بسم الله الرحمن الرحيم ... ... وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد
पृष्ठ 82
وعلى آله وصحبه وسلم تسليما قال قاضي المحلة، ومفتي الحضرة التونسية، أبو العباس أحمد الشماع رحمه الله: الحمد لله الذي أقام لدينه العلماء المهتدين، والخلفاء الراشدين، في كل عصر حفظه، وجعل الشياطين على السنة الجهلاء والحائرين في كل دهر لفظه(¬1)، ليبلو بعض العباد ببعض، فيميز من أضاع دينه ممن حفظه.
पृष्ठ 83
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الآتي ابلغ بيان وأكمل عظه. ورضي الله عن أصحابه الذين جاهدوا في الله باليد واللسان أشد الجهاد أغلطه، فنبهوا الغافل، وعلموا الجاهل، وردعوا الظالم، وبعثوا النائم عن غمرات الموت إلى اليقظة، وعن التابعين لهم بإحسان، الناصحين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولائمة المسلمين وعامة أهل الإيمان، الذين أخبر عنهم الصادق الامين صلى الله عليه وسلم أنهم "لايزالون على الحق ظاهرين إلى أن يأتي أمر الله"(¬2)، ولو اجتمع عليه الثقلان، الآتين من الحجة والبيان، والمدافعين بالسيف والسنان، أشد ذلك على الشيطان وأغيظه.
سبب تأليف الكتاب
وبعد:
فلما كان بيان ما التبس من الدين، والذب عن شرائع المرسلين، وحفظ عقائد المسلمين، مما أخذ الله فيه على العلماء الميثاق، وشدد فيه من العبد الوثائق، وذمهم أبلغ الذم على ترك البيان، ووبخهم غاية التوبيخ على نبذ الكتاب وراء الظهر، وبيعه بالقليل من الاثمان، وتوعد على السكوت والكتمان بتسعير النيران، وعلى ترك النصيحة بحرمان الجنان، والبعد عن جوار الرحمان. وكان في بعض هذا أبلغ رادع عن السكوت، وأتم قامع عن التغافل والخفوت. ووقع في بعض ما علم تحريمه بضرورة الدين، واستوى فيه علم اليقين وعين اليقين، تلبيس من كبير في الزمان، حيث أطلق فيه العنان، وكانت أكثر الطباع مجبولة على التقليد لفقدانه النظر السديد، وتعرفه الحق بالرجال، لا يميز الجائز والمحال، وكتب فيه من الهذيان والوسواس ما جاز بهرجه على كثير من الناس. وكان مما يجب على الانام، اعتقاد ما اشتمل عليه الكتاب والسنة من الاحكام. فمن استحل شيئا مما حرمه الله، عالما به، فخارج بإجماع عن الدين والإسلام، ولم يشترط العلم به، بل قال في باطل أنه حق وواجب أو لازم، وأنه كان في بعض العلماء الاعلام.
पृष्ठ 84
ولما وجب تغيير هذا المنكر الفضيع، ورد هذا المنكر الشنيع، وكلت الكلام فيه مرة لأهل الباس في الدين والشدة، واستنجدت في ذلك من استنجدني ممن اعتقد أن لديه الحمية الإيمانية بأوفر نصيب، وقلت لعل الله يكفي بما شاء، فلم أر من تعرض لذلك من مخطئ ولامصيب، بل كلهم أحجم وقال هذا يوم عصيب، وعلمت أن خيرا مما عند الناس ماعند الله، وتحققت انه إذا ظهرت البدع وسكت العالم، فعليه لعنة الله. فاستخرت الله تعالى فيما انبه به الغافل، وأبصر به الجاهل، رجاء الموعود به فيمن دعا إلى الهدى، وأن يكون ذلك لأمر الله عز وجل وادا، وحسنة باقية على مر المدى. وكم نصحت في ذلك وأفصحت، وبينت وأوضحت، والشياطين تجرف من السطوات، وتحذر من الهفوات، فأقول مجيبا:
أشد على الكتيبة لا أبالي ... ... احتفي كان فيها ام سواها
فليتك تحلو والحياة مريرة ... ... وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر ... ... وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين ... ... وكل الذي فوق التراب تراب(¬1)
وهذا حين اشرع فيما اجملته على التفصيل، مؤكدا بالبرهان والدليل، معتمدا على الله حسبي ونعم الوكيل.
पृष्ठ 85
والقضية التي وقعت فيها المنازعة، وكثرت فيها المراجعة، حرمة المغرم المسمى بافريقية في هذه الأعصر بالخطايا، المتضمن لأجناس البلايا(¬1)وأنواع الرزايا، وهو عبارة عن أخذ المال من ذوي الجنايات، كالفتل والجرح والقطع والسرقة، وسائر الفواحش، كم عطل بسببه من الحدود التي وصف الرب سبحانه بالظلم متعديها، وتتبع لأجله من العورات التي اشتد وعيد متتبعها ومبديها، وتطرق منه إلى اتهام الرئ، وبحث لأجله على المستور والخفي، واجترأ ذو السعة بها على الشهوات، وهناك ما شاء من الآيات، وأخذ فيها بقول قائل، وتوصل إليها مما ليس تحته طائل، وطلت بها الجراح والدماء، وصار الحكام من أجلها في عمى وعمه. لطالما اشتدت إليها الأطماع، واشتهرت حتى قدرت بالمد والصاع، وأخذ فيها الجر بالجار، والمتبوع بالاتباع، وصارت سنن وأحكام الشريعة فيها ابتداع، كأن لم يقرع نهي الله سبحانه عن أكل المال بالباطل قط الاسماع، ولم يجمع بينه وبين القتل في النهي حتى لم يبق فيه اتساع. وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما عظم تحريمه بمحضر الاشهاد في خطبة حجة الوداع، وكأن المال لم يجمع على تحريمه على كل التقدير والأوضاع، وكأنه صلى الله عليه وسلم لم يقل: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم، إلا بحقها وحسابهم على الله"(¬2)، وقد انعقد على صحته الإجماع. لكن منع عين الحرص يعوذ الشعاع، وحب الشيء يعمي الابصار ويصم الاسماع، وما لما رفعه الله من واضع، وما لما وضعه الله من ارتفاع.
पृष्ठ 86
إلى أن وفق لقطعها من الهمه الله رشده، وقرن باتباع أحكامها الكتاب والشريعة يمنه وسعده، وشد بأدعية المؤمنين ملكه وأيده، وصدقه الله في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعده فاعلى كعبه ومجده، وأذل أعداءه، وأعز أولياءه وجنده، أمير المؤمنين، المهدي لاحياء سنة المرسلين، أبو فارس عبد العزيز، جعله الله في حصن حصين وحرز حريز، انه عرف ما فيها من الغوائل، وما دخل على المسلمين فيها من الدخائل(¬1)، ولم يخف عنه فيها ان الاسم هو المسمى، وانكشف له انكشافا، لم يفتقر معه إلى إخراج المعمى، وتجلى له الحق، وكيف يخفى إلا عن بصيرة أعماها حب دنياها واتباع هواها؟ ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا(¬2)، فأثر النجاة من شرها والسلامة، وتبرأ من موجبات الخزي والندامة، وشهر إسقاطها رجاء أن يثقل ميزانه في عرصات القيامة، وأمر بالسياسة الشرعية التي مضى عليها الخلفاء الراشدون، ومن يرتضي من أهل الإمامة، وأنفذ ذلك من حكمه وقضائه، وعزمه الصادق في تحقيق الحقائق وإمضائه، وثبت ذلك في ديوان المكرمات التي أفادها، والمظالم التي محاها وأبادها، والسنن التي أميتت فأحياها وأعادها، ملأ الله قلبه خشية ورحمة، وشرح صدره بنور العلم والحكمة، وضرب عليه سرادق الحفظ والعصمة، فصفر منها وطاب المعتدين، وحسده الشيطان اللعين، فخيل إليهم أنهم إليها غير عائدين، الا أن يجمعوا مكر الماكرين وكيد الكائدين 3/185 ب، فأجمعوا أمرهم على امهال الرعية، وامهال الشريعة، وامهال السياسية الشرعية، وترك حدود الله غير محفوظة ولا مرعية، وإن بعثوا من كل ناحية شكية، ويوذنوا أن كثرة الفساد قطع الخطية. وسبق القلم على من ذكر، فألقى إليهم الاباحة فتمت لهم الامنية، وقد كانوا قبل ذلك في محاورة ومصانعة، ومقاولة ومراجعة، فاستطاعوا ان ينزلوا الخليفة أيده الله عن تلك المنقبة العلية، والرتبة الرفيعة المرضية، حتى زل معينهم في مزلة الهوى، وأغوى لما غوى.
وأنا أسأل الله أن يعصم أمير المسلمين من سواهم، وينجيه من مكيدة إلباسهم. وإليه أضرع في ذلك، فهو الذي بيده أزمة الالسنة والقلوب، وهو الذي يصعد إليه الكلم الطيب غير محجوب.
पृष्ठ 88
مسألة علم حكمها من الحرمة بضرورة الأديان، فكيف تفتقر إلى دليل، ويقام على المحسوس برهان؟ قالوا إذا لم يكن ردعهم إلا بالمال(¬1)، قلنا هذه دعوى عرية(¬1)عن الاستدلال، في مقابلة الدليل العاصم للمال، والروادع الشرعية أردع على التفصيل والاجمال. قالوا: (هذا من)(¬2)المصالح المرسلة. قلنا: هذا من الغباوة والبله(¬3)، المرسل ما لم يقم دليله على اعتباره وإلغائه(¬4)، وتحريم أكل المال(¬5)ضروري من الدين، لا سبيل إلى انتفائه، مع أن عقوبات الجنايات في الشرع مشهورة، وفي كتب الشرائع مسطورة. أفتزيدون في شرائع ربكم؟ أم تريدون ان تأتوا بها من عندكم؟، أأنتم أعلم أم الله؟، أأنتم أحكم أم ليس الأحكام لسواه؟، أخطأتم بالطول من المصالح والعرض؟، أم تنبئون الله بما لا يعلم ما في السموات والأرض ؟، أتجهلون الله في علمه؟، أم تجورونه في حكمه، ما الفرق بينكم وبين من يبدل الجلد بالقطع؟ أو يزيد عليه؟، والقتل بالقطع أو العكس، أو يضيفه إليه؟. أليس هذا من المصالح انما يصير ما زاده مرجوحا، وما زدتموه الراجح. ولو ساغت الزيادة في المشروع لكنتم أولى منه بالنزول إليه والرجوع، لأنه وان أمر بالزيادة، فما خالف في الحق اعتقاده.
पृष्ठ 89
هذا، وما رأه أردع عن المفاسد مما رأيتم ، وأقرب للشريعة عمارمتهم، لأن العقوبات البدنية في الجنايات كثيرة مشهورة، والمالية جمع على تركها، وعلى القول بها في بعض الأنواع محصورة، والوارد منها متأول على وجوه ظاهرة، والنصوص على تحريم أكل المال بالباطل قطعية متظاهرة. فما لكلمات الله تبديل، وليس لقضاء الله تحويل، وتلاشت علوم العالمين في عمله، والله يحكم لامعقب لحكمه. فقفوا عند أحكام الله ولا تكونوا من الجاهلين، "إن الحكم إلا لله، يقص الحق، وهو خير الفاصلين"(¬1)؟. هل يتعدى الحدود أو يزيد عليها إلا من فقد عقله وحسه؟، ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه"(¬2). أي عذر لكم إن زدتم على حكم ربكم أو نقصتم؟ ، وأي خلاص؟ وقد سمعتم الله تعالى يقول: "وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والانف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص"(¬3). أما سمعتم الله يقول في هذه الجنايات: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، وأولئك هم الظالمون، وأولئك هم الفاسقون(¬4)؟ هذه أردية من أراد أن يزيد أو ينقص في شريعة ربه، فإن استطعتم، فارتدوها وأنتم هالكون خاسرون. و"تلك حدود الله فلا تعتدوها، ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون"(¬5).
وهذه الظلمات التي أوجبت الغرور، ونحن إن شاء الله نتتبعها. بما يشفي الصدور (4=186/أ) ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
पृष्ठ 90
عنوان الكتاب وسميته: بمطالع التمام ونصائح الأنام، ومنجاة الخواص والعوام، في رد القول بإباحة اغرام ذوي الجنايات والإجرام، زيادة على ما شرع الله من الحدود والأحكام(¬1). وإن شئت، قسميه: بالنصائح الجلية في فضائح القول بتحليل الخطيئة. وان شئت : فنصح البريئة في تخطية من حلل الخطية(¬2). وإن شئت: فرد الرأي المضلل في الظلم المحلل(¬3). وان شئت: فالرماح الخطية في دفع القول بتحليل الخطية. وان شئت: العضب الباترة للآراء الخاسرة. وإن شئت فطعان الأسنة لمن خالف الكتاب والسنة(¬4). وإن شئت: فرمى السهام لمن ضلل الحكام. وإن شئت: فالعذب السلسال في تحقيق الحق في منع العقوبة بالمال. وإن شئت: فنصح الخلفاء في التحصن بحصون الوفاء، والاعراض عن مقالات أهل الغلو والجفاء، اتباعا لشريعة المصطفى صلى الله عليه وسلم. فكلها أسماء وافقت معناها، وطابقت مسماها. والله المسؤول أن يجعل ذلك خالصا لوجهه الكريم، وسببا للنجاة من طعام الأثيم وغل الجحيم، ولدخول جناة النعيم، فهو البر الرحيم، الجواد الكريم.
पृष्ठ 91
طرح المسألة في مجلس الخليفة أبي فارس قال المفتي المذكور: وقعت المسألة بين يدي الخليفة أمير المؤمنين، الملك الصالح، العدل المجاهد في سبيل الله، أبي فراس عبد العزيز، أيده الله ونصره، وهي ما يعاقب به الجاني ارتكب جرحا أو قطعا أو هروبا بامرأة، أو أخذ مالا بسرقة او خيانة، او بحرابة أو نحو ذلك من التعدي والغضب. وهي مسألة مشهورة بافريقية بالعقوبة بالمال في هذه الجنايات.
पृष्ठ 92
أقول: إن أراد انها مشهورة الحرمة بين العلماء، يذكرونها في مجالسهم ومذاكراتهم ويأنفون من وقوعها فصحيح، وهو حجة عليه فيما رام من التحليل. وان أراد بانها مشهورة بأنها من الحق والعدل، فبهتان مبين، ولاحجة في السكوت عن التغيير على الحكام لما علم أنه لا ينفع الانكار عليهم، بل وبما صار حرمة الخطايا من ضروريات الشرائع. ومن خفي عليه مدرك الضرورة في ذلك، فعليه باستقراء مواقع الأحكام، فيجد الله تعالى قد حكم بالقصاص. وان أراد أنها مشهورة الوقوع، وشهرة وقوعها بافريقة دليل على تحليلها، فهذا استدلال باطل، وكلام عن الحقيقة حائل. فكم اشتهر بالبلاد من المظالم والمكوس والمنكرات والمحرمات بالإجماع؟. فوقوع الفعل من المكلفين، لايدل على الإباحة والجواز، إلا في حق من ثبتت عصمته، وهذا جلي عن أن يفتقر إلى دليل، لمن له أدنى فهم ودين. لكنه ربما استمر المنكر فخف وقعه على القلوب، فتنوسي انكاره، لاعتياده واعتياد السكوت عنه، فيعتقد البعداء عن الشريعة حقيقته، ويسندون ذلك الوهم إلى أنه لو كان منكرا لما اشتهر، ولو كان منكرا لأنكره علماء العصر، أو لم كان منكرا لأنكره فلان العالم، وفلان الصالح، وفلان المعتقد، وما يلقون البال إلى مانع الانكار، ولا إلى ما للساكتين من الاعذار، وإلى ما يقع لهم من انكار ذلك لي مجالس التعليم والمذاكرة، بل يجازفون (5 = 186 / ب بذلك) القول مجازفة الجاهلية في قولهم: "إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون"(¬1). وقد انتهى الأمر إلى أن صار انكار المنكر اغراء عليه، وتنبيها على المسارعة إليه، للقوة الغضبية، وبعثا للعصبية على تحليله، وتفسيق من قال: يستوي قولهم وتضليله. فكيف لا يسكت الناس عن تغيير المنكر خوف الزيادة؟، وقد صار هذا المشار إليه بالعلم يستدل على التحليل بالشهرة والعادة.
पृष्ठ 93
وان اراد أنها مشهورة الوقوع، وليس ذلك بدليل على الإباحة، فهو كلام لا يفيد إلا مجرد التلبيس، وإيهام الباطل، وليس هكذا أخذ الله على العلماء، إنه لا يفعل هذا إلا منسلخ من الآيات، مخلد إلى الأرض، أرض الشهوات. وليس يحتمل الكلام من الإقناع غير هذا.
قال : وقد أسقطها كما أسقط غيرها من المظالم أثابه الله الحسنى
أقول: هذا الذي تقدمت الإشارة إليه، وهو صحيح في أن الخطايا مظالم أن ثبتت عليه، ثبتنا الله وإياكم بالقول الثابت.
قال: فلما أسقطها، كثر الضرر وعلا وارتفع، وصار الذي يقتل ويجرح تحت والي الجور، يرشيه ويقع التجاوز عنه.
أقول: ان أراد أن كثرة سبب الضرر عند إسقاطها، دخول الجاني تحت والي الجور وقبول الرشوة على إسقاط الجنايات، فصحيح. والعلة في كثرة الضرر حينئذ، جور الولاة، وقبول الرشا على الجنايات. وهذا الداء موجود مع إسقاط الخطايا، ومع وجودها أكثر، إذا لم ينه عنها، كان أقل نفرة منها، بل أخذ المال من الجاني يبرد غليلهم، ويشفي غيضهم، فكيف يتنقمون منه لله تعالى بعد ذلك؟ فإذا كوقت الجاني، ومنع الوالي من الجور وقبول الرشا، وأمر بإقامة الحدود، وإنصاف المظلوم، انحسم الداء واستقام الأمر وقل الضرر، كما قال تعالى: "ولكم في القصاص حياة"(¬1)، ولا مبدل لكلمات الله. وقد قالت العرب في جاهليتها: "القتل أنفى للقتل"(¬2)، ولم يقولوا: الدنانير والدراهم أنفى للقتل، ولا قال الله تعالى: ولكم في الدنانير والدراهم حياة.
पृष्ठ 94
وإذا أراد أن سبب الضرر وعلوه وارتفاعه، هو الإسقاط لذلك الظلم، كما دلت عليه آنفا، ولما مر كلامه، لا جور الولاة وإهمال الحدود، فهذا قول يدفع بعضه بعضا، ويعقب الإبرام فيه نقضا. فإنه إذا ثبت أن أخذ المال في ذلك ظلم، كما دل عليه سابق كلامه، فإسقاط الظلم واجب في جميع الملل، لا تختلف فيه أمة من الأمم، وذلك معلوم من الأديان بالضرورة، لا يقبل نسخا ولارفعا، ولايجوز أن يكون دينا ولا شرعا، ومنكر ذلك والشاك فيه كافر. فإذا ثبت أنه محرم بإجماع، وكل محرم مأمور بتركه، وكل مأمور بتركه فالأمر به عدل، أن الله يأمر بالعدل والإحسان، والعدل مالا ضرر فيه ولاحيف. وإذا كان ترك عدلا في حكمه تعالى، امتنع أن يحدث منه ضرر، فضلا عن علوه وارتفاعه، لأنه لو حدث منه الضرر العالي المرتفع، لم يكن عدلا، وما ليس بعدل فهو جور، فيلزم أن يكون العدل عند الله جورا، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. من اعتقد هذا فقد جهل الله في علمه، وجوره في حكمه، وغنما نشأ هذا من اعتقاد أن إسقاط الخطايا هو السبب في كثرة الفساد. إنما السبب في ذلك، هو ترك الحدود بالرشا، وإهمال العباد. هل الخير كله إلا في العدل، وهل الشر كله إلا في الجور؟، وهذا اعتقاد ينزه عنه كل ذي قلب سليم، والله يدعو إلى دار السلام، ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
قال: فأعاد ذكر المسألة في المجلس المذكور في أوائل من محرم فاتح عام ثمانية وعشرين وثمانمائة، لينظر حسم (6 = 18 /أ) هذا الباب وقطعه، لعظيم مصيبته.
أقول: مراده بهذا الباب الذي وصفه بعظيم المصيبة، والله أعلم، هو ما أشار إليه من كثرة الضرر وعلوه وارتفاعه عند إسقاط الخطايا.
قال: منحه الله التوفيق، وهدانا وإياه إلى أقوم طريق : فقال بعض من ينتمي للطلب بسد الباب.
पृष्ठ 95
أقول: أما القيام لله فواجب، قال الله تعالى: "قل إنما أعظكم بواحدة، أن تقوموا لله مثنى وفرادى"(¬1). وما فعله هذا المنتمي للطلب من سد باب الظلم الذي اعترف به هذا المفتى بأنه ظلم، ودعا لأمير المؤمنين إذ قطعه، فرض الله على جميع من حضر، ومن بلغه ذلك ممن غاب، ونصحه لله تعالى في نصرة دينه، ولكتابة فيما دل عليه من أحكامه، ولرسوله صلى الله عليه وسلم في لزوم شريعته، ولأئمة المسلمين في عدم غشهم والتغرير بهم، وتخييل الباطل لهم حقه والجور عدلا، ولعامتهم في حفظ دينهم وحدودهم وأموالهم وأعراضهم، وحملهم على سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وحفظ عقائدهم من أن يعتقدوا حلية ما حرم الله.
فان قلت: من أراد بقوله: بعض من ينتمي للطلب؟
قلت: الذي سد الباب أولا، وقال لا أصل لها في الشريعة، قاضي الجماعة بالحضرة العلية(¬2)في تاريخ النازلة، ومنزلته في الفقه معلومة، والشيخ أبو عبد الله بن مرزوق(¬3)، ورتبته في التحقيق والعلم معروفة، ومعلق هذا الشرح. ونسأل الله أن يحقق لنا النسبة إلى طلاب العلم العالمين، ويحشرنا مع العلماء الراسخين.
فان قلت: فكيف قال هذا المفتى: بعض من ينتمي إلى العلم، هل هذا إلا بمنزلة من نقول لصحيح النسب: يا دعي، مع أن قطع النسب الديني أعظم من قطع النسب الظني؟
पृष्ठ 96
أبي الإسلام لا أب لي سواه ... ... إذا افتخروا بقيس أو تميم(¬4) يا عبد نادني عبد زهر ... ... يعرفه السامع والرائي
لاتدعي بيا عبدها ... ... فإنه أشرف أسمائي(¬1)
قلت : الغضب غول العقل. وهذا ما نحسبه عند الله ونتركه لوجه الله، ولو لا حماية الشريعة، ما استجزنا مراجعته، ولا اخترنا منازعته. لكن كما قال الحكيم: تخاصم الحق وأفلاطون وكلاهما صديق، والحق أصدق منه.
... قال: وتابعه على ذلك بعض من الطلبة، لعدم تظلعهم في العلوم، واستنباط الأحكام من قواعد العلم.
أقول، وأما متابعة بعضهم على ذلك، فمتابعة الحق أمر واجب، وضربة لازب. وهو قد أقر أن الخطايا ظلم، ودعا لأمير المؤمنين إذ أسقطها، فكيف يذم بالمتابعة على سد بابها؟.
فإن قلت: ما له يقلل اتباعهم الحق بعد تضلعهم في العلوم، واستنباط الأحكام من قواعد العلم؟ وما الذي فاتهم في هذه المسألة؟.
قلت: ما فاتهم إلا إقامة الحجج على كتاب الله، وعلى القواطع من سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إهمال الوقوف عند حدود الله، والزيادة في الشرائع وتغييرها، بحيث لا يزعهم عن ذلك وازع. والسلامة من هذا العلم غنيمة المؤمن ورأس ماله، وخير صفات العالم وأحسن خلاله. ولله در قول القائل:
إذا لم يفدك العلم خيرا ... ... فخير منه أن لو قد جهلت
وإن ألقاك فهمك في مها و... ... فليتك ثم ليتك ما فهمت
فإن قلت : ما بال ضاء انقلبت ظاءا؟.
قلت : لاعتب على المملي في ذلك، وإنما العتب على الكاتب.
فإن قلت: هلا أثبتها أنت على الصواب
قلت : إلا حسن أن يحكى الكلام على هينته، مم ينبه على علته.
पृष्ठ 97
فإن قلت: ما معنى التضلع في العلوم، وكان اللفظ يقتضي عظمة إضلاعه فيها، وما لهذا معنى؟، وإنما العبارة المتداولة الدالة على الامتلاء (7=187/ب) من الشيء، أن يقال: تصلع من كذا لا تضلع فيه.(¬1)
قلت : هذا مما ينبغي عنه الأعراض، والمسامحة في حق الشيخ.
فإن قلت : ما معنى استنباطه الأحكام من قواعد العلم، والاحكام تستنبط من أدلتها التي هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس ونحوها، وإنما القواعد آلة للاستنباط.
قلت : وهذا أيضا مما ينبغي أن ينظر إلى مثله في هذا الكلام.
فإن قلت: من هؤلاء الطلبة التابعون، الذين لم يتضلعوا في العلم واستنباط الأحكام من قواعد العلم.
قلت: هم رؤساء العصر وفقهاء الزمان، النازلون من الدهر منزلة الأرواح من الأبدان، والنظر من عين الإنسان. فإن النازلة كانت في محفل مشهود، ومنهل مورود.
فإن قلت: فهذا إذن غض من نصابهم، وتنقص لجنابهم. على أنه لم نعلم منهم إلا اتباع الحق، والنطق بالصدق، مع أن القضية تشهد بثقوب أفهامهم، ورسوخ أقدامهم.
قلت: ما من القوم من تؤاخذه بمثل هذا العلم سنه، وتقادم نظره في مسائل الفقه وفنه، وكلهم يوقره توقير الآباء، لولا ما ظهر منه في هذه المسألة من الآباء. ولولا أنها تهدم من أصول الشرائع أصلا كبيرا، فلم يسمع من أحد منهم قليلا ولا كثيرا، ولبقوا كما كانوا تعزيزا وتوقيرا.
فإن قلت: وتضمن كلامهم أيضا فخرا على غيره بالتضلع في العلوم، واستنباط الأحكام من قواعد العلم.
قلت: لا شك ولا ارتياب أنه في طلب العلم شب شارب، ولكن العلوم منح الهية، ومواهب ربانية. وليس في كل أن تأتي على قدر الكبر والاكتساب، فالناس بين مكدود محدود، ومعان مجذود، ومقرب ومطرود. نسأل الله خاتمة السعداء وميتة الشهداء.
فإن قلت: مابالك لا تالو لمناقبه تصحيحا، وهو يغض من الحاضرين تارة تعريضا وتلويحا، وتارة تنصيص وتصريحا؟، فما حملك على ذلك؟.
पृष्ठ 98
قلت : قول القائل:
وإن الذي بيني وبين بني أبي ... ... وبين بني عمي لمختلف جدا
إذا أكلوا لحمي وفرت لحومهم ... وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
لولا الاغترار بكلامه في تحليل ما علم تحريمه، ما كنا لنتعرض إليه بوجه، وقد اختلط بالبر عليمه.
قال: فقلت له على وجه المذاكرة.
أقول: لو أنصف، بصره الله، لقال: فقلت على وجه الفتوى والإشارة، ولا سيما أنه وقع في غير هذه النسخة من الإملاء، أن أمير المؤمنين استشار في هذه القضية.
قلت: وما يستشير إلا ليقف على الحق، وجواب المستفتي والمستشير إنما هو الفتوى والإشارة لا المذاكرة. وتبريه من الواقع الذي هو الفتوى، مشعر بأنه بين له ضعف ما فاه من الدعوى. فليت شعري ! ما الذي حمله على أن نبذ بالعراء ما طوقه وحمله؟، فبدأ في المسألة وأعاد، وطول، فما أجدى ولا أفاد، وزاد وأكثر، فما قل منه خير مما كثر، من غير مبالاة فيما جاء به من التناقض، ما اشتمل عليه الكلام من التدافع والتعارض. ثم هو يجيء في استدلاله، إنما هو بمتروك، أو بمنسوخ، أو بمأول، أو بمردود، أو بضعيف، أو بباطل، فيكتم ما أوجب الله من البيان، ويركض فيما لا يعتمد عليه من ذلك ملء العنان. وهيهات، فما لشمس الضحى من خفاء، وما لنور الله من انطفاء، وصولة الحق للباطل دامغة، ولله الحجة البالغة. لايثبت للباطل مع الحق قدم، والدجاج فيه غايته الملامة، وعقابه الندم.
بناء المسألة على قاعدة المصالح المرسلة والجواب عنه من وجوه
قال: هذه المسألة ينبغي أن تجري على حكم المصالح المرسلة، وهو الوصف المناسب الذي لم يشهد له الشرع بإهدار ولا باعتبار.
أقول: هذا الكلام فاسد، وقول عن سبيل (8=188/أ) الحق حائد، وذلك من وجوه:
पृष्ठ 99
الأول: أن الكلام مفروض على ما حكاه أول كلامه فيما يعاقب به الجاني إذا ارتكب جرحا، أو قطعا، أو قتلا، أو هروبا بامرأة، أو أخذ مالا بسرقة، أو خيانة، او بحرابة، او نحو ذلك من التعدي والغضب. هذا نصه وعين لفظة. وإذا كان هذا فرض المسائل المسؤول عنها، فأحكامها من الكتاب والسنة وإجماع الأمة قطعا على وجه من التنصيص، لايحتمل التأويل، وليس إلى تبديله والزيادة عليه، أو النقص منه من سبيل. ومن قواعده التي أشار إلى أن غيره لم يتضلع فيها، وهو وحده تضلع فيها، أنه لا يحل الاجتهاد ولا يصح، بل لا يعقد إلا فيما لم يعلم حكمه من كتاب ولا سنة نصا، ولا من الإجماع. ثم أن المصالح المرسلة، من أغمض طرق الاجتهاد. ثم هي، على القول بدلالتها، من أضعف الأدلة، ولذلك اتفقت الشافعية والحنفية وأكثر الفقهاء على امتناع التمسك بها(¬1). والاجتهاد في العقوبة الرادعة لهذه الجنايات، فضلا عن بنائها على المصالح المرسلة، مع القطع بأحكامها من الكتاب الوسنة، خارج عن المعقول، مخالف لاجماع أهل الفروع والأصول، سيما في مسائل الحدود، لدخول التعبد في مقدارها، والتشديد الوارد في الشريعة في حق من لم يلزم أحكامها في إيراد وإصدارها.
والدليل على ما قلناه من كتاب الله، قوله تعالى: "وما كان لمومن ولا مومنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا(¬2). وقد دل على حرمة الاجتهاد فيه، نص الله وقضاء رسوله صلى الله عليه وسلم من وجوه:
الأول : أنه سبحانه جعل ذلك منافيا لوصف الإيمان.
الثاني : سجل على فاعل ذلك العصيان.
पृष्ठ 100
الثالث: أنه سبحانه حكم عليه بالضلال المبين، وذلك غاية الخسران.
وأيضا فقد علمت أن من هذه الجنايات الزنا، وما في الصحيح(¬1)من أن بني اسرائيل قد انزل الله عليهم في التوراة أن يرجم الزاني، فكثر في إشراف بني اسرائيل، فكانوا إذا أخذوا الشريف تركوه، وإذا أخذوا الضعيف أقاموا عليه الحد، ثم رأوا أن ذلك جور، فنظروا بنظر المصالح حكما يعدلون به بين الشريف والمشروف والقوي والضعيف، واصطلحوا على أن يجعلوا ذلك التحميم والجلد، فذمهم الله تعالى، إذ عدلوا إلى الاجتهاد مع وجود النص، بقوله سبحانه:"وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك، وما أولئك بالمومنين"(¬2)مع أن اجتهاد بني اسرائيل في هذه النازلة، أقرب إلى الصحة ممن يرى أن يغرم في مسائل الحدود المال من ثلاثة أوجه:
الأول: أن حكم المصلحة الذي(¬3)اعتبروه، شهد الشرع بجنسه من العقوبات البدنية، وبنوعه الذي هو الجلد. وحكم المصلحة التي اعتبر هذا الذي يريد أن يجعل المسألة اجتهادية، لم يشهد الشرع بها في حد من الحدود.
الثاني: أن الردع بالجلد والتحميم أبلغ من الردع بأخذ المال، لأن العلق يفدي بدنه وعرضه بماله، لا ماله ببدنه. ولذلك قيل:
أصون عرضي بمالي لا أدنسه ... ... لابارك الله بعد العرض في المال
أحتال للمال أن أردى فأجمعه ... ... وليس للعرض أن أردى محتال
الثالث: أن اجتهاد بني اسرائيل أفضى بهم إلى نوع من الردع لم ينهوا عنه بالتنصيص، وهو الجلد والتحميم، وأما الذي يريد أن يجتهد ليشرع أخذ المال في الجنايات، فيفضي به الاجتهاد إلى ما علم تحريمه بالضرورة من الشرائع، وهو أكل المال بالباطل.
पृष्ठ 101
فإن قال: ما قلت بتعطيل الحد الواجب، كما فعله بنو اسرائيل، لأن الحدود إذا وجبت لم يكن غيرها، ولا يحل اغرام المال فيها، بل يجب على من ولاه الله إقامتها. وإنما أقول بذلك فيما لم يجب فيه الحد، لعدم ثبوت ما يجب به. أو قال: إنما نقول بالمال زيادة على الحد المشروع. وقد صرح المملي بهذا، والتزمه في بعض مراجعاته: لابد منه.
فالجواب: إنه أن أراد ذلك، وجب عليه أن يبين الموضع الذي يريد أن شرع بالمصلحة فيه (9=188/ب) الردع، ولايطلق في موضع التقييد، ولا يعمم في محل التخصيص.
فان قيل: اعتمد في التقييد على المتعارف المعتاد.
قلت: هو يعلم وغيره أن المعتاد بذلك غير منضبط ، بل الأمر عندنا من يباشر ذلك في ازدياد، لايقال: اعتمد على ما عرف الشريعة من أن تعطيل الحدود غير جائز. قلنا: واقعات الوجود الخارجي لا تتغير بالتعارف من الشريعة، وهو قد أجرى على المصلحة المرسلة العقوبة بالمال المشتهرة بقوله في مفتتح كلامه: مال يعاقب به الجاني، وهي مسألة مشهورة بالعقوبة بالمال(¬1). وفي آخره قال: ينبغي أن يجري على المصالح المرسلة. فما هذا ممن أنصف واتقى، إلا تصريح بالاجتهاد في الأمر الخارجي المعتاد.
قال: إباحته من المصلحة. ثم هذا ليس بالذي ينجيه، فإن الجهة التي تعلق الذم بها، الاجتهاد في موضع النص، وهذا قدر مشترك، سواء جعل أخذ المال من الجناة زائد على الحد أو بدل، مع أن الزيادة فيها تعد الحدود الله، "ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون"(¬2).
فان قال: أنا لا أقول بإغرام المال إذا ثبت موجب الحد بوجه، وإنما أقول به إذا لم يثبت، وأرجع عما اقتضى ثم ظاهر الكلام، لأن الرجوع إلى الحق خير من التمادي على الباطل.
पृष्ठ 102