المقامات واحدًا في فنه، فلما حضر ببغداد ووقف على مقاماته، قيل: هذا يستصلح لكتابة الإنشاء في ديوان الخلافة، ويحسن أثره فيه، فأحضر، وكلِّف كتابة كتاب، فأفحم، ولم يجر لسانه في طويلة ولا قصيرة، فقال فيه بعضهم١:
شيخٌ لنا من ربيعة الفرس٢ ... ينتف عثنونه٣ من الهوس
أنطقه الله بالمشان٤ وقد ... ألجمه في بغداد بالخرس
وهذا مما يعجب منه. وسئلت عن ذلك فقلت: لا عجب؛ لأن المقامات مدراها جميعها على حكاية تخرج إلى مخلص.
وأمَّا المكاتبات فإنها بحر لا ساحل له؛ لأن المعاني تتجدَّد فيها بتجدد حوادث الأيام، وهي متجددة على عدد الأنفاس، ألا ترى أنه إذا خطب الكاتب المفلق٥ عن دولة من الدول الواسعة التي يكون لسلطانها سيف مشهور، وسعي مذكور، ومكث على ذلك برهة يسيرة لا تبلغ عشر سنين، فإنه يدون عنه من المكاتبات ما يزيد على عشرة أجزاء، كل جزء منها أكبر من مقامات الحريري حجمًا؛ لأنه إذا كتب في كل يوم كتابًا واحدًا اجتمع من كتبه أكثر من هذه العدة المشار إليها، وإذا نخلت وغربلت واختير الأجود منها، إذ تكون كلها جيدة -فيخلص
_________
١ قيل: إن الذي عمل هذين البيتين هو أبو القاسم علي بن أفلح الشاعر.
٢ ربيعة الفرس: هو ابن نزار بن معد بن عدنان، أبو قبيلة، سمي بذلك؛ لأنه أعطى الخيل من ميراث ابنه، على حين أن أخاه مضرًا أعطى الذهب، فقيل مضر الحمراء، وأعطى أخوه أنمار الشاء، فقيل أنمار الشاة وكان الحرير يزعم أنه من ربيعة الفرس.
٣ العثنون: اللحية أو ما فضل منها بعد العارضين، أو ما نبت على الذقن وتحته سفلًا، وكان الحريري مولعًا ينتف لحيته عند الفكرة.
٤ المشان -بفتح الميم والشين- وبعد الألف نون: بليدة بعد البصرة كثيرة النخل، موصوفة بشدة الوخم، وكان أهل الحريري منها، ويقال: إنه كان له بها ثمانية عشر ألف نخلة، وأنه كان من ذوي اليسار، ويروى البيت الثاني هكذا:
أنطقه الله بالمشان كما ... رماه وسط الديوان بالخرس
٥ يقال: أفلق الشاعر إذا أتى بالعجيب.
1 / 39