3
ونحن نقف بهذه التواريخ عند حدها، ولا نجاوز بها مداها، فحسب الناظر في التاريخ أن يفهم منا أن إخبار العرب عن لغتهم وعن أوائلهم لا تدحض جملة واحدة، وقد تخالطها المبالغة، وتتناقض حولها الغرائب؛ بل ربما كان من دواعي إدحاضها أن تبرأ من كل مبالغة وغرابة، فأما الكذب الذي يعاب على العلم ويلحقه بالخرافة فهو هذا التحقيق الذي هو أهون وأضر من التخريف. •••
إن الحوادث الكبرى تستدعي المقارنة بين فهمنا لها بمقاييس العلم، ومقاييس الفلسفة، ومقاييس العقيدة، وتوحي إلينا في جميع الأحوال أن مقاييس العقيدة أخلصها إلى أعماقها، وأقدرها على التفسير كلما استجاشت العقيدة في الأمم قوة الحياة وقوة الضمير.
والإسلام قد استصفى تاريخ العرب قبل دعوته، فجمعه كله في الوحدة القومية، وأقام هذه الوحدة على ركنيها اللذين لا قوام لها بغيرهما على تساند واتفاق؛ وهما: ركن اللغة، وركن الحرية الدينية، وكلاهما كان تمهيدا صالحا لظهور الدعوة الإسلامية.
إلا أن معجزة الإسلام في جميع مقدماته ونتائجه أن هذه النتائج لم تكن قط منقادة مسخرة لتلك المقدمات، فإن هذه العصبية اللغوية الدينية قد آلت في يد الإسلام إلى دعوة إنسانية عالمية، لا تنكر شيئا كما تنكر العصبية الجاهلية، ولا تعرف ربا غير رب العالمين، ولا قسطاسا غير قسطاس العمل الصالح، يتفاضل به القرشي والحبشي والعربي والأعجمي وعترة النبي، ومن ليست بينه وبين النبي لحمة غير لحمة الإيمان ...
ونعود فنقول: إن شأن اليهودية في توضيح هذه الحقائق أعظم من كل شأن لها في الجزيرة العربية، فمما لا نزاع فيه أن أناسا من اليهود قدموا إلى الجزيرة بلغة غير اللغة الحجازية، فاحتفظوا بلغة الدين للدين، ولم يمض عليهم زمن طويل حتى عم التفاهم بينهم وبين سائر العرب بلسان الحجاز وتهامة ونجد، ومن جاورهم من الأنباط وعرب الحيرة وبادية الشام. وهذه حقيقة تاريخية واقعية مسقطة لكل دعوى يتحذلق بها أدعياء العلم من محترفي التبشير والاستشراق.
المسيحية في الجزيرة
أما المسيحية فقد كان لها مدخل إلى الجزيرة العربية غير هذا المدخل، فلم تصل إلى داخل الجزيرة عشيرة كبيرة أو صغيرة من المهاجرين، ولم يأتها قوم بلسان غير اللسان العربي كما حدث في هجرة اليهود، ولكنها شاعت بين قبائل من العرب في جيرة الدول التي سيطرت على أطراف الجزيرة، وهي بيزنطية وفارس والحبشة، وكان لمذهب العاهل القائم بالأمر في دولة بيزنطية أثر كبير في توجيه النحل والمذاهب في بلاده وبلاد أعدائه.
وقد حدث في مدى قرن واحد أن العواهل كانوا يحرمون المسيحية على رعاياهم، ثم دانوا بها على مذهب، وجاء من بعدهم فدان بها على مذهب يعاديه ويرميه بالكفر والزندقة، فمن شاء أقام مع العاهل في بلاده طائعا له، أو مداريا لأمره، وإلا ففي بلاد أعدائه من الفرس متسع له يعلن فيه مذهبه، وينطلق في تسفيه العاهل وشيعته غير ملوم ولا ممنوع.
وأفلت إلى الجزيرة العربية آحاد من كل نحلة مسيحية غضب عليها عاهل القسطنطينية، فهاجرت إليها فئات متفرقة من أتباع آريوس وأوريجين ونسطور ولوسيان الأنطاكي، وجماعة المشبهين، وجماعة القائلين بالطبيعة الواحدة، والقائلين بالطبيعتين.
अज्ञात पृष्ठ