ومن أجل هذا كله أصبح الشباب الذين ظهروا في الأدب بعد الحرب أصحاب لذة وتهالك على المنفعة واستخفاف بالخلق، يقبلون على ذلك في سيرتهم العملية ويصورون ذلك في آثارهم الأدبية. وكان الجيل الذي سبقهم يكره ذلك منهم ويضيق به، ويقاومهم رفيقا بهم حينا وعنيفا عليهم حينا آخر. وما زال هذا النزاع متصلا بين شيوخ الجيل القديم وشباب الجيل الحديث، حتى فعلت الأيام فعلها وأحدثت الحياة آثارها وثاب إلى الشباب بعد أن تقدمت بهم السن قليلا شيء من رشد، وفضل من صواب. فأما الذين كانوا يتخذون الخروج على التقاليد وازدراء المألوف مذهبا وطريقا إلى الظهور، دون أن تكون لهم من وراء ذلك قيمة صحيحة؛ فقد خمدت نارهم، وذهبت ريحهم، وغمرتهم الحياة. وأما الذين كانوا يذهبون في ذلك مذهب المجاراة ولهم من ورائه قوة فنية تقدر على المقاومة وتثبت للتطور؛ فقد ردوا شيئا فشيئا إلى القصد والاعتدال، وانجلت عنهم الغمرة، وقد استقرت قلوبهم في صدورهم، وهدأت عواطفهم الثائرة، واتخذت نفوسهم الجامحة سبيلا قصدا إلى الإنتاج الأدبي القيم. وكان كاتبنا من هؤلاء، فقد قدم قصته الأولى إلى الملعب ولما يتجاوز العشرين، وكان أشخاص قصته الأولى كلهم غلمانا مثله، وكان يشهد تمثيل هذه القصة ويرى إعجاب الناس بها، ورضاهم عنها، وهو هادئ مطمئن لا يزدهيه الفوز ولا يبطره النجاح، ولا يخرجه عن طوره إسراع أمه إليه تقبله فيما بين الفصول، بأعين النظارة الذين كانوا يرون ذلك فيشتد إعجابهم به وتصفيقهم له.
ومضى هذا الشاب أو هذا الغلام الحدث في إنتاجه الأدبي الجريء، يخرج القصة والقصتين في كل عام، ويظفر بالفوز المتصل، وعقله في أثناء ذلك ينمو، وقلبه في أثناء ذلك يعتدل، حتى انتهى سنة 1928 إلى هذه القصة التي أتخذها اليوم موضوعا لهذا الحديث، ولم يكن حين قدمها للملعب قد جاوز الثامنة والعشرين، وإذا النقاد يلاحظون تطوره واستقرار قلبه وهدوء نفسه، وتغلب عقله على عواطفه، وتسلط عقله على فنه أيضا، فيسمونه الشاب الحكيم. وأحب أن تلاحظ أن هذه القصة قد استبقت بعض ما ألف هؤلاء الشباب من التقاليد الفنية، ولكنها مع ذلك قد خطت نحو الروية والاعتدال خطوات بعيدة، فهي صراع على الحب بين الشباب المحدثين والكهول الذين تقدمت بهم السن، وهي من هذه الناحية حرة طلقة لا تكاد تتقيد بعادة أو تقليد. وحسبك أنها تنشأ في حانة من الحانات بين الرقص والعزف والتهالك على الشراب. وحسبك أن أشخاصها جميعا عشاق أصحاب لذة ولهو غير مباح، فكلهم خليل أو خليلة. ولا تكاد ترى فيهم زوجا، بل نحن نسمع أثناء القصة حديث امرأة متزوجة، تهم باللهو والخيانة، ولكنها في آخر الأمر تحجم عنهما إحجاما، تخاف العاقبة، فتأبى أن تتجاوز حدود القانون.
ولكن القصة من ناحية أخرى تنتهي إلى شيء من تحكيم العقل والإذعان لما ليس منه بد، والتسليم بأن الفتيات للفتيان، والشيخات للشيوخ، وبأن من الخطأ أن يعدو الشيوخ على الشباب فيستأثروا بحبهم دون الذين يلائمونهم في السن ويقاربونهم في النشاط وتصور الأشياء، والحكم عليها. وأخرى لا بد من أن نلاحظها، وهي مهارة الكاتب في هذه القصة، هذه المهارة التي مكنته من أن ينشئ القصة متحدة متسقة متناسبة الأجزاء، ولكن كل فصل من فصولها يستطيع مع ذلك أن يستقل ويكون قصة قائمة بنفسها يمكن الوقوف عندها، والاكتفاء بها.
ولست أطيل في ذكر ما تمتاز به هذه القصة أيضا من جمال الحوار ورشاقته، وتكونه من جمل، قصار سراع يلي بعضها بعضا، في خفة كأنها الطير تستبق في جو جميل.
ونحن نشهد في أول القصة حانة من الحانات، ذات شقين، يفصل بينهما ستار يحجب الأشياء والأشخاص، ولكنه لا يحجب الأصوات. فأما أحد هذين الشقين فمستقر الخدم، والخزانة، ومستودع الشراب، وفيه مجالس قليلة للذين يحبون العزلة ويؤثرون الهدوء. وأما الشق الثاني من وراء الستار، ففيه المرقص، وفيه مجالس اللاهين واللاهيات، ونحن نسمع أصوات الموسيقى، فنفهم اتصال الرقص حتى إذا ما انقطعت هذه الأصوات عرفنا أن الرقص نفسه قد انقطع. ونحن نرى الخدم يذهبون ويجيئون ويحملون إلى الناس من وراء الستار ما يطلبون من شراب. ونحن نرى أشخاصا قد آثروا العزلة، فجلسوا في الناحية الهادئة المطمئنة، ولكن بعضهم يختلف إلى المرقص بين حين وحين ليتمكن بعضهم الآخر من أن يفرغ للحديث ويدبر من أمره ما يريد.
وهؤلاء الأشخاص، الذين سنراهم يضطربون في القصة كلها ليسوا كثيرين، وإنما هم فتى مصور في الخامسة والعشرين، هو جان فافييه، وخليلته مادلين امرأة قد تقدمت بها السن، ولعلها قد نيفت على الثلاثين، وصديق لهما اسمه جاستون ساذج ضعيف الرأي، يكاد يكون مضحك القصة، ثم رجل آخر قد تقدمت به السن، ولعله جاوز الأربعين، وهو بيير فروملان. وهو يحب فتاة في الرابعة والعشرين من عمرها، واسمها كوليت. ونحن في أول القصة نرى رجلا غريبا يتردد في الحانة في شيء من الحذر ومدير الحانة ينكره، أو هو يعرفه ولكنه ينكر وجوده في هذه الحانة ويدعوه إلى أن ينصرف أو إلى أن يستخفي، ونفهم نحن أن هذا الرجل شخص من هؤلاء الأشخاص الذين يصطنعون تتبع الناس والبحث عن أسرارهم ودخائلهم واستكشاف ما يقدمون عليه من أمر حين يذهبون أو يجيئون.
وهذا جاستون الذي قدمت ذكره قد أقبل ساذجا مغرورا، فاحتجز مائدة هادئة في ناحية معتزلة، وأنبأ أن صديقيه قادمان بعد حين، وهو يداعب مدير الحانة ويمازحه، وهذان الصديقان قد أقبلا فإذا امرأة جميلة هادئة النفس، حلوة الحديث عذبة الروح قوية الحب، وإذا معها فتى قلق مضطرب، شديد الحيرة لا يكاد يستقر ولا يرضى عن شيء، ولا يطمئن إلى شيء، ولا يعرف ما يريد، وهو يحب صاحبته ولكنه معتدل في حبه، صادق فيه أيضا. وهي تود لو كان حبه أقل اعتدالا، وأشد حرارة، ولكنها تعلم أن ليس إلى ذلك من سبيل. فصاحبها مصور يحب فنه، ويخضع لما يخضع له أصحاب الفن من هذه الخصال الشاذة التي تدفعهم إلى غير المألوف، والتي تحببهم إلى النساء أيضا. فصاحبته مذعنة على كره منها لهذا الحب المعتدل، صابرة على ما تقاسي من شقاء، ومن حرمان. وقد خلا الفتى لحظة إلى صديقه، ففهمنا من حديثهما أن هذا الفتى المصور كثير التنقل بهواه وحبه. وهو يحب صاحبته هذه، ولكنه يفلت منها بين وقت ووقت، ليستمتع بلذات الحياة بين ذراعي هذه المرأة أو تلك، على أنه لا يستقر بين هذه الأذرع التي تتلقاه إلا ريثما يفلت منها ليعود إلى صاحبته مادلين. هو يطلب شيئا لا يبلغه، وهو لا يبلغه لأنه لا يحققه في نفسه. وهذه ضحية من ضحاياه، قد كانت في المرقص، فلما رأت مادلين مشغولة مع بعض الناس أقبلت إلى الفتى تعاتبه وتستعطفه، ثم استيأست منه فعادت إلى حيث كانت تلتمس في اللهو عزاء عن هذا الهجران.
ولكن الفتى شديد الاضطراب هذه الليلة، في نفسه أمر عظيم، فقد رأى في طريقه عربة يركبها اثنان : رجل لم يحفل به، وامرأة لم يكد يراها حتى راعته. وكأنه قد راعها أيضا، فقد اشتبكت أعينهما، ولم تكد تفترق إلا بعد جهد. وهو مستيقن بأن هذه المرأة هي مثله الأعلى الذي يسمو إليه ويلح في طلبه، ولا بد له من أن يصل إلى هذه المرأة. هو لا يعرفها ولا يعرف من أمرها شيئا، ولكنه مع ذلك واثق بأنه سيهتدي إليها؛ فقد أخذ رقم العربة التي كانت تركبها، وسيسأل في دائرة الشرطة عن صاحب هذه العربة، فإذا عرف اسمه فقد يسر له كل شيء. وصديقه جاستون يسخر منه، ويهدئ من اضطرابه، ولكن الظروف لم تكن تسخر منه، وإنما كانت تريد أن تؤاتيه وتعينه على ما يحب. فهذان شخصان يقبلان ولا يكاد الفتى يراهما حتى يعرف صاحبته التي رآها في العربة، وهي أيضا قد عرفته، وقد اشتبكت أعينهما مرة أخرى، ولا بد من أن يلتقيا ومن أن يتحدثا. وليس في ذلك مشقة، فقد أراد الكاتب أن يحمل الظروف ما لم تتعود أن تحتمل، ويكلفها أن تكون مؤاتية دائما.
فهذه مادلين قد أقبلت من المرقص، فإذا هي تعرف هذا الرجل الذي يصحب هذه المرأة. تعرفه معرفة قوية متينة، وتعرفه منذ زمن بعيد. وهي إذن ستحييه وستقدم إليه صاحبها الفتى، وهو إذن سيقدم إليهما وإلى صديقهما صاحبته الفتاة، وها هم أولاء جميعا قد عرف بعضهم بعضا وجلس بعضهم إلى بعض، واشتركوا في الشراب والحديث، إلا هذا الفتى، فإنه قد اختفى لحظة ليتحدث في التليفون. على أن لحظة التليفون هذه قد طالت وأسرفت في الطول، وفي أثناء ذلك شرب القوم وتحدثوا ونهض بيير ومادلين، إلى المرقص، وخلت كوليت، فهي تطلب إلى الخادم أن يدعو هذا الفتى المستخفي في غرفة التليفون. ويقبل الفتى فيتعارفان ويتحادثان، ويجهر كل واحد منهما لصاحبه بحب قوي عنيف فيه صراحة وفيه جرأة وفيه أمل وفيه إشفاق، وفيه على كل حال محاولة للتجربة. فكلا العاشقين لم يرض عن نفسه، ولا عن حبه، قبل الليلة، وكلاهما يرجو أن يظفر بهذا الرضى، غدا حين يلتقيان مع المساء، ولا بأس في أثناء ذلك من أن يصرف الفتى مدير الحانة لحظة ليخلو إلى صاحبته خلوة تمكنه من الحديث الحر والقبلة المختلسة. على أن الأمر لا يلبث أن يعود إلى نظامه المألوف؛ فقد رجع الراقصون من رقصهم، واستأنف القوم جميعا ما كانوا فيه من شراب وحديث.
وإذن فقد عرض الكاتب علينا في هذا الفصل صورة هذين الشابين اللذين يملكهما حب عنيف لا موضوع له، واللذين يعيش كل واحد منهما مع شخص آخر أكبر منه سنا، يرضيه ولكنه لا يواتيه، ولا يحقق مثله الأعلى. وقد التقى هذان الشابان، فكان كل واحد منهما بادئ الرأي مرآة لصاحبه، فهما يريدان أن يتصل بينهما اللقاء لعلهما يبلغان هذا المثل الأعلى الذي يسعيان إليه.
अज्ञात पृष्ठ