मसराहिय्यत शौकी
محاضرات عن مسرحيات شوقي: حياته وشعره
शैलियों
وأما المصدر الثالث فهو مشاعر شوقي الشخصية والهدف الذي رمى إليه من كتابة هذه المسرحية، وهذه المشاعر وذلك الهدف نجدها مبسوطة مفصلة في النظرات التحليلية التي أرفقها شوقي بمسرحيته، إذ نراها تفصل المواضع التي جانب فيها شوقي التاريخ، وتبرر هذه المجانبة بحرص شوقي على أن يرد إلى كليوباترة كملكة مصرية، اعتبارها أمام التاريخ، وأن يدافع عن سمعتها، وهذا العنصر هو الذي سيطر على شوقي في كتابة مسرحيته، وخالف بينها وبين التاريخ من جهة، وبين المسرحيات الأوروبية التي تناولت هذا الموضوع من جهة أخرى.
والذي لا شك فيه أن شوقي عند كتابة هذه المسرحية قد كان شديد الحرص على أن يحظى بتصفيق الجماهير المصرية وإعجابها؛ ولذلك حاول أن يرضي مشاعرها الوطنية، ومع ذلك أخطأ السبيل؛ وذلك لأنه وإن يكن قد تحرر في الفترة الأخيرة من حياته إلى حد ما من تبعيته للسراي والأسرة المالكة، كما أخذ يتقرب إلى الشعب المصري منذ أن أثبت وجوده بثورة سنة 1919 الرائعة، إلا أنه ظل مع ذلك يرى في ملوك مصر بؤرة الوطنية ورمزها الأول، حتى خيل إليه أن دفاعه عن ملكة حكمت مصر يعتبر دفاعا عن الوطنية المصرية، ولكنه نسي أن كليوباترة اليونانية الأصل لم تكن مصرية، بل سليلة الغزاة الذين - وإن استقلوا بحكم مصر - إلا أنهم ظلوا دائما يستعلون على المصريين، ويشعرون إزاءهم بعزة الغزاة، حتى كانوا يحرمون الزواج من المصريين واليونانيين، كما أثبتت الوثائق التي اكتشفت في نيوقراطيس بمديرية البحيرة، وقد اشتهرت أسرة البطالمة ذاتها بالقسوة والغدر والانحلال، حتى كان الواحد منهم يقتل أباه أو أخاه طمعا في الملك على نحو ما حدث في تاريخ كليوباترة ذاتها، إذ تزوجت بأخيها الأصغر، ولم يمنعها ذلك من التآمر عليه والاستعانة بالرومان للفتك به والاستئثار بالملك دونه، وبالضرورة لم يستطع شوقي أن يطمس كل هذه الحقائق التاريخية، التي تتجمع إلى جوار انحلال كليوباترة الشخصي، وخضوعها لمطامعها الجامحة وشهواتها الحيوانية، فتجعل منها شخصية حقيرة بغيضة لدى المصريين، والراجح أن شوقي قد أحس في غموض بهذه الحقيقة النفسية الكبيرة، فحاول أن يصور شيئا من حقيقة شعور المصريين عندئذ ضد هذه الملكة الداعرة، وصور هذه الحقيقة عند بعض الشخصيات المصرية الثانوية في المسرحية، وبخاصة شخصية حابي الذي لا يتورع في مطلع الرواية عن أن يعلن تمرده على كليوباترة ومخازيها، ولكنه لسوء الحظ لا يلبث أن يستخذي، وأن ينسى تمرده وكرامة وطنه بعد أن أرسلت كليوباترة له حبل الغواية؛ لكي يهيم غراما هو الآخر بهيلانة الوصيفة اليونانية، بل وأجهزت عليه كليوباترة، إذ منحته هو وعشيقته ضيعة بصعيد مصر، فأفقدته فكرة الحياة فيها مع عشيقته كل تمرد وكل وطنية مصرية ثائرة لكرامتها، وبذلك جعل منه شوقي ممثلا سيئا للشعب المصري، الذي صوره شوقي شعبا سلبيا منساقا من السهل تضليله؛ إذ هو كما يقول: «ببغاء عقله في أذنيه»، حتى لنراه عند شوقي «يصفق لمن شرب الطلا في تاجهم، وأحال عرشهمو فراش غرام»، ولقد يكون في هذه الأوصاف شيء من الصدق، ولكنها على أيه حال تتنافى مع الهدف الذي رمى إليه شوقي، وهو إرضاء عاطفة الوطنية عند المصريين، واكتساب إعجاب الجماهير، وهي قد تكون مفهومة، بل ورائعة عند كاتب واقعي كشكسبير أو غيره، ممن يتخذون لهم هدفا الكشف عن الحقائق الإنسانية مهما تكن قاسية مظلمة، وأما أن يريد شوقي تملق العواطف الوطنية، ثم يأخذ في الدفاع عن كليوباترة الملكة اليونانية الفاجرة، ودمغ الشعب المصري بهذه الصفات، وتحقير ممثله فذلك ما لا نراه متسقا مع هدفه.
والواقع أن تاريخ كليوباترة طويل حافل بالأحداث الدراماتيكية ، وليس من الممكن، ولا من المعقول أن يحشد مؤلف مسرحي كل أحداثه في مسرحية واحدة، كما أنه لم يقل أحد بضرورة التزام المؤلف المسرحي لتفاصيل الحوادث التاريخية؛ إذ المشاهد في تاريخ الآداب المسرحية أن المؤلفين لا يلتزمون إلا بالأحداث الكبرى التي يصدم الخروج عليها عقول الجماهير ومشاعرها، وأما ما دون تلك الأحداث الكبرى من تفاصيل وبواعث، فللمؤلف المسرحي الحرية المطلقة في التصرف فيها وفقا لمقتضيات فنه وضرورات الهدف الذي يرمي إليه، وها هو كاتب عالمي كبير كبرناردشو يختار لإحدى مسرحياته الشهيرة فترة من حياة كليوباترة، تتناول علاقتها بيوليوس قيصر، ومغامرتها الشهيرة معه، فيقلب التاريخ رأسا على عقب، ويجعل من يوليوس قيصر مثال الشيخ الحكيم المسيطر على نفسه سيطرة تامة، بل المترفع المحلق، كما يجعل منه مثال الحاكم الرحيم الذي يعرف كيف يسوس البشر بحكمة مثالية، فهو ينظر إلى كليوباترة كطفلة صغيرة، بل كقطة يداعبها في ترفع، ويغادر مصر في نهاية المسرحية، وكليوباترة تبكي كالطفلة التي تفارق أباها، أو كالقطة التي تفارق سيدها، وأما ما يرويه التاريخ من غرام يوليوس قيصر بكليوباترة، بل وإنجابه منها ابنه قيصرون الشهير في التاريخ، وإثارة الرومانيين ضده، وبخاصة أعضاء السناتو بسبب هذا الغرام العابث، إثارة كانت من ضمن الأسباب التي أدت إلى اغتياله، فكل هذا لا يحفل به شو، ولا يقيم له وزنا، وعندما نرى هذا من شو لا نجد محلا لأن يأخذ النقاد في مماحكة شوقي باسم التاريخ، فيدعون أنه قد أفسد التاريخ عندما زعم في مسرحيته أن كليوباترة لم تنسحب من معركة أكتيوم البحرية، أو من معركة الإسكندرية البرية عن جبن أو خيانة لأنطونيو، بل لسياسة عليا رسمتها لتحقيق مجد مصر الذي رأته يتحقق بأن تترك الرومان يفني بعضهم بعضا، فيخلو لها الجو، وتستطيع أن تسيطر على العالم، وأن تحل الإسكندرية محل روما، أو عندما زعم أنها لم تكن مسئولة عن الخبر الكاذب الذي وصل إلى أنطونيو عن انتحارها، وجعل المسئول عنه طبيب كليوباترة الكاذب المتآمر، أو عندما غير في هذه الجزئية أو تلك من جزئيات التاريخ، فالمؤلف المسرحي ليس مؤرخا، ولا يطالب بأن يكون مؤرخا، وإنما هو أديب، له أن يتصرف في جزئيات الحياة المعاصرة عندما يأخذ في تصويرها، وكل ما يمكن أن يؤاخذ به هو مدى توفيقه في استخدام التاريخ لتحقيق الأهداف الفنية والإنسانية، التي يسعى إليها في تأليفه المسرحي.
وبمقارنة مسرحية شكسبير بمسرحية شوقي نجد اختلافا جوهريا يرجع إلى المنهج الفني وإلى الأهداف الإنسانية، فشكسبير حرصه الأول منصب على تحليل المشاعر الإنسانية؛ ولذلك نراه يحرص في مسرحيته على الوقائع التاريخية التي تسعفه، دون تقيد بأي قاعدة أو أصل من الأصول المسرحية التي نادت بها الكلاسيكية فيما بعد؛ ولذلك نراه يستغل حادثة زواج أنطونيو من أوكتافيا أخت أكتافيوس خصم أنطونيو اللدود، ويتخذ من هذا الزواج سببا من أسباب إشعال نيران الحرب بين القائدين الرومانيين، وسببا لتحريك عنصر الغيرة في نفس كليوباترة، كما كان سببا لتحريك حفيظة أوكتافيوس ضد أنطونيو وكليوباترة انتقاما لأخته المهجورة، ولا يجد شكسبير حرجا في أن ينقل مكان المسرحية من الشرق إلى الغرب، ومن الإسكندرية إلى روما وصقلية وبلاد اليونان، تبعا لانتقال الأحداث بعد وفاة زوجة أنطونيو الأولى، وسفره من مصر إلى إيطاليا، حيث تم الصلح بينه وبين أوكتافيوس، كما تم زواجه من أخته، ثم هجره لهذه الزوجة الجديدة وعودته إلى كليوباترة، واشتعال الحرب بينهما وانهزام أنطونيو وكليوباترة وانتحارها، وذلك بينما يغفل شوقي هذه الحادثة التاريخية الهامة، ولعله أراد أن يجاري في ذلك الكلاسيكيين الفرنسيين الذين يحرصون على مشاكلة الواقع في حدود تمثيل المسرحية لقطاع محدد من الحياة؛ ولذلك ينفرون من أن يجمعوا في المسرحية الواحدة بين الشرق والغرب، وبين أطراف الزمن المتباعدة؛ ولذلك ضيق شوقي من حدود الزمان والمكان، واكتفى بأن يجري مسرحيته حول الحوادث التي وقعت في أكتيوم والإسكندرية بعد عودة أنطونيو، بل واستعاض بالقصص عن المشاهدة على نحو ما يفعل الكلاسيكيون، فنراه يكتفي بوصف معركة أكتيوم الحربية، ومعارك الإسكندرية البرية، وهذا الوصف ليس بدعا في الفن المسرحي، وله نظائره عند كبار الكتاب الكلاسيكيين كراسين وغيره ، ولقد يبلغ الوصف الفني الناجح أكثر مما تبلغه المشاهدة في إثارة القارئ أو المشاهد، على نحو ما نرى في مسرحية شهيرة كمسرحية «فدر»، إذ يقص راسين حادثة مصرع بطلها هيبوليت قصصا يفوق في قوة إثارته مشاهدة البصر، وبذلك يتجنب بشاعة المنظر دون أن يفقد عنصر الإثارة، التي يسعى إليها كل مؤلف مسرحي، ويصل إليها بوسائله الخاصة، فيؤثر الكلاسيكي الوصف، بينما يؤثر الرومانتيكي المشاهدة، ولا يتردد في أن يعرض على خشبة المسرح أبشع المناظر، وأشدها عنفا، فيريق الدماء، وينثر الأشلاء أمام المشاهدين.
لم يخرج شوقي إذن على أصول الفن المسرحي ومواضعاته في معالجة التاريخ، ولا نرى من الإنصاف مماحكته في ذلك، ولكننا لا نستطيع إغفال مساءلته عن مقدار نجاحه في الهدف الذي اختاره وحدده لنفسه، على النحو الذي ارتضاه، وهو رد اعتبار كليوباترة أمام التاريخ، إثارة عطف الجماهير عليها، وهذا هو موضع إخفاقه الأساسي، فنحن نخرج من المسرحية وليس في نفوسنا أي عطف، ولا في عقولنا أي تقدير لهذه الملكة العتيدة، وإن كنا نحسب أن شوقي كان فيما يبدو يتوقع العكس، وذلك بدليل أنه قد حرص على أن يجعل للمسرحية ذيلا قد يوهم بأنه من نوع الحيل المسرحية، التي اشتهرت عند شكسبير بما يسمى بالترويح
Relief ، إذ نراه يحرص على أن تتخلل بعض مآسيه العاتية مناظر أو أحداث مضحكة أو سعيدة، يحاول أن يخفف بها من وقع مآسيه العاتية، ولعل قصة غرام حابي وهيلانة، قد ظنها شوقي وسيلة من وسائل الترويح الشكسبيري، حتى لنراه يحرص على متابعة هذه القصة الجانبية حتى بعد انتهاء المأساة بانتحار أنطونيو وكليوباترة، فنراه يهيئ لهيلانة من ينقذها من سم الأفعى الذي اختارته مجاراة لسيدتها، فتصحو من السم، وتنصرف من المسرح مع حابي إلى الضيعة التي منحتها لهما كليوباترة، وكأن شوقي قد أراد بهذه الأقصوصة أن يروح عن المشاهدين وأن يخفف عن نفوسهم وقع مأساة ملكتهم كليوباترة، ولكننا في الحقيقة لا نستشعر هذا الوقع في نفوسنا أو نفوس غيرنا من المشاهدين، بل لعل هذه الأقصوصة الدخيلة قد أطاحت بما يمكن أن تكون المأساة الأصلية قادرة على أن تحدثه في النفوس.
ولعل سبب إخفاق شوقي في إحداث الأثر النهائي المنشود، راجع إلى اضطرابه في وصف وتحليل شخصياته الروائية، على نحو يستطيع أن يحقق المشاركة الوجدانية المطلوبة بينها وبين المشاهدين أو القراء، بحيث يعجبون بمظاهر القوة والعظمة في نفوسهم، ويلتمسون العذر لمواضع الضعف أو السقوط، وبخاصة إذا ذكرنا أن هدف شوقي الأساسي لم يكن التحليل النفسي الإنساني لذاته، بل إثارة الشعور الوطني والإعجاب القومي، وأوضح ما يكون هذا الفشل في تصوير شخصية كليوباترة نفسها على نحو يشعرنا بأنها غير مؤمنة على الإطلاق بأي شيء مما تقول، فهي أحيانا ملكة مصر التي تضحي في سبيلها بكل شيء حتى «بعبقري جمالها»، وهي أحيانا ملكة طموح تعمل لمجدها الشخصي، وتضحي بكل شيء في سبيله، وهي أخيرا شهوانية اللذات تستعبدها غرائزها، وتسيطر على حياتها، وبين كل هذه الاتجاهات تضطرب حياتها وتختلط تصرفاتها، بحيث يحس المشاهد أو القارئ بأنها كاذبة في كل ما تقول، وليس هذا الشعور ناتجا عن تقلب مشاعرها وتغير حالاتها النفسية، فهذه التقلبات حقائق نفسية كثيرا ما نصادفها في الحياة، وفي روائع المؤلفات الأدبية، ولكنها تكون تقلبات صادقة لها ما يبررها من الأحداث، وأما كليوباترة عند شوقي فلا تحس الصدق في حالاتها المتقلبة، ولا نلمس مبررات هذا التقلب وضروراته.
وفي الحق أن تصوير الشخصيات والنجاح في هذا التصوير، إلى الحد الذي يشبه خلق الحياة هو مصدر المشقة الكبرى في التأليف المسرحي والقصص، وهو الغاية التي لم يصل إليها غير عباقرة الأدب، الذين لم ينجحوا في تصوير الحياة فحسب، بل ونجحوا أحيانا في خلق تلك الحياة أو خلق ما هو أعمق من الحياة الظاهرة، وأوضح خطوطا، وما نظن من العدل أن نطالب رائدا كشوقي بأن يصل إلى ما وصل إليه شكسبير وأضرابه.
قمبيز
قلنا: إن شوقي قد رجع إلى تاريخ مصر وتاريخ العرب، يستقي منهما موضوعات لمآسيه، وإنه قد اعتمد على العاطفة الوطنية؛ لتحقيق المشاركة الوجدانية التي لا بد منها لنجاح الفن المسرحي ، ثم رأينا أنه لم يوفق في إثارة عطفنا على «كليوباترة»، فضلا عن إعجابنا بها.
अज्ञात पृष्ठ