فالمقدمة تشتمل على أصول علم البيان، والمقالتان تشتملان على فروعه، فالأولى: في الصناعة اللفظية، والثانية: في الصناعة المعنوية.
ولا أدعي فيما ألفته من ذلك فضيلة الإحسان، ولا السلامة من سبق١ اللسان، فإن الفاضل من تُعَدُّ سقطاته، وتحصى غلطاته، ويسيء بالإحسان ظنًّا، لا كمن هو بابنه وبشعره مفتون. وإذا تركت الهوى قلت: إن هذا الكتاب بديع في إغرابه، وليس له صاحب في الكتب، فيقال: مفرد بين أصحابه، إنه من أخدانه، أو من أترابه٢.
ومع هذا فإني أتيت بظاهر هذا العلم دون خافيه، وحمت حول حماه ولم أقع فيه؛ إذ الغرض إنما هو الحصول على تعليم الكلم التي بها تنظم العقود وترصَّع، وتخلب العقول فتخدَع، وذلك شيء تحيل عليه الخواطر، لا تنطق به الدفاتر.
واعلم أيها الناظر في كتابي أن مدار علم البيان على حاكم الذوق السليم، الذي هو أنفع من ذوق التعليم، وهذا الكتاب وإن كان فيما يلقيه إليك أستاذًا، وإذا سألت عمَّا ينتفع به في فنه قيل لك هذا! فإن الدربة والإدمان أجدى عليك نفعًا، وأهدى بصرًا وسمعًا، وهما يريانك الخبر عيانًا، ويجعلان عسرك من القول إمكانًا، وكل جارحة منك قلبًا ولسانًا، فخذ من هذا الكتاب ما أعطاك، واستنبط بإدمانك ما أخطاك، وما مثلي فيما مهدته لك من هذه الطريق إلّا كمن طبع٣ سيفًا، ووضعه في يمينك لتقاتل به، وليس عليه أن يخلق لك قلبًا، فإن حمل النصال، غير مباشرة القتال،
وإنما يبلغ الإنسان غايته ... ما كل ماشية بالرحل شملال٤
_________
١ في الأصل "سلق" باللام، وهو تحريف.
٢ في الأصل "فيقال: إنه من أخدانه أو من أترابه مفرد بين أصحابه"، وهي عبارة مضطربة ولذلك قدمنا العبارة الأخيرة، ليستقيم المعنى.
٣ يقال: طبع السيف والدرهم والجرة: عملها.
٤ البيت لأبي الطيب المتنبي: الديوان ٣/ ٢٨٧ وروايته هكذا:
وإنما يبلغ الإنسان طاقته ... ما كل ماشية بالرجل شملال
والشملال: الناقة القوية السريعة. يقول: كل أحد يجري في السيادة على قدر طاقته، وليس كل من يمشي على رجله شملالًا، يقدر على السرعة، والمعنى: ليس كل كريم يبلغ غاية الكرم، ولا كل شريف يبلغ غاية الشرف، وليس كل من سعى من الرؤساء يبلغ ممدوحه الذي لا يعادل في فضله، ولا يماثل في جلالة قدره.
1 / 35