كقولك: "ضرب زيد عمرو" [بالوقف عليها١] ويكون زيد هو المضروب، فإنك إذا لم تنصب زيدًا وترفع عمرًا، وإلّا لا يفهم ما أردت، وعلى هذا ورد قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ ٢ وكذلك لو قال قائل: ما أحسن زيد، ولم يبيِّن الإعراب في ذلك، لما علمنا غرضه منه، إذ يحتمل أن يريد به التعجب من حسنه، أو يريد به الاستفهام عن أي شيء منه أحسن، ويحتمل أن يريد به الإخبار بنفي الإحسان عنه، ولو بيِّن الإعراب في ذلك فقال: ما أحسن زيدًا، وما أحسن زيدٍ، وما أحسن زيدٌ٣، علمنا غرضه وفهمنا مغزى كلامه؛ لانفراد كل قسم من هذه الأقسام الثلاثة بما يعرف به من الإعراب، فوجب حينئذ بذلك معرفة النحو، إذ كان ضابطًا لمعاني الكلام، حافظًا لها من الاختلاف.
وأول من تكلَّم في النحو أبو الأسود الدؤلي٤، وسبب ذلك أنه دخل على ابنة له بالبصرة فقالت له: "يا أبت ما أشدُّ الحرّ"، متعجبة، ورفعت "أشد"، فظنها مستفهمة، فقال: شهر ناجر٥، فقالت: يا أبت إنما أخبرتك ولم أسألك، فأتى علي بن أبي طالب ﵁ فقال: "يا أمير المؤمنين ذهبت لغة العرب، ويوشك إن تطاول عليها زمان أن تضمحل" فقال له: وما ذاك؟ فأخبره
_________
١ زيادة عن الفلك الدائر ٨.
٢ سورة فاطر، آية ٢٨.
٣ ما في المثال الأول للتعجب، وفي الثاني للاستفهام، وفي الثالث للنفي.
٤ قال ابن الجمحي: أول من أسس العربية وفتح بابها وأنهج سبيلها ووضع قياسها أبو الأسود الدؤلي، وهو ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل ... وكان رجل أهل البصرة، وكان علوي الرأي.
وقيل لأبي الأسود: من أين لك هذا العلم؟ -يعنون النحو- قال: لقنت حدوده من علي بن أبي طالب ﵁، وكان أبو الأسود أحد سادات التابعين والمحدثين والفقهاء والشعراء والفرسان والأمراء والأشراف والدهاة، والحاضري الجواب، والصلع الأشراف، والبخر الأشراف، ومن مشاهير البخلاء، وهو من القراء، قرأ على أمير المؤمنين علي ﵁ وشهد معه صفين، وقدم على معاوية فأكرمه وأعظم جائزته، وولي قضاء البصرة، وهو أول من نقط المصحف، وله شعر كثير. مات أبو الأسود بالبصرة سنة ٦٩، وهو ابن خمس وثمانين سنة.
٥ ناجر: قال في القاموس "ناجر رجب أو صفر، وكل شهر من شهور الصيف"، قلنا: إن شهري رجب وصفر وكل الشهور القمرية يتغيِّر موقعها سنة بعد سنة، ولا بُدَّ أن يكون شهرًا بعينه من شهور الصيف، وفي وضع أبو الأسود النحو أقوال كثيرة غير ما رواه ابن الأثير. انظر إنباه الرواة على أنباء النحاة ١/ ١٥.
1 / 42