172

मुस्लिम दिग्गजों की प्रसिद्ध हस्तियाँ

مشاهير أعلام المسلمين

محمد فرغلي.. الداعية الشهيد (1907- 1954)م

الشهيد محمد فرغلي

منذ أن صار هناك متخصصون في وعظ الجماهير وتعليمهم أمور دينهم، أصبح هناك نفر لا يخرج فهمهم لرسالتهم عن إطار كونها وظيفة حكومية؛ تجرى عليها الرواتب، وتحدد أبعادها اللوائح، ويقاس العمل فيها والجهد بمقياس الأجر والراتب، ولكن ذلك ما كان ليجري على الشيخ محمد فرغلي، واعظ الإسماعيلية، العالم الزاهد المجاهد، الشهيد الذي رصد الاستعمار البريطاني لرأسه 5 آلاف جنيه، وتطوع الطغاة بتقديم رأسه بلا ثمن.

كانت واضحة في ذهنه قضايا المسلمين وضوح شرعة رب العالمين في قلبه إيمانا، وفي فكره علما، وشرعه تامة كاملة أحكمت ضوابط الأمس فسعد الناس، ونكص الناس عنها حاضرا فشقوا..

كان الإسلام واضحا في نفسه وفي فكره، فنقله إلى أهل الإسماعيلية على صورته الأولى نقيا بلا شوائب، كاملا بلا تجزؤ.

كان الوعظ في مفهومه كلمة حق تقال، وسلوكا يحتذى، وجهادا تشحذ له الهمم. فكان الشيخ فرغلي بين الألوف فريدا وبين الأقران مميزا، وعند الحكام مرفوع الهامة موفور الكرامة، وعند المعتدين الغاصبين مصدر خوف ومبعث خطر.

كان الشيخ فرغلي داعية إلى الإسلام بمفهوم الإسلام، عمل مع الإمام البنا منذ أن بدأ دعوته في القنال، واختاره الإمام الشهيد فكان عند صدق الاختيار . شمر عن ساعد الجد وسط مدينة كانت ترابط حولها من كل جانب قوات الاحتلال، تظهر أن النيام سيظلون في رقاد، وأن الغافلين سيظلون في سبات، وما درى الإنجليز أن الأرض بدأت تميد بمقدمه تحت أقدامهم.

وصارت دعوة الإسلام في الإسماعيلية فتية قوية، بعد أن كاد يشمل المدينة يأس قاتل تحت سطوة الاستعمار، وافتتحت فيها شعب تنطلق منها الدعوة إلى الله، ومسجد، ودار ضيافة، ودار للسيدات المسلمات. ووجدت النفوس سبيلها إلى إسلامها.

وصار الشيخ صورة تحكي فيها الإسماعيلية قفزتها، وتسطر بها قبل الأمة كلها قصة السبق في يقظتها(1).

الشيخ فرغلي مع عمال جباسات البلاح

ولكي نتبين دور الدعوة في إحياء النفوس الميتة، وإيقاظ الشعوب النائمة، وإعادة العزة الإيمانية إلى حياتها، لكي نقف على ذلك ونتبينه نسلط الضوء على مرحلة من حياة الشهيد حين انتدبه الإمام الشهيد حسن البنا، ليكون أول إمام وواعظ للمسجد الذي أنشئ في جباسات البلاح بالإسماعيلية، وذلك من خلال ما جاء في مذكرات الإمام الشهيد "حسن البنا" وفي ذلك يقول:

"اتصل بعض عمال الجباسات الفضلاء بالإخوان بالإسماعيلية فنقلوا عنهم الفكرة إلى إخوانهم، ودعيت إلى زيارة الجباسات وهناك بايعت الإخوان على الدعوة فكانت هذه البيعة نواة الفكرة في هذا المكان النائي.

وبعد قليل طلب العمال إلى الشركة أن تبني لهم مسجدا إذ كان عددهم أكثر من ثلاثمائة عامل.

وفعلا استجابت الشركة لمطلبهم، وبني المسجد، وطلبت الشركة من الجماعة بالإسماعيلية، انتداب أخ من العلماء يقوم بالإمامة والتدريس، فانتدب لهذه المهمة، فضيلة الأخ المفضال الأستاذ الشيخ محمد فرغلي المدرس بمعهد حراء حينذاك.

وصل الأستاذ فرغلي إلى البلاح، وتسلم المسجد، وأعد له سكن خاص بجواره، ووصل روحه القوي المؤثر بأرواح هؤلاء العمال الطيبين. فلم تمض عدة أسابيع وجيزة، حتى ارتفع مستواهم الفكري والنفساني والاجتماعي ارتفاعا عجيبا: لقد أدركوا قيمة أنفسهم، وعرفوا سمو وظيفتهم في الحياة، وقدروا فضل إنسانيتهم، فنزع من قلوبهم الخوف، والذل والضعف والوهن، واعتزوا بالإيمان بالله، وبإدراك وظيفتهم الإنسانية في هذه الحياة- خلافة الله في أرضه- فجدوا في عملهم إقتداء بقول الرسول- صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه"، ثم عفوا عما ليس لهم، فلم تأسرهم المطامع التافهة، ولم تقيدهم الشهوات الحقيرة، وصار أحدهم يقف أمام رئيسه عالي الرأس في أدب، شامخ الأنف في وقار، يحدثه في حجة ومنطق لا يقول ولا يقبل منه كلمة نابية، أو لفظة جافية، أو مظهرا من مظاهر التحقير والاستصغار، كما كان ذلك شأنهم من قبل، وتجمعوا على الأخوة، واتحدوا على الحب والجد والأمانة، ويظهر أن هذه السياسة لم تعجب الرؤساء، وقرروا أنه إذا استمر الحال على ذلك، ستكون السلطة كلها لهذا الشيخ، ولن يستطيع أحد بعد ذلك أن يكبح جماحه وجماح العمال.

ظن الرؤساء هذا في الشركة، وفكروا في إقصاء هذا الشيخ القوي الشكيمة عن العمل، وأرسل إليه الرئيس المباشر، فلما توجه إليه قال له: إن المدير أخبرني بأن الشركة قد استغنت عن خدماتك، وأنها تفكر في انتداب أحد العمال للقيام بعملكم في المسجد، وهذا حسابكم إلى اليوم حسب أمر المدير.

فكان جواب الشيخ له بكل هدوء: ما كنت أظن يا "مسيو فرانسوا" أنني موظف بشركة جباسات البلاح، ولو كنت أعلم هذا ما قبلت العمل معها، ولكني أعلم أنني موظف من قبل الإخوان المسلمين بالإسماعيلية، وأتقاضي مرتبي منهم، محولا عليكم، وأنا متعاقد معهم لا معكم على هذا الوضع، وأنا لا أقبل منك مرتبا ولا حسابا، ولا أترك عملي في المسجد، ولا بالقوة إلا إذا أمرني بذلك رئيس الجمعية الذي انتدبني هنا، هو أمامكم بالإسماعيلية فاتفقوا معه كما تريدون، واستأذن وانصرف.

وسقط في يد إدارة الشركة، وصبرت أياما لعل الشيخ يطلب منها مرتبه، ولكنه كان قد اتصل بي بالإسماعيلية فأوصيته بالتمسك بموقفه، وألا يدع مكانه بحال وحجته معقولة، ولا شيء لهم عنده.

لجأت الشركة إلى الإدارة، واتصل مديرها "المسيو ماينو" بمحافظ القنال، الذي اتصل بدوره بالمأمور بالإسماعيلية، وأوصاه أن يقوم على رأس قوة لعلاج الموقف، وحضر المأمور بقوته، وجلس في مكتب المدير، وأرسل في طلب الشيخ الذي اعتصم بالمسجد ، وأجاب الرسول: لا حاجة لي عند المأمور، ولا عند المدير، وعملي بالمسجد، فإذا كان لأحدهما حاجة، فليحضر لي، وعلى هذا، فقد حضر المأمور إلى الشيخ، وأخذ يطلب إليه أن يستجيب لمطالب المدير، ويترك العمل، ويعود إلى الإسماعيلية، فأجاب بمثل ما تقدم، وقال له: تستطيع أن تأتيني من الإسماعيلية بكلمة واحدة في خطاب فانصرف. ولكن لن أخرج من هنا إلا جثة لا حراك بها، ووصل النبأ إلى العمال، فتركوا العمل في لحظة واحدة، وأقبلوا متجمهرين صاخبين، وخشي المأمور العاقبة، فترك الموقف وعاد إلى الإسماعيلية، واتصل بي للتفاهم على الحل، ولكني اعتذرت بأنني مضطر إلى التفكير في الأمر، وعقد مجلس إدارة الجمعية للنظر، ثم أجيبه بعد ذلك.

وفي هذه الأثناء يؤسفني أن أقول إنني حضرت إلى القاهرة لمقابلة العضو المصري الوحيد في مجلس إدارة الشركة، فوجدت منه كل إعراض عن مصالح العمال، وكل انحياز إلى آراء الشركة ومديرها، وكل تجرد من أية عاطفة فيها معنى الغيرة الوطنية.

شهادة مدير شركة قناة السويس:

قابلت بعد ذلك مدير الشركة، وسألته عما ينقمه من فضيلة الشيخ فلم أجد عنده إلا أنهم يريدون شخصا يستسلم لمطالبهم، وكان من كلامه كلمة لا أزال أذكرها "إنني صديق للكثير من زعماء المسلمين، ولقد قضيت في الجزائر عشرين سنة، ولكني لم أجد منهم أحدا كهذا الشيخ، الذي ينفذ علينا هنا أحكاما عسكرية، كأنه جنرال تماما"، فناقشته في هذا الكلام، وأفهمته أنه مخطئ وأن الشركات هي التي تقسو على العمال، وتنقص من حقوقهم، وتستصغر إنسانيتهم، وتبخل عليهم، وتقتر في أجورهم في الوقت الذي يتضاعف ربحها، ويتكدس، وإن من الواجب علاج هذه الحال، بعلاج نظم هذه الشركات ووجوب قناعتها باليسير من الربح، واتفقنا أخيرا على أن يبقى الأستاذ الشيخ فرغلي شهرين حيث هو، وأن تقوم الشركة بتكريمه عند انتهاء هذه المدة، وأن تطلب رسميا إلى الإخوان من يحل محله من المشايخ، وأن تضاعف للشيخ الجديد راتبه، وتعنى بسكنه ومطالبه، وفي نهاية المدة عاد فضيلة الشيخ فرغلي، وتسلم مكانه فضيلة الأستاذ الشيخ شافعي أحمد، واستمرت الدعوة تشق طريقها في هذه الصحراء "باسم الله مجريها ومرساها".

الداعية الصادق يحيي العزة في النفوس

وحتى نقف على ثمرة الدعوة الجادة، وكيف أن الداعية يفيض على من يحدثهم من روحه، ويبعث فيهم روح العزة، وهذا ما يخشاه أعداؤنا، إن هذه المعاني تتجلى واضحة من خلال هذه المواقف:

استدعى (المسيو سولنت) (باشمهندس) القنال، ورئيس قسم السكسيون الأخ حافظ ليصلح له بعض أدوات النجارة، في منزله، وسأله عما يطلب من أجر فقال 130 قرشا، فقال المسيو سولنت بالعربي: "أنت حرامي".

فتمالك الأخ نفسه، وقال له بكل هدوء: ولماذا؟

فقال: لأنك تأخذ أكثر من حقك.

فقال له: لن آخذ منك شيئا، ومع ذلك فإنك تستطيع أن تسأل أحد المهندسين من مرؤوسيك، فإن رأى أنني طلبت أكثر من القدر المناسب، فإن عقوبتي أن أقوم بالعمل مجانا، وإن رأى أنني طلبت ما يصح أن أطلب فأسامحك بالزيادة..

واستدعى الرجل فعلا مهندسا وسأله فقدر أن العمل يستوجب 200 قرش، فعرفه المسيو سولنت، وأمر الأخ حافظ أن يبتدئ العمل.

فقال له: سأفعل، ولكنك أهنتني، فعليك أن تعتذر، وأن تسحب كلمتك.

فاستشاط الرجل غضبا، وغلبه الطابع الفرنسي الحاد، وأخذته العزة بالإثم، وقال: تريد أن أعتذر لك، ومن أنت؟ لو كان الملك فؤاد نفسه ما اعتذرت له.

فقال حافظ في هدوء أيضا: وهذه غلطة أخرى يا مسيو سولنت، فأنت في بلد الملك فؤاد، وكان أدب الضيافة، وعرفان الجميل يفرضان عليك، ألا تقول مثل هذا الكلام، وأنا لا أسمح لك أن تذكر اسمه إلا بكل أدب واحترام.

فتركه وأخذ يمشي في البهو الفسيح، ويداه في جيب بنطلونه، ووضع حافظ عدته، وجلس على كرسي، واتكأ على منضدة وسادت فترة سكوت، لا يتخللها إلا وقع أقدام المسيو الثائر الحائر.

وبعد قليل تقدم من حافظ، وقال له: افرض أنني لم أعتذر لك، فماذا تفعل؟ فقال الأمر هين سأكتب تقريرا إلى قنصلكم هنا وإلى سفارتكم أولا، ثم إلى مجلس إدارة قناة السويس بباريس، ثم الجرائد الفرنسية المحلية والأجنبية، ثم أترقب كل قادم من أعضاء هذا المجلس، فأشكوك إليه، فإذا لم أصل إلى حقي بعد ذلك ذلك استطعت أن أهينك في الشارع، وعلى ملأ من الناس، وأكون بذلك قد وصلت إلى ما أريد، ولا تنتظر أن أشكوك إلى الحكومة المصرية، التي قيدتموها بسلاسل الامتيازات الأجنبية الظالمة، ولكني لن أهدأ حتى أصل إلى حقي بأي طريق.

فقال الرجل: يظهر أنني أتكلم مع "أفوكاتو لانجار" ألا تعلم أنني كبير المهندسين في قناة السويس، فكيف تتصور أن أعتذر لك.

فقال حافظ: وألا تعلم أن قناة السويس في وطني لا وطنك، وأن مدة استيلائكم عليها مؤقتة، وستنتهي، ثم تعود إلينا، فتكون أنت وأمثالك موظفين عندنا، فكيف تتصور أن أدع حقي لك؟ وانصرف الرجل إلى مشيته الأولى.

وبعد فترة عاد مرة ثانية، وعلى وجهه أمارات التأثر، وطرق المنضدة بيده في عنف مرات، وهو يقول: اعتذر يا حافظ سحبت كلمتي.

فقام الأخ حافظ بكل هدوء، وقال: متشكر يا مسيو سولنت، وزاول عمله حتى أتمه.

وبعد الانتهاء أعطاه المسيو سولنت 150 قرشا، فأخذ 130 قرشا، ورد له العشرين.

فقال له: خذها "بقشيشا" فقال: لا لا، حتى لا أخذ أكثر من حقي، فأكون "حرامي"، فدهش الرجل. وقال: إني مستغرب، لماذا لا يكون كل الصناع أولاد العرب مثلك؟ أنت "فاميلي محمد" فقال حافظ: يا مسيو "سولنت" كل المسلمين "فاميلي محمد" ولكن الكثير منهم عاشروا الخواجات وقلدوهم، ففسدت أخلاقهم، فلم يرد الرجل بأكثر من أن مد يده مصافحا قائلا: متشكر، متشكر، كتر خيرك، وفيها الإذن بالانصراف.

جزاء الأمانة:

وكان الأخ حسن مرسي، يعمل عند الخواجة، "مانيو" ويخرج نموذجا ممتازا من صناديق الراديو، وكان الصندوق حينذاك يتكلف جنيها تقريبا، فجاء أحد الخواجات من أصدقاء "مانيو" وساوم الأخ حسن على أن يصنع له بعض الصناديق بنصف القيمة، على ألا يخبر بذلك الخواجة "مانيو" فيستفيد حسن بالنصف الذي يأخذه، ويستفيد هذا الخواجة النصف الباقي.

وكان مانيو يثق في الأخ ثقة تامة، وقد أسلم إليه كل ما في الدكان من خامات وأدوات. وأراد صديق "مانيو" أن يستغل هذه الثقة، ولكن الأخ حسن ألقى عليه درسا قاسيا في الأخلاق، وقال له: إن الإسلام وكل دين في الوجود يحرم الخيانة، فكيف بمن وثق في هذه الثقة، وإني لأعجب أن تكون صديقه، ومن جنسه، ودينه، ومع ذلك تفكر في خيانته، وتحاول أن تحملني على مثل ذلك، يا هذا يجب أن تندم على هذا التفكير الخاطئ، وثق بأنني سوف لا أخبر الخواجة "مانيو" بعملك هذا، حتى لا أفسد صداقتكما، ولكن بشرط أن تعدني وعدا صادقا بألا تعود إلى مثل ذلك.

ولكن هذا الخواجة كان سخيفا، فقال له إذا سأخبر الخواجة "مانيو" بأنك أنت الذي عرضت علي هذا العرض. وهو سيصدقني، ولا شك فإنه يثق بكلامي كل الثقة، وسيترتب على ذلك إخراجك من العمل، وفقدانك لهذه المنزلة التي تتمتع بها عنده، وخير لك أن تتفق معي، وتنفذ ما أريد، فغضب الأخ وقال له: افعل ما تشاء، وسيكون جزاؤك الخزي إن شاء الله، ونفذ الرجل وعيده وجاء "مانيو" يحقق في الأمر، فاكتسحت أضواء الحق ظلمات الباطل، وأخبره الأخ حسن بالأمر، ولم يشك الرجل أبدا في صدقه، وطرد هذا الصديق الخائن، وقطع صلته به، وزاد في راتب الأخ جزاء أمانته.

جزاء من عف عن الحرام واعتصم بالله:

وهذا الأخ عبد العزيز غلام النبي الهندي الذي يعمل "ترزيا" في المعسكر الإنجليزي تدعوه زوجة أحد كبار الضباط لبعض الأعمال الخارجية بمهنته، لتنفرد به في المنزل، وتغريه بكل أنواع المغريات، فيعظها، وينصح لها، ثم يخوفها ويزجرها.

فتهدد بعكس القضية تارة وبتصويب المسدس إلى صدره تارة أخرى، وهو مع ذلك لا يتزحزح عن موقفه قائلا: إني أخاف الله رب العالمين.

وكم كان جميلا مضحكا في وقت واحد أن توهمه في إصرار أنها قد قررت قتله، وستعتذر عن ذلك بأنه هاجمها في منزلها وهم بها، وتصوب المسدس إليه فيغمض عينيه، ويصرخ في يقين "لا إله إلا الله محمد رسول الله" فتفاجئها الصيحة، ويسقط المسدس على الأرض، ويسقط في يديها، فلا ترى إلا أن تدفعه بكلتا يديها إلى الخارج، حيث ظل يعدو إلى دار الإخوان المسلمين.

الشهيد فرغلي في فلسطين:

كانت راحته في العمل وسعادته في الجهاد:

نزل الأستاذ البنا بليل إلى الإسماعيلية أيام حرب فلسطين 1948. وقضى مع الشيخ فرغلي جزءا من الليل. وكان الشهيد على وشك السفر إلى ميدان القتال.

قال له الإمام البنا: ربما أمكنك السفر مع الفجر، وتقضي ليلك معنا، وفي صلاة الفجر، قالوا له لقد سافر الشيخ مبكرا، وصار الإمام البنا يضرب بكف على كف، ويقول فرحا: هكذا يكون الرجال المسلمون في مواضع المسئولية.

لم يكن الشيخ فرغلي ليقضي ساعات، ظنها ساعات، بعيدا عن ميدان الحرب في فلسطين، وهو المسئول عن أرواح المقاتلين، ولما كان فقهه من فقه الأولين ممن مضوا على الطريق، فكان لا بد أن يكون في مقدمة المحاربين. شاهرا سلاحه، مشاركا بدمه وروحه في سنة 1948 في حرب قامت على أرض فلسطين، حرب ضارية بين اليهود الذين تساندهم روسيا وأمريكا وفرنسا وإنجلترا، وبين العرب أصحاب الأرض وسكانها.

وأعلن الأستاذ البنا أن تحرير فلسطين عن طريق المجاهدين المؤمنين، أقرب منه عن طريق الجيوش النظامية تحركها حكومات هزيلة، يحكم الاستعمار قبضته حول أعناقها، وطالب الإخوان المسلمون يؤمئذ حكومة النقراشي بفتح الطريق أمامهم إلى فلسطين، وإفساح المجال لهم في الداخل للتدريب والتسلح فرفضت، ورأى الإخوان أن يتسللوا في خفاء إلى فلسطين، فأحكمت الحكومة قبضتها على الحدود وعند القنطرة لمنعهم.

وأحكم الإنجليز إغلاق حدود فلسطين ليمنعوهم من دخولها ومع ذلك تسلل الإخوان ملبين نداء ربهم مستخفين بكل العوائق والعقبات(2).

ويقول الأستاذ كامل الشريف:

لقد عرفت الشيخ فرغلي- أول ما عرفته- يوم كان يرافق المرشد الشهيد، في جولته على خطوط القنال في فلسطين، ثم توثقت عرى الأخوة حين عملنا سويا، خلال الحملة الفلسطينية، فازددت له معرفة كما ازددت به إعجابا.

ولم يكن الشيخ فرغلي من ذلك النوع من شيوخ الدين الذين يتعلقون بالقشور، ويبحثون عن المناصب والمراكز، ولو كان كذلك لأعفى نفسه من المتاعب، ولأصاب من المراكز أقصى ما يريد، ولكنه كان مجاهدا بحق، وحسبه، أنه ترك وظيفته وأهله، وذهب إلى فلسطين مع أول جماعة من المجاهدين(3).

ويقول الضابط حسين حجازي:

"بدأ المركز العام في جمع شعب وفروع الإخوان بالقاهرة والأقاليم للتدريب على القتال، وبدأ تسلل أول فوج بعد تدريبه إلى صحراء النقب، وقد عمل هذا الفوج بقيادة الأخ المجاهد كامل الشريف، والشيخ/ محمد فرغلي"(4).

دور الشهيد فرغلي في معركة القنال

وحين نشبت معركة القنال ترك أهله مرة أخرى، واندمج بكليته في المعركة، ولم يكن أيضا (درويشا ساذجا) يعالج قضايا الجهاد من زاوية عاطفية، بل كان سياسيا، ذا عقلية منظمة، كما كان صاحب شخصية مسيطرة تملأ نفوس من معه بالأمل والثقة، وتشعرهم بأنهم يسيرون خلف قائد قدير عظم الخبرة(5).

وفي 1951 ألغت الحكومة المصرية معاهدة 1936. وقابل الإنجليز الأمر باستخفاف، وعلى طول البلاد وعرضها اتبع رجال الأحزاب المصرية وزعماؤها الأمر بالخطب والبيانات إلا الشيخ فرغلي ومن معه، فقد نزلوا إلى المعركة بعزم وصدق، وجلد وخبرة. وأعلن تشرشل في لندن أن عنصرا جديدا قد نزل إلى ساحة المعركة.

وعلى أرض القنال، وفي معسكرات التل الكبير، ووسط ثكنات المستعمرين في بور سعيد والإسماعيلية والسويس، دارت رحى الجهاد وفاضت أرواح وسالت دماء، وتأكد لدى الإنجليز أن مقامهم في مصر لن يطول.

ولم يكن الشيخ فرغلي مجهولا عند الإنجليز، ومواقفه في الإسماعيلية مشهورة ومعروفة، كم أنذروا رجال الحكومة، وكم نزلوا شوارع المدينة، متحدين عابثين، ووقف رجال الحكومات عاجزين، إلا الشيخ فرغلي، واجه صلف المستعمر بصفعه، وقابل غروره بالسلاح.

أنذر قائد قوات الاحتلال يوما المحافظ وأنزل إلى الشوارع جنوده ومصفحاته، وتوجه الشيخ فرغلي إلى المحافظ في عربة جيب، وفي زيه الأزهري ومعه سلاحه، لينذر المنذرين بضرورة الانسحاب، وليساند رجال الحكومة في موقفهم، وليشد من أزرهم، وانسحب الإنجليز بالفعل من شوارع الإسماعيلية، وسحبوا إنذارهم(6).

وعن جهده في القنال يقول الأستاذ كامل الشريف:

وفي الإسماعيلية كانت تقوم أقوى تشكيلاتنا السرية، كما توجد القيادة الإدارية الرئيسة لمنطقة القناة ويرأسها داعية محنك عظيم الخبرة هو المرحوم الشيخ (محمد فرغلي) كما يساعده مغامر جسور هو (يوسف طلعت)، وعدد كبير من الشباب الواعي المنبث في مختلف الفئات، والطوائف المهنية(7).

وكان للإسماعيلية شبكة للمعلومات من أقدم الشبكات وأقواها، كما كان يعمل فيها عدد من المحترفين والمتفرغين الذين لا عمل لهم، إلا متابعة النشاط البريطاني، وملاحقة العملاء المصريين، والأجانب الذين يعملون لحسابه، وكانت تدور معركة حفية بين هذا الجهاز، وقلم المخابرات البريطاني، وتظهر هذه المعركة أحيانا على السطح في اشتباكات متفرقة هنا وهناك.

وكان الإنجليز لا يجهلون خطر هذه الجماعة وبأسها، فكانوا يراقبون الشيخ فرغلي مراقبة دائمة، وكان منظرا مألوفا، أن يرى هذا الرجل الوقور في شوارع الإسماعيلية بلباسه الديني المبتكر، وعمامته البيضاء الأنيقة، يتابعه عميل بريطاني حيثما سار(8).

وخسر الإنجليز في معارك القنال الكثير؛ قطعت مواصلاتهم، وهوجمت معسكراتهم، وقتل جنودهم، فرصدوا ألوف الجنيهات لمن يأتي بالشيخ فرغلي حيا أو ميتا. وفي سنة 1954 بدت نذر القطيعة، وتأزمت الأمور، وتلبد الجو، ووسط أساليب الإغراء وصور التهديد، وقف الشيخ الشهيد صامدا لا يلين، قويا لا يحيد، ثابتا لا يتزعزع، رابط الجأش لا يخشى، في عزم المجاهدين وصلابة الأولين، أعرض عن الدنيا بمنافعها ومفاتنها، وكانت تحت قدميه، ورفع رأسه شامخا، فلم يقبل في دينه الدنية، وبقيت منزلته عند إخوانه كريمة نقية، وصورته في أذهان الآخرين مبعث الخطر، ومكمن الخشية، كانت صفحاته على أرض فلسطين وعلى أرض القنال، وفي ميدان الدعوة ملؤها الشرف والفخار، وكانت صفحاته وهو بين أيادي الجلادين والطغاة، في غياهب السجن الحربي ملؤها الصبر والاحتمال والاحتساب. صبر المؤمنين، واحتمال المجاهدين، واحتساب المخلصين(9).

موقف مشرف

وكان الشيخ فرغلي من ذلك الصنف الذي يفرض عليك- رغم تواضعه الشديد وأدبه الجم- أن تحترمه وتقدره، وكان مفتاح شخصيته هو "الترفع" عن الصغائر، والترفع عن الخصومات، والترفع عن كل ما يشين.

وكان شديد الحرص على سمعة الدعوة ونظمها، غيورا إلى أبعد الحدود على هيبتها وكرامتها، ومما يروى عنه في ذلك أنه بعد نجاح الانقلاب العسكري، وتأليف وزارة محمد نجيب الأولى عقد اجتماع في مكتب البكباشي جمال عبد الناصر، وكان وزيرا للداخلية في تلك الوزارة، كما حضر معه عن رجال الانقلاب- كما أذكر (القائل هو كامل الشريف)، كمال الدين حسين، وصلاح سالم، وعبد الحكيم عامر، وكنا الشيخ فرغلي وأنا نمثل الإخوان في محاولة من تلك المحاولات التي بذلت لتحديد الخلافات بين الإخوان، وحكومة الانقلاب ووضع حلول لها، ويبدو أنهم أرادوا أن يوقعوا بين الشيخ والمرشد العام، وأن يكسبوه في صفهم، وكانوا كثيرا ما يفعلون ذلك مع بعض أقطاب الجماعة، فأخذوا يمتدحون الشيخ ويذكرون له مواقفه العظيمة في فلسطين، ثم أخذوا ينالون من شخص المرشد العام، ويتحاملون عليه، غير أن الشيخ فرغلي قطع عليهم الحديث، وقال غاضبا: "يجب أن تدركوا أن هذا الذي تتحدثون عنه هو زعيمنا، وقائد جماعتنا، وإنني أعتبر حديثكم هذا، إهانة للجماعة كلها، ولشخصي بصفة خاصة، وإذا كان هذا هو أسلوبكم في تسوية الخلاف، فإنكم لن تصلوا لشيء إلا زيادة هذا الخلاف".

وكان هذا القول كافيا لإقناعهم أنهم أمام رجل صلب العود، قوي الشكيمة، فانصرفوا بالحديث إلى جهة أخرى(10).

عبد الناصر يلوح بإسناد مشيخة الأزهر لفرغلي

لقاء في منزل عبد الناصر:

يقول المرشد الراحل فضيلة الأستاذ حامد أبو النصر:

पृष्ठ 172