبك. وأخمدي النارين كلتيهما، فلست والله بمحتمل عليك من واحدة منهما بصيصا مهما يخفت (ساخرا من نفسه)

أخشى عليك هموما فأثيرها، فيا لي من غبي! الحرب تومئ إلي بعين وأتقيها بعيون، ولكني أخاف الصديق أكثر من العدو. إن بيننا قوما يأتمرون.

سامية :

فقرب إليك أجدرهم بالثقة.

أبو القاسم :

وبمن أثق؟

سامية :

بمن يبدي لك جفاء في المظهر ووضوحا في الرأي.

أبو القاسم :

فأنا على القلق المبيد، والجمع خاضع.

سامية :

فالجمع فاحذر.

أبو القاسم :

وثقتي؟

سامية :

بالله، بنفسك.

أبو القاسم :

وأنت؟

سامية :

ألم أقل لك بنفسك؟ وهل نفسك إلا أنا؟

أبو القاسم :

نعم أنت هي، ونعمت نفسا.

سامية :

وعشت لها.

أبو القاسم :

معي يا سامية؟

سامية :

إلى ما بعد الخلود.

أبو القاسم :

اللهم شكرانك. (موسيقى.)

أبو علي :

هنيئا لك القضاء يا ابن إسماعيل، كنت مسافرا هذا العام فلم أعجل بالتهنئة.

ابن إسماعيل :

أحمد الله على نعمته، وأشكرك يا أبا علي.

أبو علي :

مكان كبير ما نلته، لا يرأسك إلا الأمير.

ابن إسماعيل :

إن المنصب إن كبر عظم الشاغل.

أبو علي :

ولكن مكان الدولة ليس بالوطيد، والأعضاء يتنمرون من خارج البلاد وداخلها، وأخشى أن تحتسب من رجال الأمير الحاكم فتغضب القادمين بعده، والقضاء عدل وكرامة، وأخشى أن يهزك الحرص فيحيد بك عن العدل ويميل بك عن الكرامة، وليس كالحرص مذل لأعناق الرجال.

ابن إسماعيل :

فيمن هذا الكلام يا أبا علي، ما سمعنا أن قاضيا يميل به الحرص عن العدل أو الكرامة، وأنا من تعلم؟

أبو علي :

لا والله ما علمتك ظالما أبدا، فلست أنت من أعلم عنه ظلما، وإذا أنا بينت لك ما أضمر فأنا من يشفق عليك، فهون عليك ولا تأخذنك بنفسك العزة.

ابن إسماعيل :

حسبتك تعرف عني خلقا قويما لا يميل، وكرامة صلبة لا تنحني.

أبو علي :

يظل الخلق قديما لا يميل حتى يتولى صاحبه السلطان، فإذا الخلق معدوم كالعدم، وإذا الجشع راكب النفس يطمح بها، وتظل الكرامة صلبة حتى يشوبها الحكم فإذا هي هشة كالدقيق، وإذا الرأس منحنية حتى تبلغ أعماق الأرض. فاحذر الحكم يا بني، احذره واستعن بالله يعيذك من الشيطان، واعلم أنه الشيطان لم يلبس في كل ما يرتدي أجمل من الحكم، وأعلم أنه ما استخفى فأوغل في الاستخفاء إلا حين عثر على السلطان فارتداه يغري به، فإذا النصر متهالك عليه من كل جانب.

ابن إسماعيل :

لم أرك كاليوم ناصحا يوغل في النصح. ألا تعلم أبا علي أن التضحية هي أثقل الطيبات على النفوس؟

أبو علي :

أعلم ذلك.

ابن إسماعيل :

فما بالك إذن؟

أبو علي :

حبي لك وإشفاقي عليك يهونان ما تستقبل به نصيحتي وإنني ... (تسمع أصوات ويدخل قوم لا يزيدون عن ثلاثة.)

الأصوات :

سلام عليكم.

ابن إسماعيل، وأبو علي :

عليكم سلام الله.

ابن إسماعيل :

ألا تعرف الصحاب، أبا علي؟ هذا ابن إبراهيم السياسي البارع والمؤرخ الباحث، وهذا صاحبه سعيد أطول لسان عرفته البلاد لا ينظر إلا لينتقد. أما هذا الكاتب المبدع عثمان، وما أظنك إلا سمعت عنه.

أبو علي :

فمرحبا بالصحاب، ووددت والله أن أقيم معكم فلا أنصرف، ولكنها مهمة لا بد لي من الذهاب إليها ، فعذرا. سلام عليكم.

الجالسون :

وعليك السلام - أبا علي - عليك السلام.

أبو علي :

احذره - ابن إسماعيل - احذره. (يسمع صوت باب يغلق.)

سعيد :

لم أر هذا الرجل، ولكني سمعت عنه أنه ثقيل الظل كثير الكلام قليل العمل.

ابن إسماعيل (كما لو كان أعجبه الكلام ولكنه لا يريد أن يمضي فيه) :

حسبك حسبك سعيد، أهكذا دون أن تعرفه تسل عليك لسانه؟! فماذا فعل بك؟

سعيد :

ماذا كان يفعل ها هنا؟

ابن إسماعيل :

كان يهنئ.

سعيد :

يهنئ، بماذا؟

ابن إسماعيل :

بمنصب القضاء.

أصوات :

القضاء!

أحدهم :

أبعد عام من توليك له؟!

ابن إسماعيل :

على رسلك. قد كان الرجل مسافرا.

ابن إبراهيم :

ومم يحذرك؟

ابن إسماعيل :

من المنصب. (يضحك الجميع وتبدو أصواتهم وكأنها تردد كلمتي من المنصب.)

سعيد :

ألم أقل لك ثقيل؟ ثقيل، ثقيل ورب الكعبة، ثقيل.

عثمان :

أرانا نطيل الحديث فيما لا يفيد.

سعيد :

وما الذي يفيد؟

عثمان (في سخرية) :

الذي يفيد ما نجيء من أجله كل يوم، الذي يفيد ما تعرفه يا سعيد.

سعيد :

حسبنا كلاما.

ابن إسماعيل :

ليس بعد، أنا لم أوافق بعد.

سعيد :

لم توافق، أتستطيع؟ ملك هذه البلاد أجمع، أنت السيد المرموق، ما زلنا بالشعب وما زلت بالعدل حتى أحبك وتفانى في حبك فما تريد، ليس بعد، فمتى إذن؟!

ابن إسماعيل :

تنسون جميعا حين يأخذكم الحديث أن أبا القاسم هو الذي منحني هذا المنصب، وهو الذي أتاح للشعب أن يحبني، فحقه أن أقف إلى جانبه.

ابن إبراهيم :

ما لنا به؟ إن ملكه قد هوى وبعد أيام قد يكون قد وقع في الأسر، وأنت لا عمل لك إلا أن تتولى هذا الملك والشعب راض عنك، والغزاة قبلوا أن يتركوه لك وينسحبوا من أرض الوطن، فما تريد؟

ابن إسماعيل :

أريد ألا أدفع الدية.

سعيد :

هنا يجب أن نسكت حرصا على مصلحة البلاد؛ فإن أبا القاسم إن خرج سيشعلها نارا لا تخمد، وخزانة الدولة يجب ألا تكون وقفا على أشخاص.

عثمان :

وأنت بعد لم تفعل معه إلا ما يرضي الكرامة.

ابن إسماعيل :

دع الكرامة جانبا بربك - عثمان.

ابن إبراهيم :

بل يتمسك بها.

سعيد :

يا ابن إبراهيم، دع النقاش؛ فإنها دولة.

ابن إسماعيل :

اسمع سعيد، أنا لا أقوم بهذا الأمر وحدي.

سعيد :

اقبل المبدأ أولا.

ابن إسماعيل :

تشتركون معي في الحكم.

سعيد :

منذ متى كان هذا؟ متى سمعت عن حكم يشترك فيه أربعة؟!

ابن إسماعيل :

سمعت أو لم أسمع، إذا قبلتم قبلت، وإذا أبيتم أبيت.

عثمان :

فما تقول ابن إبراهيم؟

ابن إبراهيم :

فما تقول أنت عثمان؟

سعيد :

فهل أمامنا غير ما ترون؟ نقبل.

ابن إبراهيم :

على شرط.

ابن إسماعيل :

بغير شرط.

ابن إبراهيم :

لا بد منه ابن إسماعيل، لا بد أن تكون عميد الجماعة؟

سعيد :

وليكن.

عثمان :

لا بد أن يكون.

ابن إسماعيل :

عميد الجماعة وأمري إلى الله، اللهم اغفر. (موسيقى.)

سامية :

ما لك مطرقا هكذا؟! لقد شاء الله فانفك أسرك، ولقيت الراحة والهدوء بعد أن أزور الدهر عنك، وقد عهدتك ثابتا كالجبل قويا كالقوة، فانفض عن نفسك ما تريد أن تحملها إياه، وقف كما كنت تقف، فإنه والله الخير الذي لا نعرفه. اصح يا رجل.

أبو القاسم :

ويحك سامية! ما لك تكثرين الكلام! ألا أوجزت فسألت عما يشغلني؟

سامية :

وفيم كان الكلام إذن؟! حسبتك تفهم الإشارة. حسنا، فما يشغلك؟

أبو القاسم :

عرفت اليوم أخبارا ما حسبت أنني سأعرفها أبدا. أتدرين من كان يتآمر مع أعدائي ومن الذي ألقى بي في السجن؟ إنه ابن إسماعيل القاضي الذي جعلته أنا قاضيا. أتدرين أنهم طلبوا إليه أن يدفع من الخزانة العامة ثمن خروجي من السجن فأبى.

سامية :

لعله حديث كاذب.

أبو القاسم :

لقد قصد إلي اليوم واحد ممن تآمروا معه، وهمس إلي بهذا الحديث، لأحميه؛ فقد ثارت الدولة على ابن إسماعيل وخانه من تعاهدوا معه، وهو اليوم في حيرة أمره لا يدري ماذا يفعل.

سامية :

ما لنا وله؟

أبو القاسم :

بروحي أنت يا سامية. إنه لولاك لما خرجت إلى الدنيا، ضحيت بكل أموالك لينفرج عني باب السجن، بحياتي أنت. ألا ما أهون حياتي في سبيلك! غبي ذلك الذي يفتدي حبيبه بحياته، إنه كمن يفتدي حياته بحياته، ولكن ما حيلتي إزاءك؟ لا أملك غير هذه الأنفاس الملتهبة بالحب، إن شئت أخمدها إن كان في إخمادها نفع. حدثيني يا سامية ماذا أفعل لأرضيك، ماذا؟

سامية :

ماذا جرى لك أبا القاسم؟ أتهينني أم تراني لست جديرة بما فعلت وما الذي فعلت؟ أنفقت في سبيلك كل ما أملك. ألا ما أهون ما أملك في سبيل نظرة إليك! أتهينني أبا القاسم؟ عد إلى رشد منك ولا تعد إلى هذا الحديث، أن تفعل ما يرضيني، بل إن شئت أن تثيرني وتؤلمني فعدني ألا تعود لهذا الحديث مرة أخرى. ألا تعد؟

أبو القاسم :

وعد حر تعبدته، فهو تبيعك لا يزور عن إشارة لك ولا يحيد عن أمر تأمرين.

سامية :

بل وعد حر هو سيدي، وسيظل سيدي حتى اللقاء. (تسمع ضربات استئذان على الباب.)

أبو القاسم :

من بالباب؟

صوت :

عبدك مرجان.

أبو القاسم :

ادخل (يسمع صوت باب يفتح)

خيرا مرجان ماذا؟

مرجان :

ابن إسماعيل القاضي ببابك حافي القدمين يلتمس المثول بين يديك.

أبو القاسم :

من؟ ابن إسماعيل؟ عميد الجماعة؟

مرجان :

هو يا مولاي عميد الجماعة. (موسيقى.)

أبو القاسم :

شرفت يا ... أي الألفاظ أحب إليك، قاضي القضاة كما أعرفك، أم عميد الجماعة كما تريد أن تكون؟

ابن إسماعيل :

بل عبدك ابن إسماعيل.

أبو القاسم (يضحك هادئا) :

عجبا! ماذا؟ أفقدت نعالك؟!

ابن إسماعيل :

بل هي معي، خلعتها قبل أن أدخل بابك ألتمس الشفاعة.

أبو القاسم :

ثانية، فيم الشفاعة اليوم؟ لقد أصبحت أنت ممن يتشفع له.

ابن إسماعيل :

شفاعة منك لدى نفسك، أرجو الصفح.

أبو القاسم :

ماذا تفعل به؟ إنه اليوم لا يغني عنك شيئا.

ابن إسماعيل :

أريح به ضميري ويهدأ ثائري، وأحتمي منك بخيانة الخائن وغدر القريب. (ابن إسماعيل يبكي.)

أبو القاسم :

ويحك ابن إسماعيل! ماذا بك؟

ابن إسماعيل :

بي ضمير لا يريحني على جنب، وبي جرح في أغوار القلب من قوم مهدوا لي طريق الشر، فإذا خطوت به تخلوا عني وانتفضوا عني وألقوني بين أنياب العدو بلا صديق. إنه الجرم الذي اقترفته في حقك يلاحقني، فاعف.

أبو القاسم :

وجئت وحدك لا تخشى انتقامي؟!

ابن إسماعيل :

أنت تنتقم من ملتجئ إليك؟ لا يا مولاي، أنا لا أخشى انتقامك؛ فإنك أكرم من تلك الخشية، ولكنني أخشى أن تأبى علي الصفح، فهل تأباه؟

أبو القاسم :

بل هو لك وأنت المشكور. إن التجاءك إلي هو أعظم مديح أناله. لقد عرفت في نفسي ما لم أعرف. إن اطمئنانك إلى خلقي وهدوءك إلى كرمي هو أعظم جزاء أناله منك. صفحت عنك يا ابن إسماعيل، فبيتي بيتك.

ابن إسماعيل :

أنا ما أزال عميد الجماعة، لكن لي رجاء إليك.

أبو القاسم :

مر به.

ابن إسماعيل :

بل رجاء. (يسمع صوت جسم يلقى على الأرض.)

أبو القاسم :

أتقبل قدمي، ابن إسماعيل؟ أستغفر الله، إنه لا يسجد لغير الله.

ابن إسماعيل :

فاقبل رجائي.

أبو القاسم :

لست في حاجة إلى ما فعلت، مر بما تريد.

ابن إسماعيل :

اتخذ مني عبدا لك كمرجان هذا. لا أرجو من دنياي غير ما طلبت منك. أجبه بحق زوجك، بحق ربك، بحق كرامة لي أبذلها لدى قدميك وملك خلفي أتركه، لأكون عبدك، عبدك لا أريد غيرها. هذه أوراق عبوديتي، فاقبل ترح نفسي، عبدك يا مولاي عبدك.

أبو القاسم :

قم أيها الرجل، بل صديقي مدى الحياة. قم أيها الرجل واحفظ عليك كرامتك. قم أيها الرجل إن هذا البيت بيتك، فأقم به. قم أيها الرجل.

ابن إسماعيل :

أقام الله أمرك وشد أزرك، وهيأ لك من لدنه البركات، اللهم اقبل.

الجميع :

اللهم اقبل. (موسيقى.)

حلقات النصر

(موسيقى.)

صوت :

الحمد لله هزم المرتدين.

آخر :

سبحانه! الحمد له أولا وأخيرا.

الأول :

لقد نصرنا على القوم الظالمين، وهيأ لنا ذلك السيف الصقيل.

الثاني :

سيف الإسلام، وقاهر الشرك، وعدو الكفار.

الأول :

إنه خالد يا أخي، ما سار على جيش إلا كان النصر بعض جنده.

الثاني :

عقل وحسام، يدبر فهو الملهم لا تند عن فكره بادرة، ثم يخوضها فهو الإعصار المحيط بأعداء الله.

الأول :

لقد ثاب المرتدون جميعهم إلى الرشد، ومن أصر منهم على كفره قتل.

الثاني :

تلك حدود الله، ولا زالت حدود الله قائمة على الزمان.

الأول :

والآن، أما آن لنا أن نستقبل جيوشنا وننعم بأولادنا؟

الثاني :

يا أبا زياد، وما ضر لو ابتعد عنا البنون يرفعون لدين الله العمد، ويشدون للإسلام الأطناب.

الأول :

إنه والله عز الدنيا والآخرة، والله ما ضقت بالشيخوخة يا أبا حنظلة إلا حينما رأيت جيوش الله تزحف ولا تقوم بي الساق لأواكبها، ولا ينهض الجسم لألتمس إحدى الحسنيين من نصر أو جنة.

الثاني :

ليخيل إلي أبا زياد أن الروح مني تتمرد على جسمي هذا الضاوي الهزيل تريد أن تفك عقالها وتنبعث إلى جيوش النصر تستبق واحدة من اثنتين كلتاهما أحب إلي من الشباب الذي ولى، ومن كل أمل حققته لي أيام مواض أو ستحققه لي أيام قوادم.

الأول :

لك الله، أحس والله أن قلبي ينطق على لسانك. لكن أتظن الجيوش اليوم في طريقها إلى العدو؟

الثاني :

بل ما أظنها عائدة وشيكا يا أبا زياد.

الأول :

ولم؟

الثاني :

سمعت أبا بكر بالأمس يبحث في أمر جليل.

الأول :

وما هو؟

الثاني :

لقد دعا بالأمس مشيريه وأصحاب الرأي.

الأول :

وفيم دعاهم؟

الثاني :

لقد ترامت إليه الأنباء بأن المثنى بن حارثة الشيباني قد استولى على القطيف وهجر، وسار بجيش له حتى بلغ مصب دجلة والفرات هازما الفرس كلما التقى بهم، وقد سأل أبو بكر عن المثنى؛ فهو لم يكن يعرفه، فأجابه قيس بن عاصم المنقري.

صوت :

هذا رجل غير خامل الذكر ولا مجهول النسب ولا ذليل العماد، هذا المثنى بن حارثة الشيباني، وهو من آل شيبان بن بني بكر بن وائل، وقد انضم إلى جيوش المسلمين في حرب المرتدين، وتزعم من بقي على الإسلام في بلاده.

الثاني :

فعرف أبو بكر أنه يستطيع الاعتماد عليه.

الأول :

الاعتماد عليه فيم؟ مالك لا تبين الأمر ولا تجلوه؟ تقول إن أبا بكر دعا ذوي الرأي والمشورة، ثم تقول إنه سمع عن المثنى! أتراها الشيخوخة، أبا حنظلة، ألمت بك، فأنت تهرف بما لا تعلمه ؟!

الثاني (ضاحكا) :

نحن شيوخ الجزيرة، يزيدنا السن عقلا أبا حنظلة، ولكنه الأمر الجسيم.

الأول :

ما هو؟

الثاني :

أن أبا بكر يفكر في (يصمت) .

الأول :

بربك يا أخي قل: فيم يفكر أبو بكر؟

الثاني :

في فتح العراق.

الأول (جازعا) :

فيم؟! أتعي ما تقول؟! في فتح العراق؟! في حرب كسرى؟!

الثاني :

في حرب كسرى وفتح العراق.

الأول :

ولكن بربك ما الذي يدعوه إلى هذا التفكير؟

الثاني :

أمور كثيرة؛ فهو يعلم أن هؤلاء المرتدين الذين هزمناهم لن يستنيموا على الهزيمة، فلا بد أن يشغلهم بالفتح عن الثأر، ثم إن كثيرا من إخواننا العرب يقيمون في الشام والعراق، ولا بد لهم أن تبلغهم الدعوة إلى الدين القيم، ولعل هذه الفروع من العرب تذكر أصولها الضاربة في جزيرتنا فيميل العرق إلى العرق وتتجه الدماء إلى الدماء، يجتذبهم دين جديد ناصع ومذهب رفيع متحد، هو أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.

الأول :

الله في عون الخليفة يا أبا حنظلة، الله في عون الخليفة. (موسيقى.)

الراوية :

وإن الله في عون الخليفة. وقد أرسل أبو بكر يدعو إليه المثنى بن حارثة الشيباني كما أرسل يدعو إليه خالد بن الوليد. وما أسرع ما جاء الرجلان! فقال المثنى:

المثنى :

يا خليفة رسول الله، أمرني على من قبلي من قومي، أقاتل من يليني من أهل فارس وأكفيك ناحيتي.

الراوية :

فأمره أبو بكر على قومه، ورجع إليهم، وحين سأل أبو بكر خالدا رأيه قال:

خالد :

سيف الله في يدك يا خليفة رسول الله، أطلقني حيث شئت أعد بالنصر المؤزر إن شاء الله.

الراوية :

وأمر أبو بكر خالدا على القيادة العامة لجيوش الفتح. (موسيقى عنيفة وطبول حرب تلازم كلام الراوية.)

وخرج خالد على عشرة آلاف من الجند، وسار بهم حتى التقى بالمثنى ورهطه. (تنقطع أصوات الطبول.)

خالد :

إن طريقنا إلى الحفير.

المثنى :

فكيف تريدنا أن نسير إليه؟

خالد :

في فرق ثلاث، وعليك أنت يا مثنى أن تسير في باكر الصباح مع جيشك، وبعد غد سيلحق بك عدي بن حاتم الطائي ، ثم أتبعكم أنا. (موسيقى تعبر عن السير ويحسن أن تتخللها أصوات خيل وضجيج.)

الراوية :

وسارت الجيوش، وأرسل خالد من قبله رسولا إلى هرمز أمير الفرس في هذه المنطقة، وكان رسول خالد يحمل رسالة خطها خالد بسيفه، فهي الرعب المفرق، وبلغ الرسول هرمز.

صوت :

أسلم تسلم، واعتقد لنفسك وقومك الذمة، وأقرر بالجزية، وإلا فلا تلومن إلا نفسك؛ فقد جئتك بقوم يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة.

الراوية :

ونزل خالد عند الحفير ونزل برجاله عند الماء، وقال لهم:

خالد :

ألا انزلوا وحطوا أثقالكم، ثم حاربوهم عن الماء، فلعمري ليصيرن الماء لأصبر الفريقين وأكرم الجندين.

الراوية :

وجمع هرمز جيوشا، ولكنه كان خالدا لا يهزم؛ فهو يجمع رءوس قومه يشاورهم.

هرمز :

إنه خالد.

صوت :

نعلم ذلك. إنه خالد.

هرمز :

وماذا ترون؟

صوت :

إننا في الكثيف من الجند، فلو كانوا ألف خالد ما استطاعوا اليوم لكثرتنا دفاعا.

هرمز :

بل إنه خالد واحد يا أخي، ولا سبيل لنا إليه.

صوت :

ونحن في هذا العدد الضخم، ونحن على هذه الخيول المطهمة، ونحن بهذا الزاد الوافر وهذا الجيش العنيف؟!

هرمز :

ونحن كذلك. لا سبيل لنا إلى النصر ما دام خالد على رأس هذه الجيوش.

الصوت :

نعود إذن أدراجنا نقول للملك أردشير إنه خالد وإننا لم نطق له دفعا.

هرمز :

بل اصبر يا أخي، إنما نحن نتفاوض الأمر فنرى فيه.

الصوت :

إن جيوش العرب أمامنا تذودنا عن المياه، ولا ماء عندنا فنصبر، ثم أنت أيها الأمير تقول تفاوض الأمر وترى فيه.

هرمز :

إنها الحرب يا أخي، روية وتفكير.

الصوت :

بل إنها الحرب أيها الأمير، ضراب وطعان.

هرمز (ساخرا) :

غرتك نفسك أيها المسكين. إنها الحرب والطعان إن كان الجيشان متكافئين. أما وخالد على رأس جيش فلعدوه الموت والهلاك.

الصوت :

لنقعد إذن نندب حظنا، أم نعود أدراجنا، أم لديك أيها الأمير حيلة تخرج لنا بها الماء من هذه الصحراء فنشرب؟

هرمز (في فرح) :

الحيلة. لا يغلب خالد إلا بالحيلة. لا سبيل لنا إليه في الحرب ولكننا قاتلوه بالحيلة. اسمعوا إني أعرف في خالد حمية عربية تثور إذا أثيرت، فإني أدعوه إلى المنازلة حتى إذا خرج إلي ... (موسيقى.)

هرمز (صائحا) :

أين خالد؟

خالد (ساخرا في صوت خفيض) :

ساذجة حيلتك يا عبد الكفر. اسمعوا أيها الإخوان إني سأخرج، فتربصوا بالقوم، فإنهم حين يرونني منفردا وإياه سيخرجون إلي يبغون قتلي وأنا بمعزل عنكم، فانفروا أنتم إليهم قبل أن يبلغوا مكاني.

صوت :

أيريدون قتلك غيلة؟ والله لنصلينهم نارا حامية؟

خالد :

انتبهوا.

هرمز (صائحا) :

فخالد إذن حديث خرافة لا جد فيه، أين مدوخ الأبطال، أين صاحب الأساطير، أين؟!

خالد (مقاطعا) :

إليك، إليك يا فتى الكفر. (موسيقى فيها خطورة تنتهي بقعقعة سلاحين.)

صوت :

الله أكبر. إلى الكفرة أيها المسلمون.

الراوية :

وصدق حدس خالد؛ فقد كان هرمز قد أوصى قومه إذا رأوا خالدا يقارعه أن يخرجوا إليهما ويحيطوا بخالد فيقتلوه، ولكن جيش خالد أحبط حيلتهم وسارع إلى جيوش الكفار قد استل الروح الكافرة من جسم هرمز، وصاح جنود الفرس.

صوت :

لقد قتل هرمز.

أصوات :

الفرار، الفرار (أصوات سلاسل شديدة) .

أصوات :

وكيف الفرار وهذه السلاسل تحيط بنا؟

صوت :

سلاسل؟

آخر :

يا لجبن الكفار، لقد قيدوا أنفسهم بالسلاسل حتى لا يفروا من الحرب!

أصوات :

حطموا السلاسل والفرار، الفرار (أصوات تحطم السلاسل) .

أصوات :

الفرار، الفرار.

الراوية :

وكان الفرار، وانهزمت جيوش الكفر وتبدد جمعهم هزيما، وخالد يصيح بجنوده:

خالد :

أدركوهم. أريدهم أسرى، أو أريدهم قتلى. إن المواقع أمامنا كثيرة، من ينجو منهم اليوم فهو عائد علينا في الغد. أدركهم أنت يا مثنى. تابعهم فلا تتركهم.

الراوية :

وكانت ذات السلاسل هي الغزوة الأولى في فتح العراق، وقد أفاء الله على المسلمين منها الفيء الوفير، وأرسل خالد خمس الغنائم إلى أبي بكر، وكان من بينها فيل تعجب له سكان المدينة، حتى قال بعضهم:

صوت :

أيستطيع الفرس أن يصنعوا أفيالا كثيرة كهذا؟

الراوية :

ولكن الحرب لم تكن قد انتهت بعد؛ فإن أنباء الهزيمة كانت قد بلغت الملك أردشير، فإذا هو يدعو إليه قارن بن قريقس.

أردشير :

يا قارن، إنها الهزيمة المنكرة.

قارن :

وإني لجالب لك النصر يا مولاي.

أردشير :

فالجيوش الجيوش، والسلاح السلاح.

قارن :

فداؤك يا مولاي.

أردشير :

أريد جيشا لم يسمع العالم به. أيظن هؤلاء العرب أن شيئا لا يردهم؟! هلم يا قارن.

قارن :

لبيك يا مولاي.

الراوية :

وتجمعت جيوش الفرس وسارت لتلتقي جيوش المسلمين. وفي الطريق التقى جيش الفرس بالبقايا المتناثرة من جيوش هرمز، وحين يسألهم قارن:

قارن :

ماذا حل بكم؟

صوت :

لا ندري.

قارن :

لا تدرون؟!

صوت :

هي الهزيمة لا ندري من أي مكان كانت تحيط بنا. أهم جنة هؤلاء العرب؟ احتلنا لنقل قائدهم ففطنوا إلى حيلتنا، قيدنا أنفسنا بالسلاسل حتى لا نفر فإذا الرعب فينا أقوى من سلاسل الحديد. حطمنا الحديد من الرعب ولم نستطع للعرب ولا لخالد دفعا. تقف أرجلنا إن واجهنا جيوشهم، وأرجلهم كهبوب الرياح الطائرة إذا ولينا الفرار. الموت يا مولاي، الموت في سيوفهم وأيديهم وخيولهم وعيونهم، بل الموت في الهواء الخارج من أفواههم، الموت يا مولاي.

قارن :

بعض ما بكم أيها الإخوان بعض ما بكم. انظروا إلى جيوشنا هذه، وحينئذ سترون الموت الذي يشيعونه بينكم سينقلب إليهم.

الصوت (في يأس) :

هيهات.

قارن :

بل سننتصر.

الصوت (في ضعف) :

نرجو.

الراوية :

دخل الجيش وكأنما أراد أن يقف في مطاردته هذه، دون المدائن عاصمة الفرس، ولكن الأنباء جاءت إليه.

صوت :

حنانيك يا مثنى.

المثنى :

ماذا؟

الصوت :

الآلاف تقف الآلاف، على رأسه بطل الفرس وقائدهم قارن بن قريقس، وقد التقت بفلول الجيش التي تطاردها، وانضمت الفلول إلى الجيش فهم العدد العديد.

المثنى :

وأين ينزلون؟

الصوت :

بقرية المذار.

المثنى :

فمن لي بخالد؟

الصوت :

من لنا به ودوننا ودونه القفار والعبيد؟

المثنى :

فهي الشهادة إذن وبغير فتح.

الصوت :

لا إله إلا الله.

المثنى (في يأس) :

لا إله إلا الله. (موسيقى حزينة تنتهي بأصوات خيول وسيوف وجلبة.)

أصوات :

البشرى، البشرى يا مثنى.

المثنى :

هو خالد.

الصوت :

الله أكبر. إنه النصر. إنه النصر.

الراوية :

وهل خالد إلا النصر؟! والتقى الجمعان؛ أما الفرس فكثير بعددهم قليل بخوفهم، وأما العرب فقليل برجالهم وخيولهم كثير بإيمانهم وعزيمتهم وخالدهم ، ومتى صمد الخوف للهزيمة ومتى ثبت الكفر للإيمان، ومتى لبث العدو لخالد؟ لقد رأى الفرس قوادهم من قارن إلى غير قارن يقتلون على أعينهم كما تقتل النعاج، والبطل البطل منهم من وجد طريقا إلى الفرار فاتخذ سبيله إلى الفرار عدوا. وإن كانت السلاسل قد عاقتهم هنيهة في الغزوة الأولى فهم اليوم خفاف إلى النجاة سراع إلى التهرب؛ فإنه خالد، وإنهم المسلمون.

خالد :

الحمد لله.

المثنى :

ما أظنهم يجتمعون بعدها أبدا يا خالد.

خالد :

تحسن الظن يا مثنى، بل سيجتمعون. أتحسب أن أكاسرة الفرس يتنازلون عن كبرهم في هذا اليسر؟! بل إنها الحرب يا أخي، فانتظرها في كل يوم.

المثنى :

وأين تراهم سيجتمعون؟

خالد :

إن كسرى أردشير لن يسكت أبدا.

الراوية :

وصدق حدس خالد، فما كان ليسكت أردشير أبدا؛ فقد بلغه ما كان من هزيمة جيوشه فهو يدعو القوم فيشيرهم.

أردشير :

ما ترون؟

الصوت :

الذي ترى.

أردشير :

أرى أن هؤلاء العرب قد طغى أمرهم.

الصوت (كمن وجد حلا) :

مولاي.

أردشير :

ماذا؟

الصوت :

لا شيء.

أردشير :

كأنك وجدت طريقا، ثم حدت عنه.

الصوت :

نعم، فقد فكرت يا مولاي لو أننا استعنا ...

أردشير (مقاطعا) :

بالعرب على العرب. نعم، فإن القبائل العربية الموالية لي إذا حاربت هؤلاء هزمتهم؛ فهي أدرى منا بقتالهم وبطرق قتالهم.

الصوت :

ولكن إذا انتصروا يا مولاي فإن النصر سيكون ملازما للعرب ما يزال، فيهون أمرنا ويتسامع الناس عنا إن لم نستطع أن نحارب العرب وحدنا فاستعنا عليهم بإخوانهم.

أردشير :

أنت محق ولكن، هناك حل. نعم، نجعل على العرب الموالين لنا «بهمن» أقدر قوادنا فيكون النصر بيد العرب ويرجع الفضل فيه إلينا.

الصوت :

أصبت يا مولاي، أحسنت يا مولاي، وفقت يا مولاي. (موسيقى.)

الراوية :

شهد الله ما أصاب مولاه ولا أحسن ولا وفق مولاه؛ فقد اجتمع العرب الموالون للفرس وعلى رأسهم «بهمن»، جاءوا به وهو من أقدر قواد الفرس وأخذوا طريقهم إلى الولجة، وبلغت هذه الأنباء خالدا.

خالد :

فإني سائر إلى الولجة.

صوت :

وتترك بعضنا هنا.

خالد :

سأترك بعض الجيش على هذه البلاد، ولكن حذار أن تخدعكم الهزيمة عن أعدائكم، فكونوا على الحذر الدائم.

الراوية :

وأخذ خالد سبيله إلى الولجة، فيلقى بها «بهمن» ومن يلوذ به. وقبل أن يصل ...

خالد :

كتيبتك أنت يا زياد، وكتيبتك أنت يا حنظلة.

صوت :

ماذا بكتيبتنا؟

خالد :

ليبق كل منكما هنا بكتيبته ثم سيرا على مبعدة منا، حتى إذا تلاحم جيشنا وجيش الكفار انبعثوا أنتم، أنت يا زياد عن يمين، وأنت يا حنظلة عن يسار. (موسيقى.)

الراوية :

وسمع الرجلان لأمر خالد، وتابع خالد مسيره حتى تلاحم الجيشان، ولكن المسلمين قد أصبحوا في قلة قليلة والكفار ما يزالون في العديد من جيوشهم. لقد ترك خالد بعض جيوشه في المذار، وترك كتيبتين من خلفه، والمعركة سجال، يترجح فيها النصر بين المسلمين والكفار. ولأول مرة رأت جيوش الفرس أن النصر لا يلازم خالد طوال المعركة، بل هو يميل حينا إليهم ثم يعود طريقه إلى خالد. وبعث هذا التردد من النصر الأمل في نفوسهم، وتأخرت الكتيبتان، واستيأس المسلمون في المدافعة، وكادت الهزيمة، كادت ...

أصوات (غاية في القوة) :

الله أكبر، الله أكبر.

المذيع :

هيهات، هيهات لكلمة الهزيمة أن تصل بجيش يقوده خالد. إنه النصر. إنه النصر المؤزر. وهل كانت أيام خالد إلا حلقات من النصر متلاحقات متصلات لا يختل لها نظام؟! لقد شاء ربك وإنما مشيئته أن يقول كن فيكون، وكانت مشيئته سبحانه أن يكون خالد سيف الإسلام وبطل الحروب وجبار المعارك فكان، وكانت مشيئته سبحانه أن يظهر دينه على الدين كله فظهر، وتعلو كلمته في الآفاق فعلت، ويشرق نوره في الأبصار فأشرق، وصدق سبحانه وتعالى هو القائل:

الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون .

شاعر وملك

صوت :

أشهد كان كتابك الأخير من أحسن ما ظهر في ميدان الأدب.

آخر :

هذا أول كتاب لك، أليس كذلك؟

آخر :

إنه لكذلك.

آخر (في وقار) :

ما أجدرك بقول البحتري:

هذي مخايل برق خلفه مطر

جود ووري زناد خلفه لهب

وأزرق الفجر يأتي قبل أبيضه

وأول الغيث طل ثم ينسكب

آخر :

هذا والله هو الشعر.

آخر :

إنك يا صديقي لن تقرأ البحتري حتى تجد السبك الرصين والعربية الجزلة والألفاظ المستقرة، وكأنما هي خلقت ليقولها البحتري في هذه المواضع.

آخر (صاحب الكتاب) :

البحتري صانع الشعر وجوهره، يختار من أوزان الشعر أنسبها لموضوع قصيدته، ثم يختار من القافية أجملها، وبين القافية والوزن ينزل الألفاظ منازلها ويجريها مجراها بغير جهد تلمسه، وإنما يخيل إليك أنه يرسل الشعر كما نرسل نحن جاري الحديث.

آخر :

سمعت عن البحتري وما درست من أمره شيئا، فمن هو أو أين ولد؟ وماذا دعاه إلى قول الشعر؟ وكيف قاله؟ وعلى من أخذه؟ وفيمن قال؟

آخر :

على رسلك يا أخي، فإنه البحتري، وما هو بمن يجمل الحديث عنه إجمالا.

آخر :

فصله إذن بربك تفصيلا.

آخر :

هو أبو عبيدة البحتري، ولد ببلدة منبج، ثم خرج إلى العراق. (موسيقى عنيفة.)

البحتري :

ويلي من الشعر يا مبرد.

ابن شراعة :

بل ويل للشعراء من شعرك يا بحتري.

البحتري :

أخاف الشعراء يا ابن شراعة.

ابن شراعة :

أتخافهم أنت؟! فماذا يقولون هم؟!

البحتري :

لا وربك ما خوفي من شعر لهم أخشى أن يغض من شعري أو ينال منه، وإنما أخاف الحقد في نفوسهم ونحن أبناء صنعة واحدة، تتزاحم على المال.

ابن شراعة :

على المال وحده؟ ألا تختار لمديحك يا بحتري؟

البحتري :

أختار الغني واسع الغنى، فأنا إنما أمدح ماله ولا شأن لي به.

ابن شراعة :

أتجعل من الغنى ذكرا خالدا من أجل المال؟!

البحتري :

يا صاحبي أرأيت هذا الدرهم، لو أنني وضعت عليه الطين، أيغير هذا من شأنه أمرا؟ هو الدرهم في أي مكان.

ابن شراعة :

ولكن الشعر، أليس للشعر كرامته؟

البحتري :

يا صديقي الطيب، متمناي والله أن أقيم للشعر كرامته، ولا أقول حين أقول إلا عن صدق إحساس، ولكن ذلك أمر عسير المنال.

ابن شراعة :

عسير المنال؟

البحتري :

أي وربك، فإنه لا بد لي أن آكل لأعيش، لأصبح ذا كرامة؛ فإنه لم يقل الشعر شاعر بغير تكسب إلا كان القائل أميرا موفور الغنى واسع البحبوحة.

ابن شراعة :

أعانك الله.

البحتري :

لكم أحتاج إلى هذا العون من الله يا صديقي الأوفى. أنا أحتاج إلى عونه لأتغلب على ضميري، ثم لأتغلب على بخل في ذوي الغنى، ثم لأوسع لنفسي مكانا بين الشعراء.

ابن شراعة :

إن شعرك يوسع لك المكان يا بحتري.

البحتري :

بل لا بد لاسمي أن يوسع لي.

ابن شراعة :

تقول اسمك؟

البحتري :

نعم، ألا ترى إلى هؤلاء الشعراء وقد وقفوا بأبواب الأمراء تسد أسماؤهم الكبيرة أقطار الأرض، فما أنا بواجد بينهم فرجة؟ وأين أضع نفسي وقد تزاحمت الأسماء وتكالبت على الرزق حتى لقد ضاقت بهم أبواب الأمراء؟

ابن شراعة :

فماذا أنت صانع؟

البحتري :

سمعت عن أبي تمام؟

ابن شراعة :

ومن ذاك الذي لم يسمع بالطائي؟

البحتري :

فإني قاصد إليه.

ابن شراعة :

ألا تخشى حقده؟

البحتري :

حقد من؟ أبو تمام! يا ليته يحقد علي، أما والله لتكونن مثار عجبي ومبعث مفاخري، وأين أنا من الطائي وقد ملك أسباب الإبداع وأعجز الشعراء حتى لم يبق إلا من يعترف له بالسبق؟

ابن شراعة :

إنك لن تخسر شيئا.

البحتري :

فأنا ذاهب إليه، ثم أعود فأروي لك ما كان.

ابن شراعة :

فإني هنا لن أبرح مكاني. (موسيقى.)

البحتري :

ولقد وجدت عنده خلقا كثيرا وكل منهم يقول له الشعر وهو يصغي صامتا، حتى إذا انتهى منشده أرشده إن كان في شعره صبابة من أمل، حتى التفت إلي فقلت:

رأى البرق مجتازا فبات بلا لب

وأصباه من ذخر البخيلة ما يصبي

وقد عاج في أطلالها غير ممسك

لدمع ولا مصغ إلى عذل الركب

وكنت جديرا حين أعرف منزلا

لآل سليمى أن يعنفني صحبي

عدتنا عوادي البعد عنها وزادنا

بها كلفا أن الوداع على عتب

ولم أكتسب جرما فتجزيني به

ولم أجترم ذنبا فتعتب من ذنبي

وبي ظمأ لا يملك الماء دفعه

إلى نهلة من ريقها الخصر العذب

أبو تمام :

ذاك هو الشعر، فمن أنت؟

البحتري :

البحتري. أنا أبو عبيدة البحتري الطائي.

أبو تمام :

لأنت والله خليفتي. لقد نعيتني إلى نفسي يا أبا عبيدة؛ فما أحب أن أعيش بعد أن نبت في قبيلتي من هذا شعره.

البحتري :

أبقاك الله أبا تمام، إنما أنت موئلنا وإمامنا.

أبو تمام :

وكيف حالك يا ابن الأخ؟

البحتري :

من شر حال أبا تمام. الشعراء يزحمون الطريق فما أجد لنفسي سبيلا.

أبو تمام :

لقد وقعت على سبيلك يا فتى. خذ هذا كتابي إلى قوم يكرمون وفاء الشعر.

البحتري :

بقيت مقصد آمال، أبا تمام. (موسيقى.)

البحتري :

وكان خطاب أبي تمام إلى قوة معرة النعمان، فذهبت إليهم ومدحتهم.

المبرد :

وكم أعطوك؟

البحتري :

أربعة آلاف درهم. هي أول ما كسبت من الشعر.

المبرد :

ولم يزيدوا؟

البحتري :

بل زادوا، وما علموا أنهم زادوا.

المبرد :

كيف؟

البحتري :

ذاع اسمي من عندهم، وتيسر لي الطريق بعد أن كان وعر المسالك عسير الدروب.

المبرد :

فإن سألتك اليوم أن تقارن شعرك بشعر أبي تمام.

البحتري :

لك الله يا مبرد. أوتظن السنوات تمحو الحقائق؟ رحم الله أبا تمام؛ فإنه والله الأستاذ الرئيس، وما نلت الخير إلا به.

المبرد :

تأبى إلا شرفا من جميع جوانبك أبا عبيد.

البحتري :

هو الحق يا أخي، وما اصطنعته.

المبرد :

وأين ستقام بك الطريق؟

البحتري :

إلى المتوكل.

المبرد :

إن لك فيه القصائد الخالدات.

البحتري :

إني لا أخفيك الحق يا مبرد. لقد قلت الشعر تكسبا فما كان يعنيني أن يكون الممدوح مستحقا لما أقوله فيه من الشعر أو غير مستحق غير أني كنت أجد في ذاك، غصة، ما أحسب إلا أنك تعرفه. تخيل نفسك يا صاحبي تسكب الجواهر الفريدة على حمار لا يجد فيها إلا الحصى.

المبرد (يضحك) :

جزاك الله يا بحتري.

البحتري :

حتى مدحت المتوكل، وجدته يستجيب للمديح، صادق النظرة في الشعر، طيب الرؤية فيه، بارع النقد، فاسترحت إليه، وأصبحت أقول الشعر فيه وأنا مرتاح الضمير هادئ النفس طيب الخاطر.

المبرد :

ما أحسن شعرك فيه؟

البحتري :

أقول حين قمع المتوكل الفتنة التي كادت تضطرم بين ربيعة:

نزور أمير المؤمنين ودونه

سهوب البلاد رحبها ووسيعها

إذا ما هبطنا بلدة كر أهلها

أحاديث إحسان نداه يذيعها

حمى حوزة الإسلام فارتدع العدا

وقد علموا أن لن يرام منيعها

ولما رعى سرب الرعية ذادها

عن الجدب مخضر التلاع مريعها

علمت يقينا مذ توكل جعفر

على الله فيها أنه لا يضيعها

أسيت لأخوالي ربيعة إذ عفت

مصايفها منها وأقوت ربوعها

بكرهي إن باتت خلاء ديارها

ووحشا مغانيها وشتى جميعها

وفرسان هيجاء تجيش صدورها

بأحقادها حتى تضيق دروعها

تقتل من وتر أعز نفوسها

عليها بأيد ما تكاد تطيعها

المبرد (مكملا بإعجاب) :

إذا احتربت يوما ففاضت دماؤها

تذكرت القربى ففاضت دموعها

شواجر أرماح تقطع بينهم

شواجر أرحام ملوم قطوعها

فلولا أمير المؤمنين وطوله

لعادت جيوب والدماء ردوعها

تألفهم من بعد ما شردت بهم

حفائظ أخلاق بطيء رجوعها

فأبصر غاويها المحجة فاهتدى

وأقصر غاليها ودانى شسوعها

البحتري :

إني والله لا أعلم أنني أحسنت، فبالله ألا قلت لي أحسنت فلقد أحسنت. (موسيقى.)

صوت :

يا بحتري، مولاي المتوكل يطلبك.

البحتري :

إني إليه شاخص. (موسيقى.)

البحتري :

مولاي.

المتوكل :

أين كنت؟

البحتري :

إني في حمى مولاي أينما أذهب.

المتوكل :

هل من شعر جديد؟

صوت (يقطع الحديث) :

مولاي، إنه الأمر الجليل.

المتوكل :

فقله.

صوت :

لو أمر مولاي فأخلى القاعة.

المتوكل :

إنها لخالية.

البحتري :

أيأذن لي مولاي؟

المتوكل :

بل أقم، فما عليك سري أبا عبيد.

الصوت :

إنها المؤامرة حبكت خيوطها، التأم شرها هنا في قصر مولاي.

المتوكل :

مؤامرة، ما أهدافها؟

الصوت :

قتل مولاي.

المتوكل :

قتلي؟

البحتري :

قتل مولاي؟ والعياذ بالله.

المتوكل :

فمن حامل عبئها؟

الصوت :

أخاف يا مولاي أن أقول.

المتوكل :

فماذا أنت قائل إذن إن لم تذكر المتآمرين.

الصوت :

إنه يا مولاي. إنه يا مولاي.

المتوكل :

ألا قل.

الصوت :

المنتصر، ابنك يا مولاي.

المتوكل :

ابني المنتصر، ما خطبه؟ أأصابه المتآمرون؟ ويل لهم مني، هل مسوا منه شعرة، من هم المتآمرون، من زعيمهم؟

الصوت :

ابنك يا مولاي .

المتوكل :

الويل لك انطق، ماذا به، ماذا أصابه؟

الصوت :

يتآمر عليك.

المتوكل (مذهولا غير مصدق) :

ماذا، تقول من، من يتآمر؟

الصوت :

أعلم هول الوقع يا مولاي، تمنيت والله لو مت قبلها.

المتوكل :

ولدي؟!

الصوت :

عفوك يا مولاي، ما على مثل هذا نسكت، فإنا إذن خونة.

المتوكل :

ألقيت بالقول ولم تشفعه ببرهان. والآن حياتك أو البرهان على ما تقول.

الصوت :

أعلم يا مولاي أنك سوف تسألني على ما قلت دليلا.

المتوكل :

إلي به أسرع.

الصوت :

فهم الساعة مجتمعون، فلو تفضل مولاي.

المتوكل :

إني ذاهب إليهم، فقد الطريق. هلم يا بحتري. (موسيقى عنيفة.)

صوت :

يا ولي العهد، إن حرس الخليفة ينامون عند الفجر.

ولي العهد :

فعند زرقة الفجر إذن (في سذاجة) .

آخر :

لا بد لكل منكم أن يعرف مكمنه، وحذار أن يعلو منكم صوت.

ولي العهد :

وبعد أن تنتهوا؟

صوت :

نخرج إلى المدينة فنؤذن الفجر، وفي الصلاة ندعو لك بالخلافة.

ولي العهد :

هكذا، هكذا (في فرحة بدائية).

الصوت :

بل إننا سوف نترحم على الخليفة القتيل، ونذكر مناقبه ونتعهد أمام الناس بأن ندرك الثأر.

ولي العهد (في سذاجة) :

نعم الثأر، الثأر.

صوت الخليفة (في شدة عنيفة قاسية) :

من ينال ثأري إذن يا منتصر؟ ويلي منك وويلي عليك.

أصوات (في هرج وخوف) :

الخليفة، المتوكل.

المنتصر (ولي العهد) :

أبي.

المتوكل :

ليتني ما كنت يا ابن العقوق، خلافة سوف تفضي في غد إليك، فما بالك تتعجلها اليوم، وا حربا، فبمن أثق؟

المنتصر :

أبي!

المتوكل :

خذوه إلى السجن. (أصوات خشخشة حديد.)

المنتصر :

أبي، أبي!

المتوكل :

خذوه. أما أنتم، فإن لي معكم شأنا. (موسيقى.)

البحتري :

وأرسل الخليفة المتآمرين إلى الموت. أما ابنه فإننا تشفعنا عنده حتى رضي ألا يقتله وأبقاه سجينا.

المبرد :

ويحك يا بحتري، إنك لترى الكثير في قصر المتوكل.

البحتري :

إيه يا مبرد! إنك صديق الطفولة، فحذار أن يعرف أحد عني أني نقلت الحديث.

المبرد :

هيهات! إن سرك في مكانه يا أبا عبيد. ألم أخبرك بما سمعته عنك اليوم؟

البحتري :

أخيرا سمعت؟ أم شرا؟

المبرد :

الحق أنني سمعت الخير والشر.

البحتري :

فبالله ألا أسمعتني الخير.

المبرد :

والشر؟

البحتري :

احبسه عني.

المبرد :

أما الخير فقد سمعت اليوم أن أحد تلاميذ أبي العلاء سأله عنك وعن المتنبي وعن أبي تمام.

البحتري :

أشيخ المعرة تقصد؟

المبرد :

هو أبو العلاء المعري، ومن غيره؟

البحتري :

أما والله فإنما مثل هذا من يسأل، ومثل هذا من أحب أن أسمع رأيه. عجل بربك، فماذا قال؟

المبرد :

قال المتنبي وأبو تمام حكيمان، والبحتري هو الشاعر.

البحتري :

أما والله إنها لمدحة يقصر دونها كل ما سمعت من مديح.

المبرد :

ألم أقل لك إنه الخير.

البحتري :

والشر، ما الشر الذي سمعته؟

المبرد :

ألم تقل احبسه عني؟

البحتري :

قله؛ فإني إن لم أعلمه منك علمته من غيرك.

المبرد :

سمعت فيك هجاء.

البحتري :

ممن؟

المبرد :

وممن تنتظر؟

البحتري :

والله إن قربي من المتوكل أوغل علي أحقادا كثيرة.

المبرد :

وأي حاقد تنتظر شعره؟

البحتري :

اللهم اجعله من أي شاعر إلا من ابن الرومي.

المبرد :

بل هو والله من هجاك.

البحتري (آسفا) :

فماذا قال؟

المبرد :

يقول:

البحتري ذنوب الوجه تعرفه

ومن يكون ذنوب الوجه ذا أدب؟

أحرى بمن عظمت في الناس لحيته

من نحلة الشعر أن يدعى أبا العجب

البحتري :

لقد غاظه شعري؛ فهو يعلم أنه الذهب المذاب.

المبرد :

نعم، لقد أغاظه شعرك، وغاظه قربك إلى المتوكل.

البحتري :

فهو إذن يسخر من لحيتي. والله لأجيبنه إجابة لم يتوقعها.

المبرد :

وما هي؟

البحتري :

أتراك تلقاه؟

المبرد :

لعلي ألقاه، أو أنني أعرف من سيلاقيه.

البحتري :

بربك إلا أرسلت إليه هذه (يسمع صوت النقود) .

المبرد :

ما هذا؟

البحتري :

كيس فيه مائة دينار.

المبرد :

وهو من هجاك؟!

البحتري :

وما البأس؟

المبرد :

والناس يقولون عنك بخيل تخاف على دراهمك خوف الطاهي على الماء.

البحتري :

بل إنني والله لأكثر بخلا مما يقولون.

المبرد :

فما هذه الدنانير؟

البحتري :

إنني أعلم حرقة الفقر، فقد عانيته أكثر أيامي، وأعرف الطريق المسدود إلى أعتاب الأمراء، وأعرف أن ابن الرومي شاعر على طبيعة الشعراء، وهو لم يقل ما قال إلا فقرا وحقدا وغيظا.

المبرد :

والله ما كذب القائل:

ومهما تكن عند امرئ من خليقة

وإن خالها تخفى عن الناس تعلم

إنما البخل فيك صناعة والطبع كرم. جزاك الله خيرا أبا عبيد، جزاك الله خيرا. (موسيقى.)

البحتري :

ماذا قال ابن الرومي حين وافاه المال؟

المبرد :

ويحه قد قال أفحش القول!

البحتري :

لقد غاظه إحساني إليه أكثر من غيظه لإحساني في الشعر. ماذا قال؟

المبرد :

قال أيحاول البحتري أن يرشوني بمال هو مستجديه، والله لا أسكت عنه أبد الدهر.

البحتري :

مرحبا به.

المبرد :

سمعت اليوم قوما يمدحونك يا بحتري، ويقولون إنك أحببت فتاة، فماذا قلت فيها؟

البحتري :

ألا والله إنما لنا نحن - مادحي الأمراء - مداخل إلى الكلام تبدأ بالغزل وتنتهي إلى المديح.

المبرد :

ومن ذلك؟

البحتري :

من ذلك قولي:

ألا هل أتاها بالمغيب سلامي

وهل خبرت وجدي بها وغرامي؟

وهل علمت أني ضنيت وأنها

شفائي من داء الضنى وسقامي؟

ومهزوزة هز القضيب إذا مشت

تثنت على دل وحسن قوام

أحلت دمي من غير جرم وحرمت

بلا سبب يوم اللقاء كلامي

فداؤك ما أبقيت منه فإنه

حشاشة جسم في نحول عظامي

صلي مغرما قد واتر الشوق دمعه

سجاما على الحدين بعد سجام

فليس الذي حللته بمحلل

وليس الذي حرمته بحرام

وإني لأباء على كل لائم

عليك وعصاء لكل ملام

هل العيش إلا ماء كرم مصفق

يرقرقه في الكأس ماء غمام؟

المبرد :

ذاك والله الشعر، فسلام عليك.

البحتري :

إلى أين؟

المبرد :

إلى بيتي، فلقد والله سكرت بخير خمر، فما أدري هل أنا بالغ أم أنني أتوه عنها.

البحتري (ضاحكا) :

فامكث حتى تفيق، فإني لأنتظر شيخا شاعرا. (طرق على الباب.)

البحتري :

هذا هو، ادخل.

صوت :

السلام عليكم.

البحتري :

وعليك السلام، يا غلام، هات غدائي.

المبرد :

ويحك! أتأكل الآن غذاءك، وقد آذنت الشمس بمغيب؟

البحتري :

لعلي لا أجد أحدا يشاركني في طعامي؟

المبرد :

أما أنا فمحقق لك أمنيتك.

الصوت :

وأما أنا فلا.

البحتري (في حزن) :

فأنت ستأكل معي؟

الصوت :

نعم.

البحتري :

أتعرف يا مبرد من الشيخ؟

المبرد :

لا والله.

البحتري :

فإنه من بني الهجيم الذين يقولون فيهم شاعر يعرفهم وبنو الهجيم قبيلة ملعونة، شعث اللحى متشابهو الألوان، لو يسمعون بأكلة أو شربة، بعمان أصبح جمعهم بعمان (ضحك شديد) . (ضحك مستمر، طرق شديد على الباب.)

صوت (من الخارج) :

يا بحتري، الخليفة يطلبك.

البحتري :

لبيه. أكمل أكلتك أيها الشيخ، فلقد والله أديت ثمنها بما أضحكتنا الساعة. (موسيقى.)

البحتري :

مولاي.

المتوكل :

تشوقت والله أن أسمع منك شعرا.

البحتري :

أنشد قصيدتي في البركة يا مولاي؟ لهفي على لغة العرب كلما قلت البركة أحسست بالحسرة.

المتوكل :

ولمه؟

البحتري :

عرفنا البركة يا مولاي ماء راكدا أغبر الصفحة أخرس الوجه، ولكنك يا مولاي صنعتها من الزئبق، فكأني بك مولاي أمرت النور أن يسكب فيها ثم أمرت لا يبرحها فأطاع يا مولاي منسكبا وماكثا. لقد والله أحسنت حين وصفتها بقولي:

ميلوا إلى الدار من ليلى نحييها

نعم ونسألها عن بعض أهليها

يا دمنة جاذبتها الريح بهجتها

تبيت تنشرها طورا وتطويها

لا زلت في حلل للخير ضافية

ينيرها البرق أحيانا ويسديها

ما لكم لا تقولون أحسنت؟! فلقد والله أحسنت وأحسنت. (أصوات ضحك.)

يا من رأى البركة الحسناء رؤيتها

والآنسات إذا لاحت مغانيها

بحسبها أنها في فضل رتبتها

تعد واحدة والبحر ثانيها

كأن جن سليمان الذين ولوا

إبداعها فأدقوا في معانيها

فلو تمر بها بلقيس عن عرض

قالت هي الصرح تمثيلا وتشبيها

تنصب فيها وفود الماء معجلة

كالخيل خارجة من حبل مجريها

أما والله لقد أحسنت وأحسنت.

المتوكل :

أما والله لقد صدقت، فهكذا الإحسان يكون، وإن كان شعرك يحتاج إلى منشد!

البحتري :

ألا أحسن إنشاد شعري يا مولاي؟

المتوكل :

بل إنك والله تسيء إليه أبلغ إساءة، أو لعل غرورك هو المسيء.

البحتري :

يا مولاي، إنني أنثر بين يديك نفسي في كل كلمة. أكثير إذن أن هذا أحب الأجزاء من نفسي وهي تنفصل عني لتسركم.

المتوكل :

لم تخبرني يا بحتري، أيهما أشعر؟

البحتري :

أنا أم أبو تمام؟

المتوكل :

نعم، هذا ما أردته أن أسألك فيه.

البحتري :

أحمد الله أنني ما قرنت بغيره. إن أردت الحق يا مولاي بغير تواضع أو غرور، فإنني أرى جيد أبي تمام خيرا من جيدي، ورديئي خير من رديئه.

المتوكل :

لقد عدلت والله أبا عبيد. أسمعنا إذن ما قلت في عرش كسرى.

البحتري :

شكر الله لك يا مولاي، ذلك والله هو الشعر.

صنت نفسي عما يدنس نفسي

وترفعت عن جدا كل جبس

وتماسكت حين زعزعني الده

ر التماسا منه لتعسي ونكسي

حضرت رحلي الهموم فوجه

ت إلى أبيض المدائن عنسي

أتسلى من الحظوظ وآسى

لمحل من آل ساسان درس

ذكرتنيهم الخطوب التوالي

ولقد تذكر الخطوب وتنسي

لو تراه علمت أن الليالي

جعلت فيه مأتما بعد عرس

وهو ينبيك عن عجائب قوم

لا يشاب البيان فيهم بلبس

فإذا ما رأيت صورة أنطا

كية ارتعت بين روم وفرس

والمنايا موائل وأنوشر

وان يزجي الصفوف تحت الدرفس

تصف العين أنهم جد أحيا

ء لهم بينهم إشارة خرس

يغتلي فيهم ارتيابي حتى

تتقراهم يداي بلمس

صوت :

تأذن لنا يا مولاي؟

المتوكل :

على بركة الله (أصوات انصراف القوم) .

البحتري :

أرأيت يا مولاي؟ غاظهم أن تؤثرني وحدي باهتمامك.

المتوكل :

دع عنك أمرهم؛ فلقد خلونا، فليلنا شعر حتى الصباح.

البحتري :

رضاك يا مولاي حسبي.

المتوكل :

أكمل القصيدة. آه! قتلني الكافر. إلي يا بحتري، إلي، ابني قتلني.

البحتري :

مولاي.

صوت :

إياك أن تتقدم. (موسيقى عنيفة.)

البحتري :

حرام على الراح بعدك أو أرى

دما بدم يجري على الأرض مائره

وهل أرتجي أن يطلب الدم واتر

يد الدهر والموتور بالدم واتره

أكان ولي العهد أضمر غدرة

فمن عجب أن ولي العهد غادره

فلا ملي الباقي تراث الذي مضى

ولا حملت ذاك الدعاء منابره

مال وبنون

الراوية :

أغنى ملوك التاريخ ما مضى منه، وما هو في مطوي الغيب مستقبل، قارون، أول من سك النقود، وما ذكر الغنى إلا وقال قائل:

صوت (صوت في صدى) :

قارون.

الراوية :

رب المال الذي لم يشمله عد، قارون. (جونج.)

سرور :

المال عندك بحور، والناس عند بابك خدم، والزمان طوع أمرك ، فاسعد إنما السعادة أن تحس بها وتلتذها.

قارون :

إنما السعادة أن أنال كل ما أريد، ولم أنله.

سرور :

فإذن إن لم يأت الولد، ماذا أنت فاعل؟

قارون :

لا بد أن يأتي. إنه السعادة، لا بد أن تكتمل لي السعادة؛ فإني قارون.

سرور :

مولاي، الحياة لم تخلق للسعادة كاملة أبدا، مولاي. إن السعادة ومضات في النفس تخبو وتشرق، مولاي. لم ير الناس في الأزمان الماضية على طول الأزمان سعادة لا تنغصها تعاسة، مولاي، إن السعادة التي ترنو إليها صورة لم يخلقها إلا خيالك تأبى الحياة أن تحققها فاسعد بما أنت فيه؛ فإنك في سعادة لا تدري بها.

قارون (في سخرية) :

سرور، أنت تهذي. السعادة أمل يتحقق، والسعادة هي ما أتخيله أنا. إن فكري أنا عن السعادة ليست فكرتك أنت وآمالك. ما أتصوره أنا سعادة لي هو سعادتي، أما آمالك أنت وما تتخيله أنت سعادة، أما هذه فصورة غريبة عني لا تعرفها نفسي ولا تسعد لها ولا ترضاها من المال، الغنى، الذهب، الملك السلطة، المجد، وكل هذا في نظرك أنت ولعله في نظر كثير غيرك سعادة. أما عندي، عندي أنا فعبء حينا، ومادة مختلفة الألوان جامدة حينا آخر.

سرور :

مولاي، هو ما تقول، ولكن لا بد لنا أن نبين لك ما تمرح فيه من نعيم، فإنه قل بين البشر من يتمتع بمثله.

قارون :

لا بد أن أحس أن هذا هو النعيم، وإذا أحسسته فلن أحتاج إلى أحد ليبينه لي.

سرور :

سوف يأتي يوم يا مولاي تعرف فيه أي نعيم كنت فيه، وأخشى والله يا مولاي أن تأسف يومذاك، ولن يفيد يومذاك أسف.

قارون :

هراء، هراء ما تقول.

صوت :

مولاي.

قارون :

ماذا تريد؟

الخادم :

مولاتي تريد أن تلقاك.

قارون (ساخرا) :

أنبئها أني سأذهب إليها حين أنتهي من المجلس.

الخادم :

مولاي عفوك. إنها تريد أن تراك الآن.

قارون (ساخرا) :

الآن؟

الخادم :

إن أذنت يا مولاي.

قارون :

أنا قادم إليها.

الخادم :

أمرك يا مولاي. (يسمع صوت الباب يغلق.)

قارون :

عاقر وتشتد في طلبي وكأنها أنجبت لي أولياء العهد.

سرور :

أهي يا مولاي العاقر؟!

قارون (غاضبا) :

يقينا.

سرور :

ومن أين يأتي اليقين يا مولاي؟ إنها الزوجة الثالثة، ولم تحمل واحدة قبلها حتى تقول عن هذه إنها عاقر.

قارون :

بل حملت الأولى.

سرور :

ذلك الحمل الذي لم يتم، مولاي عفوك، فلماذا تركتها إن تكن ولودا؟

قارون :

سرور، أنت كثير الكلام.

سرور :

مولاي، عودتني أن أقول الحق، وما أظنك ألا تغضب مني إن أنا أخفيت عنك ما أراه صوابا.

قارون :

أنت تغالي في الحق.

سرور :

الحق يا مولاي هو الحق، وهو جامد لا يقبل مغالاة ولا تهوينا. الحق لا يتغير يا مولاي.

قارون :

هو ما ترى يا سرور، هو ما ترى. والآن لا بد لي أن أرى العاقر.

سرور :

سترى زوجتك يا مولاي، سترى الملكة. (موسيقى.)

الملكة :

مولاي.

قارون (في ضيق) :

خيرا ماذا تريدين؟

الملكة (في فرح) :

مولاي إني ...

قارون (مقاطعا) :

لا تقولي إنك حامل.

الملكة :

وما لي لا أقول وهو الحق.

قارون :

حديث معاد. أسمعه منك في كل حين، ثم ما يلبث أن ينكشف عن وهم خالص.

الملكة :

ولكنه في هذه المرة حق خالص، مولاي إن ولدك يركلني.

قارون (بين مصدق ومكذب) :

بلقيس، أحقا ما تقولين؟ أحقا ما تقولين؟

الملكة :

مولاي، إن شئت ركل يدك أنت أيضا.

قارون :

هو الحق إذن! هو الحق أن لي ولدا. أن لي ... (متراجعا)

أهو ولد يا بلقيس؟

الملكة :

أرجو أن يكون يا مولاي.

قارون :

إنه ولد. إني أعرف ذلك، إنه ... (موسيقى.)

صوت امرأة :

ولي عهدك يا مولاي. (موسيقى.)

قارون :

هيه يا سرور، أرأيت اليوم؟ إنها السعادة الكاملة.

سرور :

مولاي أدامها الله عليك، ولكن.

قارون :

بربك يا سرور بغير ولكن.

سرور :

لا بد منها يا مولاي. إن الولد لم يكبر بعد. أهو الذرية التي كنت تريدها؟ أنجيب هو مثل أبيه؟ أيستطيع أن يقوم على مالك، ملكك، غير مسرف ولا شحيح، غير ظالم ولا ضعيف. من يدري مولاي؟

قارون (في تفكير) :

سرور.

سرور :

مولاي.

قارون :

من الذي سماك سرورا؟

سرور :

أبي يا مولاي .

قارون :

أخطأ أبوك.

سرور :

بل أصاب. إن السرور أن تعرف الحق بلا وهم ولا تمويه.

قارون :

إنك قادر على أن تقلب السرور تعاسة.

سرور :

فاذكر يا مولاي يوم كنت أحاول أن أقلب التعاسة سرورا.

قارون :

لم تفلح في إدخال السرور إلى نفسي، ولكنك في إدخال التعاسة موفق كل التوفيق.

سرور :

هو الحق يا مولاي.

قارون :

أخشى والله أن أكره هذا الحق.

سرور :

لن يخسر الحق يا مولاي، وستخسر أنت.

قارون :

إنني اليوم سعيد، فاسعد معي يا سرور، ودع الغد إلى الغد. إنني اليوم سعيد.

سرور :

مولاي جعل الله غدك أسعد من يومك، ويومك أسعد من أمسك، فليس أحب لي يا مولاي من أن تكون سعيدا، وأن تدوم هذه السعادة، أدامها الله يا مولاي، أدامها الله يا مولاي. (موسيقى.)

قارون (في حزن) :

بلقيس أشيري علي، ماذا أفعل؟

بلقيس :

مولاي إنك الملك. الأطباء في أنحاء الأرض يتمنون أن يطيعوا لك أمرا.

قارون :

وهل رأيت الطب أجدى في مثل هذه الحال؟

بلقيس (باكية) :

بربك يا مولاي، بحياتي، بعض الأمل يا مولاي، بعض الأمل، فمن يدري ما يريد به الزمان؟

قارون :

إن الزمان قد أجمع أمره على السخرية مني.

بلقيس :

نحاول يا مولاي.

قارون :

سنوات خمس نحاول ونحاول، فما نفعت المحاولة شيئا. أي خير يعود علينا إلا إحياء أمل ما يلبث اليأس أن يميته، وليس أبشع من اليأس إلا الأمل يحيا ثم يموت.

بلقيس :

بعض الصبر يا مولاي.

قارون (في سخرية) :

عجيب هذا الزمان، أنا، قارون، أغنى ملك عرفه العالم، أريد بعض الصبر فلا أجد، ومع ذلك لا أجد إلا الصبر ملجأ، فيا لي من غني فقير، ويا لي من ملك ذليل! ألا من يبيعني ولدا صحيحا بمالي، وملكي؟ ولكن كيف للبنين أن يباعوا؟ إنهم قطعة منا، منا نحن.

بلقيس :

مولاي، إن من أنجب مرة قد ينجب أخرى.

قارون :

فإذا جاء الولد أصم أبكم مثل الأول؟

الملكة :

مولاي بربك لا تزد الجرح ألما.

قارون (صارخا) :

ماذا؟ أتخشين الحق؟ إنه أصم أبكم. إنه الحق.

الملكة (في ضراعة) :

مولاي.

قارون :

معذرة، أنت لم يعودك أحد سماع الحق كما عودني سرور أن أسمعه.

الملكة :

بعض الشفقة يا مولاي، بعض الشفقة.

قارون (في تلطف) :

نعم، معذورة أنت، أقسو عليك ومصيبتي في ابننا هي مصيبتك، بل لعلها عليك أشد، ولكن اغفري لي؛ فأنت تدركين.

الملكة :

غافرة يا مولاي.

قارون :

أتمنى اليوم أن ...

الملكة :

حذار يا مولاي.

قارون :

ومم الحذر؟ إن حياته كارثة عليه وعلي وعليك وعلى الملك.

الملكة :

مولاي اذكر كم كنت تتوق إليه.

قارون :

كنت أتوق إلى ابن لي لا إلى مسخ أصم أبكم لا يبين ولا يعي.

الملكة :

مولاي، إنها مشيئة السماء.

قارون :

السماء رحيمة غير قاسية.

الملكة :

لعل في ذلك رحمة وأنت لا تدري.

قارون :

أين الرحمة؟ أين الرحمة في والد يتمنى أن يموت ابنه الذي كان يتوق إليه؟ أين الرحمة في ملك ماله لا يعد ولا يحصى ولا يستطيع أن ينال ابنا مثل أحقر مخلوق في مملكته؟ أين الرحمة في أمل كنت أهفو إليه وأتمناه فإذا هو حلم يتحقق حين يتحقق نقمة قاتلة؟ أين الرحمة في ألم عاصف كلما رأيته أو سمعت خطوات أقدامه، فما أسمع منه غير خطوات أقدامه؟ لا إن السماء رحيمة، أرحم من أن تصيبنا بهذا البؤس والألم والشقاء.

الملكة :

لعل غيره يعزيك يا مولاي.

قارون :

غيره تقولين.

الملكة :

إنني منذ أشهر يخيل إلي.

قارون :

لا تزيدي الجروح يا بلقيس، لا تزيدي الجروح.

الملكة :

أزيدها يا مولاي.

قارون :

فكيف إن جاء الثاني مثل الأول، أصم أبكم؟

الملكة :

السماء أرحم من هذا يا مولاي، السماء أرحم من هذا.

قارون :

فلتكن مشيئة السماء إذن، لتكن مشيئة السماء. (موسيقى تصاحب كلام الراوية.)

الراوية :

وكانت مشيئة السماء وجاء الولد، ولم يكن أصم، لا ولم يكن أبكم، بل كان صحيحا قويا فارسا شجاعا. (تنقطع الموسيقى.)

قارون :

نحمد الله يا سرور. لقد جاء اليوم الذي تتم فيه سعادتي.

سرور :

أدامه الله يا مولاي.

قارون :

غير أني أخاف على ابني.

سرور :

أيهما يا مولاي؟

قارون :

ابني، ألي غير ابن واحد؟

سرور :

بل لك اثنان يا مولاي.

قارون :

ويحك يا سرور، ما تراني سعيدا إلا وذكرتني بما ينغصني.

سرور :

ابنك يا مولاي.

قارون :

إنه تعاستي الوحيدة في الحياة.

سرور :

مولاي إن السعادة لا تكتمل.

قارون :

أعرف يا سرور. إنه الحق. إنه الحق دائما.

سرور :

دائما يا مولاي.

قارون :

ولكني أخشى على ابني سليم، على رائد.

سرور :

وما خشيتك عليه؟ (صوت فتح الباب.)

رائد :

أبي، هل أمرت أن أمثل بين يديك؟

قارون :

ما هذا الذي سمعت عنك يا رائد؟!

رائد :

ماذا يا أبي؟

قارون :

سمعت أنك تخاطر بنفسك، ولا تخاف الليل، ولا ترتد عن الصيد إلا وتصيبه.

رائد :

إنما هي رياضة يا مولاي.

قارون :

يا بني، إنك أمل بلادك وأمل أبويك، فحذار أن تجرك الرياضة إلى مصرع هذه الآمال التي تحيط بك؛ فقد أصبحنا شيوخا لا نطيق لهذه المصيبة احتمالا.

رائد :

مولاي أمرك.

قارون :

حذار يا رائد، حذار يا بني. (موسيقى.)

صوت (من بعيد) :

وا مصيبتاه! قتل رائد، مولاي يا ملك الملوك، قتل رائد، مولاي. (موسيقى تصاحب كلام الراوية.)

الراوية :

قتل الأمل البك، صرع الفتى اليافع، اليأس والحزن والقنوط. لم يجد مال قارون، بل لعل المال زاد النار لهيبا، فقد أصبح بلا وارث له إلا هذا الفتى الأبكم الأصم. (تنقطع الموسيقى.)

قارون :

صادق أنت يا سرور، صادق أنت، تعاسة هي الحياة تعاسة كامنة.

سرور :

مولاي، أنا لم أقل هذا أبدا.

قارون :

فقله إذن يا سرور، فهذا هو الحق.

سرور :

بل إنه بعيد عن الحق كل البعد.

قارون :

أما ترى حالي يا سرور؟ أما ترى؟ لشيخ قضى حياته تتعلق آماله بفتاه أن يرث ماله وملكه، ويبقى المال والملك ولا يبقى الفتى.

سرور :

مولاي لا تستسلم للحزن؛ فإن عليك أعباء لا بد لك أن تقوم بها.

قارون :

دعني وما بي يا سرور، لا أريد أعباء ولا ملكا.

سرور :

مولاي، أنت لا تملك لهذا العبء دفعا، فمن يقوم به إن لم تقم أنت؟

قارون :

ليكن ما يكون، أما أنا فما أطيق يا سرور، لا ، لا أطيق.

سرور :

مولاي، إن الأعداء يتربصون بنا شرا، ولا بد لنا أن نجهز لهم قبل أن يدهمونا.

قارون :

جهز لهم أنت ما تريد.

سرور :

مولاي، لم أكن يوما من الذين يقحمون أنفسهم فيما لا يحسنون أداءه. الجيش جيشك، وأنت أدرى الناس به، ولا بد يا مولاي أن تقوم أنت بشأنه.

قارون :

سرور، بربك دعني وحزني.

سرور :

إنك يا مولاي إن أعملت ذهنك في شئون الدولة نفضت عنك هذا الحزن القاتم، واستطعت أن تخلص منه.

قارون :

ولمن الملك بعدي؟

سرور :

للأجيال والقرون، للأزمان القادمة، للتاريخ يا مولاي؛ فإني أخشى أن يقول عنك التاريخ تسلم بلاده حرة وأسلمها ذليلة محتلة.

قارون :

ألا يمهد لي التاريخ عذرا في آمال شبابي التي قتلت؟

سرور :

مولاي إننا نحن - ونحن نحيا معك - لا نمهد لك العذر، فكيف بالتاريخ وهو أصداء الوقائع؟

قارون :

ألا تلتمسون لي العذر؟

سرور :

الملك يا مولاي فوق العواطف والأحزان.

قارون :

سرور، دعني بربك يا سرور، لا أطيق، لا أطيق. (موسيقى.)

سرور :

مولاي، الأعداء يجهزون الجيش.

قارون :

دعني بربك يا سرور. (موسيقى.)

سرور :

الأعداء يا مولاي.

قارون :

سرور، إني لا أطيق. (موسيقى تنتهي بطبول حرب وجلبة وضجيج.)

سرور :

أدركنا يا مولاي.

قارون :

وهل أطيق أن أدرك أحدا؟

سرور :

الأعداء يا مولاي يحيطون بنا من كل جانب، فبربك يا مولاي إلا نجوت.

قارون :

أنجو؟ ولمن أنجو؟ وكيف أنجو؟

سرور :

مولاي، لقد أتيت لك بملابس الرعاة، فتنكر فيها يا مولاي واخرج من المدينة، اخرج يا مولاي.

قارون :

أين زوجتي؟ وأين ابني؟

سرور :

هنا يا مولاي. إني مناديهم الآن. البس أنت هذه الملابس حتى أناديهم. (موسيقى قصيرة.)

قارون :

هلمي يا بلقيس.

الملكة :

إلى أين؟

قارون :

نهرب.

الملكة :

أما أنا فلا.

قارون :

كيف؟!

الملكة :

شيخة أنا أنتظر الموت وكأنه أمل لا سبيل لي إليه، فاهرب أنت وابننا، أما أنا فمقيمة هنا مع قبر ابني لا أتركه.

قارون :

لا أتركك أبدا.

الملكة :

بل وتتركني، فإنك إن أسرت أو قتلت بأيدي أعدائك فعار الأبد وهزيمة لشعب يتمثل فيك أملا ضخما. أما أنا، ما أنا؟ ما أنا؟ زوجة عقيم، بل شر من زوجة عقيم، مات السليم من أبنائي وبقي المريض. دعني أحقق أملي بالموت يا مولاي، بربك.

سرور :

بربك ألا أطعت زوجك. آه! أصابني السهم. النجاة يا مولاي. لقد بلغ أعداؤك القصر.

قارون :

هلمي يا بلقيس.

الملكة (في نزعات الموت) :

لات حين أيها الملك، فقد نفذ السهم إلى قلبي. لقد شاءت السماء أن أموت إلى جانب ولدي، وداعا يا مولاي. (موسيقى.)

الراوية :

وخرج قارون من قصره ومعه ابنه الأصم الأبكم، رفيق ولا رفيق، ولد ولا ولد، ويحك قارون، لكم دارت بك الأيام، في ثياب الرعاة تخرج فارا وأنت من ملك أموال الأرض أجمعين.

قارون :

فأنت إذن كل ما بقي لي أيها الابن، بقية ملك ومال وولد، أنت بأذن لا تسمع ولسان لا ينطق، أنت من بقي لي، ليس لي غيرك، غضبت مني الدنيا وأنا في مجدي ومالي وسلطاني وازداد غضبي عليهما حين جئت أنت عاجزا عجزك هذا، فإذا هي تسخر من غضبي وتسلبني كل شيء إلا الشيء الوحيد الذي يزيدني تعاسة وألما! كم أحس بالجرم نحوك كلما رأيتك! لماذا جئت بك إلى هذه الدنيا؟ ولماذا بقيت فيها بعد أن جئت؟ ألا تشهد ظلم الزمان لأبيك؟ مسكين أنت يا بني لا تحس شيئا مما هو حولك، ولكن أمسكين أنت حقا. أتعرف أنك عاجز؟ أم لعلك لا تعرف؟ ويلي أخدع نفسي! لكم رأيت الدموع جامدة في عينيك ومنهمرة لا تطيق لها كتمانا! إلى أين بنا الطريق؟ يا بني، إلى أين بنا الطريق؟

الراوية :

وفي عرض الصحراء مشى الملك ومعه هذه النفاية التي تخلفت من ملك عريض ومال عديد وولد قوي، وبعد لأي وجهد لقي الملك خيمة.

قارون :

سلاما يا صاحب الدار.

صوت :

سلاما أيها الغريب.

قارون :

انقطع بنا الطريق، فهل لمبيت لنا مكان؟

الصوت :

إن الأعداء تحيط بنا من كل جانب، فكيف نعرف أنك لست منهم؟

قارون :

إنني لا أملك سلاحا، والأعداء منتصرون، والنصر لا يتأتى لشريد في الصحراء.

الصوت :

ومن هذا الذي معك؟

قارون :

إنه ابني.

الصوت :

قوي هو شديد؟

قارون :

ولكنه أصم أبكم، لا يسمع ولا ينطق.

الصوت :

فادخلا.

قارون :

أوحيد أنت؟

الصوت :

معي أخي. ادخلا. (موسيقى.)

الصوت :

إن هذا العربي يحمل مالا كثيرا فيما يخيل إلي.

الأخ :

وكيف عرفت؟

الأول :

سمعت صليل الذهب تحت ملابسه وهو سائر.

الثاني :

الذهب؟

الأول :

الذهب.

الثاني :

فماذا تنتظر؟ هلم نقتله. أنائم هو؟

الأول :

إنه نائم.

الثاني :

هلم بنا.

الأول :

احذر أن يسمع أقدامك.

الثاني :

ومم الحذر؟ الأب؟ نائم، والابن أصم، أبكم. لو رأى ما استطاع أن ينطق.

الأول :

فهات الحبل.

صوت (يحاول أن ينطق فهو ضعيف) :

أبي.

الأول :

أسرع.

الثاني :

هل معك الخنجر؟

الأول :

ها هو ذا.

الثاني :

هاته، هاته.

الابن :

حذار أيها اللصوص، حذار. إنه قارون. إنه الملك.

قارون :

من؟ أنت!

الابن :

لقد حاولا أن يقتلاك.

قارون (باكيا) :

أتنطق؟ أتنطق يا بني؟

الأول :

عفوك يا مولاي.

الثاني :

عفوك يا مولاي.

قارون :

عفوي وشكري وحمدي. لقد نطق ولدي. لقد نطقت في اللحظة التي أريدك فيها أن تنطق، لقد جعلت لحياتي معنى يا ولدي العزيز. لقد جعلت يأسي أملا وتعاستي سعادة. هلما بنا يا ابني إلى الحياة. لقد منحتني السماء خير ما سلبه مني الزمان. منحتني ولدي، منحتني الحياة والأمل، المستقبل، إلى المستقبل يا بني، إلى المستقبل. لقد أشرق لي الطريق الآن. إليه، يا أمل الشباب.

النصر المبين

الراوية :

من الأمجاد، من الأشعة الأولى لنور الإسلام، من هذه الشواهق تعلو فلا يلحق بها نظر، وتسمو فلا يهفو إليها فكر، وإنما هي تهدي فنهدى، وتبين فنسير، وتضيء فنرشد، من القمم الباسقات للآباء والأجداد وقف عندهم التاريخ العربي خاشعا في إجلال، ووقف دونهم التاريخ الغربي صاغرا في ذلة، من العرب الأولين، خلص إلينا تاريخهم نقيا نقاء إيمانهم بالله، رفيعا رفعة اعتناقهم للمبدأ. حاول المؤرخون أن ينالوا من تاريخهم، ولكن الأدلة تكاثرت عليهم وانثالت إليهم الحجج إرسالا، ولم يملكوا إلا الذهول والحيرة، ولم يملكوا إلا الاعتراف أنه الحق. (موسيقى.)

صوت :

نراكم أيها العرب قد انسقتم وراء محن لا تعلمون فكرة، ولا تنظرون إلى تاريخ الأنبياء لتعرفوا إن كان دينكم هذا على حق أم هو يسوق القول بغير حجة ولا برهان.

آخر :

بل نراكم أنتم أيها اليهود منذ حل محمد بالمدينة لا تسكتون عن الإيقاع بيننا، وإثارة الشكوك في نفوسنا، وقد كان أولى بكم وأنتم أصحاب كتاب يدعو إلى التوحيد أن تنضموا إلى دعوة محمد وتؤيدوها.

الأول :

لقد كنا والله خليقين بما تقول، ولكننا نرى أمورا تجعل الشك في نفوسنا يغلب اليقين.

الثاني :

وماذا ترون؟

الأول :

نرى محمدا. (موسيقى.)

الثاني :

يقول اليهود يا رسول الله إنك هاجرت إلى المدينة ولم تتركها، وإن الأنبياء جميعهم ذهبوا إلى بيت المقدس، ويقولون إنه جدير بك أن تذهب إلى المسجد الأقصى لتكون من الأنبياء. فقال رسول الله:

قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم * وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله (صدق الله العظيم) صدق الله العظيم أيها اليهودي.

الراوية :

ومضت سنوات يزيد مضيها شوق المسلمين إلى قبلتهم، ومشرق الوحي على نبيهم، وقد أصبح الحنين في نفوس المهاجرين لاعجا متوثبا إلى ملاعب صباهم، ومعاهد شبابهم، ومدارج الآمال الباكرة لحياتهم. وأحس النبي بلواعج أصحابه فإذا هو يدخل عليهم وقد اجتمعت كثرتهم في المسجد، فيلقي إليهم سلاما فرحا مستبشرا.

أصوات :

وعليكم السلام يا رسول الله ورحمة الله وبركاته.

الراوية :

ويقول النبي: «لقد أذن الله لكم أن تدخلوا المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون.»

صوت :

سبحان الله!

آخر :

الله أكبر.

آخر :

الحمد لله.

آخر :

محاربين ندخل المسجد الحرام يا رسول الله.

الراوية :

ويقول النبي: «أذنوا في الناس بالحج.»

آخر :

متى يا رسول الله؟

الراوية :

ويقول النبي: «في ذي القعدة إن شاء الله.»

صوت :

في ذي القعدة يا رسول الله؟ في الشهر الحرام إذن.

آخر :

فلا حرب إذن ولا سلاح.

آخر :

سلاما ندخلها بإذن الله.

الراوية :

وخرج المسلمون حول النبي، وقد علموا أنه ما يريد إلا سلاما، إنما هي زيارة لبيت الله الحرام، وما إن بلغوا الحليفة حتى أحرم محمد، فأحرموا معه، وأصبح واضحا أن محمدا إنما ينشر السلام، فإن المحرم لا يبغي عدوانا، ولكن من المشركين فرسانا أبوا أن يفهموا الوضوح، وما بعجيب عليهم الزيغ، فهم أنفسهم من عموا عن الإسلام. يجتمع جمعهم - هان جمعهم - ويقول قائلهم، ذل قائلهم:

صوت :

ها قد أقبل محمد يغزوكم في دياركم بعد أن دحركم حول الخندق.

صوت :

وهل محمد بحاجة إلى أن يتشبه بالأنبياء في هذه التوافه؟

الثاني :

يقولون إنه ما دام المسلمون يجعلون المسجد الأقصى قبلتهم، فلا بد لمحمد أن يهاجر إلى المسجد الأقصى، فيجعل من المدينة وسطا في هجرته بين مكة والمسجد الأقصى.

الراوية :

وسأل النبي ذلك المتحدث: ألم تفهم ما يرمي إليه هذا اليهودي؟

اليهودي :

فهمته يا رسول الله، إنه يريد أن يشعلها فتنة بيننا.

الراوية :

وكان ذلك هو ما أراده اليهود، ولكن هيهات! إنهم يمكرون ويمكر الله، وإن ربك لأشد مكرا. (موسيقى.)

الثاني :

اسمع أيها اليهودي، لقد دحض الله فتنتك.

اليهودي الأول :

وكيف أيها المسلم؟

الثاني :

لقد أنزل الله آياته عز شأنه، فجعل الكعبة هي قبلتنا. اسمع ما يقول: «بسم الله الرحمن الرحيم»

قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره .

اليهودي :

فقبلتكم الكعبة إذن؟

الثاني :

إنها قبلتنا.

اليهودي :

وهكذا يميل ... (موسيقى.)

الثاني :

ويقول: يا رسول الله، وهكذا يميل بكم محمد من قبلة إلى قبلة وأنتم وراءه، لا تدرون لماذا كان المسجد الأقصى قبلتكم؟ ولماذا أصبحت الكعبة قبلتكم؟ ألا تسألون؟ ألا تفهمون؟!

الراوية :

وقال النبي لمن يحادثه: «وفهمت ما يرمي إليه؟»

الثاني :

فهمته يا رسول الله، وهل يريد إلا الوقيعة والفتنة؟

الراوية :

وكان ذلك هو ما أراده اليهود، ولكن هيهات. إنهم يمكرون ويمكر الله، وإن ربك لأشد مكرا. (موسيقى.)

الثاني :

لقد جاءك الجواب أيها اليهودي. قد جاءك الجواب.

اليهودي :

وأين هو؟

الثاني :

اسمع: «بسم الله الرحمن الرحيم»

سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم . (موسيقى.)

آخر :

والله لئن دخل مكة اليوم فهيهات، هيهات لكم أن يخرج بعدها أبدا.

آخر :

واللات لا يدخلها أبدا.

آخر :

يقولون إنهم يريدون أن يدخلها مسالما فلا عدوان، ولا وقائع.

آخر :

أفننتظر إذن أن يدخل مكة، ثم ننظر إن كان يريد سلاما أم حربا؟

آخر :

إذن فهو عار الأبد وخزي الدهور.

آخر :

بل إننا نخشى أن يكون محمد يضمر بنا المكر والخديعة.

آخر :

والله يخيل إلي أنه يضمر السلم حقا؛ فقد علمت أنه دعا العرب من غير المسلمين إلى الزيارة معه.

آخر :

وأين السلام في هذا؟

الأول :

إن من ينوي الحرب لا يدعو إليها إلا الذين يثق في إخلاصهم.

آخر :

إنه قد أحرم.

الأول :

لأخشى أن يكون السلاح في ثياب إحرامه.

آخر :

أخالك واهما.

الأول :

إننا لن نسمح لمحمد أن يطأ مكة.

آخر :

فنجهز جيشا ونلتقي بمحمد.

الأول :

إن الجيش معد، فها أنت ذا ترى شباب قريش مجتمعا إليك منذ علم أن محمدا في طريقه إلينا.

آخر :

فمن نولي عليه؟

الأول :

جبار الحروب وعمادها.

آخر :

أخالد بن الوليد تريد؟

الأول :

إياه أردت.

آخر :

أرى خالدا يتسمع أنباء محمد في تشوق، وكأني به يكاد يؤمن بالدين الجديد.

الأول :

أراك محقا فيما تقول، فلو أننا عقدنا لعكرمة بن أبي جهل معه حمدنا العقبة، ووثقنا أننا سنواجه محمدا بقوة شديدة.

آخر :

الرأي رأيك، هو ما قلت.

الأول :

فليكن خالد إذن وعكرمة بن أبي جهل هما قائدا الجيش. (موسيقى.)

الراوية :

وسار جيش الكفار حتى بلغ ذا طوى وأقام عسكره هناك، أما محمد فقد سار بجيشه حتى بلغ عسفان، وهناك لقيه رجل من بني كعب. (موسيقى.)

الراوية :

فسأله رسول الله عن أخبار مكة.

صوت :

قد سمعت بمسيرك، فخرجوا وقد لبسوا جلود النمور ونزلوا بذي طوى يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قدموها إلى كراع الغميم.

الراوية :

فقال رسول الله: «يا ويح قريش، لقد أهلكتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب؟ فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا، وبهم قوة، فما تظن قريش؟ فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة.»

صوت :

أعناقنا فداك يا رسول الله.

آخر :

مرنا فنحن نفاذ أمرك، وتحقيق كلمتك.

آخر :

أنحارب يا رسول الله؟

آخر :

إن شئت يا رسول الله حاربنا، إلا أن لي رأيا، أتأذن لي أن أقوله؟

الراوية :

قال النبي: «قله».

آخر :

إنهم يعلمون أننا لم نخرج لحرب، فنحن على غير عدة وسلاح، وإنهم - يا فداك أبي - يبذلون غاية الجهد ليشتبكوا معنا في حرب، فلو أننا هيأنا لهم هذه الفرصة ...

آخر :

نعم، إنك محق، لو تهيأت لهم الفرصة وانتصروا في حربهم الظالمة هذه لراحوا يتشدقون بنصرهم بين العرب.

الآخر :

إنهم لم يرسلوا خالدا وعكرمة إلا ليبدوا سبيلا إلى حرب هم لا يعلمون أننا لم نعد لها.

آخر :

إننا لنحمل سيوفنا، وإيماننا، فهلم بنا هلم. ولن نتعب خالدا ولا عكرمة في بدء الحرب. سنكون البادئين؛ فإنهم هم المعتدون.

آخر :

فداك يا رسول الله فداك، وما الإعداد للحرب غير السيف، وهو بيدنا، وغير الإيمان، وهو أرسخ في قلوبنا من شم الجبال.

آخر :

لقد أردنا سلاما وأرادوا هم حربا، فهلم إليها؛ فإنما النصر من عند الله، وإننا نحن ... نحن أتباع الله.

الراوية :

ولكن رسول الله رأى أنه لو خرج عن سياسة السلم التي أعد لها إلى سياسة الحرب التي يجهد الكفار على أن يريدوه عليها، لو فعل لأتاح لكفار قريش فرصة يشيعون بها بين العرب أن محمدا حارب في الأشهر الحرم، وأنه حارب عند البيت الحرام وهو بعد لا يضمن النصر، فإن يكن المسلمون حوله يفيض بهم الإيمان، إلا أن أبناء قريش أيضا إذا حاربوا اليوم فإنما هم يحاربون عن شرفهم أجمع، تعتلج في نفوسهم أحقاد الأمس يوم هزموا عند الخندق، وذلة اليوم في مهاجمة محمد لهم وهم في أحضان مكة، وخشية الغد، إذا دخل محمد مكة عليهم عنوة فهم إذن في هوان مقيم، قدر عليه الصلاة والسلام هذا جميعه، فأزمع على أن يظل على سلمه الذي أراده لنفسه، فلا يميل إلى الحرب التي يريده عليها الكفار، فهو يقول: «من رجل يخرج بنا عن طريق غير طريقهم التي هم بها؟»

صوت :

إني يا رسول الله أعرف طريقا.

آخر :

إنها طريق شاقة تلك التي تقصد إليها.

آخر :

أي شاق يا أخا العرب؟ إننا أبناء صحراء، لا يشق علينا طريق. (موسيقى.)

الراوية :

وسار المسلمون في طريق يتلوى بين الشعاب، وقد جهد المسلمون حتى بلغوا عند منقطع الوادي، ثم مالوا منه إلى أيمنه فبلغوا ثنية المراد مهبط الحديبية، من أسفل مكة. وما رأى جيش الكفار هذا حتى رجعوا إلى مكة ليدافعوا عنها إذا أراد المسلمون دخولها، وكان النبي على ناقته القصواء فما إن بلغت الحديبية حتى بركت.

صوت :

لقد جهدت يا رسول الله، أجهدها طول الطريق ووعورته.

الراوية :

فقال النبي: «إنما حبسها حابس الفيل عن مكة.»

آخر :

حابس الفيل؟!

آخر :

نعم يا أخي، حابس الفيل الذي منع أبرهة أن يهدم الكعبة. ألا تعرف أن الفيلة يومذاك لم تستطع أن تمس الكعبة بسوء على الرغم من تحريض راكبيها لها؟!

آخر :

فذاك إذن حابس الفيل.

آخر :

إنه هو، وقاء مكة، وحصن الكعبة.

الراوية :

وقال النبي (معلنا السلم) : «لا تدعوني قريش إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحمة إلا أعطيتهم إياها.» انزلوا هذا المكان.

صوت :

ولكننا يا رسول الله في مكان لا ماء ولا ري، ولا هو يصلح لمقام.

الراوية :

فأخرج عليه الصلاة والسلام سهما من كنانته، وقال لأحد مرافقيه: انزل في بئر من هذه الآبار التي حولنا واضرب فيها بسهمي هذا.

صوت :

ولكنها آبار جفت يا رسول الله.

الراوية :

فقال النبي: فانزل.

الصوت :

أمرك يا رسول الله.

الراوية :

ونزل الرجل وضرب السهم.

أصوات :

الماء، الماء، الري، الري، الله أكبر، صلى الله على محمد. (موسيقى.)

الراوية :

واجتمع كفار قريش يتفاوضون الأمر بينهم حتى وافاهم بديل بن ورقاء، وكان يلم بجيوش المسلمين، فابتدروه سائلين:

صوت :

هيه بديل.

الصوت :

فما مجيئهم؟

بديل :

زيارة البيت وتعظيم حرمته.

الصوت :

ويتسامع عنا العرب أن محمدا قد دخل علينا مكة عنوة.

بديل :

أشهد أنا لا أرى أثر العنوة في دخوله، بل إنهم قوم يقفون من الكعبة موقف التكريم، لا يدخلونها محاربين.

الصوت :

أكنت هناك حين أرسلنا حليسا ليفاوض محمدا؟

بديل :

كنت هناك، ولقد رأى محمد حليسا قادما فأمر بالجمال فأطلقت ليرى الحليس أنها جائعة، وأنها لا تنتهك حرمات مكة. وقد رأى رسولكم حليس الجمال فعاد سبيله إليكم.

حليس :

أما أخبرتكم أنه السلم ما يريد محمد، ولن يحيد عنه أبدا؟

صوت :

إنما أنت يا حليس سيد قومك ولست من قريش ولا من خالصة العرب، فأنت لا تعلم من الأمر شيئا.

حليس :

لقد حالفتكم لأذود عن البيت الحرام، وما حالفتكم لأرد عنه من جاءه معظما، فمنذ اليوم لا حلف بيننا.

صوت :

أغضبت يا حليس؟

حليس :

وكيف لا أغضب للكعبة، تذودون عنها مكرموها، وتردون القاصدين إليها؟!

صوت :

إنه يا حليس إن دخل الكعبة اليوم زالت عن قريش السدانة والسقاية، وتساقطت عنها أمجادها كالأوراق الجافة يساقطها الريح العاصف.

حليس :

فلا حلف بيننا.

صوت :

بل اصبر علينا يا حليس، فندبر أمرنا وننظر فيه.

بديل :

لقد طال بكم التدبير والنظر، والله لتطالعنكم العرب غدا بقالة لن تثبتوا لها. إنهم قائلون: «قريش ترد عن الكعبة الحجيج.»

الصوت :

نرسل رسولا آخر يفاوض محمدا، نرسل إليه عروة بن مسعود الثقفي.

عروة :

لا والله لست بذاهب.

الصوت :

ولم يا عروة؟

عروة :

أراكم تلقون رسولكم بشر بما يلقى به رسولكم إذا هو جاءكم بالأخبار لا ترضيكم.

الصوت :

إنك عندنا غير ظنين يا عروة، ولن تجد في لقائنا إلا الخير، فاذهب إليه وسله ماذا يريد؟ (موسيقى.)

الصوت :

هيه عروة، ماذا رأيت؟

عروة :

يا معشر قريش، إني جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكا في قوم قط مثل محمد في أصحابه، لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه، وإنهم لن يسلموه لشيء أبدا، فانظروا رأيكم.

الصوت :

ماذا لقيت؟

عروة :

ذهبت إلى محمد. (موسيقى.)

عروة :

يا محمد، إن مكة أهلك ومكانك، إن تنصفها وأهلها المقيمين بها على من جمعت من أوشاب الناس.

الراوية :

فقال أبو بكر: بل هم سادة الناس يا عروة وإن رغمت أنوف.

عروة :

فإذا انصرف هؤلاء عنك يا محمد؟

الراوية :

فقال أبو بكر: هيهات أن ننصرف عنه يا عروة، إنما نحن ومضة من إشراقته، ولمحة من رضى ربه، لا منصرف لنا عنه.

عروة :

فوالله ما أرى شيئا يبقى على الزمان إلا العار لاحقا بقومك من قريش؛ إن أنت اقتحمت عليهم الكعبة اليوم.

صوت :

يدك عروة (صوت صفعة هينة) .

عروة :

فهل تركتنا محمد في عامك هذا؟

صوت :

يدك عروة (صوت صفعة هينة) .

الراوية :

وقال رسول الله: إنه لم يأت إلا لسلم يريد زيارة الكعبة ولمس أركانها. (موسيقى.)

عروة :

فجئت إليكم. أتعلمون من كان يقف إلى جوار محمد؟

صوت :

من؟

عروة :

المغيرة بن شعبة. وكنت إذا أمسكت بلحية محمد وأنا أحادثه ضربني المغيرة على يدي وهو يقول: يدك عروة. فأترك لحية محمد.

صوت :

المغيرة بن شعبة، يضرب يدك أنت؟ يدك التي دفعت عنه ثلاثة عشر دية عن قتلى قتلهم.

عروة :

هو المغيرة. لا واللات، لا كسرى ولا قيصر ولا النجاشي بملاق ما يلاقيه محمد من قومه. انظروا أمركم.

صوت :

يا رسول الله، يا رسول الله، لقد طالما شكونا إليك من سفهاء مكة يخرجون في بهيم الليل، ويرمون خيامنا بالحجارة، فالليلة قد خرج علينا منهم نفر كبير، فأسرنا منهم أسرا وبيلا.

الراوية :

وسأل النبي: وأين الأسرى؟ (موسيقى.)

صوت :

الآن قد أسفر الشك عن اليقين.

آخر :

ماذا؟

الصوت :

أما ترى محمدا قد أطلق أسرى مكة، بعد أن وقعوا في يده، فما لنا نجادل الآن؟

آخر :

إن السلم ما يريد.

آخر :

ماذا تريد؟

آخر :

فلنخل له السبيل فيزور.

آخر :

فوا ضيعتا لنا لنا بين العرب!

آخر :

بل لا والله، فإننا إذا أصبنا محمدا بسوء بعد أن أطلق أسرانا كنا بين العرب غادرين لا وفاء لنا.

آخر :

بل نمنعه.

آخر :

بل نتركه.

آخر :

بل نمنعه. (موسيقى تصاحب المشهد.)

الراوية :

واجتمع المسلمون حول محمد يتفاوضون الأمر، حتى انتهى بهم الرأي أن يرسلوا عثمان بن عفان إلى رجال مكة رسولا، يحمل إليهم رغبة محمد وصحابته في الحج، وذهب عثمان إلى أبي سفيان.

أبو سفيان :

فيم قدومك عثمان؟

الراوية :

فقال عثمان: إنما جئنا لنزور البيت العتيق، ولنعظم حرمته، ولنؤدي فرض العبادة عنده. وقد جئنا بالعير معنا، فإذا نحرناها رجعنا بسلام.

أبو سفيان :

يا عثمان، إذا شئت أن تطوف بالكعبة فطف.

الراوية :

فقال عثمان: ما كنت لأفعل حتى يطوف رسول الله.

أبو سفيان :

فإنا أقسمنا ألا يدخل محمد مكة في عامنا هذا عنوة.

الراوية :

فقال عثمان: ولكنه لا يدخل عنوة.

أبو سفيان :

فإنا أقسمنا وما دمنا ... (موسيقى.)

صوت :

لقد قتلوا عثمان.

آخر :

قتلوه؟

آخر :

لقد قتلوا رسولنا إليهم بعد أن أطلقنا نحن أسراهم.

آخر :

قتلوا زوج بنت رسول الله.

آخر :

لا نسكت بعدها أبدا.

آخر :

في ظلال الكعبة.

آخر :

لقد لوثوا أمنها، وهتكوا حرمتها.

آخر :

هيهات نسكت هيهات. لا نبرح حتى نناجز القوم.

آخر :

إلى السيوف.

آخر :

قتلوه في الشهر الحرام.

أصوات :

إلى السيوف.

الراوية :

ودعا النبي أصحابه، فإذا هم حوله جواب دعوته، وكلمته إذا قال، وإرادته إذا أراد، دعاهم إلى البيعة فأنفسهم لدعوته تلبية، لبيك رسول الله لبيك، من قلوب آمنت بك، وهل بعد الإيمان رضى يا رسول الله؟ لقد أقررت منهم ثائرا من الكفر، فهي في هدأة الإيمان لبيك، لبيك يمدون أيديهم إلى يديك عزت يدك وأيديهم، وتمد أنت يدك الثانية يا رسول الله، لتكون يدك الثانية هذه بديلا عن عثمان بن عفان الغائب عنك. دعوت فهم جميعا لبيك ودعوت تحت الشجرة، وهم في كل مكان لبيك، لبيك يا رسول الله، وتمت البيعة تحت الشجرة لا يغمد واحد منهم السيف، أو يقتل، وإنهم الرابحون يا رسول الله تبدلهم دنيا بعليا وفانية بخالدة. هم الرابحون يا رسول الله، فلبيك، لبيك في بيعة الرضوان. ونظر ربك من عليين فرأى الأيدي مجتمعة على يد النبي، قلوبهم هي أيديهم، أرواحهم هي بيعتهم، فينزل قوله عز قوله: «بسم الله الرحمن الرحيم

لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا ... صدق الله العظيم.» (أصوات فرح.)

صوت :

قد جاء عثمان، قد جاء عثمان.

الراوية :

جاء عثمان، ولم تعد ثمة حاجة لحرب، ولكن هذه البيعة ظلت ذكرى كريمة تلوح للنبي عليه صلوات الله فحاح إليها، كرمها القرآن فخلدها الزمان، وسأل محمد عثمان عما يقوله القوم، فقال: لا يقبلون، ولكنهم سيفاوضونه على خطة يرضاها. (موسيقى.)

أبو سفيان :

نرسل إليهم سهيل بن عمرو فيوثق بيننا صلحا.

صوت :

الرأي ما تقول.

آخر :

أنؤمن تجارتنا القادمة عن طريق المدينة؟ و... (موسيقى.)

سهيل :

صلحا بيننا يا محمد.

الراوية :

ويسأل النبي: وعلام الصلح؟

سهيل :

ترحل عنا في عامك هذا وتحج في العام القادم و... (موسيقى.)

الراوية :

وقبل محمد ما يريدون، فهو يدعو إليه علي بن أبي طالب وسهيلا بمشهد: «ويملي النبي على علي: «بسم الله الرحمن الرحيم.»

سهيل :

أمسك، لا أعرف الرحمن الرحيم، بل اكتب «باسمك اللهم.»

الراوية :

ومن أين لهم أن يعرفوا الرحمن الرحيم؟ ولكن هو الله جلت أسماؤه وتعددت. ويملي محمد: «باسمك اللهم، هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو.»

سهيل :

أمسك. لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك.

الراوية :

إن النصر على النفس هو أروع غايات النصر، لم يثر النبي عليه ولم يعارضه، وإنما كظم غيظه، وينفذ ما يوحى إليه، فهو يقول: أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره، ولن يضيعني. وأملى لرسول الله الرسول صلح الحديبية يهادن فيها قريشا عشر سنين على أن يرد الرسول من يجيئه من قريش مسلما بغير إذن من وليه، ولا ترد قريش من يجيئها من المسلمين، وأنه لا جناح على من يريد محالفة الرسول من العرب ولا جناح على حليف قريش، وأن يرجع محمد في عامه هذا ويعود بعد في العام الذي يليه فيدخل ومن معه إلى مكة ويقيم بها ثلاثة يحملون من السلاح السيوف في أغمادها. وما إن تم الصلح حتى ...

صوت :

لبيك يا رسول الله، إني أشهدك أني مسلم.

سهيل :

من؟ ولدي أبو جندل، ماذا تريد؟

أبو جندل :

أشهد ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، إليك محمد إليك.

سهيل :

بل أقصر أيها الأحمق وارجع.

أبو جندل (صائحا) :

يا معشر المسلمين، أتردونني الى المشركين يفتنونني في ديني؟!

سهيل :

أقصر لعنتك الآلهة.

أبو جندل :

لعنت آلهتكم. أتضربني وتزجرني أن أقول ربي الله؟ إلي محمد إلي.

الراوية :

ويرى محمد هذا المسلم الجديد، ولكنه كان قد ارتضى عهدا، فهو لا ينقضه ويقول: «يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين مخرجا، وإنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدر بهم.»

أبو جندل :

إلي محمد إلي (يضعف الصوت)

إلي محمد إلي (ويزداد ضعف الصوت)

إلي محمد إلي. (موسيقى.)

الراوية :

وقام الرسول مع أصحابه، ثم صلى، فاطمأن قلبه إلى أن الصواب هو ما فعل، وهل يصدر إلا عن الهدى؟ ثم قام إلى بعيره فنحره، ثم جلس فحلق رأسه إيذانا بالعمرة، وحلق الناس معه وأتموا العمرة وقاموا يتهيئون للمسير.

صوت :

غير راض أنا شهد الله عن هذا الصلح.

آخر :

يا أخي اصبر، فالسنون قادمات، والخير معقود بها، ومهما تكن الأمور حازمة فلا بد لها يوما من فرج.

الأول :

أشهد الله أني غير راض.

الثاني :

بل ارض يا أخي، فلقد ربحنا والله أن نحج كل عام، فلا يتعرض أحد لنا بشر، وربحنا أن نحالف من العرب من نشاء، ولا تتعرض قريش لحلفائنا، والأيام مخفيات عنك من الخير ما لا تعلم.

الأول :

انظر، لقد نزل الوحي على النبي. (موسيقى.)

الراوية :

وأوحى الله إلى رسوله سورة الفتح «بسم الله الرحمن الرحيم»:

إنا فتحنا لك فتحا مبينا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما

صدق الله العظيم.

الأول :

الله أكبر، إنه النصر، إنه الفتح.

الثاني :

إي وربك، إنه الفتح المبين.

عودة وغفران

(تخفت الموسيقى وتظل ملازمة للمشهد.)

ناعسة :

حياك الله يا حارث، فأنت نعم الزوج.

حارث :

بل حياك أنت يا ناعسة، فلقد والله جعلت حياتي متعة.

ناعسة :

لقد مهد الحب للزواج.

حارث :

وامتد الحب بعد الزواج يا ناعسة.

ناعسة :

طالما خشيت والله أن يكون الزواج بيننا هو نهاية حبنا، ولكن حياك الله يا حارث، فقد بقيت على حبك الذي كان.

حارث :

وبقيت أنت على حبك ناعسة.

ناعسة :

فظللنا وكأننا ما نزال هناك نلهو بضياء القمر، وهو يلقي إلينا بخيوطه، فإذا هي حولنا مضاءة نمد إليها أيدينا نحاول أن نمسكها فتنضم أصابعنا على النور، فإذا هي فضاء. كنا نرى ضوء القمر ولا نطيق أن نمسكه، كنا نرى فيه حبنا الذي تجسم يكاد يتجسد أمام أعيننا، ثم نحن لا نعرف من أين ينبت.

حارث :

هناك على الرملات الحبيبة، على سفوح الكثبان، كنا حبا. لم تكن أجسامنا وأنفاسنا ولعبنا وجدنا إلا حبا، كنا الحب، أحسه الناس معنى وتجسد فينا كلينا حبا.

ناعسة :

فإذا أجسامنا تكاد تشف فتذوب في ضياء القمر، فتصبح ضياء مع الضياء، أو نسيما مع النسيم.

حارث :

ما أحلى الأمسيات!

ناعسة :

وما أحلى الذكريات!

حارث :

رعاك الله ناعسة، ذكرت الخير عني، ولم تذكري فقرا شقيت به في حياتك إلى جواري.

ناعسة :

حذار يا حارث، أن تعود إلى هذا الحديث، إنما الفقر هو الحاجة. أما ونحن نستر بقليل مالنا حياء وجوهنا، أما ونحن لا نطلب من أحد شيئا فنحن والحمد لله في وافر من الغنى.

حارث :

لك الله يا ناعسة، وأين منك هذا الغنى؟ أحسبتني غبيا؟

ناعسة :

الغنى يا حارث في أننا نجد قوت يومنا، ونجد الملبس الذي يسترنا.

حارث :

أي قوت وأي ملبس؟ وأنت الفتاة في ربيع الحياة، وأنا الشاب في نضرة الشباب، إنما نريد الأكل الوفير ولا نصيب إلا القليل، ونريد الملبس الفاخر فلا ننال إلا الحقير. إنه البؤس يا ناعسة.

ناعسة :

بل هو النعيم، وما أخشى والله إلا قلبك هذا وعدم رضاك، وتبرمك بحياتنا، وهي أهنأ ما تكون.

حارث :

إنما الهناءة في الغنى يا ناعسة.

ناعسة :

بل في الحب يا حارث.

حارث :

لا يفارق ضوء القمر خيالك.

ناعسة :

ولا يفارق ضوء الدينار خيالك.

حارث :

الدينار حقيقة.

ناعسة :

والقمر حقيقة.

حارث :

الدينار حقيقة في الأرض، ونحن في الأرض.

ناعسة :

والقمر حقيقة في السماء، ونحن إلى السماء.

حارث :

خيال.

ناعسة :

لأني أخشى عليك الحقيقة.

حارث :

تهربين منها.

ناعسة :

بل أتجاهلها ما دام علمي بها لا يفيد.

حارث :

أما أنا فأعرفها، وأحسها وألمسها وأثور عليها وأسعى إلى تغييرها. لا بد من الغنى.

ناعسة :

أما يكفيك الستر مع الحب؟

حارث :

بل لا بد من الغنى. (موسيقى تنتهي بطرق على الباب.)

نائلة :

من يطرق الباب؟

حارث :

أنا.

نائلة (وهي تفتح الباب) :

ومن أنت؟

حارث :

حارث.

نائلة :

وما تريد يا حارث؟

حارث :

أحسن كل عمل ولا أجد عملا، وقيل إنكم تطلبون رجلا يقوم على أعمالكم في الزراعة.

نائلة :

ومن أنبأك؟

حارث :

صديقي هشام الحضرمي.

نائلة :

فانتظر حتى أدعو أخي.

حارث :

إني منتظر. (جملة موسيقية.)

أسامة :

ادخل يا حارث.

حارث :

السلام عليك يا سيدي ورحمة الله.

أسامة :

أبلغتني أختي أنك تريد أن تعمل لنا.

حارث :

إي والله.

أسامة :

وهل عملت قبل اليوم في مثل هذا؟ (موسيقى.)

حارث :

شكرا يا هشام.

هشام :

خيرا يا حارث.

حارث :

لقد قبل سيدي أسامة أن أعمل له، وسيجزل لي المكافأة، وقد طلب إلي أن أذهب الساعة إلى ضياعه.

هشام :

هنيئا يا حارث، هنيئا لك.

حارث :

فبربك هلا قصدت إلى زوجتي ناعسة وأنبأتها أني قد عملت؟

هشام :

أفعل يا حارث.

حارث :

وقل لها ... (موسيقى.)

هشام :

فهنيئا لك يا ناعسة.

ناعسة (في صوت لا يبين فيه الفرح) :

شكر الله لك يا هشام.

هشام :

ولقد أنبأني أنه سيتأخر عنك يومين أو ثلاثة أيام.

ناعسة :

وأين يعمل؟

هشام :

عند أسامة بن يعقوب.

ناعسة :

ذلك الغني الواسع الغنى؟

هشام :

نعم.

ناعسة :

ولكن لأسامة ضياع كثيرة، وأموال ضخمة، أيستطيع الحارث أن يقوم بهذا العمل جميعه؟

هشام :

يستطيع لا شك.

ناعسة :

وأين بيت أسامة؟

هشام :

بجانب دكاني.

ناعسة :

ولكن ألم يستطع الحارث أن يأتي إلي لينبئني هو؟

هشام :

لقد طلب إلي أن أفعل هذا عنه لأن أسامة صحبه إلى الضياع من فوره.

ناعسة :

شكرا هشام.

هشام :

لا شكر بيننا يا ناعسة، أنت تعرفين مكانك مني.

ناعسة (في جد) :

شكرا هشام. (موسيقى تنتهي بطرق على الباب.)

أسامة :

من يطرق الباب؟

ناعسة :

أنا.

أسامة (وهو يفتح الباب في دهشة وإعجاب وترحيب) :

مرحبا، أيا تكونين ومهما تكوني.

ناعسة (في جد) :

إنني زوجة الحارث.

أسامة :

زوجة من؟

ناعسة :

زوجة الحارث.

أسامة :

أي حارث سعيد هذا الذي أنت زوجته؟

ناعسة :

الحارث بن زياد الذي يعمل لكم.

أسامة :

هذا الحارث؟ أنت بكل جمالك هذا زوجة الحارث الذي يعمل عندنا؟

ناعسة (في صرامة) :

ويشرفني يا سيدي أن أكون زوجته.

أسامة (في سخرية) :

ويشرفك أن تكوني؟

ناعسة (في صرامة) :

سمعت يا سيدي أنك غني، وحسبت أن المال يهذب النفوس.

أسامة (في جد) :

سيدتي، إنه مهما تكون النفوس مهذبة، فإنها لا تطيق أن ترى هذا الجمال الآسر ولا تعرب عن إعجابها.

ناعسة :

إنك فارغ أيها السيد، تحسب أن تسخر من الناس، ولست بمن تقبل أن يسخر منها، أو من زوجها أحد مهما يكن هذا الأحد أنت.

أسامة (في جد) :

أنا لم أسخر منك، أو من زوجك أيتها السيدة، ولكنني أعجب أن يتزوج هذا الجمال كله (في سخرية)

حارث، مجرد حارث.

ناعسة :

إن الحارث يا سيدي رجل لا يعرض لنساء الآخرين، ولا يسخر من فقر الرجال، ولا يزهي بماله كما تزهي أنت. لقد وهب الله لك المال ليمتحنك به، فويل لك يا سيدي، فما رأيت رجلا أساء استعمال ماله كما تفعل.

أسامة :

وماذا فعلت؟

ناعسة :

جعلت منه زهوا، وكان عليك أن تجعل منه أخلاقا ومروءة. وجعلت من الفقر سخرية، وكان عليك أن تجعل الفقر مجالا لإظهار كرمك.

أسامة :

لو شئت والله وهبت لك من المال فوق ما تطيقين حمله.

ناعسة :

خسئت. لست بذاك.

أسامة :

إلي هذا الكلام؟

ناعسة :

فلمن إن لم يكن لك؟

نائلة :

خيرا. من تلك التي تحادثها فتطيل الحديث؟

ناعسة :

إنه أنا يا سيدتي.

نائلة :

ومن أنت يا أخت؟

ناعسة :

أنا زوجة الحارث الذي يعمل لكم، جئت أسأل عنه، فقد أنبأني أنه سيغيب يومين فغاب أسبوعا. قصدت إلى صديقه هشام أسأله عنه فلم أجده، فجئت إليكم فلقيني هذا الرجل.

نائلة :

أما تعرفين هذا الرجل؟

ناعسة :

يقول إنه أسامة وما أظنه أسامة.

نائلة :

ولم؟

ناعسة :

فيه من خلق العبيد، وما فيه من خلق الأحرار.

نائلة :

لك الله أسامة، لقد أسأت إلى ضيفة، فعذرا يا أخت. اذهبي أنت إلى منزلك وسأرسل أنا إلى الحارث. لا عليك يا أخت، لا عليك!

ناعسة :

شكر الله لك يا سيدتي، شكر الله لك. (موسيقى.)

الحارث :

بشراك ناعسة. أصبت الغنى الوافر والحظ السعيد، هاك، هاك بعض مالي، بشراك ناعسة.

ناعسة :

بل لا بشرى، فإنك تتركني الأيام الطوال، والبيت وحيد، وأخشى أن يدخل لص يسرق المال، أو يسرق ...

الحارث :

أو يسرق ماذا؟

ناعسة :

أثاث المنزل.

الحارث :

لا عليك، فنحن في موسم المحصول، فإذا انتهى الموسم فسأكون إلى جوارك ليل نهار.

ناعسة :

أخشى أن يطول موسم المحصول إلى آخر العمر يا حارث.

الحارث :

ما هذا القول يا ناعسة؟

ناعسة :

أخاف يا حارث.

الحارث :

لا عليك ناعسة، لا عليك. أتركك بخير. (موسيقى فيها شيء من الحزن تنتهي بطرق على الباب ويفتح الباب.)

صوت :

السلام عليكم (يبين من الصوت كأنه يحمل حملا كبيرا) .

ناعسة :

وعليك السلام، ماذا تريد؟

الصوت (وهو لا يزال مجهدا بحمله) :

أليس هذا بيت الحارث بن يزيد؟

ناعسة :

إنه بيته، فماذا تريد؟

الصوت :

أما ترين أنفاسي المتلاحقة؟ هلا تركتني أنزل حملي ثم سألت ما أردت أن تسألي؟

ناعسة :

بل والله لن تنزل شيئا حتى أعرف من أنت وماذا تحمل؟

الصوت :

أما أنا فخادم لن يفيدك اسمي في شيء، وإن أردت أن تعرفي فهو رفيق، وأنا خادم سيدي أسامة بن يعقوب .

ناعسة :

فوالله لن تنزل حملك هذا، ووالله لن تدخل هذا البيت، أنت حمال. امض أيها الحمال، امض.

رفيق :

بل انتظري ألتقط أنفاسي وأحادثك، أنت لا تعرفين ما أحمل. إنه الحرير والدمقس، والشفائف واللفائف، والمخرمات و...

ناعسة :

امض يا حامل الإثم، امض، لا أراني الله وجهك، امض. (صوت باب يصفق ويعقبه بكاء من ناعسة يتخلله طرق على الباب مستمر مدة، ثم ينقطع الطرق ويستمر بكاء ناعسة الذي ينتهي ببكاء من أسامة.)

أسامة :

أحبها، أحبها.

رفيق :

لا عليك يا سيدي، هون عليك.

أسامة :

أحبها يا رفيق، أحبها.

رفيق :

أشهد يا سيدي، وقد خدمتك السنين الطوال، أن واحدة ممن عرفت لم تكن على مثل هذه العفة أبدا.

أسامة :

ولكني يا رفيق أحبها أكثر ممن عرفتهن جميعا. ماذا أفعل يا رفيق، أما من فكرة؟

رفيق :

لا يا سيدي. ليس إلى المرأة الشريفة طريق غير الزواج يا سيدي.

أسامة (فرحا) :

الزواج، هو الزواج، أريد الزواج بها.

رفيق (في سخرية) :

إن المرأة لا تتزوج من رجلين.

أسامة :

أعرف ذلك أيها المتذاكي.

رفيق :

تعرفه طبعا، ولكنك تقول أنت تريد الزواج بها.

أسامة :

نعم (هامسا)

نريد أن نجعل زوجها يطلقها.

رفيق (مرددا في همس) :

زوجها يطلقها؟!

أسامة :

أجل. ألا تعرف وسيلة؟

رفيق :

والله يا مولاي، والله يا مولاي، هناك وسيلة. (موسيقى.)

الحارث :

هيه رفيق، أما تدري لماذا أرسل إلي سيدي أسامة؟

رفيق :

اخفض صوتك.

الحارث (هامسا) :

ماذا؟

رفيق :

إن أسامة لا يعرف أنك عدت.

الحارث :

ماذا؟

رفيق :

اتبعني نذهب إلى مكان أمين. (جملة موسيقية.)

الحارث :

ماذا بك رفيق؟

رفيق :

إن الأمر خطير يا حارث. لقد كشفت أمرا عجيبا.

الحارث :

ماذا كشفت؟ ألا قل يا أخي، فقد أضجرتني همسا.

رفيق :

سيدي نائلة.

الحارث :

ما لها؟ أهي مريضة، ما لها؟

رفيق :

مريضة بداء عجيب، مريضة بحبك.

الحارث :

أجننت؟ أتحبني؟

رفيق :

حب يقيمها الليل الطويل شاردة الذهن، والنهار الطويل، ذاهلة الخاطر.

الحارث :

أجننت؟!

رفيق :

بل الأدهى من ذلك أن أخاها قد عرف الأمر جميعه.

الحارث :

عرف ماذا؟

رفيق :

عرف حبها لك ، وأوشك أن يقتلها، ولكني هدأت مضطربه.

الحارث :

ويلي، فهل آن لي إذن أن أترك العمل الآن؟

رفيق :

يا لك من أبله! لقد ظللت به أناقشه حتى قبل أن تخطب إليه أخته فيزوجك لها.

الحارث :

من؟ أنا؟ أجننت؟ أنا أتزوج هذا الغنى الواسع؟! أنا؟ أنا الفقير أنا؟!

رفيق :

نعم أنت. والعجيبة أن أخاها قبل ذلك، فقد هددته إن لم تتزوج منك أن تقتل نفسها ويكون أمرها فضيحة بين الناس.

الحارث :

هل جننت يا رفيق؟

رفيق :

وقد أرسلت إليك دون أن يعرف سيدي أسامة، ولم يبق الآن إلا أن تتقدم من سيدي أسامة تطلب إليه أن يزوجك أخته، وحذار أن تخبره بما قلته لك الآن، حذار أن تخبره. (موسيقى.)

الحارث (مترددا) :

سيدي.

أسامة :

ماذا يا حارث؟

الحارث :

أمنية يا سيدي طالما داعبت خيالي، وطالما رددتها عن تفكيري، ولكنها تستبد بي كل يوم، فلا أطيق منها فرارا.

أسامة :

ما هي يا حارث؟ قل، فلقد والله عرفت فيك الفتى المخلص في عمله الأمين في واجبه.

الحارث :

يا سيدي، أنا أعرف مكانك مني، ومكاني منك. وأعرف يا سيدي أنك أغنيتني بعد فقر، وأكرمتني بعد هوان، فإن أقدم إليك أطلب منك أمرا، فما هو إلا أمل يدعوني إلى التعلق به فضل سبق، ومكرمة سلفت، ويد أسبغت.

أسامة :

لقد أطلت حارث، وما أحسب مطلبك إلا جليلا.

الحارث :

وإنه الجليل، سيدي أطلب إليك أن تزوجني أختك سيدتي نائلة.

أسامة :

يا أخي، إنما أنت خاطب، والخاطب لا يحتاج إلى هذه المقدمة الطويلة، فإنما بخطبتك تعلن حسن رأيك في وفي أختي.

الحارث :

خشيت يا سيدي أن تحسب أنما أخطبها لغناها، وأنني أتعلق بالغنى وحده.

أسامة :

وهب أنك كذلك. اسمع يا حارث، إنني لا أعارض في هذا الزواج، ولكنني لا بد لي أن أسأل أختي.

الحارث :

ألا تعارض أنت يا سيدي؟ ألا تعارض؟

أسامة :

إذا رضيت هي بك، فلماذا أعارض أنا؟

الحارث (وفي دهشة) :

إذن فقد صدق ...

أسامة (مقاطعا في سرعة) :

من ذلك الذي صدق؟

الحارث :

ظني. صدق ظني يا مولاي .

أسامة :

إذا كان الغد، فتعال تعرف الجواب. (موسيقى.)

الحارث :

سيدي.

أسامة :

هنيئا يا حارث.

الحارث :

أحقا يا سيد، يا صهري!

أسامة :

إلا إن لها شرطا واحدا.

الحارث :

فلتقله يا سيدي.

أسامة :

ألم تحدسه يا حارث؟ ألم تعرف ما هو؟

الحارث (مترددا) :

لا، لا لم أحدسه.

أسامة :

إن أختي نائلة فتاة في ربيع العمر، ولا تحب أن تتزوج من رجل له زوجة في بيته.

الحارث (في تردد) :

وماذا تريد أختك يا سيدي؟ هه، ماذا تريد؟

أسامة :

طلق زوجتك تقبلك نائلة زوجا.

الحارث :

أطلق زوجتي؟!

أسامة :

تتزوج من نائلة.

الحارث (مندفعا) :

فزوجتي ... (يسكت) .

أسامة :

إذن فأنت لا تحب نائلة.

الحارث (في ألم وحزن) :

فزوجتي ناعسة منذ اليوم طالق.

أسامة :

فاكتب الطلاق، ولا يشغلك مؤخر الصداق، فهي هدية عرسك (ضاحكا ضحكة)

هديتي في زواجك من أختي نائلة. (ضحكة كبيرة.) (موسيقى.)

أسامة :

إنني أخطبك إلى نفسي يا ناعسة.

ناعسة :

مالي إلى الزواج رغبة يا سيدي.

أسامة :

أي عيب ترينه في يا ناعسة؟

ناعسة :

أنا لا أراك يا سيدي. أنت دائما مختبئ وراء أموالك، إنك شيء تجعل أموالك أهم شيء فيك، ولو جعلت إنسانيتك أهم شيء فيك لكنت خيرا من ذلك.

أسامة :

أنا لا أفهم عنك شيئا.

ناعسة :

ذلك أن الذهب معدن صلب جامد بارد، وهو يا سيدي يغلف قلبك وعقلك، ولو أنك يا سيدي أزحته عن فهمك وشعورك وعشت حياتك ومالك في يمينك سلاح للفقير لا سلاح عليه، وقوة للضعيف لا قوة للشر، لو أنك فعلت ذلك لأحسست متعة الحياة، بل أحسست متعة الغنى الذي تتمتع به.

أسامة :

إنني أحس متعة الغنى يا ناعسة.

ناعسة :

هيهات. ليست متعة الغنى في المرأة المشتراة، ولا الكأس الناعمة، لا ولا في القصور والحرير وهذا الفراغ. إن متعة المال تحسها - إن كنت تحس - في دمعة المسكين الذي تدفع عنه الذلة، وفي شكر المحتاج الذي رفعت عنه حاجته، وفي إعزاز كريم ذل أو غني افتقر، أو خير أثم.

أسامة :

إني أخطبك إلى نفسي يا ناعسة، فما هذا الحديث؟

ناعسة :

سيدي، أنا لا أتزوج جمادا، وأنت جماد.

أسامة :

أنا جماد؟

ناعسة :

وهل الذهب إلا جماد؟

هشام (من الخارج ويصاحب صوته طرق على الباب) :

افتحي يا ناعسة.

ناعسة (وهي تفتح الباب) :

مرحبا هشام.

هشام :

من؟ سيدي أسامة، أأنت هنا؟

أسامة :

مرحبا هشام.

هشام :

ناعسة، جئت أخطبك لنفسي.

ناعسة :

وإني قبلت يا هشام.

هشام :

فمتى الزواج؟

ناعسة :

متى تريد؟

هشام :

غدا.

ناعسة :

غدا. (موسيقى.)

الحارث :

أنجز حر ما وعد يا سيدي أسامة. لقد ماطلتني الشهور الطوال، وفرضت علي أن أنتظر حتى توفي امرأتي عدتها، وفرضت علي ألا أعود من الضياع أبدا، وألزمتني مكاني القاصي هناك ثلاثة أشهر، فأنجز حر ما وعد يا سيدي.

أسامة :

أي حر، وأي وعد؟

الحارث :

أن أتزوج من أختك نائلة.

أسامة :

من أختي؟ أختي أنا؟ هل جننت؟

الحارث :

سيدي!

أسامة :

أنت منذ اليوم مفصول عن عملك، لا مكان لك هنا أيها المجنون. (موسيقى.)

الحارث :

سلام يا هشام.

هشام :

مرحبا يا حارث، مرت شهور طويلة لم أرك؟

الحارث :

أوتحب أن تراني يا هشام؟

هشام :

ولم لا؟

الحارث :

نعم، ولم لا؟ إنني يا هشام قد صرت إلى ضيق من المال، وكنت قد تركت عند زوجتي (ويستدرك بعدها ويميل صوته إلى البكاء)

زوجتك ناعسة بعض المال، فهلا طلبته لي منها.

هشام :

بل اذهب أنت إليها واطلبه.

الحارث :

أتقصد أن أذهب أنا حقا يا هشام؟

هشام :

ولم لا؟ إنك أخي منذ الطفولة الأولى، ولا تزال أخي. اذهب حارث إليها واطلب مالك بارك الله لك فيه، اذهب أخي. (موسيقى تصاحب المشهد.)

الحارث :

سلاما يا ناعسة.

ناعسة (في بعض جفاء) :

سلاما يا حارث.

الحارث :

تركت عندك بعض المال.

ناعسة (في سخرية ناعمة) :

لا تزال تجري وراء المال يا حارث؟

الحارث :

بل زهدته يشهد الله.

ناعسة :

بل ها أنت ذا تغيب الشهور ولا تعود حين تعود إلا لتطالب بمالك.

الحارث :

كان لا بد لي أن أخلق للمجيء عذرا ناعسة، ناعسة رفقا.

ناعسة :

فهل رفقت بي أنت، وأنت تطلقني؟

الحارث :

إن أكن أخطأت ففي هواك فسحة من العفو.

ناعسة :

إنما الهوى خيال.

الحارث :

بل حقيقة.

ناعسة :

إنما الهوى خيال.

الحارث :

بل حقيقة.

ناعسة :

بل الدينار هو الحقيقة.

الحارث :

إنه الهوى يا ناعسة فرفقا. إنه الهوى (يبكي) .

ناعسة (في صوت باك) :

أتبكي شيئا أنت من فعلته؟ لن يفيدنا البكاء شيئا يا حارث، لن يفيدنا في شيء.

الحارث (باكيا) :

حسبي الله ونعم الوكيل.

هشام :

ابك يا حارث، وابك أيضا ولا تنقطع عن البكاء، لعلك تغسل عن نفسك ألمها.

الحارث :

هشام.

هشام :

ابك فقد تجنيت. وما أصدق دمعة الجاني!

الحارث :

رحماك هشام.

هشام :

فوالله ما رحمك إلا هشام.

الحارث :

أحقا هشام؟

هشام :

أنت طالق يا ناعسة، أنت طالق طلاقا بائنا، تزوجتها من أجل أخي وأحسست حبها لك، فجعلت من زواجي بها أخوة طاهرة، فأنت منذ اليوم طالق، فاصفحي عن حارث.

ناعسة :

رعاك الله يا هشام، وأنا صافحة، عفوت يا حارث، فما طريقك منذ اليوم؟ أهو القمر أم الدينار؟

الحارث (في فرح) :

إلى القمر يا ناعسة، طريقا إلى القمر.

ناعسة :

إلى السماء يا حارث، طريقا إلى السماء.

نبل وخيانة

(موسيقى.)

المذيع :

إبراهيم بن المهدي أخو الرشيد، شاعر رقيق، ولكن شهرته بالعزف والغناء كانت أبعد مدى. لما تولى الخلافة ابن أخيه المأمون وخرج عليه، ولم يعترف له بها وادعى هو الخلافة لنفسه، وأقام بالري يسكب على نفسه صفات الخلافة مدة سنة وتزيد، لم يشأ المأمون خلالها أن يأخذه بأسباب الشدة، فلما رأى أنه لا ينتهي قصد إليه في جيش، لم يصبر عليه إبراهيم، وترك كرسي الخلافة وخرج يبتغي من قصاص المأمون هربا. إن ابن المهدي لفي حيرة من أمره ليس يدري أين يولي وجهه. ها هو ذا يقطع طرق الري مستخفيا لا يتبعه من خاصته غير سميره الأمين هشام. لقد أعيتهما المطاردة واشتدت بهم الظلمة. (موسيقى.)

ابن المهدي :

مر اليوم يا هشام، لا نستطيع أن نصل إلى المأمن. إن الساعة لطويلة على الخليفة الهارب، فما خطبك وقد مرت هذه الساعات؟

هشام :

الله في عون مولاي. إلى أين يا ترى يقودنا الخوف ؟

ابن المهدي :

إلى أين؟ إليها بلا ريب. إلى عاتكة. إنها نعم الملجأ.

هشام :

أتظن ذلك يا مولاي؟

ابن المهدي :

أظن؟! بل هو الوثوق بعينه. إنها آمن علي من نفسي.

هشام :

أمرك.

ابن المهدي :

ولكن أتظن الطريق إليها أمينا؟

هشام :

والله يا مولاي لا أدري. إن الجائزة التي وعد بها المأمون لمن يعثر عليك جائزة مغرية.

ابن المهدي :

نعم ... مائة ألف درهم ... وإني لأعرف كثيرا من أغنياء هذه المدينة يتمنون لو حصلوا عليها، فما ظنك بالجند وكلهم فقير؟

هشام :

أخاف يا مولاي. (تسمع حوافر الخيل من بعيد تقترب رويدا رويدا.)

ابن المهدي :

ما هذا؟ ... ادخل في هذا الطريق يا هشام ... إن جماعة من الجند قاصدة إلينا.

هشام :

وي، إن الطريق مقفل يا مولاي.

ابن المهدي :

وما نفعل؟ ... أنسلم؟ ... اقتحم.

هشام :

إنه حائط.

ابن المهدي :

انفذ دونه.

هشام :

إنه سد منيع يا مولاي.

ابن المهدي :

حسبي الله ونعم الوكيل، رحماك يا ابن الأخ، رحماك يا مأمون، الله للزوجة والأولاد، حسبنا الله.

هشام :

بعض الأمل يا مولاي. إن الجند لن تفطن إلينا إلا بعد برهة نكون فيها قد دبرنا أمرنا. (موسيقى.)

المذيع :

في بيتها، عاتكة تجلس إلى صاحبتها، فيم يدور الحديث، ومن ذلك المسكين الذي ألقى به بين لسانيهما يتناوله؟ من ذلك الذي ألقى على وجهيهما كل هذا الجد وتلك الصرامة وذلك التنمر؟ لنلق بآذاننا، وحذار حذار أن تصل إلينا العيون.

عاتكة :

لهفي على سيدي على إبراهيم! ترى أين استقر به المكان الآن؟ إني لأعلمه رقيق العاطفة حاد المزاج، يحب أن يرى كل شيء مهيأ لراحته، ويحب أن يرى كل إنسان مقبلا على رحابه. لهفي عليه الساعة! لا شيء مهيأ له ولا رحاب له يقبل عليه.

رائقة :

دائما دائما لفظين لاسم واحد، إبراهيم وابن المهدي. أصدق ذلك أم تهويش؟

عاتكة :

بل هو الصدق، الجائزة كبيرة يا رائقة، وليس في الناس أمين، ألا أخاف؟

رائقة :

ما زال بالناس بعض الخلق.

عاتكة :

أي خلق؟ لقد أصبح الشرف من كلمات التاريخ.

رائقة :

الفضل في ذلك لك يا عاتكة. إن لك على العبث بالشرف قدرة تعز على الشيطان.

عاتكة :

أمزاحا والأمير شارد والخطب محدق والحال على ما ترين؟

رائقة :

مزاح، أي مزاح تقصدين؟ فوالله ما قلت غير الجد.

عاتكة :

أليس مولاي من أخاف عليه؟

رائقة :

بل هو فوق ذلك، هو من مد لك أسباب الحياة.

عاتكة :

ألا أغضب إذن؟

رائقة :

تغضبين نعم، ولكن حين تعلمين أنه سمح لغيرك أن يشي به إن كان قد وشى به.

عاتكة :

أمقت ذلك يا رائقة؟

رائقة :

بل ولاء.

عاتكة :

لي؟

رائقة :

للأمير.

عاتكة :

فهي الغيرة إذن.

رائقة :

منك؟

عاتكة :

ولم لا، ألست امرأة؟

رائقة :

أما أنا فامرأة نعم، وأما أنت؟

عاتكة :

فماذا (في غضب) ؟

رائقة :

فالشيطان.

عاتكة :

نعم هو ما حزرت. إنه المقت والغيرة. والله ما جئت إلا متشفية لا تحمل غير الشر.

رائقة :

إنه يا أخت لا يتشفى في ميت. لقد عدمت الخير.

عاتكة :

شكرا، شكرا، ألف شكر.

رائقة :

عفوا، ألف عفو، وفري عليك الحيلة في طردي، وفريها عليك تنفعك حين توقعين الأمير بالطيب.

عاتكة :

كاد الحلم أن يخرج من يدي. اخرجي رائقة، أنا لا أطيق أن أرى الكره مجسما أمامي في منزلي، اخرجي بغير عودة.

رائقة :

عودة، ولم العودة؟ ولكن بربك إذا ظفرت به، فما أظنه إلا آتيا إليك، فاذكري ثورتك بي واتقي الله في نفسك مرة. اذكري أن في العالم شيئا يسمى الشرف، قلته الآن على غير معرفة فاعرفيه مرة، مرة واحدة.

عاتكة :

إلى الخارج رائقة، وأسرعي.

رائقة :

لا عليك عاتكة، فأنا خارجة. سلاما ولا تنسي. (ضحكة تكملها موسيقى.)

عاتكة :

مولاي، لقد أمضتني الفرقة، وأباتني الانتظار على فراش لا يهدأ. إنه النار الآخذة يا مولاي.

ابن المهدي :

أراح الله مضجعك يا عاتكة.

عاتكة :

بيتك مولاي. لم كل هذا الغياب يا مولاي؟ إن لم تذكر جاريتك اليوم فمتى؟

ابن المهدي :

اليوم وكل يوم. لست بالجارية عاتكة، ولكنك الأخت والملجأ.

عاتكة :

أهلا بالأمين هشام أهلا. ما أظنكما إلا لاقيتما من يومكما هذا تعبا، فهلم إلى الراحة والهدوء.

ابن المهدي :

نعم ، هلم إلى الراحة والهدوء. ألا يأتي أحد لزيارتك؟

عاتكة :

لا تخش شيئا يا مولاي ولا أحدا؛ فقد أذعت أني ذاهبة في سفر فلن يخل بهدوئك مزعج. أهلا مولاي أهلا.

ابن المهدي :

أجل عاتكة. لقد كنت أنتظر منك هذا وفوق هذا. وكنت أخشى على رأسك الجميل أن ... ولكن هذا أوان الشد، فاشتدي معي والله من فوقنا المعين.

عاتكة :

غبت عني، فأنا في خشية دائمة وقلق مبيد. خبرني يا مولاي ماذا فعلت في يومك وليلك؟ إن الرجال لا تتخذ ملبسنا إلا عند الشدائد، وها قد لبست وصاحبك هشام ثياب النساء. لا ضير عليكم فأنتم لباس لهن وهن لباس لكم. فداك نفسي يا مولاي. لقد لاقيتما نصبا.

ابن المهدي :

وأي نصب يا عاتكة! لعلك تريدين أن تعلمي، لماذا لبست وصاحبي ملابس النساء؟

عاتكة :

إي والله يا مولاي.

ابن المهدي :

إليك ما كان، دهمتنا الشرطة وكادوا يلحقون بنا، وكلهم يعرفني، والجائزة مغرية، فرأينا بابا (صوت حوافر الخيل في الظلام) .

هشام :

مولاي إني أرى بابا، ما زال ينفذ من خلاله النور. نطرقه والله معنا (يطرق الباب) .

الصوت (من الداخل) :

من يطرق الباب؟ (صوت وقع حوافر الخيل أثناء هذا الحديث.)

هشام :

غريبان في ضيق. هل للضيف مكان؟

الصوت (وهو يفتح الباب) :

مكان رحيب، مرحبا بالأضياف، أهلا (يقفل الباب) . (وقع الحوافر يعلو ثم يخفت ممتدا.)

هشام :

مكان رحيب حقا، رحيب بكرمك يا أخا العرب.

الرجل :

أنا وحدي في البيت لا أنيس ولا سمير.

هشام :

غريبان، نحن من الكوفة نزلنا المدينة الساعة وضربنا في طرقها نطلب خانا يضمنا ليلتنا، فاشتبهت علينا المسالك وضللنا السبل. وصلنا دارك وقد أخذ منا التعب مأخذه جميعا، فقلنا نطرق الباب ولن يخلو البيت من كريم، فلم يخل.

الرجل :

أهلا بكما. ليس والله كرما ما لاقيتماه، ولكن الأنانية وحب الذات؛ فأنا وحيد ولا أنام من الليل إلا أقله، فهو عبء ثقيل، لا أعرف كيف أقطعه.

هشام :

نعاونك على قطعه إن شاء الله يا أخا العرب.

الرجل :

ولكن ترى أتأذن لي أن أغيب عنكما بعض الساعة؟ أقصد السوق وأعود، فلا أعوق إلا قليلا.

ابن المهدي :

تقصد السوق! أهو بعيد؟

الرجل :

أنا وحدي في البيت لا يساكنني فيه أحد، فلا حرج عليكما من غرفاته جميعا، والسوق قريب.

ابن المهدي (في خوف وتردد) :

ما ترى، ما ترى يا أخا العرب. (صوت باب يقفل.) (موسيقى.)

ابن المهدي :

طالت غيبة الرجل.

هشام :

أتخشاه يا مولاي؟

ابن المهدي :

الجائزة تعمي البصر. هشام، ما قولك؟ لقد أصبنا من الراحة الكفاية وما أظن الجند إلا قد انصرفوا.

هشام :

أنخرج مولاي والليل أسود والبرد قارس والمأوى بعيد والطريق مخوف؟ فماذا نفعل؟

ابن المهدي :

أي شيء. لن أبقى.

هشام :

أمرك يا مولاي (لحظة صمت)

الباب مقفل بالمفتاح يا مولاي. ما أظن الرجل إلا عرفنا.

ابن المهدي :

كذا! لا عجب أن تطول الغيبة إذن. لا بد أنه قصد المأمون ذاته. إن موكب الخليفة يستغرق إعداده وقتا طويلا يا هشام، ولعله الآن في طريقه إلينا يمشي في بطء مشية الوقار والعظمة، وما يعجله؟ الصيد في قفص مقفل وهو يسعى إليه ليلتذ النصر جميعا، على مهله، على مهله، ولنمت نحن من الخوف قبل أن يميتنا السيف، ولكن لا، لا أنتظر انتظار النساء. حطم الباب يا هشام وليكن بعد ذلك ما يكون، حطم الباب قلت لك.

هشام :

أمرك يا مولاي. (يحاول كسر الباب، ثم يسمع طرق.)

ابن المهدي :

ما هذا؟

الرجل (يفتح الباب) :

السلام عليكم. ألهذا الحد تأخرت؟ لقد أقفلت الباب حتى لا يزعجكما مزعج. اقبلا عذري في التأخير فالسوق بعيد وما شريته كثير.

ابن المهدي :

أكنت تشتري حقيقة؟

الرجل :

وما تظنني كنت أفعل؟ ... إنني حجام صناعتي إخراج الدماء الفاسدة من الأجسام، صناعة ليست بالنظيفة على ما أعتقد. خفت أن تتقرفا مما أستعمله، فذهبت أشتري أواني جديدة.

ابن المهدي :

نعم أنت ونعمت صناعتك! إن من يزيل ألم الإنسان ملاك بعثه الله إلى الأرض يخفف به من شرورها.

الرجل :

على أية حال قد شريت الجديد، وكم أريد أن أطهو لكما شيئا، ولكن طهوي بدائي وأنا حجام، فدونكما الأواني فاطبخا شيئا تأكلانه. ها هو الأكل هذا، هذا لحم عبيط وهذا ... (موسيقى.)

ابن المهدي :

ما شعرت لذة لأكلة مثل هذه. ما أجمل أن يتذوق الإنسان ما يصنعه!

الرجل :

بارككما الله، لقد آنستما وحشتي وأمتعتماني ليلتي، ووالله لا بد أن يكمل هذا السرور. أملك هنا عودا ألجأ إليه في أحد من حالين؛ إذا أخذ علي الضيق كل مأخذ فهو نجاتي منه، وإذا ألم بي السرور من كل صوب فهو قمة السرور.

هشام :

نعم الملجأ والقمة ما اخترت.

الرجل :

أضرب لكما عليه، أم تكون جرأة كبيرة مني أن أعزف على مسمع من مولاي؟

ابن المهدي :

ويحك رجل، أتعرفني؟

الرجل :

منذ الوهلة الأولى يا مولاي، ابن المهدي، أخو الرشيد وعم المأمون، وخليفتنا أدامه الله.

ابن المهدي :

تقصد خليفتكم السابق لا شك، ولكن.

الرجل :

ولكن ماذا يا مولاي؟ تقصد الجائزة؟ أعلمها، مائة ألف درهم، قدر كبير حقا، أعلم ذلك. إن طرقك بابي يا مولاي، مجرد طرقك، لا يكافئه مال في العالم.

ابن المهدي :

نفس كبيرة تملكها. إن نفسك تلك هي التي لا يكافئها مال أيها الحجام. هات العود، فوالله لأسمعنك أنا لحنا تقاصرت عنه الفنون جميعا. (يدق على العود.)

الرجل :

فنك مولاي فنك، هو ملاذك وملجؤك، هو تلك النسمة التي يهبها الله لفرد من عباده فيجدها عند الضيق فرجا وعند الفرج لسانا. فنك يا مولاي فنك، الجأ إليه، فإنك في عالم تتحطم دونه كل قوة وتنكسر على سياجه كل شوكة، فنك يا مولاي، فلتعزف مولاي، ولنفسك تعزف والجمال والهدوء والسعادة كلها في هذه الأصابع الدقيقة تجريها وفي هاته الحنجرة الذهبية تطلقها إلى غير سكوت إن شاء الله، فنك مولاي فنك. (يرتفع صوت العود.) (موسيقى.)

ابن المهدي :

ها قد أقبل الصبح يا هشام، وإن فيه لعيونا كاشفة أخشى أن تفضح من أمرنا ما نستر، فهلم نبغ مأمنا.

هشام :

أمرك يا مولاي، ولكن ألا ننتظر الرجل حتى يعود نشكر كرمه وطيب ضيافته؟

ابن المهدي :

ما أظنني محتاجا لهذه الإشارة يا هشام. إنك تخاطب ابن المهدي، لئن زالت الخلافة فإن في أعراقا عربية كريمة، أنت أدرى الناس بها.

هشام :

عفوا مولاي، فوالله ما قصدت إلا ...

الرجل (يدخل) :

سعيد صباح مولاي.

ابن المهدي :

سعيد صباحك أيها الكريم. لقد نوينا الرحلة إن شاء الله.

الرجل :

على عيني ما انتويته.

ابن المهدي :

كرم عريض لاقيته عندك ولا أملك لجميلك الآن ردا، فهل زدت كرمك كرما، وقبلت مني هذه الدنانير على سبيل التذكار.

الرجل :

والله يا مولاي ما دار بخلدي أن تهينني هذه الإهانة. لقد ربحت من الدنيا فوق ما كنت آمل منها، ابن المهدي ضيف على داري الحقيرة، وابن المهدي يغني وأنا أسمع، وابن المهدي يكرمني، فيعتبر تفضله بالنزول عندي أمرا يستحق منه الشكر. إن آمالي يا مولاي لتقصر أن تصل إلى ما وصلت إليه اليوم، وإنه إن لم ترد هذا المال إلى جيبك قتلت نفسي وأنت عن دمي مسئول.

ابن المهدي :

وبعد لك أيها الرجل، تأبى إلا أن تترك جميلك كاملا على كتفي، عبء كبير، أسأل الله العون.

الرجل :

مولاي، إني لا آمن عليكما أن تنزلا في وضح الصباح والجائزة مغرية، وما كل بمأمون الضمير.

ابن المهدي :

أشر علي إذن، فما أطيق أن أبقى لديك لا أريم فيعرف مكاني ويسعى إلي، أو أنا في الحق لا أطيق أن أنتظر البلاء وأنا في مكان النساء لا أطيق. أشر علي فأخرجني.

هشام :

النساء، أذكرتني مولاي، النساء.

ابن المهدي :

ويحك أيها الرجل، هل بك مس، ما لنا والنساء الآن؟

هشام :

نلبس لباسهن ونخرج، فما أحسب أحدا ...

ابن المهدي :

اخسأ يا رجل. لبس نساء، أنا ألبس لبس النساء؟!

هشام :

وما يضيرك مولاي؟ ألست الرجل مشهورة رجولتك؟ ألست ابن المهدي؟ لا ضير عليك من أجل السياسة أن تلبس لباس النساء. إن لباس النساء يا مولاي هو أشرف ما يتنكر به الساسة من ملابس، فتوكل على الله مولاي، لبس النساء أيها الصديق، لبس النساء.

الرجل :

أحسبه صادقا فيما يذهب إليه يا مولاي؛ فإنها وسيلة تكاد تنفرد. سأحضر أنا هذه الملابس.

ابن المهدي :

بئس يوم خطرت لي فيه فكرة الخلافة. خنت القرابة وأضعت الأمانة، وها أنا ذا مشتت الكرامة مسلوب مظاهر الرجولة.

هشام :

أدام الله عليك الجوهر يا مولاي.

ابن المهدي :

الجوهر، الجوهر، من يعلم الجوهر؟ الجوهر هو ذلك الدفين في أعماق النفس، لا يعلم أحد عنه شيئا. الدنيا كلها مظهر، أنت امرأة إذا لبست لباسها والمرأة رجل إذا لبست لباسه. أنت امرأة حين تبدو لرائيك بملابس النساء. أما ما أنت عليه حقيقة فإن قلة يعرفونه.

هشام :

أحسبني يا مولاي لا أستطيع ردا، كما أعتقد أننا محتاجون للوقت، فغل يدك فيه بعض الشيء، وخير لنا أن نفكر أين سنولي الوجوه؟

ابن المهدي :

أين نولي الوجوه؟ كأنك قد نسيت. إلى جاريتي عاتكة، نعم الملجأ هي.

هشام :

أدامك الله مولاي. إن ما سكبت عليها من الفضل ليلقي على قلوبنا الهدوء الأمين.

ابن المهدي :

إنك تقول هذا لما تعرفه، أما ما تجهله فهو أكثر بكثير. لقد عرفت هذه الجارية من أمري ما لم تعرفه عني جارية أخرى في أي مكان وأي وقت.

هشام :

إن قولك هذا يا سيدي وصف لما رأيناه نحن، فإن كان ثمة أكثر فإنني أخشى أن أقول لمولاي أنه أسرف.

ابن المهدي :

لقد قلتها فعلا. على أية حال أسرفت أو وفرت، فات الوقت فهلم إلى عاتكة.

هشام :

هات أيها الرجل، هات هذه الملابس.

الرجل :

وأين عاتكة هذه يا سيدي هشام؟

ابن المهدي :

شكرا لك أيها الرجل النبيل. لا تكلف نفسك مشقة المجيء إلينا. سوف نوافيك بأخبارنا على أنك في غير حاجة إلى أخبار، فهي خير ما دامت مقطوعة، ولن يصلك منها إلا ما لا تحب، فعلى هذا انتظر.

الرجل :

يرعاكما الله. لقد شرفتني يا مولاي، وما أظن الله إلا راعيك بفيض كرمه ووسيع فضله، يرعاك الله، يرعاك الله يا مولاي.

ابن المهدي :

أمسك، فقد زدت الفضل أفضالا بكلامك، فإلى لقاء آخر، لقاء قريب.

هشام :

أسرع يا مولاي، أسرع، إلى عاتكة، إلى عاتكة. إنها نعم الملجأ.

ابن المهدي :

وها أنا ذا عندك الآن يا عاتكة، لا خوف ولا إشفاق.

عاتكة :

عند نفسك يا مولاي، بيتك، بيتك. لعلك تأذن لي مولاي، لو طلبت إليك أن أخرج إلى السوق وأشتري ما أريد وأتسمع الأخبار. تأذن يا مولاي؟

ابن المهدي :

نأذن يا عاتكة، فأنا في بيتي وفي مأمني. هيا هيا. وتصيدي أخبارا. هيا أسرعي.

عاتكة :

إذن فدونكما يا مولاي نردا. اقطعا به الوقت حتى أعود (صوت أحجار النرد) . (موسيقى.)

ابن المهدي :

أيبعد السوق عن هنا يا هشام؟

هشام :

بل هو قريب يا مولاي.

ابن المهدي :

فما هذه الغيبة إذن؟ (صوت النرد)

هشام :

ماذا؟ أخوف مولاي؟

ابن المهدي (في دهشة) :

من عاتكة؟ أتخرف يا هشام؟

هشام :

لا خوف ولكنه مزاح، عاتكة، هل يخشى من عاتكة؟ إنها نعم الملجأ. (جلبة شديدة تظهر من بعيد وتقترب ثم يقرع الباب بشدة.)

صوت (من الخارج) :

باسم أمير المؤمنين المأمون بن الرشيد افتحوا الباب.

هشام (يكرر في سخرية مريرة) :

عاتكة! هل يخشى من عاتكة؟! إنها نعم الملجأ. (موسيقى.) (مجلس المأمون.)

المذيع :

المأمون بن الرشيد في مجلسه، تحيط به الأبهة من كل جانب، وقد التف حول عرشه النابغون من العلماء، وهو يأمر للمقرب فيجلس ولغيره فيقف، والناس على وجوهها الوجمة وفي نفوسهم الرهبة، والمأمون أثبت من الطود تترقرق في قلبه عواطف المحبة لعمه فلا يبديها، وتثور في نفسه عوامل الانتقام والثورة فلا تجرؤ واحدة من هذه الخوالج أن تصل إلى نأمة من وجهه. ها هو ذا إبراهيم بن المهدي يدخل متعثرا.

ابن المهدي :

السلام على أمير المؤمنين المأمون ابن أخي الرشيد.

المأمون :

أوذكرت أخاك في قبره وابنه يئوده العبء فيكاد ينوء به؟ أذكرتهما تدعي الخلافة وتخرج عليه؟ لا أنزل الله عليك السلام أبدا. لقد كان خيرا لك تنسى العمومة والقرابة فلا توغل بهما في جراح هي في ذاتها عميقة كل العمق. أيعترف الكل لابن أخيك بالخلافة وتنكرها أنت عليه وتدعيها لنفسك؟ ولم تكن لك في يوم (في ثورة)

أخلاقه.

ابن المهدي :

يا أمير المؤمنين، إن ولي الثأر محكم في القصاص والعفو أقرب للتقوى، وقد جعلك الله فوق كل عفو، كما جعل ذنبي فوق كل ذنب، فإن أخذت فبحقك، وإن تعف فبفضلك.

ذنبي إليك عظيم

وأنت أعظم منه

فخذ بحقك أو لا

فاصفح بحلمك عنه

إن لم أكن في فعالي

من الكرام فكنه

المأمون :

موقف لا أرضاه لك والله، ما كان أغناك عنه!

ابن المهدي :

أتيت ذنبا عظيما

وأنت للعفو أهل

فإن عفوت فمن

وإن جزيت فعدل

المأمون :

نسأل فيك الجالسين.

أصوات :

نقتله شنقا.

أصوات :

بل نذبحه.

أصوات :

نمثل به. (فترة صمت.)

المأمون :

ما لأحمد بن أبي خالد لا يقول رأيا؟ ألق الدلو في الدلاء.

أحمد :

يا أمير المؤمنين، إن تقتله، وجدنا مثلك قتل مثله، وإن عفوت عنه لم نجد مثلك عفا عن مثله.

المأمون :

إيه؟

قومي هموا قتلوا أميم أخي

فإذا رميت أصابني سهمي

ابن المهدي :

الله أكبر، الله أكبر، عفا والله أمير المؤمنين.

ما إن عصيتك والغواة تمدهم

أسبابها إلا بنية طائع

ملئت قلوب الناس منك مهابة

وتظل تكلؤهم بقلب خاشع

فعفوت عمن لم يكن عن مثله

عفو ولم يشفع لديك بشافع

المأمون :

أعوذ بالله أن أحوجك إلى شافع عماه، ولكن ما ترى فيمن رأى قتلك أن أبا إسحق أشار بذلك؟

ابن المهدي :

والله يا مولاي لو كنت مكانهما ما قلت بغير هذا. لقد أحسنا النصح يا مولاي، وأحسنت أنت العفو، وأنت له أهل، فدفعت خشية مني بأمل في صلاحي، فلست والله ابن المهدي إن سمحت لأمل لك أن يخيب.

المأمون :

إن اعتذارك النابض بالحياة يؤكد صدقه يا عماه، عماه لاقيت من المطاردة عنتا، فهلا قصصت ما لاقيت. (موسيقى.)

المأمون :

إيذنوا للحجام بالدخول.

الحجام :

السلام على أمير المؤمنين.

المأمون :

وعليك السلام يا أخا العرب، إنك والله لأكرم من أن تكون حجاما. أبلغوا أمير الجند أن يضمه إلى الجيش ويخلع عليه ويعطيه بيتا يسكن فيه.

الحجام :

مولاي، إنني أقبل ما تأمر به لأنه أمر منك لا أملك من دونه ردا. أما أنا، فوالله ما كنت أرجو بعد الشرف الذي نلته إلا أن أعيش في ذكراه، وسأعيش إن شاء الله في غمرة من فضلك وفي ذكرى هذه الليلة التي شرفني فيها عمك، أدامكما الله.

المأمون :

إيذنوا للمرأة بالدخول.

عاتكة :

السلام على أمير المؤمنين.

المأمون :

خبريني يا امرأة؟ ما الذي حملك على ما فعلت؟ أتخونين من ائتمنك؟ أيتقرب إلي بالخيانة؟

عاتكة :

لا والله يا مولاي، إنما أنا فقيرة أريد مالا.

المأمون :

ألك زوج أو ولد؟

عاتكة :

لا.

المأمون :

أولم يسكب عليك مولاك الخير كله؟

عاتكة :

بل يا مولاي، لقد كان خيرا معي.

المأمون :

فأعطوها الجائزة إذن. وأدخلوها السجن تعيش فيه ما بقي من حياتها. لا يدفع الشر إلا بالشر، كما لا يزدهي الخير إلا بالخير. (موسيقى.)

كتيبة الأهوال

(موسيقى عنيفة.)

صوت :

كان نصرا مؤزرا يا سعد.

سعد :

إنما هو من عند الله، يؤتيه من يشاء من عباده المخلصين.

الصوت :

لقد كنت في المدينة، ورأيت أمير المؤمنين، وهو يستقبل أنباءك. لو رأيت فرحته يا سعد، لعرفت ما لفتح الفارسية من أهمية.

سعد :

فهل بلغ عمر فرار الفرس بعد هزيمتهم وقد تشتت كل جمع لهم بمدينة؟

الصوت :

قد بلغه ذاك، وقر به عينا.

سعد :

فبماذا جئت إذن من المدينة؟

الصوت :

جئت إليك بأمر من عمر.

سعد :

أعرفه.

الصوت :

فما هو؟

سعد :

أن تكف عن الغزو.

الصوت :

جهلته والله يا ابن أبي وقاص.

سعد :

فهي البشرى إذن.

الصوت :

لقد فرح عمر بالنصر حتى لقد أمر بفتح المدائن.

سعد :

الله أكبر. إنه والله الفتح.

الصوت :

إنه دين الله يشرق على الأعاجم.

سعد :

اللهم إنك أنت العزيز القوي، اللهم إنه دينك، دين الحق، اللهم قد رأيت ملائكتك في المعركة، فرأيت هزيمة المسلمين تصبح نصرا ورأيت روحك القدس تهب النصر لعبادك المسلمين، ويعود العدو مخذولا. رأى قلبي ملائكتك وروحك وأكاد وحقك أن أقول إن عيني شاركتا القلب الرؤية.

الصوت :

هنيئا سعد.

سعد :

كنت في القادسية مريضا، أما اليوم فهلم، هلم، إلى النصر، أو إلى ما هو خير من النصر، إلى الجنة، لبيك اللهم لبيك.

أصوات :

لبيك اللهم لبيك. (موسيقى.)

الراوية :

واندفع المسلمون يرددون وراء قائدهم، لبيك اللهم لبيك.

إنهم في طريقهم إلى واحد من الأمرين كلاهما أعذب من الأمل، وأحلى من الأمنيات وأبهى من الرجاء المحقق، إنهم في طريقهم إلى النصر أو الجنة. (موسيقى.)

الصوت :

إلى أين طريقك يا سعد؟

سعد :

إلى بهرسير، أفتحها وأخلص منها المدائن.

الصوت :

ولكن بهرسير حصون منيعة، وقلاع شاهقة، فكيف تفتحها؟

سعد :

وهل أنا من أفتحها؟ إنه الله يا بني، ومتى رأيت الحصون والقلاع تعوق طريقا لإرادة الله أن تنفذ ولمشيئته أن تتم؟!

الصوت :

ولكن أخشى أن يتمكن منك الأعداء وهم خلف حصونهم بمنجى منك وأنت على مرمى النبل منهم.

سعد :

يا أخي، قد تعجلت الأمور وتخوفت المستقبل ونحن بعد لم نطالع الحصون ولم نشهد القلاع، فاكتم حديثك لا تخوف به الجند حتى نرى في أمرنا وأمر الحصون، ثم ندبر لكل أمر أمرا. من فوقنا سبحانه يهدي، وإنه لهدى. (موسيقى.)

الراوية :

وبلغ الجند بهرسير وكان يزدجرد كبير الفرس قد احتمى بها، راجيا أن تقف دونه القلاع والحصون. وأقام سعد بعسكره أمام بهرسير وقد أمن الطريق من خلفه فقد أصبح كل ما وراءه عربيا خالصا يدين بالإسلام لله وبالطاعة لعمر. ورأى سعد أن يستشير أصحابه.

سعد :

أشيروا علي الأمر. أنهاجم أم ننتظر؟

صوت :

الرأي إليك.

سعد :

وأنا أداوله بينكم.

صوت :

أرى أن نقيم حتى يرتاح الجنود.

آخر :

وأرى أن الحصون قوية ولا بد لنا أن نختبرها.

سعد :

ولكن نفوس الجند، إلى الحرب، فلو أننا توكلنا على الله وهجمنا وهم في نشوة النصر وفي زهرة الفرح أدركنا العدو.

آخر :

ولكن العدو منيع.

سعد :

إنه منيع بحصونه، ولكنه ضعيف منهار في داخله. إن نفوس العدو هزيمة كسيرة لا تطيق أن تقاوم إذا نحن شددنا عليهم.

آخر :

إن زهوة النصر يا سعد سلاح ذو حدين. أخشى أن ينبعث الجند إلى الحرب فلا يلقون إلى الحرص بالا.

آخر :

فإذا هزموا فقدوا إيمانهم، وهو سلاحهم.

سعد :

أرى العقل في قولكم.

آخر :

ونحن هنا آمنون.

سعد :

ولكنني أخشى أن يطول بنا المقام، فإن بهرسير لن تكون محاصرة إذا نحن أقمنا هنا، فإنهم سيمدونها من وراء نهر الدجلة بالزاد من العراق وفارس، ولن ينتهي هذا الزاد أبدا.

الصوت :

إذن ننتظر ولا تخف على جنودنا، فهم إن بقوا هنا على مرأى من القلاع والحصون ازداد شوقهم كل يوم أن يروا ما وراءها.

سعد :

أجمعوا الجند إذن. (موسيقى.)

سعد :

نحن مقيمون هنا، وقد ترك لكم الأعاجم أرضهم فازرعوها، وهنيئا لكم خراجها غير باغين ولا ظالمين.

أصوات :

القلاع، القلاع.

سعد :

لقد استشرت فأشرت، نقيم هنا ماكثين، يحيط بنا الأمن والرخاء حتى أرى رأيي وآمر أمري، وإني وإياكم مع النصر والجنة على موعد لا نخلفه. (موسيقى.)

الراوية :

كان هذا يزدجرد في بهرسير، أسد محطم البراثن واهن القوى حبيس ذلة وهزيمة وانكسار، يستشير فلا يجد من يشير، ويسأل فلا يهفو إلى مجيب، فهو بين الحيرة والخذلان.

يزدجرد :

فهم إذن مقيمون إقامة غير نازح.

صوت :

وما يخيفهم يا مولاي والبلاد من خلفهم بلادهم؟

يزدجرد :

ولكننا نحن من أمامهم، ألا نثير فيهم نبضة من خوف أو خلجة من خشية؟

صوت :

أتحسب هذه السهام الفرادى التي نرسلها تخيف منهم آمنا، أو تحرك ساكنا؟!

يزدجرد :

ومالها لا تفعل؟

صوت :

لقد نصبوا لنا المنجنيق، فكل سهم منا تقابله رمية من المنجنيق، وجنودنا في خوف ذاعر وجنودهم في فرح غامر، وجنودنا يذكرون هزيمة القادسية وجنودهم يذكرون النصر.

يزدجرد :

فهي النهاية.

الصوت :

أو بداية النهاية.

يزدجرد :

بل لن يكون هذا والنار المقدسة، لأرسلن إليهم الجند الكثيف، تطالعهم بالهول والعذاب، أم حسبوا أننا نضعف عنهم، أو نهون؟ إلى الحرب. (موسيقى عنيفة.)

الراوية :

وأمر يزدجرد بالجنود أن تكتب وبالجيش أن يستعد، وبذل جهد اليائس وما هو بالقليل، وسعد وصحبه يعدون لهم، فهم مقيمون يستقبلون السهام باسمين، فإن عن لهم أن يردوها قذائف لاهبة حتى كان اليوم.

صوت :

يا سعد، أرى عسكر الفرس يخرجون عند الظهيرة من قلاعهم، فيرمون السهام، ثم يدلفون إلى عسكرهم آمنين.

سعد :

وما تريد منهم؟

الصوت :

نقتلهم.

سعد :

سبحانه، يجعل من يشاء قائدا ويجعل من يشاء جنديا، وهيهات أن يصعد المرء إلا بعقله.

الصوت :

أراك تسخر مني؟

سعد :

وما لي لا أفعل؟ وإلا فبربك قل لي أي فائدة تجنيها من قتل خمسة أو عشرة من الجنود ما يلبث غيرهم أن يخرج إلينا.

الصوت :

وماذا تريد أن تفعل؟

سعد :

لو أنك استدرجت هؤلاء الرماة فجعلتهم ... لا، أنت لا تستطيع، علي بأبي محجن الثقفي.

الصوت :

يا أبا محجن.

أبو محجن :

لبيك.

سعد :

تعال يا أبا محجن، فلقد والله صرت قريبا إلى نفسي منذ رأيتك على البلقاء، ومنذ رأيتك تتوب إلى الله فلا تشرب الخمر.

أبو محجن :

يا ابن أبي وقاص، لقد اقتلعت من نفسي حب الخمر لما رأيتها تقيدني فلا أقاتل وإخواني فوق خيولهم يجاهدون في سبيل الله، فأقسمت لا أذوقها، ورضي الله عن زوجك فقد فكت عني قيودي التي وضعتها وهيأت لي أن أخوض المعركة.

سعد :

إذن فاسمع، إذا خرج بعض الأعاجم فاستدرجهم حتى يحسبوا أنهم سيفوزون بك أسيرا. اجعل صحبك يختفون في مكان تعينه لهم واستدرج الأعاجم إليه، ثم أحط به أنت، ومن معك وهاتهم لي أسرى، ولا تقتلهم. إني أريدهم أسرى.

الراوية :

وعند الظهيرة خرج بعض الأعاجم يلقون السهام، فبدا لهم أبو محجن منفردا وقد وضع على نفسه أنفس الثياب، فطمعوا فيه، وحين رآهم تصنع الخوف وصار يلتفت يمنة ويسرة كمن يريد أن يرى مخرجا. ثم خرج وأظهر لهم أنه يعرج في عدوه، فازداد طمعهم فيه، فلحقوا به، حتى إذا بلغوا المكان الذي اختفى فيه أصحاب الثقفي صاح أبو محجن.

أبو محجن :

الله أكبر.

الراوية :

فإذا الأعاجم ...

صوت :

أسرى جئناك يا أمير الجيش فارفق بنا.

سعد :

إني رفيق بكم، ولكن أخبروني ماذا يفعل ملككم؟

الصوت :

حائر في أمره، مذهول، لا يدري كيف يساوركم.

سعد (في حدة) :

اصدق أيها الرجل، اصدق أو قتلتك.

الصوت (في خوف) :

إنه يا سيدي قابع في داره.

سعد :

بل أنت كاذب.

الصوت :

بل صادق يا سيدي.

سعد :

اصدقني وإلا قتلتك.

الصوت :

إنه لا يفعل شيئا.

سعد :

وهل يمكن أن أعقل هذا؟ ماذا ينتظر؟ لا بد أنه يجهز الآن جيشا، وقد أمر بكم أن تخرجوا كل يوم، حتى نلهى بكم فلا نفكر في التهيؤ له إن هو نفر إلينا.

الصوت (في دهشة) :

كيف يدخل الإنسان دينكم؟!

سعد :

قل أشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.

الصوت :

فأنا أشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فما يدرك ما أدركت إلا الملهمون. أنت صادق أيها الأمير، إنه يجهز لكم جيشا.

سعد :

باركك الله أيها الرجل، إذن فاسمع، سأرى بلاءك في الحرب، فإن رأيت حسن إسلامك جعلتك عينا لي على الفرس تأتيني بأخبارهم.

الصوت :

أشهد أني أسلمت غير مرغم ولا مضطر، وأشهد أني صادق. (موسيقى عنيفة.)

الراوية :

وخرج جيش يزدجرد وقد خيل لقواده أنهم سيجدون المسلمين لاهين عنهم في شغل بالنعيم الذي هيأه الله لهم، ولكن راعهم أن جند العرب واقفون لهم بكل مرصاد يدفعون عن إيمانهم بالروح رخيصة في سبيل الله (قعقعة سيوف) وما هو إلا ارتداد البصر حتى ارتد جنود الأعاجم يحملون الهزيمة المنكرة وثاب جنود الإسلام يحيط بهم جلال النصر. وكانت أنباء القتال تصل إلى يزدجرد لحظة بلحظة وقتيلا بقتيل، حتى إذا تمت له الهزيمة عاد إلى شيريه.

يزدجرد :

ماذا أفعل؟

صوت :

أصبحنا لا ندري.

يزدجرد :

وهل كنت تدري؟! ما هؤلاء العرب؟! ما سيوفهم؟! ما خيولهم؟ إنهم هزال يركبون العجاف. ضعاف في نعالهم، عفاة في مظهرهم، ثم يوقعون بنا الهزائم التوالي فلا نفيق من هزيمة حتى نلقى إلى أخرى.

الصوت :

لقد وصفت يا مولاي فصدقت، ولكن لم تصف إلا ما ترى العين منهم، وما أراك تعمقت إلى ما في أعمالهم من عظمة الروح. إن أجسامهم الهزيلة تحمل إيمان الدنيا أجمع. إنهم يؤمنون يا مولاي أن لا إله إلا الله ونؤمن نحن ألا إله إلا النار، ويؤمنون يا مولاي أن محمدا رسول الله ونؤمن نحن أنه لا ملك إلا أنت. إنه الإيمان يا مولاي ما نحاربه.

يزدجرد :

أراك صادقا. بقي سهم أخير لا أملك غيره. إني مرسل لهم رسولا. (موسيقى.)

صوت :

رسول من يزدجرد ملك الفرس يطلب لقاءك يا سعد.

سعد :

دعه يدخل. لعله جاء يعرض خيرا.

الرسول :

السلام عليكم قائد العرب.

سعد :

السلام على رسول الأعاجم.

الرسول :

يعرض مولاي الصلح.

سعد :

وكيف يتم؟

الرسول :

أن يترك لك ما فتحته من أرض فارس، فهي خالصة لكم وتترك له ما لم تفتحه.

سعد :

إن البلاد التي فتحناها لم تعد له حتى يملك أن يتركها أو لا يتركها. أما البلاد التي لم نغزها فنحن لا نريد بها شرا، وما ضرها - يا أخا الفرس - لو أنها قالت أشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فنتركها وشأنها.

الرسول :

أرى في قولك رفضا لما يعرض مولاي.

سعد :

إني إنما جئت لأعرض عليكم الإسلام، فإن قبلتموه فأنتم مثلنا، لكم ما لنا وعليكم ما علينا، فإن أبيتم فادفعوا الجزية حتى يشرح الله قلوبكم للإسلام.

الرسول :

فإن أبينا؟

سعد :

ويل لكم من الثالثة يا أخا الفرس. إنها ما علمتم من الحرب المندلعة تأكلكم كهشيم سرت به النار. لا تختاروا الثالثة يا أخا الفرس، فإنها الدمار والوبال.

الرسول :

سأبلغ رفضك إلى مولاي.

سعد :

أبلغه، وإني هنا، لن أريم.

صوت (الفارس الذي أسلم) :

لم ينتظر عودة رسوله يا أمير الجيش.

سعد :

ماذا؟

صوت :

ألم يرسل لك رسولا؟

سعد :

بلى. لقد تركني الساعة.

الصوت :

ولكن يزدجرد لم ينتظر أن يعود الرسول، بل جمع من ماله ما خف حملا وغلا ثمنا، ونهج طريقه إلى حلوان هاربا.

سعد :

وجنوده؟

الصوت :

حيارى ذاهلين. حطم هرب الملك نفوسهم، فهم لا يدرون ما هم فاعلون، أيحاربون؟ وفي سبيل من حربهم؟ أم يخضعون؟ فما شأن أولادهم وذويهم؟

سعد (في فرح) :

الله أكبر، الله أكبر. لقد فتحت لكم بهرسير. لقد فتح لكم طريق المدائن، إلى الحصون أيها المسلمون، إلى الحصون، الله أكبر.

أصوات (في قوة) :

الله أكبر.

الراوية :

الله أكبر ما طلع الفجر وما غاب النهار. لقد فتحت لكم بهرسير، ومنها الطريق إلى المدائن عاصمة الفرس وفلك الحضارة. وقد كانت بهرسير واقعة على ضفة الدجلة، يفصلها النهر الصاخب عن المدائن، وكان هناك جسر يصل بين المدينتين، ولم يعبأ جنود الإسلام بالليل الزاحف، ولم يعبئوا بالجهد الذي بذلوه ليدخلوا إلى بهرسير، وإنما أخذوا طريقهم إلى الفرات (صوت هدير أمواج يظل ملازما للمشهد)

ولكن ...

صوت :

لقد حطم الفرس الجسر.

آخر :

وأخذوا السفن إلى الضفة الأخرى.

آخر :

وها هم جنودهم أولاء يقفون على الضفة الأخرى وبيدهم سلاحهم يلمع في سواد الليل.

آخر :

ولكن انظر.

آخر :

ماذا؟

آخر :

إن القمر يبدو.

سعد :

ويل لكم من الثالثة يا أخا الفرس. إنها ما علمتم.

آخر :

وما في ذلك؟

آخر :

القمر يطلع، فانظر أمامك. أترى؟

آخر (في دهشة) :

الله أكبر.

آخر :

قصر الجلال. هذه الأسطورة التي تحققت. هذا الحلم الذي أصبح واقعا. الله أكبر الله أكبر. إنه أبيض كسرى، أعظم قصر عرفته الحضارة، شاهق إلى أبراج السماء، عريض يسد الأرض، إليه أيها المسلمون إليه.

آخر :

إليه، إليه (في تخاذل)

ولكن كيف السبيل إليه، والنهر عميق متباعد الشطآن هادر الأمواج، صخابه لا يهدأ له مجرى، يجرف فلا يبقى، يندفع فهو لا يراعي ولا يضعف؟

سعد :

أجل، فإنه الساعة في ذروة تدفقه، فهو ينبع من أذربيجان ونحن في فصل ذوبان الثلوج فالماء موار بها، والدفاع عنيف الانطلاق.

صوت :

انتهى بنا الفتح إلى هنا.

سعد :

لا كان ذلك اليوم. والله لو كان ألف نهر وألف بحر ليبلغن الإسلام إلى الفرس وعلى أيديكم أيها الجنود. (موسيقى.)

الراوية :

وفرح جنود يزدجرد أن وقف المسلمون حيارى أمام نهرهم متدافع اللجج جارف الدفاع، وخيل إليهم - خاب فألهم - أنه قد آن لهم أن يرتاحوا بعض اليوم، فيقول قائلهم:

صوت :

لقد آن لهؤلاء العرب أن يجدوا شيئا يمنعهم.

آخر (في سخرية) :

فلنر إذن ماذا تفعل خيولهم العجفاء، أو سيوفهم تلك الوامضة في نهرنا الثائر.

آخر :

رعاك الله يا دجل، كنت لنا خصبا وريا، وأنت لنا اليوم حصن وأمن.

آخر :

لقد وقفوا صاغرين.

آخر :

وسيظلون واقفين. (قهقهة عالية تنتهي بصوت سعد.)

سعد :

أيها الجند، إن عدوكم قد اعتصم منكم بهذا البحر، فلا تخلصون إليه منه، وقد أبديت من الرأي أن تبادروا جهاد العدو بنياتكم قبل أن تحصركم الدنيا، إلا أني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم.

الراوية :

ماذا؟! ماذا يقول سعد، أيقطع البحر إلى الفرس؟! بغير جسر، وبغير سفن! والبحر موار العباب، الدجلة في القمة من تدفعه، لعلنا أخطأنا، لعله لا يعني ما يقول. لك الله يا سعد، وكيف يمكن أن تعبر الدجلة؟

سعد :

على الخيل.

الراوية (في دهشة) :

على الخيل؟!

سعد :

على الخيل. أريد منكم كتيبة تخوض هذا النهر على الخيل. من يفعلها؟

صوت :

أنا.

سعد :

عاصم بن عمر. انتدب معك ستمائة ممن تعرف بأسهم.

صوت :

أنا.

آخر :

أنا.

آخر :

أنا.

الراوية :

وانتدب عاصم الستمائة، ثم اختار منهم ستين فارسا تقدمهم إلى حافة النهر وهو يقول:

عاصم :

من هذه المياه تخاف؟ بسم الله الرحمن الرحيم

وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا . الله أكبر.

الراوية :

وعلى الضفة الأخرى، وقف الفرس لا يصدقون عيونهم، حتى إذا رأوا أمواج النهر قد صارت خيلا، ورأوا الأمر حقيقة واقعة لا وهم ولا هو خيال تصايحوا.

أحدهم :

إنهم من الجن.

آخر :

ليسوا من البشر.

آخر :

إنهم مجانين.

آخر :

نلقاهم في النهر.

آخر :

القهم أنت.

الراوية :

وفر أكثر جنود الفرس طريقهم إلى أبيض كسرى، ليستقبلوا يه الفاتحين، فما أصبحوا يأملون في شيء أن يقف دون العرب، ولكن بعضا منهم ينزل إلى النهر، ليقاتلوا عاصما وصحابه، ولكن عاصما يقول لمن معه:

عاصم :

الرماح، الرماح، وتوخوا عيون خيولهم.

الراوية :

فيعود الفرس أدراجهم يحيط بهم الهول والفزع ويعبر عاصم النهر في كتيبة الأهوال التي انتدبها ويتبعه من بعد الستمائة، ثم تنزل جيوش المسلمين جميعها إلى النهر الثائر، والذي كان يظنه أصحابه ثائرا لهم، فإذا هو ثائر عليهم، فإنما هو يجري بأمر الله، وما كان له أن يقف دون جنود الله، فهو لهم مجراه. وينتقل الجيش العربي جميعه إلى الضفة الأخرى لا يفقد الجيش منهم أحدا، بل ولا يفقد أحد منهم شيئا.

صوت :

بل فقدت أنا، نعم فقدت وعاء من الخشب .

آخر :

ها هو. لقد وجدته سابحا بجانبي في النهر.

الراوية :

ألم أقل إن أحدا لم يفقد شيئا. ودخل المسلمون المدائن. ثم دخلوا إلى أبيض كسرى. لا، لا أحد يستطيع أن يصف ما رأوه. ولم يجد سعد شيئا يفعله إلا أن يصلي لله شكرا صلاة الفتح ثماني ركعات بتسليمة واحدة، ولم يجد سعد شيئا يقوله إلا قوله عز وجل:

كم تركوا من جنات وعيون * وزروع ومقام كريم * ونعمة كانوا فيها فاكهين * كذلك وأورثناها قوما آخرين * فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين

صدق الله العظيم.

الفتح الأول

الراوية :

من الأمجاد، من الأشعة الأولى لنور الإسلام، من هذه الشواهق تعلو فلا يلحق بها نظر، وتسمو فلا يهفو إليها فكر، وإنما هي تهدي فنهدى، وتبين فنسير، وتضيء فنرشد. من القمم الباسقات للآباء والأجداد، وقف عندهم التاريخ العربي خاشعا في إجلال، وقف دونهم التاريخ الغربي صاغرا في ذلة من العرب الأولين، خلص إلينا تاريخهم نقيا نقاء إيمانهم بالله، رفيعا رفعة اعتناقهم للمبدأ، حاول المؤرخون أن ينالوا من تاريخهم، ولكن الأدلة تكاثرت عليهم، وانثالت إليهم الحجج إرسالا، فلم يملكوا إلا الذهول والحيرة، ولم يملكوا إلا الاعتراف أنه الحق. وإنه الحق. (موسيقى.)

صوت :

متى تقرأ خطاب النبي الذي معك يا عبد الله بن جحش؟

عبد الله :

وما يهمك من قراءته؟

الصوت :

أعلم إلى أي مكان نحن قاصدون.

عبد الله :

لقد أمرني عليه الصلاة والسلام ألا أفتح الخطاب إلا بعد مسيرة يومين من المدينة.

الصوت :

فموعدنا غدا.

عبد الله :

موعدنا غدا. (موسيقى.)

الصوت :

هلا قرأت لنا الكتاب يا عبد الله؟

عبد الله :

نعم، لقد مر اليومان. نقرأ الكتاب: «بسم الله الرحمن الرحيم، إذا نظرت في كتابي هذا، فامض حتى تنزل نخلة فترصد بها قريشا، وتعلم لنا من أخبارهم.»

الصوت :

أيقصد عليه السلام ذلك المكان الواقع بين مكة والطائف؟

عبد الله :

إياه يقصد، فهل أنتم سائرون معي؟

الصوت :

على بركة الله.

عبد الله :

إن النبي أمرني ألا أكره أحدا منكم على متابعة السير، فهل بينكم من يريد الرجوع إلى المدينة؟

أصوات :

امض بنا على بركة الله.

عبد الله :

إن سعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان قد خرجا وراء بعير لهما تخلف عن السرية. أننتظرهما حتى يعودا أم نمضي في سبيلنا؟

الصوت :

ما نظن إلا أن النبي يتعجل أخبارنا، فلنمض نحن على بركة الله، فقد طالت بهما الغيبة.

عبد الله :

على بركة الله.

أصوات :

على بركة الله. (موسيقى.)

الراوية :

وأخذت سرية عبد الله بن جحش طريقها إلى نخلة، وحطت رحالها ترقب الطريق، ولم يطل بها الترقب، فقد مرت بهم قافلة تحمل تجارة لقريش فقال قائلهم:

الصوت :

أنترك الكفار يمرون بنا لا نمسهم بأذى، وهم من أحاطونا بالويل والعذاب، فتركنا ديارنا نحمل ديننا وإيماننا ولا نقي جسومنا بغير البرد اللافح والهجير اللاهب، فنحن في دار غربة وهم في ديارهم مقيمون يرعاهم الخفض من العيش، ويقيهم الظل من الهجير؟ والله لا أسكت أبدا.

آخر :

وماذا تريد أن تفعل؟

الصوت :

أقتلهم، فإما أقتلهم أو يقتلونني، أما أن يمروا على مرمى السهم مني وأنا هاجع خامد، فلا والله، لا ومحمد.

الآخر :

هون عليك الأقسام يا أخي، فإن محمدا لم يأمر بقتالهم، ونحن في الشهر الحرام.

الأول :

إن محمدا لم يكن يعرف أن تجارة لهم ستمر بنا، ولا يعرف أحد ماذا كان قائلا لو عرف بهذه التجارة.

الآخر :

إنه لا يمكن أن نقاتل في الشهر الحرام.

الأول :

أيهما أشد إيلاما للعدل ولعرف العرب، أن نخرج من ديارنا، وقد أشعلت الفتنة ما بيننا، أم أن نقاتل في الأشهر الحرام؟ إني محارب.

الآخر :

ويحك! لقد جاوزت حدك، ونسيت أن عبد الله بن جحش على رأس السرية، وعليه وحده يرجع الأمر بالقتال.

الأول :

ولكني أراه صامتا لا يأخذ من الحديث طرفا.

عبد الله :

لقد والله اعتمل في نفسي الرأيان معا، فأنا بين مقدم يدفعني إلى الحرب، ما ذاق قومنا من أهوال جسام، وبين محجم يدعوني إلى الإحجام الشهر الحرام الذي نحن يه، ويدعوني إليه أن النبي لم يأمر بالقتال.

الأول :

إنه لا بد لك أن تحزم أمرك، فوالله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم فيمتنعوا عليك.

الثاني :

وإن قتلتموهم سفتكم الدماء في الشهر الحرام.

عبد الله :

والله إن ما صنعوه بنا لأكثر حرمة عند الله من الشهر الحرام، دونكم وإياهم، البدار البدار.

أصوات :

الله أكبر، الله أكبر.

الراوية :

وانبعثت السرية تهاجم تجارة عمرو بن الحضرمي، ورمى أحدهم عمرا بسهم فأصابه وقتل، وأسرت السرية رجلين من رجاله واقتسموا الفيء، وأخرجوا خمسه للنبي، وأخذوا سبيلهم إلى المدينة. وهناك ... (موسيقى.)

عبد الله :

لقد غضب النبي من قتالنا.

الأول :

أما لإرضائه من سبيل؟

عبد الله :

لقد أبى أن يأخذ الفيء، وأراد أن يرد الأسيرين.

الأول :

ولكن قريشا أسرت منا سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان.

عبد الله :

ولكن هذا لم يشفع لنا، حتى لقد عنف على الأصحاب والإخوان وما أدري ما أنا فاعل.

الأول :

اصبر يا أخي، فو الله ما أردنا إلا وجه الله.

الآخر :

لقد جلوت لكم الرأي فأبيتم أن تأخذوا به، ولترون غدا قريشا تهب إليكم برجالها ونسائها فلا يدفعها إلا الله.

عبد الله :

والله إن غضب محمد لأشد من هبة قريش ومن معها.

الآخر :

لقد أثرتها شعواء يا عبد الله.

صوت (مناديا من بعيد) :

يا عبد الله بن جحش، يا عبد الله بن جحش!

عبد الله :

لبيك.

الصوت :

بشراك، بشراك. لقد أنزل الله آيات ترفع عنك غضب النبي والصحاب، آيات من عند الله يا عبد الله، بشراك عبد الله بشراك.

عبد الله :

الحمد لله. هو وحده يعلم، فله كان جهادي، وما ابتغيت إلا وجهه. قل الآيات يا أخي، قلها بربك.

الصوت :

بسم الله الرحمن الرحيم:

يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا .

عبد الله :

الحمد لله، الحمد لله.

الصوت :

ولقد فرح رسول الله، وقبل أن يأخذ الفيء.

عبد الله :

وهل جاء أحد من قريش يطلب الأسيرين؟

الصوت :

نعم، ولكن النبي قال: «حتى يقدم القوم صاحبينا.» يعني سعدا وعتبة، وقد ذهب رسول قريش ليرد الأسيرين. (موسيقى.)

الراوية :

وعاد الأسيران، وأذن النبي للقرشيين أن يعودا إلى مكة، ولكن أحدهما وهو الحكم بن كسبان قال:

الحكم :

أشهد أن لا إله إلا الله وأنك يا محمد رسول الله. إني هنا مقيم. الإسلام مرتعي وإيماني وولدي ووطني. لقد أسلمت لله، ولن أعود إلى الشرك أبدا.

الراوية :

وأقام. وهكذا كانت سرية عبد الله بن جحش هي بداية الجهاد في سبيل الله، وكان السهم الذي أطلقه المسلمون فأصابوا به عمرو بن الحضرمي هو أول سهم أطلق في سبيل الله، وحين أنزل الله آياته عرف المسلمون أن الله قد أذن لهم أن يقاتلوا في سبيله. أما قريش فقد اضطرب منها الأمن وتوفر فيها الغضب فيقول قائلهم:

صوت :

ها قد بدأ محمد ينال ثأره.

آخر :

إنها والله لمخجلة الدهور عار الأبد. أيتعرض محمد وأصحابه لقوافلنا؟!

آخر :

بل إنه يأبى أن يسلم لنا أسراه، أو نسلم له أسرانا. لقد أصبحت شرذمة محمد تناوشنا ونحن صاغرون.

آخر :

نسيتم أننا عنفنا على محمد وهو بين ربوعنا حتى أرغمناه أن يترك الديار هو وصحبه، ويخرج من مكة مهد صباه، ومراح شبابه ومأوى الأهل لأصحابه، وكهف الأمن لذويهم.

صوت :

لقد سفه آلهتنا، وسب عقولنا، بل إنه لقد امتد بسبابه إلى آبائنا وأجدادنا ورماهم بالغفلة والبله.

آخر :

نسيت يا أخي أن آباءه هم آباؤك، وأجداده هم أجدادك، ووالله ما أرى إلا أنه يقول رأيا فما استمعنا منه لرأي، وإنما حزمنا أمرنا على شدة وجميع قواتنا على جهل.

الصوت :

أراك اليوم تكاد تسلم يا أخي، وما بعد العهد بهجوم محمد مع قافلتنا.

الأول :

لا تخش، فإن أبا سفيان لن يسكت إذا عرف أن محمدا يتربص به.

الصوت :

إن أموال قريش جميعها في هذه القافلة، لعلنا لم نسهم في قافلة مثلما أسهمنا في هذه.

الأول :

لا تخف، فإن أبا سفيان سوف يعلم. (موسيقى.)

صوت :

البدار أبا سفيان البدار.

أبو سفيان :

ماذا ؟ مم البدار وإلى أين؟

الصوت :

البدار من محمد وأصحابه، إلى مكة.

أبو سفيان :

وماذا يريد محمد؟

الصوت :

لقد عرف أن قافلتك في الطريق، فهيأ لك من رجاله جيشا جعل له قافلتك غنيمة.

أبو سفيان :

أنصبح نحن غنيمة لمحمد؟!

الصوت :

لا تستهن أبا سفيان، إنها نفوس أبية مسها منكم الأذى الشديد، فاحذر النفس الأبية إن رامت انتقاما.

أبو سفيان :

فالبدار أنت البدار.

الصوت :

إلى أين؟

أبو سفيان :

إلى مكة، إلى مكة. اندب رجالها، أبلغ قريشا. (موسيقى.)

الصوت :

اللطيمة، اللطيمة!

صوت (لمن كانوا يتحدثون) :

هذا ضمضم بن عمرو الغفاري، وقد شق قميصه من قبل.

ضمضم :

يا آل قريش، الغوث الغوث.

أصوات :

ماذا بك يا ضمضم؟

ضمضم :

أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه فأدركوها، أدركوها، الغوث، الغوث.

أبو جهل :

أحق ما تقول؟

ضمضم :

يا أبا جهل، أفي مثل هذا يكذب الناس؟

أبو جهل :

فهلم يا معشر قريش، والله لنؤدبن محمدا وأصحابه أدبا يتسامع به العرب جميعا.

صوت :

على رسلك أبا جهل، فإنها الأمور الكبر!

أبو جهل :

وأنا لها.

الصوت :

لقد والله ظلمنا محمدا وأصحابه، فانقض قرارهم، فهم لاجئون إلى الأحباش حينا، أو إلى أهل المدينة حينا آخر.

أبو جهل :

أنترك تجارتنا إذن يعدو عليها محمد، ويسمع العرب أن قريشا هان العزيز من أمرها، ومال الرفيع من ركنها، تخاذلت يا أخا العرب، وما نحن بمتخاذلين؟!

الصوت :

إنها أحدوثة يرمي بها فرد من الناس لا نعرف مقدار صدقه.

ضمضم :

إنه الصدق ما أقول.

الصوت :

فهل رأيت رجال محمد رأي العين، أم هي الأنباء يرمي بها نفر منكم إلى آخر؟

ضمضم (مترددا) :

إنها أنباء ولكنها صادقة.

أبو جهل :

لبيك إذن لبيك. إنا لسائرون.

الصوت :

نسيت شيئا يا أبا جهل.

أبو جهل :

إني ماش، ومن شاء فليتبعني.

الصوت :

إن بني كنانة يترقبون بنا الفرصة، فإن نحن نفرنا إلى محمد خلا الطريق لهم، فأصابوا ثأرهم.

أبو جهل (في شيء من التخاذل) :

لعلك على حق يا أخي، لعلك في هذا محق.

صوت :

بل سبيلك فامض يا أبا جهل.

أبو جهل :

من؟ مالك بن جعشم المدلجي؟

مالك :

إنه أنا. سبيلك فامض، فما كنا لننال الثأر من قوم ينفرون عن ديارهم، ما كنا لننال الثأر والربوع منكم خالية.

أبو جهل :

إنك من أشراف كنانة، وإنا لنقبل منك الوعد، واثقين أنه الحق.

مالك :

وإنه الحق، فقد سفه محمد آلهتنا، وإنا لنخشى أن يصيبنا منه شر بعد أن يصيبكم، فلا تخشوا ثأر كنانة، وامضوا أنتم إلى ثأر أنفسكم.

أبو جهل :

فإلي معشر قريش، إلي، إلي.

الراوية :

ونفرت قريش بحقدها وزهوها لم يبق منها رجل أو فتى، بل بقي منها واحد، هو أمية بن خلف، لم يقم إلى الحرب فقد كان ثقل جسمه يمنعه عن القيام فقعد، فأثاره نفر من قريش في مجلسه وأخذوا يقولون له:

صوت :

هاك أمية، هاك مجمرة وبخورا، تصلح للنساء، فهي لك، وهل أنت إلا من النساء يا أمية؟

آخر :

بل هاك أمية مكحلة فاكتحل فإنما أنت امرأة.

الراوية :

ولم يجد أمية بدا من القيام فقام. وذهبت قريش للقاء محمد، وقد خيل لأفرادها أن النصر عالق بحوافر خيلهم، وسبقهم خيلاؤهم، يغشي الحقد على عيونهم فهي العمى، وعلى أفئدتهم فهي الظلام، وعلى نفوسهم فهي السخيمة. وكان محمد - عليه الصلاة والسلام - قد خرج في أصحابه من المدينة في اليوم الثامن من شهر رمضان، عدته إيمان يعمر قلوب أصحابه، وغضب يملأ نفوسهم من أولئك العتاة الذين أجلوهم عن ديارهم. وكان عدد رجاله خمسة وثلاثمائة رجل، وفي الطريق جاءت أنباء قريش إلى النبي.

صوت :

يا رسول الله، لقد خرجت قريش بقضها وقضيضها لتدافع عن قافلة أبي سفيان.

الراوية :

إذن فهي قريش جميعها، فكيف يلقاها النبي بهذه القلة من الناس العدة؟ ويفكر النبي - عليه الصلاة والسلام - في العودة، ويشير أصحابه فيقولون:

آخر :

والله يا رسول الله لئن عدت لتطمعن فينا قريش ولنصبحن أحدوثة بين العرب.

آخر :

يا نبي الله، إنها الحرب، وإنا لها لصامدون، هلم.

آخر :

يا رسول الله، امض بنا أراك الله الهدى فنحن معك، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى، اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.

الراوية :

كان هؤلاء الذين أبانوا عن رأيهم من المهاجرين، وكان النبي يريد رأي الأنصار؛ فالمهاجرون يدفعهم إلى القتال إيمانهم، وما أصابتهم به قريش من أذى. أما الأنصار فإيمانهم وحده، فالنبي يسأل القوم مرة أخرى قائلا: أشيروا علي أيها الناس. فأحس سعد بن معاذ عميد الأنصار أن النبي يقصد رأيهم، فهو يقول:

سعد :

لكأنك تريدنا يا رسول الله، لقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، وما تخلف منا رجل واحد. وما نكره أن تلقي بنا عدونا غدا. إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عيناك، فسر بنا على بركة الله.

الراوية :

وأشرق وجه النبي، وهو يرى الإخلاص حوله سياجا، والإيمان يحيط به حائطا منيعا، فقال عليه الصلاة والسلم: «سيروا وأبشروا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين.» وسار الإسلام. (موسيقى.)

صوت :

لقد سمعت أن قافلة قريش مضت في طريقها.

آخر :

فتلك إذن إحدى الطائفتين، وبقيت الطائفة الأخرى، طائفة البغي والظلم والجور.

الأول :

ولكنها أيضا طائفة جرداء لا مال لديها، ولا مطمع فيها.

الثاني :

أونحارب من أجل المال يا أخي؟ إنه الإسلام ما نحارب له، وإنه الدين ما ندافع عنه، وإنه النبي ما نبذل حوله الأرواح.

الأول :

إنها همهمة تدور بين بعض الناس.

الثاني :

لا والله، ما كانت هذه الهمهمة لتنبع من نفوس المسلمين. إنها همسات اليهود والمنافقين، فحذار حذار أن تعيدها.

صوت :

بسم الله الرحمن الرحيم:

وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين . (موسيقى.)

الراوية :

وعرفت قريش أن قافلة تجارتهم قد نجت من محمد، وأن أبا سفيان قد أخذ طريقه إلى مكة، فأراد بعضهم العودة.

صوت :

فما أصبح لنا في القتال إرب، ولا فائدة، وقد نجا أبو سفيان بتجارته.

أبو جهل :

لا والله لا نرجع حتى نرد بدرا، فنقيم عليه ثلاثة أيام ننحر الجزر ونطعم الطعام ونسقي الخمر وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وبمجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها. (صوت حوافر حصان.)

أبو جهل :

من القادم؟

صوت :

إنه قابل من قبل مكة (يقترب صوت الحوافر جدا ثم ينقطع) .

صوت :

إني رسول أبي سفيان إليك.

أبو جهل :

وماذا يريد؟

الصوت :

إنه يقول إنكم خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، وقد نجت، فارجعوا.

أبو جهل :

لا والله لا نرجع حتى نرد بدرا فنقيم. (موسيقى.)

الراوية :

وكالفراشة الحمقاء تلوب حول موتها، اندفع أبو جهل إلى بدر، وكان النبي قد نزل عند بئر بدر، وقد أراد عليه الصلاة والسلام أن ينزل عند أول ماء بدر، وكان الحباب بن المنذر على خبرة بالمكان والحرب، فهو يسأل النبي:

الحباب :

يا رسول الله، أرأيت هذا منزلا أنزلكه الله، فليس لنا أن نتقدمه، ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟

الراوية :

فقال عليه الصلاة والسلام: «بل هو الرأي والحرب والمكيدة.»

الحباب :

يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أقرب ماء من قريش، فننزل، ثم نكبسه بالتراب فينضب ماؤه، ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون.

الراوية :

وما محمد إلا بشر من البشر، يشير فيشار، فيقبل المشورة، وقد قبلها عليه الصلاة والسلام.

أبو جهل :

أرسلوا إلى أصحاب محمد من يتقصى أنباءهم ويخبرنا عنهم.

صوت :

إني ذاهب. (موسيقى.)

الراوية :

وأرسل النبي من يعرف كم بعيرا تنحر قريش في اليوم، فقال قائل:

صوت :

إني ذاهب. (موسيقى.)

الصوت (القرشي) :

إنهم ثلاثمائة يزيدون قليلا أو ينقصون قليلا.

أبو جهل :

فهو النصر المؤزر.

عتبة :

يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا. والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل منكم يظهر في وجه رجل قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلا من عشيرته، فارجعوا، وخلوا بين محمد وسائر العرب، فإن أصابوه فذلك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك لم تتعرضوا منه لما تكرهون.

أبو جهل :

جبنت واللات وأردت الحكمة. أنترك دم عمرو مراقا لا نثأر له، هيه يا عامر بن الحضرمي، ألا تطلب ثأر أخيك؟

صوت :

وا عمراه! (موسيقى.)

الراوية :

وقال سعد بن معاذ للنبي:

سعد :

يا نبي الله، نبني لك عريشا تكون فيه، ونعد عندك ركابتك، ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركابتك، فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله، ما نحن بأشد لك حبا منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم يناصحونك ويجاهدون معك. (موسيقى عنيفة.)

الراوية :

واندلعت الحرب بين إيمان وزهو، بين دين وكبر، بين نبي وظالمين، بين الله والشيطان، وراح النبي يدعو في عريشه قائلا: «اللهم هذه قريش قد أتت بخيلائها تحاول أن تذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم أن تهلك هذه العصابة فلن تعبد بعد اليوم.» فيقول له أبو بكر، وهو يعيد رداءه إلى كتفه: «يا نبي الله بعض مناشدتك ربك فإن الله منجز لك ما وعدك.» فيقول النبي: «والذي نفسي بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة.» (ثم تخفت قليلا وتظل مصاحبة للمشهد.) (موسيقى عنيفة.)

الراوية :

واندفع المسلمون إلى القتال يذودون عن دينهم، ويردون العذاب الذي لاقوه، ويرسون الأساس الأول لفتح الله، إنه الفتح الأول، وإنه دين الله، ونزلت الآيتان:

يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مئة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون * الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين . واطمأن النبي إلى النصر، واطمأن المسلمون. وأخذ النبي يسير بين خيالة الكفار يمسك بالحصى، ويرمي به في وجوههم: «شاهت الوجوه.» وشاهت الوجوه، وانخذل الكفار، وعاد زهوهم ضيعة وكبرهم انكسارا، وكيف لا ينهزمون والله يقول:

فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ؟ وكيف لا ينهزمون وسبحانه يقول:

إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان . صدق الله العظيم.

أصحاب الفيل

(موسيقى عنيفة.)

الراوية :

أرسل المثنى إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يقول له:

صوت :

إلينا أمير المؤمنين، لقد اجتمع الفرس وأمروا عليهم يزدجرد بن شهريار بن كسرى، وأخذوا يكتبون الجيوش لحرب العرب، وثار أهل العراق بنا نحن المسلمين، فاضطررنا إلى الانسحاب حتى شارفنا التخوم من الجزيرة، إلينا أمير المؤمنين.

الراوية :

وخرج هذا الرجل من عند عمر، وبيده كتاب إلى عمال الأمير في بلاد العرب جميعها يقول فيه:

الصوت :

لا تدعوا أحدا له سلاح، أو فرس أو نجدة أو رأي إلا انتخبتموه، ثم وجهتموه إلي، والعجل العجل.

الراوية :

إنه عمر يأمر، وإنهم عماله من يتلقون الأمر، فما هو إلا الطريق يقطعه الذاهب حتى ينفر القوم يلبون عمر.

أصوات :

لبيك أمير المؤمنين، لبيك.

الراوية :

ويقول عمر: والله لأضربن ملوك العجم لملوك العرب.

أصوات :

لبيك، لبيك.

الراوية :

وخرج عمر بالناس حتى بلغ ماء صرار فعسكر به والناس لا يدرون إن كان عمر هو من سيقود الجيش أم أنه سيولي عليها من يراه، وعمر نفسه لا يقطع أمرا بغير مشورة، فهو يسأل عامة الناس فيقول قائلهم:

صوت :

سر، سر بنا معك.

الراوية :

ولكن عمر يرجع إلى خاصة مشورته، فيقول عبد الرحمن بن عوف:

عبد الرحمن :

أقم وابعث جندا، فقد رأيت قضاء الله لك في جنودك قبل وبعد، فإنه أن يهزم جيشك ليس كهزيمتك، وإنك إن تقتل، أو تهزم في أول الأمر خشيت ألا يكبر المسلمون، وألا يشهدوا ألا إله إلا الله أبدا.

الراوية :

فجمع عمر المسلمين وخطبهم وكان مما قال: «يحق على المسلمين أن يكونوا، وأمرهم شورى بينهم، وإني إنما كنت كرجل منكم حتى صرفني ذوو الرأي منكم عن الخروج، فقد رأيت أن أقيم وأن أبعث رجلا.» ثم أخذ عمر يستشير القوم فيمن يرسله، وبينما هم يتداولون الأسماء جاء خطاب إلى أمير المؤمنين من سعد بن أبي وقاص، فإذا أحد الجالسين يقول:

صوت :

قد وجدت الرجل يا أمير المؤمنين. إنه الأسد في براثنه، أول من رمى بسهم في سبيل الله، فداه النبي بأبيه وأمه فقال: «ارم سعد فداك أبي وأمي.» رجل يقول إن يوما أتى عليه فكان ثلث الإسلام، فهو ثالث ثلاثة أسلموا. إنه الرجل يا أمير المؤمنين. سعد بني وهيب، سعد بن أبي وقاص.

الراوية :

وأجمع الناس أمرهم على سعد بن أبي وقاص، وأرسل إليه عمر بن الخطاب يستقدمه، فقدم، فقال له: «يا سعد، سعد بن وهيب، لا يغرنك من الله إن قيل خال الرسول

صلى الله عليه وسلم

وصاحبه، فإن الله عز وجل لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكنه يمحو السيئ بالحسن، وليس بين الله وبين أحد نسب إلا بطاعته، فالناس شريفهم وضعيفهم في دين الله سواء، يتفاضلون بالعافية ويدركون ما عنده بالطاعة، فانظر الأمر الذي رأيت النبي

صلى الله عليه وسلم

يلزمه فالزمه، وعليك بالصبر.» ثم عقد له لواء الجيش. وانبعث سعد إلى العراق أميرا على جيش من أكبر الجيوش التي عرفتها العرب. (موسيقى عنيفة.)

صوت :

أرى رجلا يبدو على مبعدة ثم تحجبه عنا الهضاب. أتراه يا أبا محجن؟

أبو محجن :

نعم إني أراه.

الأول :

ما أظنه إلا عينا من الأعداء جاءت ترقبنا.

أبو محجن :

أنتركه؟

الأول :

بل لا بد لنا من إدراكه.

أبو محجن :

يا أمير الجيش، أرى رجلا يرقبنا، ويحرص على ألا نراه.

سعد :

إني أراه منذ أمد بعيد.

الأول :

أنسكت عنه؟

سعد :

لا بل اتركوه حتى تنتهي هذه البروج.

الأول :

وما شأن هذه البروج يا ابن أبي وقاص؟

سعد :

إنها بروج العجم بنوها ليلقوا منها أعداءهم، ولكنني أراها خاوية لا أحد فيها.

الأول :

ومن أين عرفت أنها خاوية؟

سعد :

لو كان فيها أحد ما أرسلوا إلينا هذا الرجل ليرقبنا.

أبو محجن :

وماذا تراه يريد؟

سعد :

يريد أن يعرف عددنا وعدتنا.

أبو محجن :

أنتركه إذن؟

سعد :

لعله من المفيد لنا أن يعرف العجم عددنا، فنحن ما نزال في انتظار المدد وسوف يتضاعف عددنا، فلنترك العدو يعتقد أننا قلة حتى إذا باغتناه مجتمعين بأضعاف ما انتظر من الجيوش انهارت منه القوة وسارع إلى الهزيمة.

الأول :

فداك أبي وأمي يا سعد.

سعد :

بعض هذا يا أخا العرب.

أبو محجن :

ولكن أنترك هذا الرجل وشأنه حتى يبلغ مأمنه؟ ما ضرنا لو أتينا به ليدلنا هو على عدد جيشه وعدته.

سعد :

لقد أرسلت من يرقبهم يا أبا محجن، ولكن يجب ألا نترك هذا الرجل دون أن نعرض له وإلا أدرك أننا نخدعه.

أبو محجن :

فأنا له أيها الأمير.

سعد :

أنت يا أبا محجن. أخشى أن يخدعك بدن من الخمر، فتفضي له بسر الجيش جميعا.

أبو محجن (ضاحكا) :

أنا لا أشربها أيها الأمير.

سعد :

أتقسم؟

أبو محجن :

لا أشربها إلا في المساء.

سعد :

أقسمت يا أبا محجن لو حملت إلي مخمورا في هذه الحرب لأقمت عليك الحد وقيدتك فلا تحارب.

أبو محجن :

لن أحمل إليك أيها الأمير، أأطارد هذا الرقيب؟

سعد :

طارده ولا تمسك به. اجعله يعتقد أنك تريد أن تأسره ولكن لا تفعل، هلم. (صوت حوافر الخيل.)

أبو محجن :

لقد ذهب إلى معسكره أيها الأمير، ولكن ...

سعد :

ولكن ماذا؟

أبو محجن :

في طريقي إليك رأيت كوكبة من الخيل قادمة إلينا.

سعد :

فأعدوا لها. أعرفت فيم قدومهم؟

أبو محجن :

لا، ولكني لم أر عليهم هيئة المحاربين.

سعد :

هل انضم إليهم الرقيب الذي كنت تطارده؟

أبو محجن :

لا، إنه لم يرهم، فقد طاردته من طريق وعدت من طريق آخر فرأيتهم.

سعد :

فأكمنوا لهم حتى إذا ظهروا ... (موسيقى عنيفة وقعقعة سيوف.)

سعد :

من أين أنتم؟

صوت :

من الحيرة؟

سعد :

ومن هذه التي تحملونها؟

الصوت :

إنها ابنة أمير من أمراء الفرس في طريقها إلى صاحب الحيرة.

سعد :

أتعرف من نحن؟

الصوت :

أعرف، ولكني لم أتوقع أن تعسكروا هنا.

سعد :

ولم؟

الصوت :

إن الأنباء التي بلغتنا لم تقل إنكم ستمرون من هذا الطريق.

سعد :

وكيف رأيت أنباءكم؟

الصوت :

رأيت جنودنا صرعى، ورأيت أبطالنا أسرى، ورأيت الهول الآخذ والبلاء المقيم. (صوت قهقهة تنتهي بصوت الراوية.)

الراوية :

وتسامع الفرس بما كان من أسر الأميرة، ومن معها، ومن فرار القوة التي كانت تحف بها، فألقي الذعر إلى نفوسهم، وأرسل أميرهم يزدجرد يدعو إليه رستم أكبر قائد عرفته الفرس حتى إذا مثل بين يديه.

يزدجرد :

أرى العرب قد أرسلت إلينا جيشا لا قبل لنا به، وما أرى بين قوادي من يطيق حربهم إلا أنت.

رستم :

بقيت يا مولاي، إنما الحرب تدبير وخديعة، وقد تجد من يجيل السيف مثلما أجيل، ولكنك لن تجد من يرسم الخطة كما أرسمها.

يزدجرد :

ولكنهم أسروا ابنة مرزبان الحيرة، وهم مقيمون بأبوابنا، لا نطيق حربهم، فإن لم تخرج إليهم أنت هزمنا، وفي هزيمتنا فناء للدولة الفارسية، وانهيار لصروح المجد التي أقامها الآباء والأجداد.

رستم :

ولكني إن هزمت أنا فقد الفارسيون ثقتهم بي، وأنت في حاجة إلى هذه الثقة، وما يفيدك يا مولاي أن أخرج إليهم فأهزم فيكون في هذه الهزيمة الفناء والدمار؟

يزدجرد :

ومتى تخرج إن لم تخرج اليوم والدولة مشرفة على الهلاك؟!

رستم :

إن العرب سوف ترسل إليك الجيوش يتلو بعضها بعضا، فلو أقمت هنا وهزم جيشنا فسأظل هنا لأدبر للحرب التي تليها، أما لو خرجت اليوم وهزمت فهيهات لي أن أقود جيشا بعدها أبدا، فإن أنت أرسلتني يا مولاي فكأني بك تلقي بقوتنا جميعها دفعة واحدة، وإنك لتلقيها غير مضطر إلى ذلك.

يزدجرد :

فماذا تريد أن تفعل؟

رستم :

أريد أن أرسل الجيوش بإمرة غيري حتى إذا هزموا كنت أنا من ورائهم أهيئ لهم المدد وأرسم الخطط، وأنتظر العرب وأماكرهم حتى أهزمهم.

يزدجرد :

لا يا رستم، أنا لا أرى رأيك.

رستم :

فمرني يا مولاي.

يزدجرد :

اخرج يا رستم، ولكن أريدك أن تخرج مليئا بالثقة، متحفزا للنصر.

رستم :

مولاي، إن رستم في ميدان القتال يحارب عن تاريخه جميعا وعن دولته وعن ملكه، وإن رجلا هذا شأنه لا يمكن أن يضعف.

يزدجرد :

وحق النار المقدسة إنك الرجل يا رستم، إلى الحرب أيها القائد، في رعاية النار المقدسة. (صوت جونج.)

سعد :

في رعاية الله أيها الوفد الكريم.

الرسول :

وبقيت في رعايته يا سيدي الأمير.

سعد :

أعرفت إلى من توجه حديثك؟

الرسول :

إلى يزدجرد.

سعد :

وتجاهل قائد جيشه رستم كأنك لا تسمع عنه. ليكن حديثك إلى أميرهم. وأنتم أيها الأخوان دعوا الحديث لنعمان بن المقرن والمغيرة بن شعبة والمعنى بن حارثة. (جونج.)

الرسول :

أين أميركم؟

صوت :

وماذا تريدون منه؟

الرسول :

نريد أن نلقاه.

الصوت :

ومن تكونون؟

الرسول :

وفد من قبل سعد بن أبي وقاص أمير جيوش العرب.

الصوت :

فأنتم تريدون القائد رستم؟

الرسول (ساخرا) :

القائد من؟!

الصوت :

القائد رستم.

الرسول :

إنا لا نعرف القائد. أنا أريد الأمير.

الصوت :

ولكننا لا نسمح لكم بلقائه.

الرسول :

إذن أعود طريقنا إلى جيشنا، وموعدنا غدا.

الصوت :

فانتظروا حتى أنظر في أمركم.

الرسول :

بسم الله الرحمن الرحيم:

إنهم يكيدون كيدا * وأكيد كيدا * فمهل الكافرين أمهلهم رويدا .

الصوت :

تعال أيها الرسول. (أصوات خطوات.)

يزدجرد :

أي حظ تعس رمى بكم إلى هذه البلاد؟

الرسول :

إن الحظ التعس أيها الأمير، محيط بكم إن أنتم لاقيتم العرب في طريقهم إلى المجد والخلود والنصر.

يزدجرد :

أجب أيها الرجل، ما الذي جاء بكم؟ لعلكم قد غرتكم نفوسكم حين رأيتم تشاغلنا عنكم.

الرسول :

إن الله قد بعث فينا رسولا يحمل إلينا نوره وهداه، وكنا مثلكم نعبد ما نصنع بأيدينا حتى أتاح الله لنا الهدى بعد الضلالة، والنور بعد الظلمات، فكفرنا بالأصنام، وعبدنا الله مخلصين له الدين، وأنتم ما تزالون على ضلالتكم.

يزدجرد :

وما شأنكم بنا؟

الرسول :

إن رسالة الحق لا بد لها أن تبلغ العالم أجمع. إن الله من أرسلها، ونحن دعاة الحق، نبصركم الرشد من أمركم، ولا نفرض عليكم الإسلام، وإنما نفرض عليكم أن تصغوا إلى دعوته، ثم شأنكم بعد هذا.

يزدجرد :

وماذا تبغون منا؟

الرسول :

إن أجبتم إلى ديننا ودخلتم فيه خلفنا فيكم كتاب الله وأقمناكم عليه على أن تحكموا بأحكامه ونرجع عنكم وشأنكم وبلادكم، وإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم فالحرب.

يزدجرد :

أنا لا أعلم أمة كانت أشقى ولا أقل عددا ولا أسوأ ذات بين منكم، وقد كنا نعتمد على القرى والضواحي لتحاربكم وتردكم على أعقابكم، وما كنا لنغزوكم وما كنا نظن بكم الخبل إلى درجة أن تقوموا أنتم على غزونا، فإن كان عددكم كثر فلا يغرنكم كثرته، وإن كنتم جياعا فرضنا لكم قوتا حتى تخصب أرضكم وكسوناكم وملكنا عليكم ملكا يرفق بكم.

الرسول :

إننا أيها الملك جياع، ولا نملك إلا سيوفنا وخيولنا، وخير ملبسا ما تراه، ولكننا هنا في ملكك وأنت بين جندك وفوق إيوانك ندعوك، فاختر لنفسك طريقا: الإسلام أو الجزية أو الحرب.

يزدجرد :

لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم، ولا شيء لكم عندي، بل عندي لكم شيء، أنت أيها الحارس، ضع التراب على كتف أشرفهم، من أشرفكم؟

صوت (غير صوت الرسول) :

أنا أشرفهم.

يزدجرد :

ضعوا التراب على كتفه، واحمله إلى أميرك.

الصوت :

والله لأحملنه إليه. اطمئن أيها التراب إنك عائد إلى مقرك، وقريبا ما تعود. (موسيقى عنيفة.)

سعد :

لقد حملك مقاليد ملكه. هي الحرب إذن فالجهاد، الجهاد أيها العرب، الله يناديكم.

أصوات :

لبيه.

سعد :

إن الله هو الحق لا شريك له في الملك، وليس لقوله خلف، وقد قال عز ثناؤه:

ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون . إن هذا ميراثكم، وموعد ربكم، وقد جاءكم هذا الجمع، وأنتم وجوه العرب، وخيار كل قبيلة، وعز من ورائكم، فإن تزهدوا في الدنيا، وترغبوا في الآخرة جمع الله لكم الدنيا والآخرة. (موسيقى.)

الراوية :

إلا أن سعدا أصابه مرض عنيف فهو قعيد فراشه لا يطيق الركوب، ولكن هيهات، فإن سعدا لا يقبل هذا القعود، وإنما هو يشرف على الجند من شرفته ويأمر، فيبلغ أمره إلى الجيوش. وقبل أن تبدأ المعركة حمل بعض الجنود أبا محجن الثقفي إلى سعد بن أبي وقاص، وكان أبو محجن مخمورا لا يستقيم.

سعد :

فعلتها أبا محجن.

أبو محجن :

ماذا فعلت يا مولاي؟

سعد :

شربت الخمر، وآن لي أن أقيم عليك الحد، بل فاعل بك أكثر من هذا. إني لمحتجزك فلا تحارب، سأقيدك فلا تدخل المعركة.

أبو محجن :

بربك يا سيدي، افعل بي ما تريد، ضاعف الحد. افعل بي ما شئت ولكن لا تمنعني عن الحرب، حياتي هباء إن لم أحارب بربك يا سعد، بربك أيها الأمير.

سعد :

لقد أقسمت وهيهات أن أحنث.

أبو محجن :

بحق سابقتي في الجهاد، بحق جيوش سرنا فيها معا إلى النصر، بحق الأيام الخوالي، الحرب حياتي، إنها أملي في الغفران، إنها رجائي في التوبة.

سعد :

أقيموا عليه الحد، وقيدوه.

أبو محجن :

وا سعداه!

سعد (في حزم) :

قيدوه.

الراوية :

وبدأت الحرب، وكانت الوطأة على العرب شديدة، فقد أطلق الفرس الفيلة تتقدم جيوشهم، والعرب حائرون، فهم قد عودوا الحرب مع الرجال ولم يمارسوها مع الفيلة، الفيلة تسير فتفتك وتدوس، لا ترى السيف فتخشاه، ولا تحس الحراب فتتقيها، إنما هي فيلة تسير فتقتل حيث تسير. وانتهى اليوم الأول والعرب لم تنهزم، ولكنها أيضا لم تنتصر، حتى إذا كان الصباح جاء المدد، واختفت الفيلة، فقد تحطمت توابيتها، وعكف عليها بعض القوم يصلحونها. ودارت المعركة بني رجال ورجال، أو هي بين إيمان وإلحاد، بين دعاة الله والحق، وبين عباد النار ووقودها، ولكن أبا محجن لا يحارب، فهو يرسل إلى زوجة سعد أحد عبدانها.

صوت :

يسألك أبا محجن أن تفكي قيده، لينبعث إلى المعركة، حتى إذا انتهت عاد إلى قيده. ويسألك أن تعيريه البلقاء فرس سيدي سعد. (موسيقى.)

نفس الصوت :

إنها ترفض ذلك يا أبا محجن.

أبو محجن :

كفى حزنا أن ترتدي الخيل بالقنا

وأترك مشدودا علي وثاقيا

إذا قمت عناني الحديد وأغلقت

مصاريع دوني قد تصم المناديا

وقد كنت ذا مال كثير وإخوة

فقد تركوني واحدا لا أخا ليا

ولله عهد لا أخيس بعهده

لئن فرجت ألا أزور الحوانيا

الراوية :

فلما سمعت زوج سعد شعره أرسلت إليه عبدها يقول:

الصوت :

لقد استخارت سيدتي الله ورضيت بعهدك، على أن تعود إلى القيد بعد المعركة.

الراوية :

وانطلق أبو محجن إلى المعركة في يومها الثاني، وظلت المعركة دائرة حتى أوغل الليل، والعرب تذيق الفرس الأهوال، وترد إليهم ترابهم الذي حملوه موتا آخذا، ولكن النصر لا يتم، وإنما ما تزال بالفرس قوة عنيفة أبقتها عليهم كثرتهم ووجود رستم على رأسهم. وينتهي اليوم الثاني ويعود أبو محجن إلى قيده وفيا بعهد أخذه على نفسه لزوجة سعد وهو يسألها أن تفعل به في الغد مثلما فعلت اليوم، فتقبل. وفي اليوم الثالث للمعركة تعود الفيلة وترجع إلى ما كانت تفعله بالعرب، ولكن سعدا يجد وسيلة. (جونج.)

سعد :

أريد بعض أسرانا من الفارسيين.

صوت :

أمرك يا سيدي (صوت أقدام تنصرف) .

سعد :

أما ترى إلى هذه الفرس؟

صوت :

نعم.

سعد :

إنها البلقاء. وهذا الذي عليها، لولا أنني حبست أبا محجن لقلت إنه هو، راكبا البلقاء.

الصوت :

أراك محقا يا مولاي.

سعد :

بربك إلا رقبت هذا الفرس، فهو يجول بين الفرس وكأنه الإعصار اللاهب، فإذا انطلق إلى خضم المعركة فهو الريح.

صوت (الذي ذهب لإحضار الأسرى) :

الأسرى يا سيدي.

سعد :

أخبرني أنت، كيف تقتلون الفيلة؟

الفارس :

من مشافرها وعيونها.

سعد (صائحا) :

مر بهم أن يضربوا الفيلة في عيونها، وفي مشافرها.

الراوية :

وقتلت الفيلة، فقد استهدف العرب مقاتلها فقتلوا بعضها، وحلا لأحد الفيلة أن يلقي بنفسه في النهر فتبعته الفيلة الأخرى، وخلص العرب إلى الفرس لا تمنعهم الحيوانات، ورأى العرب في تخليصهم من الفيلة نصرا من الله مؤزرا. وكان النصر، واستولى العرب على القادسية وما هو بجديد نصرهم، فقد شاء ربك أن يهزم أصحاب الفيل دائما سبحانه.

وا معتصماه

(موسيقى.)

صوت (في فزع) :

أين مولاي المعتصم؟

آخر :

وفيم تريده؟

الصوت :

لا تكثر السؤال، أين هو؟

آخر :

في الديوان.

الصوت :

تعال معي. (موسيقى.)

الصوت :

مولاي.

المعتصم :

ماذا؟

الصوت :

لقد هاجمنا الروم.

المعتصم :

ماذا تقول؟

الصوت :

تركتهم على حدود الدولة الإسلامية فقدمت إليك.

المعتصم :

لقد غافلوا عيوننا عليهم. ادع النفير. (موسيقى .)

ملك الفرنج (ضحك عال) :

ها قد بلغنا المقصد والمعتصم ما يزال معتصما بدياره.

الوزير :

والله يا مولاي لو لم تكن غافلتهم لتعذرت هزيمتهم؛ فإنهم لم يعرفوا الهزيمة أبدا.

ملك الفرنج :

اليوم يعرفونها، ادع الجيش إلى الهجوم.

الوزير :

وفيم الهجوم يا مولاي ولا جيش أمامنا؟ إنما هي مدينة لن تجد بها إلا الشاب قد ألقى سلاحه والمرأة تنتظر زوجها والرجل العجوز لزوم كسرى بيته يروي عن الشباب الذاهب وينتظر الغداء القادم.

الملك (ضاحكا) :

ستكون للشاب ألقى سلاحا، وللمرأة تنتظر زوجها، العائد وللعجوز يلتمس غداءه السم الزعاف.

الوزير :

ألا ننذرهم يا مولاي؟

الملك :

أجننت؟

الوزير :

فلا والله لست بهذا. وإنما أخشى أن يكون انتقامهم بقدر الشر الذي نلقيه عليهم.

الملك :

مر الناس بالهجوم ودع الغد للغد. هلم. (صوت نفير شديد وحوافر خيل.)

صوت :

أترى إلى الجموع الزاحفة؟

آخر :

إنها الموت الآخذ.

آخر :

ما رأيت كاليوم جبانا.

آخر :

أجبان من يقول الحق؟!

آخر :

جبان من يذكر الموت. إننا نحارب في سبيل حريتنا، ولا يجرؤ الموت أن يصبو إلى من يدافع عن حريته.

آخر :

أرأيت لو أن السيف قد اخترم قلوبنا وتركت أرواحنا الأجساد، أليس هذا هو الموت؟

آخر :

ذاك هو الحياة. إنها الحرية. من مات في سبيلها وهبت له الحياة الخالدة. (يرفع صوته)

حي على الجهاد. (موسيقى قليلة.)

ملك الفرنج :

أترى إلى المدينة، ليخيل إلي أن جيشنا يلاقينا.

الوزير :

لقد عرفوا بالهجوم.

ملك الفرنج :

ويل للخائن.

الوزير :

ما أحسبه إلا واحدا منهم وقد رآنا، فأخبر أهله.

الملك :

الويل له منهم كان أو منا.

الوزير :

أتعاقب الرجل أن يخبر قومه عن جيش يغير على غرة؟

الملك :

هيهات أن يجدي دفاعهم فتيلا، فما أحسب المعتصم قد علم عن قدومنا، وما أحسبهم إلا قلة ضئيلة لن تثبت إلا ريثما تنهزم.

الوزير :

ما أحسب الأمر كذلك، يا مولاي؛ فإنهم يحاربون عن حريتهم ودينهم، وما حارب عن هذين أحد إلا انتصر.

الملك :

أقدم فإنما النصر لمن أقدم.

الوزير :

إنما النصر لمن دافع عن الحق.

الملك :

أيهزمنا هؤلاء؟

الوزير :

إن قلتهم ضئيلة، وما أخالهم ينتصرون، ولكننا سوف نخسر الكثير قبل أن ننتصر. وسيكون نصرنا يومذاك لكثرتنا الكثيرة ولقلتهم القليلة.

الملك :

إنه النصر وما يهم من بعد لماذا يتم. إلى القتال. (موسيقى عنيفة يتخللها صليل السيوف وصهيل الخيل تشتد شيئا فشيئا ثم تهدأ.)

الملك :

النصر لنا.

صوت :

لقد خسرنا من الرجال كثيرا.

الملك :

ولقد أسرنا منهم الكثير وقتلنا. اعرضوا الأسرى.

صوت :

من بين الأسرى يا مولاي سيدة دافع عنها قومها دفاعا عنيفا، وما أحسبها إلا من السادة.

الملك :

هاتها.

صوت :

أمر مولاي.

الوزير :

ماذا أنت فاعل بها يا مولاي؟

الملك :

سوف ترى.

الوزير :

ها قد جاءت.

الملك :

تقدمي يا امرأة، من أنت؟

السيدة :

هاجمت والليل أسود، واتخذت الخداع وسيلة إلى الآمنين، ولو قد أنذرتنا لرأيت الهزيمة كيف تكون، ولكنت أنت اليوم أسيرا يشار بك فتضرع، ويومأ إليك فتخضع.

الملك :

إن لك لسانا يضمن لك الهلاك.

السيدة :

ويحك، هل ثمة هلاك بعد هزيمة انصبت علينا وحرية فقدنا؟!

الملك :

هناك الموت.

السيدة :

إن مثلك من يخشاه، أما نحن فحريتنا حياتنا وليس بعد فقدانها حياة.

الملك :

فأخبرينا يا امرأة من أنبكم أنا قادمون، وهل عرف المعتصم؟

السيدة :

أخيانة تريدني عليها؟

الملك :

لقد صبرت على قول منك عنيف، لتخبرينا، فوالله إن لم تخبري لأجعلنك أمثولة بين قومك.

السيدة :

إن من يتخذ الليل ستارا يروع الآمنين من ورائه ليس غريبا عليه أن يهدد امرأة.

الملك :

إنني أعرف ما تهدفين إليه، إنك تريدين أن تطيلي الحديث حتى تسنحي الفرصة لجيش المعتصم أن يأتي ولن يكون هذا. أيها الوزير.

الوزير :

مولاي.

الملك :

مر القوم بالرحيل واصحب هذه المرأة معنا. واقتل الأسرى الآخرين.

الوزير (في جزع) :

أقتل الأسرى؟!

الملك :

نفذ ما أمرت به.

الوزير (في استسلام) :

أمر مولاي. (موسيقى.)

الملك :

إنك الآن في القسطنطينية، وإن بينها وبين المعتصم ما تعلمين من صحراء واسعة وأيام طوال، فقولي من وشى بنا عندكم، أهو منا أم هو منكم؟

السيدة :

نحمد الله تعالى أن ولى أمرنا من جعلك تهرب هروب اللصوص.

الملك (في غضب) :

اجلدوا المرأة حتى تخبرنا عن الواشي. (صوت وقع السياط.) (موسيقى.)

السيدة :

وا معتصماه! وا معتصماه!

الملك (ساخرا ضاحكا بشدة) :

سيوافيك على الخيل البلق (ضاحكا)

أجل على الخيل البلق.

صوت :

وما الخيل البلق يا مولاي؟

الملك :

هي الخيل السوداء خالطها البياض، يزعم هؤلاء المسلمون أنهم سيدخلون الجنة عليها (ضحك شديد)

وهكذا سيأتي المعتصم إلى هذه المرأة على الخيل البلق (ضحك)

الخيل البلق. (موسيقى.)

صوت :

وهكذا يا مولاي أخذ يسخر منها، ثم ضحك ضحكا شديدا حين قال إن المعتصم سيوافيها على الخيل البلق.

المعتصم :

أمن هذا يسخر؟ والله لأردن سخريته إلى صدره. أذنوا في الناس كل من يملك فرسا أبلق فإن الخليفة يريده ليدفع عن الدين، وعن الحرية وعن الكرامة.

الصوت :

ألا تريد إلا الفرس الأبلق؟

المعتصم :

نعم، والله لا أريد غير الفرس الأبلق، والأبلق فقط. (موسيقى.)

المعتصم :

كم تجمع لدينا من الخيل البلق؟

صوت :

تسعون ألفا يا مولاي عليها الرجال أمامهم الموت في سبيل الله، هم طوع يمينك.

المعتصم :

حي على الجهاد.

أصوات (كثيرة) :

حي على الجهاد. (موسيقى.)

الراوية :

وعلى الخيل البلق انبثق المعتصم يلبي الصرخة التي انبعثت إليه من بلاد الروم. إنها وا معتصماه! أطلقتها المرأة من عند الفرنجة فهب لها خليفة الإسلام. وإنها سخرية من ملك فاجر ردها خليفة الإسلام انتصافا للحق واهتزازا للمروءة. وعلى الخيل البلق انتصر المعتصم، وبالخيل البلق انهزم ملك الروم، وعلى الخيل البلق عادت السيدة العربية. لقد كانت هذه الخيل رجع ندائها. خلق عربي في الشواهق العليا من الخلق، امرأة ضعيفة تأبى على الملك المنتصر أن يستل منها سرا، وخليفة عربي يأبى أن يستصرخ فلا يجيب، فما هو إلا رجع صدى الصرخة حتى يعود معها خليفة وجيش وخيل بلق. فما لنا إذن غلف القلوب سراع إلى الزلل وقافون عن الخير! وما لنا! ما لنا لا نلقي إلى تلك القمم الساطعة نظرة تهدينا السبيل! وما لنا لا نقتبس ضوءا من شرفات التاريخ!

ضيف وأبناء

صوت :

مبارك والله حجنا هذا العام يا أسامة.

أسامة :

مبارك إن شاء الله، فوالله ما تمنيت من حياتي حجة خيرا من هذه، نحمدك اللهم. لقد هيأت لنا أن نهفو إلى بيتك الكريم على رأسنا ابن عم نبيك.

الصوت :

وأي عم من أعمام نبيه! إنه العباس فتى العرب، وسيفهم، وإنه من وقف النبي على جثته يوم مات يبكيه فيوغل في البكاء، ثم هو عليه الصلاة والسلام يذكر الخير الذي هيئ له في الحياة الأخرى، فتمس قلبه خفقة من راحة.

أسامة :

ثم هو يذكر بكاءه الذي كان فيعزوه إلى شوق سليم به أن فارقه عمه، فهو إنما يبكي من الشوق ولا حزن، نعم والله. لقد كان العباس درع النبي وسيفه، صاحبه حين أشرق الحق على النبي فأمر بالدعوة.

الصوت :

لم يكن العباس قد أسلم بعد، ولكنه كان حربا على أعداء النبي، سيفا عليهم لا يلين.

أسامة :

ثم أذن الله فأشرق نور الإسلام في نفس العباس، فكان مجدا للإسلام، وعزا. ذكرنا العباس - أخي - وفضله وسابقته في الإسلام ونسينا والله فضل هذا الذي يحج بنا في عامنا هذا.

الصوت :

أومثل هذا ينسى؟! إنه عبد الله بن العباس، الأصيل ابن الأصيل.

أسامة :

بل قل أعلم من عرفه العرب وأفقه المسلمين بشئون دينهم. لقد والله رأيت الناس يضربون أكباد الإبل من أقاصي الأرض يسألونه في أمر من أمور دينهم، فإذا هو يتدفق كالجدول العذب، وإذا القوم يعودون، ارتاحت نفوسهم إلى فتياه هادئة قلوبهم إلى علمه.

أسامة :

مبارك والله حجنا هذا العام يا أخي.

آخر :

أرى عبد الله يأمرنا بالوقوف.

أسامة :

فهلم إليه نسرع الخطى عساه يريد أمرا. (فترة صمت.)

أسامة :

أوقفنا لشيء يا عبد الله؟

عبد الله :

بل رأيت الليل يهم بقدوم، وأخشى أن يدركنا في مكان وعر، وأرى هنا سهلا ينبسط فكأنما هو أهلا يقولها كريم.

أسامة :

إننا في طريقنا إلى بيت الله يا عبد الله، وما أحسب الوعر إلا منبسطا لنا.

عبد الله :

إنني والله أحب الحديث الفرحان. هكذا والله يكون المقبل على بيت الله.

أسامة :

أنتابع سيرنا إذن؟

عبد الله :

لكم أحب يا أخا العرب أن نصل ليل طريقنا بنهاره سراعا إلى بيت رفعه الله، لتهدى إليه قلوبنا، ولكنني أحمل عبء من معي.

أسامة :

أنت على الحق دائما، يا ابن العباس. إنما ولاك القوم عليهم، فأنت ترى لهم الخير، وتثق به.

عبد الله :

هو ما قلت يا أخي. والآن أريدك أن تصحب بعض الرفاق، وتبحث لنا عن مأكل في هذا المكان، أو مشرب.

أسامة :

هلم يا رفاق، هلم يا زيد، هلم يا جابر، هلم يا ... (موسيقى قصيرة.)

أسامة :

بحثنا حوالينا فما وجدنا مأكلا، وإن كنا وجدنا عينا جارية.

عبد الله :

أتجدون عين الماء ولا تجدون حولها مأكلا؟!

أسامة :

إنما هي ساعة غروب روح فيها رعيان ونام سامرون.

عبد الله :

فهلا ذهبتم إلى هذا المرعى القريب، لعلكم تجدون به راعيا أو خيمة.

أسامة :

نفعل يا سيدي. (موسيقى قصيرة.)

أسامة :

ها قد بدت لنا خيمة.

آخر :

وإن بها لنورا.

آخر :

يا صاحب الخيمة.

صوت (سيدة عجوز) :

لبيك يا من ناديت.

أسامة :

السلام عليك يا أم.

السيدة :

وعليك السلام يا بني، ورحمة الله.

أسامة :

أعندك طعام نشتريه؟

السيدة :

أما للبيع فلا، لكن عندي ما يكفيني أنا وأبنائي.

أسامة :

وأين بنوك؟

السيدة :

يرعون قطيعهم، وها قد حان موعد أوبتهم.

أسامة :

وما أعددت لهم؟

السيدة :

خبزا.

أسامة :

أوليس عندك شيء آخر؟

السيدة :

لا.

أسامة :

فنحن ضيف نزلنا على العين، فإن جدت لنا ببعض الخبز حمدنا وإن كنا نكلفك من أمرك عنتا.

السيدة :

أما أنا أجود ببعض فلا، وأما الكل فخذوه. هاكم الخبز جميعه.

أسامة :

تمنعين البعض وتجودين بالكل؟!

السيدة :

أنا أمنع ما ينال من كرامتي وأمنح ما يرفعني. (موسيقى.)

صوت :

السلام عليك يا أماه.

الأم :

مرحبا بالأبناء، أين تركتم القطيع؟

الصوت :

قريبا ها هنا. نحن جياع يا أماه، فهلم خبزك هلم.

الأم :

لا خبز عندي لكم.

الصوت :

أغاضبة علينا؟

الأم :

بل إني أكرمتكم غاية الإكرام.

الصوت :

فأنت إذن قد صنعت لنا خبيصا من اللبن والتمر؟

الأم :

عجبت لك! ألا تفكر في غير المأكل؟

الصوت :

جوعان يا أمي والله جوعان، وأخواي جوعانان، ألسنا كذلك؟ (موسيقى.)

صوتين :

جياع، جياع.

الأم :

كلوا الرمال إذن، فليس عندي خبز.

الصوت :

هو الخبيص إذن.

الأم :

يا لك من شاعر!

الصوت :

أقلت شاعر؟

الأم :

شاعر، لا شك، فإن خيالا ذلك الذي يهيئه لك جوعك، أتأكل أنت الخبيص وأنت في عرض الصحراء لا تملك موقدا، بل إنك لتعلم أنني أصنع لك العيش على الرمال الملتهبة.

الصوت :

فماذا صنعت لنا إذن؟ (موسيقى.)

أسامة :

هكذا والله يا ابن العباس. لقد أبت المرأة إلا أن تهب لنا كل ما صنعته من خبز بنيها. أعطته لنا جميعه، ثم هي لم تسأل من أنتم، فما عرفت عنا إلا أننا قوم طلبنا فأعطت.

عبد الله :

ولقد أعطت الكثير. إنه قوتها وقوت أبنائها.

أسامة :

ألا نزورها يا عبد الله؟

عبد الله :

لكم أتوق إلى هذا، ولكني أخشى أن أزورها، فلا تجد عندها ما تكرم به ضيفها، فيصيب خجل لا أحب أن يصيبها ولكن ...

أسامة (مقاطعا) :

ندعوها إليك.

عبد الله :

هكذا والله أحب أن تفعلوا ... قولوا لها. (موسيقى.)

الأم :

بهذا أيها الأولاد أكرمتكم. لم يكن الخبيص صنعته لكم، وإنما صنعت لكم أكرومة ترضي منكم نفوسا، وإن أغضبت فيكم بطونا.

الابن :

لقد والله أرضيت يا أماه. هكذا نحن العرب نجود، فنجود بأنفسنا، وليس بخيلا من يجود بنفسه.

الأم :

هكذا أحب أن أسمعك يا بني.

الابن :

لعلك لم تسألي القوم من هم ومن أين وإلى أين.

الأم :

ما كنت لأفعل هذا يا بني.

الابن :

وما الضير يا أماه؟

الأم :

لعلهم كرام مشاهير في العرب، فيظنون أنني إنما أجيب ما يطلبون طمعا في خير منهم أو تقربا لأسمائهم.

الابن :

فإن كانوا فقراء مهازيل؟

الأم :

فقد وجبت الصدقة إذن.

صوت (أسامة يأتي من الخارج) :

يا صاحبة المعروف.

الأم :

إياي تقصد يا صاحب الصوت؟

أسامة :

السلام عليك ورحمة الله.

الأم :

مرحبا بالضيف. هؤلاء أولادي وقد عادوا من المرعى.

أسامة :

أهلا بأولاد الكريمة. ما أرى إلا أننا حرمناكم طعامكم منذ الليلة.

الابن :

هنيئا لكم أيها الضيوف.

أسامة :

قدمنا ورجاؤنا أن تجيبوا لنا رجاء.

الأم :

إن كان في الطوق.

أسامة :

إننا قوم من المدينة خرجنا نريد الحج، وعلى رأسنا علم من أعلام الإسلام، قصصت عليه ما كان من برك بنا، فأراد أن يراك ويرى أولادك.

الأم :

ومن صاحبكم؟

أسامة :

عبد الله بن العباس.

الأم :

وربك هذا الشرف الأعلى، هلم بنا. (موسيقى.)

عبد الله :

مرحبا بالكرام.

الأم :

مرحى بك، ابن العباس.

عبد الله :

ممن أنت يا خالة؟

الأم :

من بني كلب.

عبد الله :

وكيف حالك؟

الأم :

آكل الخبز، وقد صنعته على الحجر بغير موقد، ثم أنا لا أكثر، وأشرب الماء من عين صافية فإذا نفسي في الصفاء كالماء، وإذا بي أنام والهموم لا تعرف إلي سبيلا.

عبد الله :

الحمد لله. أعرفت فيما طلبت أن أراك؟

الأم :

لا والله. إنما قيل لي عبد الله بن العباس، فحثثت إليك الخطى، ويسبقني الشوق إلى رؤية ابن عم رسول الله، وأعلم العرب، وأفقه الناس بالدين الحق.

عبد الله :

إنما أردت أن أكرم إكرامك وأكافئك عليه.

الأم :

والله لو كان ما فعلته معروفا فما كنت لآخذ عنه بدلا، فكيف وهو شيء يجب أن يشارك الناس بعضهم بعضا فيه.

عبد الله :

وماذا فعلت لبنيك حين عادوا جياعا؟

الأم :

يا ابن العباس. لقد عظمت عندك خبزتي حتى أكثرت فيها الكلام. أشغل فكرك عن هذا فإنه يفسد المروءة.

عبد الله :

وأنتم أيها البنون.

الابن :

لبيك.

عبد الله :

أحب أن أساعدك بالمال.

الابن :

نحن نعيش على الكفاف، فوجه مالك إلى من لا عيش له.

الأم :

بوركت يا فتى.

عبد الله :

بوركتم جميعا.

المذيع :

وأبى الابن، وعزفت المرأة أن يصيبها خير لقاء واجب يؤدونه، خلق عربي أشم يعلو فيصعد إلى السماء، وهناك يلقى المكافأة والجزاء. قوم يبتكرون المكرمات وأعينهم لا ترنو لغير الله، فما لنا لا ننظر لغير الأرض، وما لنا نبتغي النفع العاجل على غير عمل نقدمه، وما لنا نبخل حتى لنكاد نخنق أنفسنا بأيدينا! لو أننا نظرنا التاريخ. (موسيقى.)

ستار الخير

الزوجة :

لقد أبعدت في الغيبة يا مولاي، ولم ترسل إلينا من لدنك رسولا، فأهلا بك في منزلك، وطاب يوم عدت فيه.

الأمير (حزينا) :

ها قد عدت يا سامية، فقد شغلتني عنك الحرب.

الزوجة :

يا مولاي، إنها الحرب، فإن تكن اليوم قد أدبرت فإنها في غد مقبلة، وما أقرب الغد من اليوم! وإنك لفارسها وفتاها، وإنك لسيفها و...!

الأمير (مقاطعا) :

ماذا بك يا سامية؟ أتظنين بي الهزيمة؟

الزوجة :

فماذا تريدني أن أظن بهذا الوجه المقطب وذلك الجبين المغضن، وهاتين العينين الكابيتين؟

الأمير :

لم تكن هزيمة ما أحاقت بنا.

الزوجة :

فهي الخيانة إذن أدت بكم إلى الهزيمة.

الأمير :

بربك يا سامية. لقد انتصرنا.

الزوجة :

ماذا تقول؟

الأمير :

لقد انتصرنا نصرا حاسما.

الزوجة :

انتصرتم! فمالك إذن، وقد اربد وجهك، وعلا الحزن نفسك، بل ما لك تلقي إلي بخبر النصر وكأنما كنت ترجو الهزيمة! سعيد، أخاف، ولكن لا، لست أنت من يفعلها.

الأمير :

ماذا تخافين؟

الزوجة :

أخاف أن يكون النصر ثمنا لكرامة مهدرة أو خديعة شائنة، ويحك!

الأمير :

ويحك يا سامية، لقد أبعدت بك الظنون. انظري بربك أي رجل ذاك الذي تلقين إليه الحديث.

الزوجة :

رجل هو الرجولة. إنه الأمير سعيد.

الأمير :

فما لك تسيئين الظن؟

الزوجة :

وماذا تريدني أن أظن، وأنت على حالك هذا من الحزن والألم؟

الأمير :

لقد فجعت والله وأنا أتلقى أنباء النصر.

الزوجة :

فداك نفسي، أيها الزوج، بماذا فجعت؟

الأمير :

انهزم الأعداء، وولوا الأدبار، وتلفت يا سامية أبحث عن صديقي تمام القضاعي فقيل لي إنه مات.

الزوجة :

إن الذاهب إلى الحرب - أيها الأمير - إنما يضعها حياة على سن سيف، فإما نصرة وحياة، وإما ميتة في سبيل النصر.

الأمير :

فوربك ما حزنت لموته، وإنما هو ذو عائلة، وأولاده صغار، وقد كان رجلا عفيفا لم يترك لزوجه ما يقيم أود الحياة.

الزوجة :

هون عليك أيها الأمير. ألا فلتقم أنت أود الحياة لعائلته؟

الأمير :

وددت والله لو كان ذاك، ولكنني لم أستطع.

الزوجة :

كيف؟

الأمير :

لم أطق أن أعود إليك قبل أن أذهب إلى دار صديقي، فذهبت.

الراوية :

وكان الأمير قد ذهب فعلا إلى دار صديقه الشهيد، وطرق الباب، فعاجلت إليه الزوجة التي أصبحت أرملة.

صوت سيدة :

مرحبا تمام. على الطائر الميمون عدت إلى زو... (تفتح الباب)

من؟ مولاي، أين تمام؟

الأمير :

على رسلك يا عفراء، إنه ...

عفراء :

إلى جنة الخلد يا تمام.

الأمير :

هوني عليك يا عفراء.

عفراء :

إن كان إلى تهوين من سبيل يا مولاي فهو ثقتي أنه لاقى ربه راضيا مرضيا، بذل حياته في سبيل ربه، فله أجر الشهداء والصديقين.

الأمير :

ألا من دمعة تريح بعض ما بك؟

عفراء :

لكم أتوق إلى تلك الدمعة يا مولاي، ولكن هيهات، فإني لأخشى إن أنا ذرفتها أن تغضب تماما وما عودت أن أغضبه.

الأمير :

فالله لنا في فقده يا أخت.

عفراء :

إنه لنا دائما يا مولاي. لن يرضى الله إلا الخير لقوم اختار عمادهم إلى جواره، واصطفاه إلى سمائه وارتضاه في جنات نعيمه مجاهدا في سبيله في الدنيا طامحا إلى رضاه في الآخرة.

الأمير :

نعمت الزوجة أنت يا عفراء، ونعمت المرأة.

عفراء :

ما أنا يا مولاي إلا قبسة من تمام، وقد كان والله رجلا عميق الإيمان، صادق المروءة، كريم الطريق، نبيل المقصد.

الأمير :

أجل والله، لقد كان كذلك. عفراء، لقد استودعني تمام أمانة، وقد حان موعد ردها.

عفراء :

أية أمانة يا مولاي؟

الأمير :

قد كان يملك قطعة صغيرة من أرض باعها، ثم هو قد طلب إلي أن أبقي ثمنها عندي حتى يشتري قطعة أخرى لكم.

عفراء :

الله جارك يا مولاي. أتخادعني عن نفسي؟ فلا وربك لم يكن لتمام قطعة من بستان صغيرة أو كبيرة، ولا وربك لم يبع تمام شيئا، ولا وربك ما كنت لأقبل ثمن زوجي، فإنك لا تطيق وإن كنت الأمير أن تؤدي الثمن.

الأمير :

بربك يا عفراء ألا أتحت لي هذا الخير، فإني لأدري أن تماما لا يملك شيئا، وإني لأخشى عليكم عاديات الزمان، فما ضر لو استعنتم على الزمن بي.

عفراء :

إننا نحن المدينون يا مولاي، لقد أتحت لرجلنا أن يلاقي ربه مستشهدا، وهيهات هيهات أن نقبل ثمن الخير الذي أصاب صاحبنا. لقد استشهد في سبيل الله، ولن أفسد استشهاده بمال أقبله منك.

الأمير :

ولكن للزمن غدرة ولا يقيل منها إلا المال.

عفراء :

إن للزمن غدرة ولا يقيل منها إلا الله، وإنه معنا.

الأمير :

بربك يا عفراء ألا قبلت؟

عفراء :

بربك يا مولاي ألا أقلت؟

الأمير :

لقد حملتني من أمري عبئا.

عفراء :

حتى لا أحمل من أمري عنتا.

الأمير :

فوداعا يا عفراء.

عفراء :

وداعا يا مولاي.

الراوي :

وسمعت زوج الأمير حديث زوجها، فهي تقول له:

الزوجة :

لقد والله باركت روح زوجها، فكأنما استشهد مرتين:

الأمير :

لقد استشهد في كل مرة عف فيها عن المال، وفي كل مرة رفضت فيها الزوجة أن تقبل.

الزوجة :

إلى رحمة الله يا تمام، وأصبرك الله يا عفراء.

الأمير :

وهكذا يا سامية لست أدري ما أنا فاعل.

الزوجة :

خبرني يا مولاي. ألم تقل إن له أولادا؟

الأمير :

بلى، إنه ذو عيال.

الزوجة :

أليس له بنيات؟

الأمير :

بلى، إن له لبنية.

الزوجة :

فكم تبلغ من العمر؟

الأمير :

أظنها في الخامسة عشرة.

الزوجة :

لقد وجدت الطريق يا مولاي.

الأمير :

فقولي بربك.

الزوجة :

انتظر بعض الحين، ثم اذهب إلى عفراء مرة أخرى. (موسيقى.)

الراوية :

وألقت الزوجة إلى زوجها برأي وجد فيه خيرا، فهو يذهب إلى عفراء يقول به.

الأمير :

عفراء.

عفراء :

مولاي.

الأمير :

قدمت في أمر وددت لو أجبتني فيه.

عفراء :

إن كان في الطوق يا مولاي.

الأمير :

هو رجاء.

عفراء :

بل أمر مولاي، إن استطعت.

الأمير :

إنني أخطب إليك ابنتك؟

عفراء :

ابنتي؟

الأمير :

أجل، ابنتك سعاد.

عفراء :

ولمن الخطبة يا مولاي؟

الأمير :

لابن أخي الأمير شهاب.

عفراء :

أما هذا فنعم يا مولاي، أما هذا الرجاء يا مولاي فإني أجيبه على شرط.

الأمير :

وما هو؟

عفراء :

أن يكون الأمير شهاب قد طلب هذا الزواج لأنه يريد ابنتي، لا لأنك أرغمته عليه.

الأمير :

وأقسم ما أرغمته.

عفراء :

وإني قبلته يا مولاي.

الأمير :

لقد قبلت يا سامية.

سامية :

وهكذا يا مولاي أتاح الله لك أن تمد يد العون إلى عائلة صديقك من غير أن تظهر هذه اليد، فهي ملفوفة في غشاء كريم من الكتمان. ستعطي المال لابن أخيك وابن أخيك يقوم بشأن الأسرة في ستار الخير. (موسيقى.)

الراوية :

كم هي رائعة تلك المثل التي يضربها الأولون! فإنهم ليجزعون اليوم عن الجهاد إلى الهدوء، وإنهم ليجزعون من الموت إلى الحياة، وإنهم ليجدون إكرام الميت في النواح الكاذب حتى إذا استعصت الدمعة وأراد الجرح أن يندمل استأجروا أو استأجرن النائحات، لتمزقن الجراح وليهتكن على الميت حرمته، وإنهم ليجحدون الصداقة وينكرون الود، وإنهم ليمنعون الخير، فإن بذلوه استردوه بالمن الكاذب وبالتظاهر المتكبر. لو أنهم ألقوا ناظرهم إلى أمجاد آبائهم، لهدأت نفس لهم تثور إلى الشر، ولأقامت أخلاقهم على الطريق القويم. نظرة إلى الماضي.

अज्ञात पृष्ठ