فإذا كان الفصل الثاني، فالتجربة فيما يظهر ناجحة نجاحا حسنا - كما يقولون - والعاشقان يمضيان فيها يريدان أن ينتهيا بها إلى غايتها. كانا يلتقيان في المساء من كل يوم فيخيل إليهما كلما التقيا أنهما يلتقيان لأول مرة، وكانا يضيقان بهذه الخيانة التي يمعنان فيها لصاحبيهما البريئين فيزمعان أن يكون لقاؤهما لآخر مرة، فإذا هما أن يفترقا ضربا موعد اللقاء للغد، وقد استيقنا بنجاح التجربة. ولكنهما يريدان أن يخطوا بها خطوة أخرى، فلا بد لهما من أن يقضيا معا ليلة كاملة، ومن أن يفرق بينهما النوم، ثم تجمعهما اليقظة. فإن ظهر بعد ذلك أنهما عاشقان، وأن أحدا منهما لم يشق بصاحبه، ولم يكره من عشرته في اليقظة والنوم شيئا، أقدم على الحب الصحيح والعشرة المتصلة الصريحة. وهما من أجل ذلك قد تواعدا على أن يلتقيا في مدينة غير باريس هي مدينة أورليان. فأما الفتى فقد زعم لصاحبته مادلين أن عملا يدعوه إلى هذه المدينة، وأنه سيغيب عن باريس أربعا وعشرين ساعة. وأما الفتاة، فقد زعمت لصاحبها بيير أنها تريد أن تزور جدتها في مدينة ليست بعيدة عن أورليان، وأنها ستغيب عن باريس أربعا وعشرين ساعة أيضا. وسافر الفتى في سيارته وسافرت الفتاة في القطار، واتفقا على أن يلتقيا في فندق عيناه في مدينة أورليان. على أن الفتى قد قدم بين يديه صديقه جاستون ليعينه على انتظار صاحبته، وليغنيه عن التكاليف المادية ليفرغ هو لعشقه وهواه. ولم يرد جاستون أن يكون وحيدا في هذه الرحلة، فاتفق مع امرأة يعرفها على أن تلحق به في الفندق، وقدر أنه لن يكون وحيدا بينما ينعم صاحباه بحبهما هذا الغريب.
ونحن في أول الفصل الثاني نرى جاستون قد سبق إلى الفندق، فاحتجز غرفتين؛ إحداهما لصاحبه والأخرى له ولصاحبته. وهو يتحدث بكل هذا الذي قدمته إلى خادمة الفندق في غير تحفظ ولا احتياط؛ لأنه لا يستطيع أن يخفي شيئا. وهذا صاحبه قد أقبل وهما جميعا ينتظران، كل ينتظر صاحبته، ولكن القطار يقبل فتأتي كوليت وقد استخفى جاستون؛ ذهب يلتمس صاحبته. وخلا العاشقان، فحدث ما شئت عما يجدان من سعادة وغبطة. هذه الخادم تحمل إليهما طعامهما، فلا يكادان يصيبان منه شيئا، إنما يشربان ويمضيان في حديث الحب ... ولكن الباب يطرق ويدخل جاستون محزونا ينبئ بأنه انتظر قطارا وقطارا، فلم تأت صاحبته. وقد رأت كوليت هذا الرجل فضاقت به، وأفاقت من نشوة الحب والخمر، وعرفت أن حبها ليس سرا، وأن صديقها قد أشرك ثالثا في هذا السر، فأحفظها ذلك، وهمت أن تنصرف لولا أن الليل قد تقدم. ولكنها على كل حال، قد يئست من حبها، وأعرضت عن صاحبها، وذرفت على آمالها بعض الدموع. والفتى خزيان يحاول الاعتذار، فلا يبلغ شيئا، وقد فتر حبهما وضاق كل منهما بصاحبه، وأخذا يلتمسان أسباب التسلية، فهو يعرض عليها الخروج للنزهة، ولكن الليل قد تقدم، وهما قد شربا وأسرفا، فخير ما يستطيعان أن يصنعا هو النوم.
وقد ذهب كل منهما ليصلح من شأنه قبل النوم، ولكن رجلا يدخل الغرفة متنكرا في زي خادم من الخدم ويأخذ في البحث. وإنه لكذلك وإذا جاستون يعود فيفاجئه ويفضح أمره؛ فهو هذا الرجل الذي رأيناه في الفصل الأول يتتبع أسرار الناس ويراقبهم، وقد فهمنا أن صاحبة الفتى وصاحب الفتاة قد شكا في الأمر، وفزعا إلى هذا الرجل، كل على انفراد وطلبا إليه أن يتتبع هذين العاشقين ويبلو أخبارهما. وقد عاد العاشقان، ورأيا هذا الرجل وأنذراه بالشرطة، ثم اتفقا معه على أن ينظم أمرهما وأمره إذا كان الغد. وأقبلا على سريرهما فاستقبلا فيه النوم.
ثم يرفع الستار بعد لحظة قصيرة، ولكنها تصور الليل كله، وشطرا من النهار، وإذا الخادم تطرق الباب تريد أن تحمل إليهما طعام الإفطار، فيستيقظان دهشين أشد الدهش، فهما سعيدان، قد أسرا سعادتهما إلى الليل، واستقبلا النهار المشرق بآثار هذه السعادة، وهما مبتهجان قد استيقنا نجاح التجربة ولم يبق لهما بد من الإذعان لحكم هذا الحب، فسيعيشان معا عيشة لا تحفظ فيها ولا تستر. وهذا رقيبهما قد أقبل، فلم يكد يراهما حتى استيقن أنه يرى عاشقين، وإذا هو يساومهما في إخفاء السر، ويملي شروطه، فيدفعان إليه ما طلب من مال. على أنه لا يكاد ينصرف حتى يلقي نظرة على هذين العاشقين السعيدين يمتلئ لها قلبه حنانا، فيرد إليهما نصف ما أخذ وينصرف مسرعا.
فإذا رفع الستار عن الفصل الثالث، فنحن في باريس عند مادلين في مساء اليوم نفسه، ونحن نراها ظاهرة القلق بينة الاضطراب، تنظر إلى الساعة وتسأل في التليفون، تتعجل مقدم الفتى وتنتظر مقدم الرقيب. ثم تحمل إليها رسالة برقية تنبئها بمقدم الفتى للعشاء. وإنها لفي هذا الاضطراب، وإذا شريكها في الحزن والخوف، بيير، قد أقبل فتلقاه باسمة ويحاول كل منهما أن يخفي على صاحبه قلقه، ولكن هذا القلق أقوى من أن يخفى، فيفضي كل منهما بخوفه إلى صاحبه ويظهر كل منهما الرسالة البرقية التي تلقاها. وهذا الرقيب قد أقبل فأنبأهما بأنه راقب الفتى وأن أحد أعوانه راقب الفتاة وبأنهما لم يلتقيا، وإنما ذهب كل منهما إلى الوجهة التي أنبأ بأنه ذاهب إليها، وينبئهما بالرسالتين البرقيتين وقد حفظا نصهما، ثم يأخذ أجره وينصرف وهما سعيدان قد عادت إليهما الثقة ورجع إليهما الاطمئنان. وهما يلومان أنفسهما على الشك ويعيبان أنفسهما بهذه الريبة العجلة. ولكن طارقا يطرق ثم يدخل، وهو جاستون، ولا يكاد يتحدث إليهما حتى يزعم لهما أن الجو كان صحوا صباح اليوم، فيدهشان لأن المطر لم يقلع عن باريس طول النهار، فإذا ألحا عليه في السؤال اضطرب ثم افتضح سره فأنبأ بكل شيء، وانصرف خزيان، وقد أفسد صدقه ما كان قد أصلحه كذب الرقيب. وهنا أروع أجزاء القصة؛ حوار من أرقى ما كتب الفرنسيون في هذه الأعوام الأخيرة. هذه المرأة ثائرة يائسة محنقة على هذه الفتاة التي اختلست منها أملها وحياتها اختلاسا، وهذا الرجل محزون يكاد يقتله الكمد، ولكنه مع ذلك يتجلد ويحكم عقله، ويهدئ صاحبته ويثبت لها أن من الإثم أن تطغى الكهولة على الشباب، وأن من حق هذين الفتيين أن يتحابا؛ فقد خلقا كل منهما لصاحبه، وانتظر كل منهما صاحبه، ثم التقيا كأنما كانا على ميعاد. ثم هو يتعمق نفسه ويبحث عن أسرار قلبه وينظر إلى الماضي البعيد، فيحيي ذكريات كانت بينه وبين مادلين، كان فيها شيء من حنان أوشك أن يكون حبا. وإذن فما يمنعهما أن يستعينا بهذه الذكريات الحلوة على هذه الأحداث المرة، وأن يستقبلا الخطب متعاونين، وأن يبتسما للحياة الشاحبة ابتساما شاحبا، يلائم سنهما ويلائم محنتهما! وهذا التليفون يدعو فلا تشك مادلين في أن الفتى ينبئها بمقدمه، وهي ثائرة، ولكن صاحبها يهدئها وينصح لها تكلف الجهل لكل شيء، وهي تجيب صاحبها في التليفون وتتكلف الجهل في مشقة وجهد، ولا تكاد تفرغ حتى يدعو التليفون مرة أخرى، وإذا كوليت تسأل عن صاحبها، وإذا الرجل يريد أن يتكلف الجهل والصبر، فلا يوفق إلى ذلك إلا في مشقة وعنف. كان قادرا على إسداء النصح لغيره، فلما عرضت له المحنة كان حبه أكبر من عقله وأقوى. وهذه مادلين تبكي، وهو مع ذلك يمضي في تعزيتها وتسليتها، ويحاول أن يفتح لها ولنفسه أبوابا من الأمل في حياة يشتركان فيها اشتراكا. وهذا طارق يطرق فلا يشكان في أنه الفتى، فيأخذ بيير صديقته بأن تلقاه كما تعودت أن تلقاه دائما باسمة مبتهجة كأنها لم تعلم شيئا. وهي تتكلف ذلك فتحسن تكلفه وتنهض للقاء صاحبها مغتبطة راضية، فتحييه تحية العاشقة التي يملأ قلبها الحنان، بينما يسدل الستار على ما في هذه القلوب كلها من أهواء مختلفة وعواطف متباينة وغرائز وميول يشتد بينها الجهاد والصراع.
لم نبق بعد أطفالا
أما اليوم فسندع الطب والأطباء، والصحة والأصحاء، والمرض والمرضى، وسننصرف إلى حديث آخر لا يمس طائفة بعينها من الناس، وإنما يمس الناس جميعا، وهو من هذه الناحية يرتفع بموضوعه إلى درجة الأحاديث الفنية العليا التي يجد فيها كل إنسان صورة لنفسه، وينظر إليها كل إنسان كما ينظر إلى المرآة الصافية الصادقة، فيرى فيها بعض ما يحس ويشعر مهما تختلف عليه الظروف والبيئات والعصور. ثم هو في الوقت نفسه حديث عن ناحية من هذه النواحي التي لا يستطيع الإنسان مهما يكن أن يلهو عنها أو يعرض عن التفكير فيها؛ لأنها تمس نواحي الحياة بما يبتسم له من أمل وما يظلم أمامه من يأس وما يحبب إليه الحياة ويزهده فيها، وما يجعل دهره سرورا وبهجة كله أو حزنا وشقاء كله.
هي ناحية الشباب والشيخوخة، أو قل هي ناحية الأمل الذي نود لو أنه يبقى مبتسما دائما والبأس الذي نود أن تلقى بيننا وبينه الحجب والأستار. أو قل هي ناحية السعادة التي نود لو تدوم والشقاء الذي نود لو لم توصل بيننا وبينه الأسباب، أو قل في شيء من الإجمال المحزن الموئس هي ناحية الحياة كما نحبها وكما نكرهها. فالكاتب لم يرد أن يصور إلا كلفنا بالشباب وحرصنا عليه ورغبتنا الملحة في استبقائه ما وجدنا إلى ذلك سبيلا، وتهالكنا الشديد على استرجاعه ما أتاح لنا الغرور والوهم والأمل في ذلك، أو تصور القدرة عليه. وقد استطاع الكاتب أن يصور هذه الناحية من نواحي حياتنا تصويرا رائعا مؤثرا ضمن له إجماع النقاد والنظارة معا على إكباره والثناء عليه. وذهب بعض هؤلاء النقاد، وهو أستاذ من أساتذة الأدب في السوربون، إلى أن يتنبأ لهذه القصة بالبقاء الطويل، ويؤكد أنه لن ينقضي غير خمسة عشر عاما حتى تصبح من التراث الخالد لبيت موليير.
ومصدر هذا الجمال الذي انعقد إجماع النقاد وجمهور النظارة والقراء عليه، هو أن الكاتب لم يغل ولم يسرف ولم يتوخ إغرابا ولم يقصد إلى شذوذ ولم يحاول ابتكارا، فوفق إلى أحسن الابتكار وأقومه وأغناه. وفق إلى هذا الابتكار الذي لا يفاجئك ولا يصدمك ولا يأخذ عليك الطريق من أول لحظة، وإنما يخدعك عن نفسه وعن نفسك، فإذا أنت تشهد القصة أو تقرؤها فلا تحس دهشا ولا غرابة، وإنما تحس أنك تشهد أو ترى شيئا مألوفا، لا تكلف فيه ولا تصنع ولا محاولة لاتخاذ هذه الهيئة الخاصة التي يتخذها الكاتب حين يريد أن يكتب شيئا جديدا، فهو يستعد لكتابته ويعدك لقراءته وكأنه يقول لك: تأهب وخذ حذرك؛ فستقرأ شيئا لا عهد لك به. كلا، أنت تشهد القصة أو تقرؤها دون أن تحس شيئا من هذا، إنما تحس أنك تشهد أو تقرأ شيئا شائعا كأنك تشهده وتقرؤه كل يوم. ولكنك مع ذلك لا تكاد تشهده أو تقرؤه، حتى تحس أنك متصل به وأنه متصل بك، وأنك لا تريد أن تفرغ منه أو أن تنصرف عنه. ومن يدري، لعلك إنما تتصل به لأنك ترى فيه نفسك وما يختلف عليك من حس وشعور وما يثور فيها من عاطفة وميل. ترى نفسك وترى غيرك أيضا من هذه الناحية التي تجعل بينك وبين الناس شبها، والتي تعطفك على الناس وتعطف الناس عليك.
ثم لا تكاد تمضي في شهود القصة أو قراءتها حتى يأخذك سحر غريب فيه شيء من الخفاء، ولكنه على ذلك شديد الأثر في نفسك والاستهواء لقلبك، وهو يأتي من جمال العبارة وحسن الأسلوب ورشاقة الحوار. فأنت تمضي في النظر إلى القصة أو النظر فيها، وقد فتنك موضوعها المألوف الجديد، وسحرك تعبيرها اليسير الطريف. وما تزال بين تلك الفتنة وهذا السحر منتقلا من منظر إلى منظر ومن فصل إلى فصل حتى تنتهي إلى آخرها، وإذا أنت تنتهي إلى هذا اليأس المريح الذي تضطرك الحياة إلى أن تطمئن إليه اطمئنانا؛ لأنك لا تستطيع غير هذا مهما تبذل من جهد ومهما تتكلف من حيلة، وإذا أنت تنتهي إلى هذا اليأس محزونا شديد الألم إن كنت من أصحاب الشعور العنيف والمزاج الحاد، راضيا مذعنا إن كنت من عامة الناس الذين لا يطيلون التفكير في أمس، ولا يمعنون النظر في غد. وقد تنتهي إلى هذا اليأس دون أن تحسه أو تشعر به إلا أن تنبه إليه تنبيها؛ لأنك قد ألفت الحياة واطمأننت إلى ما تعودت منها، وعرفت أنك مهما تفعل فلن تستطيع لها تغييرا ولا تبديلا.
अज्ञात पृष्ठ