بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
وَبِه أستعين
سنة خمس وَسبعين وَخَمْسمِائة
فِيهَا غلت الأسعار جدا بالعراق وَاشْتَدَّ الْمحل وَكثر الجدب وَكَانَت الغلات كَثِيرَة والحبوب مَوْجُودَة غير أَن النَّاس رفعوا أَيْديهم عَن البيع وَسبب ذَلِك أَن ظهير الدّين أَبَا بكر [مَنْصُور] بن الْعَطَّار صَاحب المخزن كَانَ قد تحكم فِي دولة الْخَلِيفَة تحكما زَائِدا وَاسْتولى على جَمِيع الْمُعَامَلَات الواسطية وَضمن الْبِلَاد سائرها وَمنع البيع من خَزَائِن الغلات والحبوب فاشتدت بغضته فِي قُلُوب النَّاس وخاصة أَرْبَاب دولة الْخَلِيفَة وَكَانُوا يَقُولُونَ سَبَب غلو الأسعار مَنعه لبيع الغلات
وفيهَا كثر الوباء حَتَّى مَاتَ من الْخلق مَا لَا يُحْصى كَثْرَة
1 / 3
وفيهَا بسطت يَد الشريف يَمِين الدّين الْهَاشِمِي مشرف الدِّيوَان الْعَزِيز فِي الدولة وَوَقعت المشاحنة بَينه وَبَين ظهير الدّين بن الْعَطَّار
وفيهَا مرض المستضىء بِأَمْر الله وَاشْتَدَّ بِهِ الْمَرَض وَكَثُرت الأراجيف بِمَوْتِهِ وَلم يتَحَقَّق النَّاس ذَلِك وَكَانَت الْأَسْوَاق تغلق فِي أَكثر الْأَوْقَات لَا يَجْسُر أحد أَن يَبِيع وَيَشْتَرِي فَكَانَت وَفَاته أول لَيْلَة من ذِي الْقعدَة من السّنة وَكَانَت خِلَافَته تسع سِنِين وَسِتَّة أشهر وأحدا وَعشْرين يَوْمًا
أَوْلَاده أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد النَّاصِر لدين الله وَأَبُو مَنْصُور
وزيره رَئِيس الرؤساء
(٢ ا) خلَافَة النَّاصِر لدين الله
أَمِير الْمُؤمنِينَ صلوَات الله عَلَيْهِ وَذكر مُخْتَصر من إيالته ومحاسن سيرته وَذكر مَا تجدّد فِي أَيَّامه للبيت الأيوبي من الفتوحات والغزوات وَغير ذَلِك وَالشَّام ومصر واليمن ذكرته مفصلا أختم بِهِ كتابي هَذَا الموسوم بِكِتَاب الْمِضْمَار وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَان وَهُوَ حسبي وَنعم الْوَكِيل
هُوَ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد النَّاصِر لدين الله أَمِير الْمُؤمنِينَ ثَبت الله
1 / 4
دَعوته بن الإِمَام أبي مُحَمَّد الْحسن المستضىء بِأَمْر الله بن الإِمَام أبي المظفر يُوسُف المستنجد بِاللَّه بن الإِمَام أبي عبد الله مُحَمَّد المقتفى لأمر الله بن الإِمَام أبي الْعَبَّاس أَحْمد المستظهر بِاللَّه بن الإِمَام أبي الْقَاسِم عبد الله المقتدى بِاللَّه بن مُحَمَّد ذخيرة الدّين وَلَيْسَ بِإِمَام بن الإِمَام أبي جَعْفَر عبد الله الْقَائِم بن الإِمَام أبي الْعَبَّاس أَحْمد الْقَادِر بِاللَّه بن الإِمَام جَعْفَر المقتدر ابْن الإِمَام أبي الْعَبَّاس المعتضد بن مُحَمَّد الْمُوفق وَلَيْسَ بِإِمَام بن الإِمَام أبي الْفضل جَعْفَر المتَوَكل بن الإِمَام أبي أسحق مُحَمَّد المعتصم بن هَارُون الرشيد بن مُحَمَّد الْمهْدي بن أبي جَعْفَر الْمَنْصُور بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله ابْن الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب بن هَاشم بُويِعَ لَهُ يَوْم الْأَحَد مستهل ذِي الْقعدَة من السّنة الْمَذْكُورَة صَبِيحَة الْيَوْم الْمَذْكُور وَتَوَلَّى عقد الْبيعَة ذُو الرياستين مجد الدّين أَبُو الْفضل هبة الله بن عَليّ بن هبة الله بن الصاحب أستاذ الدَّار وظهير الدّين أَبُو بكر مَنْصُور بن الْعَطَّار صَاحب المخزن وَحضر فِي الْبيعَة الْعلية ضِيَاء الدّين الشهرزوري أتفق ذَلِك أَوَان وُصُوله برسالة الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين وخطب لَهُ بِمَدِينَة السَّلَام بِبَغْدَاد وَنَثَرت الدَّنَانِير على المنابر بجوامعها وسيرت الْكتب مَعَ الرُّسُل إِلَى الْبِلَاد الإسلامية فَأرْسل صدر الدّين عبد الرَّحِيم بن إِسْمَعِيل ابْن إِسْمَعِيل
1 / 5
ابْن أبي سعد شيخ الشُّيُوخ النَّيْسَابُورِي إِلَى أتابك بهلوان مُحَمَّد ابْن أيلدكز بهمذان فَبَثَّ الدعْوَة الهادية فِي تِلْكَ الْبِلَاد من أصفهان وَجَمِيع بِلَاد خُرَاسَان وأذربيجان وسيرت رسل الْخلَافَة أَيْضا إِلَى الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب فَأَقَامَ الدعْوَة الهادية الإمامية فِي جَمِيع الْبِلَاد والثغور وَالشَّام والديار المصرية وَحضر شعراء الدِّيوَان الْعَزِيز على جاري الْعَادة لتهنئة مَوْلَانَا الإِمَام النَّاصِر لدين الله أَمِير الْمُؤمنِينَ عِنْد جُلُوسه فِي الْخلَافَة فِي ذِي الْقعدَة فَأَنْشد كل مِنْهُم كَلمته فَمن ذَلِك الْأَجَل أَمِين الدولة مُحَمَّد بن عبد الله سبط التعاويذي وَكَانَ من أفاضل الشُّعَرَاء المقدمين ذكرتها بِتَمَامِهَا لاستحسانها وَهِي
(طَاف يسْعَى بهَا على الْجلاس ... كقضيب الأراكة المياس)
(بدر تمّ غازلت من لحظه لَيْلَة ... نادمته غزال الكناس)
(ذللته لي المدام فأمسى ... لين الْعَطف بعد طول شماس)
(بَات يجلو عَليّ رَوْضَة حسن ... بت مِنْهَا مَا بَين ورد وآس)
(أمزج الكأس من جناه وَكم ليله ... صد مزجت بالدمع كامي)
(لَا يبت ذَلِك الحبيب بِمَا بت (م)
أعاني من لوعة وأقاسي)
1 / 6
(قلقي من وشاحه وبقلبي ... مَا بخلخاله من الوسواس)
(أَي برح لَو كَانَ لي مسعد فِيهِ ... وجرح لَو كَانَ لي مِنْهُ آسى)
(من تناسى عهد الشَّبَاب فَإِنِّي ... لحميد من عَهده غير ناسي)
(أخلق الدَّهْر جدتي وغدت منكوبة ... بعد مرّة أمراسى)
(يَا نَهَار المشيب من لي وهيهات ... بلَيْل الشبيبة الديماسي)
(حَال بيني وَبَين لهوى وإطرابي ... دهر أحَال صبغة رَأْسِي)
(ورأي الغانيات شيبي فأعرضن ... وقلن الشَّبَاب خير لباسي)
(كَيفَ لَا يفضل السوَاد وَقد أضحى ... شعارا على بني الْعَبَّاس)
(أُمَنَاء الله الْكِرَام وَأهل الْجُود ... والحلم والتقى والباس)
(عُلَمَاء الدّين الحنيف وأعلام ... الْهدى والضراغم الأشواس)
(أيد الله دينه بجبال ... منهمو شمخ الْجبَال رواسي)
(واصطفاهم من كل أغلب مشبوب ... الذراعين للعدي فراس)
1 / 7
(فهمو الآمرون بِالْعَدْلِ والحاكمون ... النَّاس بالقسطاس)
(وَلَقَد زينت الْخلَافَة مِنْهُم ... بِإِمَام الْهدى أبي الْعَبَّاس)
(ملك جلّ قدسه عَن مِثَال ... وتعالت آلاؤه عَن قِيَاس)
(هاشمي لَهُ زئير ينسى ... الْأسود الزئير فِي الأخياس)
(وسماح يُغني الْبِلَاد إِذا الأنواء ... ضنت بصوبة الرجاس)
(جمع الْأَمْن فِي إيالته مَا ... بَين ذِئْب الغضا وظبي الكناس)
(وعنى خاضعا لعزته كل ... أبي القياد صَعب المراس)
(بَث فِي الأَرْض رأفة بدلت وحشه ... سارى الظلام بالإيناس)
(غادرت جفوة اللَّيَالِي صفوا ... وألانت قلب الزَّمَان القاسي)
(بيد النَّاصِر الإِمَام استجابت ... بعد مطل مِنْهَا وَطول شماس)
(رد تدبيرها إِلَيْهِ فأضحى ... ملكهَا وَهُوَ ثَابت الأساس)
1 / 8
(يَا لَهَا بيعَة أَجدت من الْإِسْلَام ... بالي رسومه الأدراس)
(ولى الله أمرهَا فَلهُ الْمِنَّة ... فِيهَا عَلَيْهِ لَا للنَّاس)
(جمعتنَا على خَليفَة حق ... نبوي الأعراق والأغراس)
(فِي مقَام ذلت لهيبته الْأَعْنَاق ... ذل النقاد للهرماس)
(زَالَ فِيهِ الْحجاب عَن ملك عَار ... من الْعَار للتقى لِبَاس)
(ورأينا برد النَّبِي على منْكب ... طود من الْأَئِمَّة رَأْسِي)
(ماليا هَدْيه مَوَاقِف من نور ... جلال يضىء كالنبراس)
(فَلهُ فِي الرّقاب عهد وَلَاء ... مُحكم العقد محصد الأمراس)
(يَا مبيد العدى وَيَا طارد الْمحل ... نداه وَقَاتل الإفلاس)
(حجَّة الله أَنْت وَالسَّبَب الْمَمْدُود ... مَا بَينه وَبَين النَّاس)
(أَنْت أَحييت رمة الْعدْل والجود ... وأنشرتها من الأرماس)
(جدت قبل السُّؤَال عفوا وكأي ... من يَد لَا تدر بالأبساس)
1 / 9
(وأرحت الزَّوْرَاء من جور مزور ... عَن الْخَيْر فَاجر مكاس)
(أنفًا لِلْإِسْلَامِ مِنْهُ وَمن أشياعه ... عصبَة الْخَنَا الأرجاس)
(رد فِي نَحره انتقامك مَا فو قه ... من سهامه الأنكاس)
(دنست بُرْهَة بأفعاله الدُّنْيَا ... فطهرتها من الأدناس)
(بك عاذت من شَرّ شَيْطَانه الوسواس ... فِيهَا بمكرة الخناس)
(واشتكت داءها العضال فألفتك ... لأدوائها الطَّبِيب الآسي)
(فابق للدّين ناصرا وارم بالإرغام ... جد الْأَعْدَاء والأتعاس)
(واستمعها عذراء شَرط التهاني ... واقتراح الندمان والجلاس)
(حملت من أُرِيح مدحك نشرا ... هِيَ مِنْهُ مسكية الأنفاس)
(مدحا فِيك لي ستبقى على الدَّهْر ... بَقَاء التَّنْزِيل فِي الأطراس)
(مَا أميطت راحه يراع وَمَا خطت ... يَمِين رقشا على قرطاس)
وَبعد الْبيعَة الشَّرِيفَة بأيام برز الْأَمر الشريف ببسط يَد مجد الدّين ابْن الصاحب وَحكم فِي الدولة ونفذت أوامره فِي جَمِيع أَرْبَاب الدولة
1 / 10
وَتقدم إِلَيْهِ بِبيع الغلات والحبوب على النَّاس فَفتح الخزائن وَأطلق البيع فِيهَا وَأمر أَن يعْطى الأجناد أَرْزَاقهم من الْحِنْطَة وَالشعِير والحبوب فَفعل ذَلِك فرخصت الأسعار وَكَثُرت الْخيرَات وَفرج الله ﷾ عَن النَّاس مَا كَانُوا فِيهِ من الْقَحْط وَالْمحل وَشدَّة الْجُوع ببركة قدومه وإيالته الميمونة وأنفذ إِلَى الْبِلَاد الواسطية السفن الْكِبَار مَمْلُوءَة طَعَاما من سَائِر الْحُبُوب وتلا ذَلِك تَوَاتر الأمطار والمدود وَكَثْرَة الخصب وَانْقَضَت سنو الجدب عِنْد ولَايَته وَكَانَ النَّاس يسمون أَيَّامه العيسوبية لذهاب مَا كَانُوا فِيهِ من شدَّة الْقَحْط بمدا أَيَّامه الزاهرة زيدت شرفا
ذكر وقْعَة ظهير الدّين بن الْعَطَّار وَقَتله
وَكَانَ هَلَاكه يَوْم الْخَامِس من ذِي الْقعدَة
ذكر السَّبَب فِي ذَلِك
كَانَ خَالص الْخَادِم من خَواص الحضرة الشَّرِيفَة فبرز الْأَمر العالي أَن يُوقع لَهُ بلحف الْجَبَل والبندنجين وَمَا يجْرِي مَعهَا فنفذ أستاذ الدَّار أَبُو الْفضل بن الصاحب إِلَيْهِ يَأْمُرهُ بالتوقيع لخالص الْخَادِم كَمَا أَمر أَمِير
1 / 11
الْمُؤمنِينَ فاستعظم ذَلِك وَلم يمتثل المراسم النَّبَوِيَّة فَكَانَ فِي جَوَاب ذَلِك التَّقَدُّم بِالْقَبْضِ على ابْن الْعَطَّار وَنَقله إِلَى التَّاج الْعَتِيق فعذب بأنواع الْعَذَاب وَمَات بعد أَيَّام فَحمل لَيْلًا إِلَى دَار أُخْته فَجَعَلته فِي تَابُوت وأرادت إِخْرَاجه خُفْيَة لِئَلَّا يعلم بِهِ أحد فَجعل أستاذ الدَّار على إِخْرَاجه عينا من حَيْثُ لَا يعلم بِهِ وَنبهَ الأعوام على إِخْرَاجه وأوقف جماعته على بَاب النوبي ينتظرون خُرُوجه وَكَانَ النَّاس يبغضونه لما كَانَ يَبْدُو مِنْهُ فِي سنى الْمحل من منع البيع الْعَام على النَّاس والضمانات الْجَارِيَة فِي أَيَّامه وَمَا كَانَ يجْرِي مِنْهُ فِي حق الأجناد والمماليك فَلَمَّا خرج تَابُوت ابْن الْعَطَّار وَلَيْسَ وَرَاءه أحد يؤبه لَهُ وَوصل خَارج بَاب النوبى من دَار الْخَلِيفَة أَشَارَ بعض من كَانَ الْعين على خُرُوجه إِلَى الْعَوام والمماليك هَذَا تَابُوت ابْن الْعَطَّار فتكاثرت الْعَوام على أَخذه وَألقى من رُءُوس الحمالين وَكسر وَأخرج من التابوت ومزقت أَكْفَانه وربطوا فِي إِحْدَى رجلَيْهِ حبلا من لِيف وَجعلُوا يسحبونه فِي الْأَسْوَاق والدروب بِمَدِينَة السَّلَام وَكَانُوا ينادون عَلَيْهِ وَفعل بِهِ كَمَا فعل بِابْن القرايا المشد حَتَّى إِن من النَّاس من قطع خِنْصره وَأذنه وَكَانَ ذَلِك فِي الْخَامِس عشر من ذِي الْقعدَة كَمَا ذكرنَا
استدعاء فَخر الدولة بن الْمطلب بَين يَدي النَّاصِر لدين الله ليستوزر وَذَلِكَ فِي الشَّهْر الْمَذْكُور من السّنة
كَانَ فَخر الدولة بن الْمطلب رجلا عَالما زاهدا ورعا كثير الْمَعْرُوف مَشْهُورا بالصلاح والتقى فَلَمَّا كَانَت الْأَيَّام المستنجدية سقى الله عهودها
1 / 12
الرضْوَان دَعَاهُ ليستوزره فَامْتنعَ وَطلب الْإِقَالَة فَلم يفعل مَا امْر وقصته مَشْهُورَة بذلك فَلَمَّا كَانَت الْأَيَّام المستضية طُولِبَ بِمَا طُولِبَ بِهِ من قبل فَسَأَلَ أَن لَا يُكَلف ذَلِك فَلَمَّا أنعم الله تَعَالَى على عباده بِالْأَيَّامِ الناصرة لدين الله أَمر بإحضار فَخر الدولة بن الْمطلب فَحَضَرَ بَين يَدي السدة الشَّرِيفَة النَّبَوِيَّة وخدم فَلَمَّا اسْتَقل بِهِ الْمَكَان تقدم إِلَيْهِ أَمِير الْمُؤمنِينَ بِأَن يكون لَهُ وزيرا ومشيرا لمكانته من الدّين وَالْعلم وَالْبَيْت فَلَمَّا سمع كَلَامه قبل الأَرْض وخدم وَقَالَ
يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمَمْلُوك رجل شيخ وَمَا يجوز أَن يفتح لَهُ كتابا بعد الْعَصْر فَقَالَ لَهُ بهاء الدّين صندل الْخَادِم أجب أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ لَيْسَ لَك فِي إجَابَتِي مصلحَة لأننى لَو قبلت هَذِه الْولَايَة مَا كنت أقرك على مَا بِيَدِك من الإقطاع والولايات بل كنت أجريك على قَاعِدَة بِلَال وأزيل عَنْك هَذِه الثِّيَاب وأمنعك من الرّكُوب وَبَين يَديك سيوف مَشْهُورَة فَضَحِك أَمِير الْمُؤمنِينَ من قَوْله وَقَالَ لَهُ تُشِير عَليّ بِمن يصلح فَقَالَ هَذَا أصلح من عنْدك وَأَشَارَ إِلَى مجد الدّين بن الصاحب وَهُوَ إِذْ ذَاك أستاذ الدَّار العزيزة فَضَاقَ صدر أستاذ الدَّار من قَول فَخر الدولة وَلم يُعجبهُ ذَلِك فَقَالَ لَهُ أَمِير الْمُؤمنِينَ
لم لَا يرضيك قَوْله وَهِي أرفع دَرَجَة فَقَالَ
يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَا أبيع حضوري فِي هَذِه الْخدمَة بالدنيا وَمَا فِيهَا وَسَأَلَ أَن يقر على خدمته وَهِي أستاذية الدَّار فأقره على ذَلِك وَكَانَ أعظم النَّاس مكانة عِنْده إِلَى أَن قتل
1 / 13
ثمَّ قَالَ لَهُ
شَرّ علينا بِمن نوليه فَقَالَ فَخر الدولة
إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن يول سُلَيْمَان بن جاووش نَائِب وزارة فرأيه أعلا فأحضر سُلَيْمَان بن جاووش وَكَانَ يلقب بحسام الدّين إِلَى التَّاج الشريف وَمن كَانَ يخْتَص بالديوان الْعَزِيز من أَرْبَاب الدولة والأجناد ليقضوا شهر المستضئ بِاللَّه رَحْمَة الله عَلَيْهِ ورضوانه
وَكَانَ على حسام الدّين بن جاووش قلنسوة فَخلع عَلَيْهِ جُبَّة وعمامة بَيْضَاء وخلع على أَرْبَاب الدولة كَافَّة فِي ذَلِك الْيَوْم وَركب ورتب نَائِب وزارة فبقى يَنُوب فِي الدِّيوَان الْعَزِيز شهرا فَوجدَ عَلَيْهِ أستاذ الدَّار ابْن الصاحب لكَونه كَانَ يقف فِي تقدماته فَعَزله ورتب عوضه ابْن البُخَارِيّ وَذَلِكَ فِي محرم سنة سِتّ وَسبعين وسنذكره إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وفيهَا أقطع آل تنبه الشطرنجي واسطا وَأعْطى قيطرمش شحنكية بَغْدَاد أجمع
وفيهَا صرف ابْن طَلْحَة من حجبة الْبَاب الشريف ورتب عوضه قوام الدّين بن زِيَادَة
وفيهَا رتب ابْن شبيب صَاحب مخزن ورتب زين الدّين مشرف مخزن أَيْضا ورتب ابْن جَعْفَر صَاحب بَاب الْمَرَاتِب وَأقر أَبُو عَليّ بن الْوَكِيل
1 / 14
على عمله صَاحب ديوَان وَأقر أَمِين الدّين مهيمنا على إشراف الدِّيوَان الْعَزِيز
وفيهَا خلع التشريفات الجميلة على آل تنبه الشطرنجي وقيطرمش شحنة بَغْدَاد وَسيف الدّين طغلو شحنة الْخَواص وميزوا على جمَاعَة المماليك والأمراء
ذكر مَا تجدّد للسُّلْطَان
بِالشَّام ومصر فِي هَذِه السّنة من الْأَحْوَال والغزوات
وَدخلت هَذِه السّنة وَالسُّلْطَان نَازل على تل القَاضِي ببانياس وَعَسْكَره الْمَنْصُور فِي كل يَوْم يُصْبِحُونَ بلد الْعَدو ويشنون الغارات وينقلون مَا يجدونه من الغلات وَكَانَ الْعَام كثير الجدب حَتَّى لم يبْق بِتِلْكَ الْبِلَاد لَهُم إِلَّا الْيَسِير
وَكَانَ الْمُقدم على الْعَسْكَر عز الدّين فرخشاه بن شاهناه بن أَيُّوب ابْن أخي السُّلْطَان وَكَانَ مخيمه على بعد من السرادق السلطاني قدامه فجَاء إِلَى السُّلْطَان وَمَعَهُ جمَاعَة من الْأُمَرَاء وَقد أَجمعُوا رَأْيهمْ على أَن يُغيرُوا على
1 / 15
بلد الْعَدو فِي ليلتهم بكرَة غدهم ويرحلون عَن ذَلِك الْمَكَان فصوب لَهُم السُّلْطَان رَأْيهمْ وَقَالَ
نعم الرَّأْي الَّذِي رَأَيْتُمُوهُ والرأي أَن تنهضوا فِي هَذِه اللَّيْلَة وتزمعوا على دُخُول بلد الفرنج فتجمعون مَا تخلف فِي موَاضعهَا المتفرقة وَإِذا عدتم سَالِمين إِن شَاءَ الله تَعَالَى رحلنا صوب الْبِقَاع
ذكر وقْعَة مرج عُيُون
وَكَانَت يَوْم الْأَحَد ثامن محرم وَلما نَهَضَ المسملون لَيْلَة الْيَوْم الْمَذْكُور أصبح السُّلْطَان بكرَة يَوْمه رَاكِبًا وَمَعَهُ صمصام الدّين أجك وَإِلَى بانياس فِي موكب خَفِيف وَجمع كثير ووقف على الطَّرِيق فَوجدَ فِي تِلْكَ الغياض سروحا من الأبقار والأغنام جافلة وقصده فِي تِلْكَ الْحَال رَاع فَأخْبرهُ أَنه شَاهد عَسْكَر الْكَافِر قد عبروا بِالْقربِ على قصد العلاقة فاستبعد السُّلْطَان ذَلِك وَقَالَ
لَو كَانَ ذَلِك صَحِيحا لجانا الجاسوس فَبينا هُوَ كَذَلِك إِذْ جَاءَهُ من أَوَائِل الْعَسْكَر من أخبرهُ بِصِحَّة الْخَبَر فَرجع إِلَى المخيم وَقت الظّهْر وَكَانَ فِي اسطبله خُيُول شَتَّى عتاق وَغير عتاق فبذلها لخواصه وَقَالَ
اركبوا وأدركو الْعَدو وَصَاح بعسكره وحلقته فَسَار فيهمَا موفقا بالنصر فَأَشْرَف على الْقَوْم وهم فِي ألف رمح وَعشرَة آلَاف
1 / 16
مقَاتل مَا بَين فَارس وراجل وَكَانَ فِي جُمْلَتهمْ بادين بن بارزان فبرز فِي مقدمتهم وحملوا حَملَة وَاحِدَة كالجبل الْعَظِيم وكادوا أَن يظفروا وَطعن فِيهَا صمصام الدّين أجك فَثَبت السُّلْطَان أمامهم وردهم إِلَى ورائهم فَوَلوا الأدبار منهزمين فركبهم السَّيْف فأسروا من كَانَ لَهُ أجل حُصَيْن وَدخل اللَّيْل وَنَجَا ملكهم هَارِبا فَذكر أَنه حمله أحدهم على ظَهره وسرى بِهِ تَحت اللَّيْل وَرجع السُّلْطَان إِلَى مخيمه وَقد مضى من اللَّيْل أَكْثَره ثمَّ أذن بِتَقْدِيم الْأُسَارَى فَأول من قدم مِنْهُم
بادين بن بارزان ثمَّ قدم أود مقدم الداوية الْكَبِير وَكَانَ مَشْهُورا شجاعا شَدِيد الْبَأْس وأحضر ابْن القومصية وأخو صَاحب جبيل وَكَانَ كثير النهوض إِلَى ثغور الْإِسْلَام وأحضر جمَاعَة من مقدميهم الأكابر وقيدوا بالقيود الثقال ثمَّ عرض المأسورين فَكَانُوا مِائَتَيْنِ ونيفا وَسبعين من الفرسان المقدمين سوى من أسره آسره وَكَانَ فِي خيمته وَلم يسمع بِهِ وَسوى من لم يذكر من الأتباع ثمَّ نقل الْأُسَارَى إِلَى دمشق فاعتقلوا
فَأَما ابْن بارزان فَإِنَّهُ بعد سنة بذل فِي نَفسه مائَة وَخمسين
1 / 17
ألف دِينَار وَإِطْلَاق ألف أَسِير من الْمُسلمين فَكَانَ الْفَقِيه ضِيَاء الدّين عِيسَى مأسورا عِنْدهم من نوبَة الرملة فالتزم أَن يُؤَدِّي من قطيعته الْمَذْكُورَة القطيعة الَّتِي عرف بهَا فكاكه وَأما هُوَ ابْن القومصية فَإِنَّهُ افتكته أمه بِخَمْسَة وَخمسين ألف دِينَار صورية وَأما أود مقدم الداوية فَإِنَّهُ مَاتَ فِي سجنه فطلبت جيفته فَأَخَذُوهَا بِإِطْلَاق أَسِير وَطَالَ أسر البَاقِينَ فَمنهمْ من هلك فِي الْأسر وَمِنْهُم من خرج بقطيعة وأمان وَكَانَت لعز الدّين فرخشاه فِي هَذِه النّوبَة الْيَد الْبَيْضَاء وَالْبَلَاء الْمَذْكُور
ذكر سَبَب غيبَة وَالِدي الْملك المظفر
سقى الله عهوده الرضْوَان عَن هَذِه النّوبَة
وَذَلِكَ أَن سُلْطَان الرّوم السلاجقة قلج أرسلان أرسل فِي طلب حصن رعبان يدعى أَنه من بِلَاده وَإِنَّمَا أَخذه مِنْهُ نور الدّين بِغَيْر أَمر
1 / 18
وَأَن وَلَده الْملك الصَّالح قد أنعم بِهِ عَلَيْهِ فَأبى ذَلِك الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين فَجهز قلج أرسلان عسكرا وَنزل على حصاره فندب السُّلْطَان الْملك المظفر إِلَى لقائهم بِجَمَاعَة يسيرَة وَكَانَ جُمْلَتهمْ ثَمَانِي مائَة فَارس وَكَانَ عَسْكَر قلج أرسلان نيفا وَعشْرين ألف فَارس مجتمعة على النهب والغارة فَسَار بِمن مَعَه من الْعدة الْيَسِيرَة الْمَذْكُورَة حَتَّى أشرف على عَسْكَر قلج أرسلان لَيْلًا وَقد تلاحق بِهِ من أَصْحَابه نَحْو من مِائَتَيْنِ وَالْبَاقُونَ فِي إثرهم لم يتَّفق اجْتِمَاعهم جملَة وَاحِدَة لِأَن طريقهم كَانَت وعرة لم يَسِيرُوا معظمها إِلَّا رجالة فَلَمَّا أشرف عَلَيْهِم ضربت كوساته وبوقاته فركض بِمن مَعَه وخالط الْقَوْم وَذَلِكَ فِي سوق الربض وَكَانَ لعسكر قلج أرسلان من فرسانهم ثَلَاثَة آلَاف فِي حِصَار الْحصن فحين وَقع الصَّالح تحادروا عَلَيْهِ وضايقوه وَمن مَعَه فَأَشَارَ إِلَى غُلَامه بِأَن يُعْطِيهِ قنطاريته فَنَاوَلَهُ إِيَّاهَا فَحمل عَلَيْهِم وَقَالَ إِنَّا الْملك المظفر ثمَّ طعن فَارِسًا فأرداه وَحمل أَصْحَابه فِي إثره فكسروا فُرْسَانًا فَلَمَّا نظر الْقَوْم إِلَى ذَلِك انْهَزمُوا من بَين يَدَيْهِ عَن آخِرهم وَوَقع الصَّالح بهم فَجعل يتبع بَعضهم بَعْضًا وَتركُوا خيامهم بِمَا فِيهَا من أثقالهم وَمِنْهُم من أَصَابَهُ بذلك واسر من مقدميهم بذلك جمَاعَة فَلَمَّا أصبح خلع عَلَيْهِم وَأعْطِي كل وَاحِد مِنْهُم فرسا يحملهُ وسير النجب من هُنَاكَ إِلَى السُّلْطَان والكتب تخبره بِمَا رزقه الله من النَّصْر وَالظفر بعسكر قلج أرسلان وَوَافَقَ ذَلِك مَا من الله تَعَالَى بِهِ على السُّلْطَان من ظفره
1 / 19
بالإفرنج فِي مرج عُيُون وسارت بذلك البشائر إِلَى بِلَاد الْإِسْلَام وسيرت كَلِمَات الشُّعَرَاء إِلَيْهِ من أقاصي الْبِلَاد وأدانيها فَمن ذَلِك كلمة أَمِين الدولة أبي الْفَتْح مُحَمَّد بن عبد الله التعاويذي الْبَغْدَادِيّ وَهُوَ من شعراء الدِّيوَان الْعَزِيز بِمَدِينَة السَّلَام سَيرهَا إِلَيْهِ فِي السّنة الْمَذْكُورَة إِلَى دمشق وَهِي
(إِن كَانَ دينك فِي الصبابة ديني ... فقف الْمطِي برملتي بيرين)
(والثم ثرى لَو شارفت فِي هضبه ... أَيدي الركاب لثمته بجفوني)
(وَأنْشد فُؤَادِي فِي الظباء معرضًا ... فبغير غزلان الصريم جنوني)
(ونشيدتي بَين الْخيام وَإِنَّمَا ... غالطت عَنْهَا بالظباء الْعين)
(لَوْلَا العدى لم أكن عَن ألحاظها ... وقدودها بحوازن وغصون)
(لله مَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ قبابهم ... يَوْم النَّوَى من لُؤْلُؤ مَكْنُون)
(من كل تائهة على أترابها ... بالْحسنِ غانية عَن التحسين)
(خود ترى قمر السَّمَاء إِذا بَدَت ... مَا بَين سالفة لَهَا وجبين)
(غادين مَا لمعت بروق ثغورهم ... إِلَّا استهلت بالدموع شؤوني)
(إِن ينكروا نفس الصِّبَا فَلِأَنَّهَا ... مرت بِزَفْرَةٍ قلبِي المحزون)
1 / 20
(وَإِذا الركائب فِي الحبال تلفتت ... فحنينها لتلفتي وحنيني)
(يَا سلم إِن ضَاعَت عهودي عنْدكُمْ ... فَأَنا الَّذِي اسْتوْدعت غير أَمِين)
(أَو عدت مغبونا فَمَا أَنا فِي الْهوى ... لكمو بِأول عاشق مغبون)
(رفقا فقد عسف الْفِرَاق بِمُطلق ... العبرات فِي أسر الغرام رهين)
(مَالِي وَوصل الغانيات أرومه ... وَلَقَد بخلن عَليّ بالماعون)
(وعلام أَشْكُو والدماء مطاحة ... بلحاظهن إِذْ الْجمال ديوني)
(هَيْهَات مَا للبيض فِي ود امْرِئ ... أرب وَقد أربي على الْخمسين)
(وَمن البلية أَن تكون مطالبي ... جدوى بخيل أَو وَفَاء خؤون)
(لَيْت الضنين على الْمُحب بوصله ... لقن السماحة من صَلَاح الدّين)
(ملك إِذا علقت يَد بزمامه ... علقت بحيل فِي الْحفاظ متين)
(قاد الْجِيَاد معاقلا وَإِن اكْتفى ... بمعاقل من رَأْيه وحصون)
(وَأعد للأعداء كل مهند ... ومثقف ومضاعف موصون)
1 / 21
(سهرت جفون عداهُ خيفة ماجد ... خلقت صوارمه بِغَيْر جفون)
(لَو أَن لليث الهزبر سطاه لم ... يلجأ إِلَى غَابَ لَهُ وعرين)
(وَالْبَحْر لَو مزجت بِهِ أخلاقه ... لغدت مياه الْبَحْر غير أجون)
(وَالْأَرْض لَو شيبت بِطيب ثناه لم ... تنْبت سوى الخيري والنسرين)
(والدهر لَو أعداه حسن طباعه ... ماشين من أبنائه بضنين)
(قسما لقد فضل ابْن أَيُّوب الحيا ... بسماح كف بالنضار هتون)
(مخلوقة من سؤدد وندى وَقد ... خلق الْأَنَام سلالة من طين)
(يَا من إِذا نزل الْوُفُود بِبَابِهِ ... نزلُوا بجم من نداه معِين)
(أضحت دمشق وَقد حللت بجوها ... مأوى الطريد وموئل الْمِسْكِين)
(وغدت بعدلك وَهِي أكْرم منزل ... تلقى الرّحال بِهِ وَخير قطين)
(يثنى عَلَيْك المعدمون بهَا كَمَا ... تثنى الرياض على الساحب الجون)
(لَك عفة فِي قدرَة وتواضع ... فِي عزة وشراسة فِي لين)
1 / 22