(فالجواب): أن براءة النبي ﷺ ممن جلس بين ظهرانيهم إنما كان عقوبة له على مجرد الإقامة بين أظهرهم. وأما إيواؤهم ونقض العهد لهم ومظاهرتهم ومعاونتهم والاستبشار بنصرهم وموالاة وليهم ومعاداة عدوهم من أهل الإسلام، فكل هذه الأمور زائدة على مجرد الإقامة بين أظهرهم، وكل عمل من هذه الأعمال قد توعّد الله عليه بالعذاب والخلود فيه وسلب الإيمان، وحلول السخط به وغير ذلك مما هو مضمون الآيات المحكمات التي قد تقدمت، وكل ذنب من هذه الذنوب له عقوبة تخصه، كلما ازداد منه زاد الله له في العقوبة.
فإن لم يؤمن بتلك الآيات المحكمات ويعترف بصدور تلك الأعمال منه فما أشبه حاله بحال من قال الله فيهم: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ ١.
واعلم أن هؤلاء المشركين لا يرضون من هذا وأمثاله بمجرد الموالاة والنصرة دون عبادتهم وتسويتهم لهم بالله في التعظيم والإجلال والتودد إليهم. فمن ذلك الانحناء لهم والإشارة باليد إلى أشرف أعضاء السجود وهو الجبهة والأنف.
وكل ذلك من خصائص الإلهية، وذلك أمر لا محيد لهم عنه، كما قال تعالى عن أهل الكهف: ﴿إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا﴾ ٢. ولهذا لم يجدوا من مفارقتهم بُدا، حتى ذهبوا إلى غار في رأس جبل خوفا من ذهاب دينهم فآثروا الله على كل ما سواه.
قال شيخنا -في هذه القصة-: فيه اعتزال أهل الشرك واعتزال معبوداتهم وقوله: ﴿فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ﴾ ٣ فيه شدة صلابتهم في دينهم حيث عزموا على ترك الرياسة الكبرى والنعمة العظيمة واستبدلوا بها كهفا في رأس جبل.
(قلت): ومثل ذلك ما ذكره الله عن سحرة فرعون لما استنارت قلوبهم
_________
١ سورة البقرة آية: ٨٥.
٢ سورة الكهف آية: ٢٠.
٣ سورة الكهف آية: ١٠.
1 / 314