मशाहिद ममालिक

इद्वार इलियास d. 1341 AH
96

मशाहिद ममालिक

مشاهد الممالك

शैलियों

وتركنا مصر وجهتنا الإسكندرية، ومنها ركبنا باخرة من بواخر الشركة الإنكليزية الشرقية في 8 نوفمبر سنة 1875، وكان ذلك أول عهدي بالسفر إلى الغرب، فعسر علي أمره لا سيما وأنه كان في فصل الشتاء حين يكثر البرد القارس في جهات أوروبا وأميركا، ويشعر به الذي يعرف شتاء مصر اللطيف. ووصلنا مدينة برندزي في إيطاليا بعد سفر أربعة أيام، فخرجنا من السفينة إلى قطار كان في انتظار الركاب والبريد لينقله إلى لندن، فقام بنا القطار يمر حينا على المين الإيطالية الواقعة على بحر الأدرياتيك، مثل أنكونا، وحينا يوغل في داخل البلاد ويمر بمدائن مشهورة، مثل فوجيا وإسكندرية وبارما حتى وصل بعد ثلثي ساعة إلى مدينة تورين، وهي من مدائن إيطاليا الزاهرة ترى وصفها ووصف غيرها في باب إيطاليا من هذه الرحلة، وقمنا من تورين على عجل إلى مدينة باريس في قطار سريع يسير بين الجهتين، ويخترق جبال الألب المشهورة، ويدخل في نفق تحت الأرض نقبوه لهذه الغاية عند جبل سيني. فلما وصلنا حدود فرنسا عند مدينة مودان خرجنا من القطار الإيطالي إلى قطار فرنسوي جعل يخترق الهضاب والبطاح، ويمر بالأراضي العامرة، مثل بلاد شامبيري وماكون وديجون حتى وصل باريس بعد سفر 21 ساعة.

وقمنا من باريس في قطار سريع (إكسبرس) إلى حدود فرنسا لنبحر منها إلى بلاد الإنكليز، فلما أتينا فرضة كاليه، وهي أقرب المين الفرنسوية إلى إنكلترا دخلنا باخرة تسير في بحر المانش وشعرنا في الحال بصعوبة السفر في ذلك البحر المزيد الطامي وله شهرة ذائعة في كثرة أمواجه وعلوها؛ لأنه خليج قليل عرضه حصر بين بحرين واسعين، فهو آفة المسافرين من بلاد الإنكليز وإليها، أصابنا فيه الدوار الشديد كما يصيب سوانا حتى أتينا على آخره ورست الباخرة على مينا دوفر في بلاد الإنكليز، فخرجنا من الباخرة إلى قطار أعد على الشاطئ وسرنا به إلى مدينة لندن فبلغناها في اليوم السابع من مبارحة الإسكندرية، ورأينا على المحطة فيها جناب المستر تيلر قنصل أميركا السابق في مصر، فرحب بنا ودعانا إلى منزله في ويتشموند، وهي من ضواحي لندن.

وفي اليوم التالي رأينا المرحوم الطيب الذكر سليم بسترس - وكان لنا معه علاقات وداد - ففرح بوصولنا وسر لمأموريتنا، ودعانا إلى منزله الفخيم في شارع الملكة. وسرت أيام قليلة علينا في لندن أخذنا بعدها تذكرة السفر إلى نيويورك في باخرة من بواخر شركة كيونارد - ومقرها في لفربول - فسافرنا من لندن في يوم كثر ضبابه واشتد برده إلى درجة جعلتني أفكر في مصر وسمائها الصافية وهوائها العليل، حتى إذا وصلنا مدينة لفربول سرنا إلى الباخرة توا وقمنا إلى أميركا في 27 نوفمبر سنة 1875، فلما وصلت بنا إلى كوينستون وقفت قليلا لتأخذ ما يرسل إلى هذه الفرضة من بريد لندن، ثم عادت تمخر في عباب البحر، ولا وقوف من بعد ذلك الموضع حتى تستقر في مينا نيويورك، والمسافة بين الجهتين 3000 ميل، وكان يوم سفرنا من بلاد الإنكليز إلى أميركا جميلا، والهواء معتدلا فلم نلق عناء كبيرا. ورأينا في أثناء المسير دخانا يصعد من تحت الماء وبخارا يخرج من البحر، فعرفنا أن ذلك من بركان تحت الماء وحرارة في داخل الأرض، وكان من أمر بعض النوتية أنهم ألقوا أدلية في الماء وانتشلوها ملأى بماء حميم، كل هذا مع أن الماء بارد في هاتيك النواحي، ويزيد برده في جهات «نيوفوندلاند»، حيث يجمد الماء وتطفو منه على وجه البحر قطع كبرى إذا اصطدمت بها البواخر لحق بها أذى كبير، وأصحاب السفن يحذرون شرها ويحسبون لها فوق حسابهم للأنواء والعواصف، وظللنا على مثل هذا الحال إلى اليوم السابع حين خيم الغسق وملأ الضباب جوانب الأفق، فتعذر على باخرتنا المسير، فأمر الربان بأن تسير الباخرة على مهل، وجعل يطلق الأسهم النارية في الفضاء والمدافع أيضا تحذيرا للسفن القادمة من الاصطدام وتنبيها، فكان من وراء ذلك اشتغال بالنا زمانا بهذا الأمر حتى إذا خلصنا منه وظهر نور الشمس، هاج البحر وعلت أمواجه فتأملتها ووجدتها أشد هولا من أمواج البحر المتوسط، وهي تختلف عنها في أن لونها قاتم، والفترة بين الموجتين طويلة وأما البحر المتوسط فإن أمواجه أصغر ولون مائها ضارب إلى الزرقة، وهي سريعة التوالي موجة بعد أخرى، وظل البحر في هياج كهذا يومين كاملين، ونحن تارة نصعد مع الباخرة فوق الماء كمن يرتقي جبلا وطورا ننحط كأنما نحن في واد أو حضيض، حتى إننا لما فررنا من هذا الهول إلى غرف النوم وعولنا على تناسي الموج جعلنا ننقلب من هنا ومن هنا، ونكاد في بعض الأحيان نهوي من السرير بسبب ميل السفينة مع الأمواج ميلا شديدا، ولكن الأزمة فرجت في اليوم الحادي عشر من هذا السفر حين علمنا أننا صرنا على مقربة من أميركا، وخرجنا إلى ظهر الباخرة نتفرج فإذا نحن تجاه الشطوط الأميركية، وقرب فرحنا في تلك الساعة من فرح كولومبو مكتشف هذه القارة. وكان أول ما رأيناه من العالم الجديد منارة جزيرة فاير، ثم بعد أن سرنا ثلاث ساعات دخلنا خليج ساندي هوك، وسارت الباخرة إلى أن دخلت ما بين جزيرة ستاتن وجزيرة أخرى اسمها لونغ آيلند، وبعد حين ظهرت مدينة بروكلين، وهي ملاصقة لنيويورك إلى جهة اليمين يفصل بينهما نهر، ثم ظهرت مدينة جرزي، وهي أيضا ملاصقة لنيويورك إلى جهة الشمال، فهي مثل الآستانة يرى القادم إليها هاتين المدينتين كما يرى الداخل إلى الآستانة قاضي كوي إلى اليمين وبرنكبو إلى الشمال.

نيويورك

في اليوم الثامن من شهر ديسمبر سنة 1875 استقر النوى بالباخرة، وألقت رحلها في مينا نيويورك، وكان ذلك بعد قيامنا من الإسكندرية بشهر كامل، وهو زمان طويل لو يذكر القارئون. ولكن طرق السفر والإسراع تقدمت في هذه الأعوام الأخيرة حتى صار الوصول من مصر إلى نيويورك ممكنا في 11 يوما فقط، وحين خرجنا من السفينة إلى الجمرك وأراد عماله أن يفتشوا ما معنا من الأمتعة أعلمناهم بالمهمة التي كنا فيها، وأبرزنا الأوراق اللازمة فرحبوا بنا ترحيبا وسهلوا طرق الخروج، ومن ثم استأجرنا عربة توصلنا إلى الفندق الذي اخترنا النزول فيه، وهو «ففث أفنيوهوتل»، وهو إلى اليوم من أكبر فنادق هذه المدينة العظيمة وأفخمها وأوفرها استعدادا، فلما صرنا إليه طلب منا مديره أن نسجل أسماءنا والجهات التي قدمنا منها حسب العادة المتبعة في أكثر الفنادق المعروفة، ثم سألنا أن ندخل غرفة ظننا أنها لراحة المسافرين، فدخلناها ورأيناها مفروشة بالرياش الكامل، وفيها الكراسي والطنافس والسجف والمرايا وغيرها، حتى إذا جلسنا فيها تحركت من نفسها وصعدت بأكملها إلى الأدوار العليا من البناء، فعلمت حينئذ أنها الآلة الرافعة التي يستغنون بها عن الدرج، وكان ذلك أول عهدي بهذه الآلة واسمها الأسنسور أو «لفت» في لغة الأميركان والإنكليز، وفي فنادق العاصمة المصرية اليوم منها أشكال بديعة، وهي من اختراعات الأميركان، نقلها عنهم أهل أوروبا وشاع استعمالها على ما تعلم، وبعد أن غيرنا الملابس في غرف النوم نزلنا إلى قاعة رحيبة واسعة الجوانب أعدت لموائد الطعام، وقد وقف من حولها الخادمون بأنظف الملابس وعدتهم ستون من العبيد الأميركان، فبدأنا بالأكل ورأينا اختلافا عن فنادق أوروبا في النظام، فإن الفنادق الأوروبية يجوز في أكثرها للسائح أن يأكل أينما أراد، وأما في فنادق أميركا فالمرء يدفع أجرة اليوم بأكمله، ولا بد له من الأكل فيها، غير أنهم قد سهلوا ذلك على الناس فجعلوا للفطور وللغداء وللعشاء أوقاتا يمكن معها للأكثرين أن يحضروها، فإن فطور الصبح يمكن تناوله هنالك من الساعة السادسة في الصباح إلى الساعة العاشرة، والغداء من الظهر إلى ما بعده بساعتين، والعشاء من الخامسة بعد الظهر إلى السابعة أو من السابعة إلى التاسعة. وتمتاز فنادق أميركا عن فنادق الأوروبيين الآن في أن أكثرها يأكل فيها الواحد الأصناف التي يختارها من كشف يقدم إليه، وفيه جميع الألوان والمسافر، يدفع المطلوب عن الأيام التي يقيمها في الفندق ويستريح من دفع الذي يدفعه في الفنادق الأوروبية ثمن الشمع أو الخدمة أو غير هذا، ومما ينقده للخادمين على سبيل «البخشيش»؛ فإن الرجل قد يدفع في أوروبا إلى هؤلاء الخادمين رسوما على مثل ما ذكرنا تقرب في قيمتها مما يدفعه إلى أصحاب الفنادق ثمن الطعام وأجرة النوم، أما المطاعم الأميركية فإنها على نسق المطاعم الأوروبية.

وقد بدأ الأميركان من عهد ليس ببعيد باستخدام البنات للخدمة في المطاعم، فعم هذا النظام في أكثر المحلات المشهورة، وصار ذلك مزية لفنادق الأميركان ومطاعمهم وداعيا إلى التشويق والإتقان. وتمتاز فنادق الأميركان أيضا في أن أهل البلاد يجعلونها مساكن للعائلات أكثر من سواهم، وفي مدائن الولايات المتحدة عائلات كثيرة تسكن في الفنادق، وتؤثر ذلك على استئجار البيوت وإدارتها، ولو أن فيه زيادة في الإسراف. وفنادق الأميركان كاملة العدة فيما يلزم لراحة النازلين فيها من الحمامات ومواضع الغسل والحلاقة وغير ذلك، وفي غرف النوم رفوف مرتفعة قليلا توضع عليها الصناديق والأمتعة ولا ترمى في الأرض، وفي ذلك حرص على الشيء نفسه من التلف وعلى راحة المسافر؛ لأنه إذا فتح صندوقا له لم يتكلف الانحناء إلى الأرض ولم يجد مشقة، وفي أكثرها آلات من الخشب تنزع الأحذية من الرجل بدل أن تتعب الأيدي بها، وأمور أخرى تدل على انتباه الأميركان وإتقان أعمالهم. وفي «الففث أفنيو هوتل» هذه أولاد نجباء يلبسون الكساوي المميزة لهم عن سواهم، وهم تعينهم البلدية لقضاء الأغراض وإيصال الرسائل من الفندق إلى أنحاء المدينة بأجرة تقدر على نسبة المسافة التي يسيرونها.

وكنا قد أتينا بكتب إلى بعض الوجهاء أكثرها توصيات، ومنها كتاب إلى والد المستر تيار الذي مر بك ذكره، وهو من أصحاب الملايين الكثيرة، وله منزل في ففث أفنيو حيث أقيم الفندق الذي كنا فيه، وهو أحسن شوارع المدينة وأبهاها، وجاء على أثر قدومنا كثيرون من مكاتبي الجرائد طلبوا مقابلتي لأخبرهم ما أعلم عن مصر وحصتها في المعرض العام فحدثتهم بما يريدون وانثنوا وهم يشكرون، ثم جعلوا يكتبون عن القسم المصري في المعرض وعما سيكون من غرابته أمورا شتى، ولا سيما إذا ذكروا أنه سيكون فيه آثار بالغة في القدم تشهد باقتدار أمة نمت وعظمت من خمسة آلاف عام، في حين أن بلادهم لم يمر على استقلالها وبدء عظمتها غير مائة عام.

ولا بد من إفراد قسم من هذا الكتاب لوصف نيويورك، فأقول: إن تاريخها يقرب من تاريخ الولايات المتحدة كلها أو بعضه؛ فقد قيل إن أول من وطأ أرضها السنيور فرازاني في سنة 1524، ولكن المعروف أن إنكليزيا اسمه هدسن كان من عمال الشركة الهولاندية، جاء النهر الشمالي الذي يحد نيويورك من جهتها الغربية ومعه بعض السفائن الهولاندية، وقد سمي النهر ومصبه باسمه إلى هذا اليوم فرفع عليها العلم الهولاندي في سنة 1624، وكان أول حاكم هولاندي عليها رجلا اسمه بيتر منوي اشترى تلك الأرض التي بنيت عليها المدينة من أصحابها الهنود الأصليين بخمسة جنيهات، وسماها أمستردام الجديدة على اسم المدينة الكبرى في بلاده. وتوالى على نيويورك الحكام الهولانديون بعد من ذكرنا إلى سنة 1650، وهي لا يزيد عدد سكانها يومئذ عن ألف نفس أكثرهم يشتغلون بتجارة الخشب والغراء، والهنود يتهددونهم من كل جانب حتى جاءها الإنكليز في سنة 1664 واحتلوها وملكوها، وقائد جنودهم يومئذ الكولونيل نيكولسون سماها نيويورك باسم الدوك أوف يورك، الذي صار فيما بعد الملك جيمس الثاني، وكان امتلاك الإنكليز لهذه المدينة فاتحة الإقبال على الولايات المتحدة؛ لأنها مفتاح البلاد ودليل خيرها الوافر وربوعها الواسعة، فتوافد عليها الألوف من كل جانب، ولا سيما من إنكلترا وأرلاندا وتفرقوا في جوانب البلاد فعمروا المدائن العظيمة، مثل بوسطون وفيلادلفيا، وهي كلها من المدائن العامرة، فلما رأت الحكومة الإنكليزية أن البلاد التي ملكتها حديثا بلغت هذه الدرجة من الأهمية عنيت بتنظيمها وتقسيمها 13 ولاية، وكان من أمرها ما كان إلى أن استقلت في 4 يوليو من سنة 1776 على مثل ما رأيت في الخلاصة التاريخية، وكان لمدينة نيويورك النصيب الأوفر في المحاربة والاستقلال، فتحها واشنطن عنوة وطرد الإنكليز منها فكان ذلك داعيا إلى خروج الجنود الإنكليزية من البلاد كلها.

ونيويورك هذه تعد جزيرة؛ لأنها واقعة بين نهرين يجعلانها كثيرة الطول قليلة العرض، أحدهما نهر الشمال غربا وثانيهما نهر الشرق شرقا، ولها الآن مينا جميل وافر الاتساع يكفي للعدد العديد من السفن التي تصله وتقوم منه كل يوم، طوله ثمانية أميال وعرضه يقرب من خمسة، وهو يمثل ما وصلت إليه التجارة البحرية في هذه الأيام من اتساع النطاق ، فإن نيويورك أول أساكل الولايات المتحدة وأكبر مراكزها التجارية تقرب تجارتها من ثلثي تجارة البلاد كلها، فقد لا يقل عدد السفن التجارية التي تزورها سنويا عن عشرة آلاف، وهي فوق هذا مركز المهاجرة إلى الولايات المتحدة، والمهاجرة من أهم الأمور هنالك؛ لأن البلاد ما عمرت إلا بالملايين التي جاءتها من كل صقع وصوب، ولا يقل عددهم عن نصف مليون نفس كل سنة وأكثرهم يقيمون فيها زمانا ثم يضربون في مناكب الأرض ويتفرقون منها في جوانب البلاد؛ ولذلك زاد عدد سكانها زيادة مدهشة ولا سيما بعد أن ضمت إليها مدن بروكلين ولونغ آيلند، ومن عهد ليس بعيد أضيف إليها بعض البلاد المجاورة فأصبحت مساحتها 326 ميلا مربعا، وسكانها أربعة ملايين، فهي المدينة الثانية في العالم. ولنيويورك مزية خصوصية على بقية المدن المشهورة بعلو بناياتها المؤلفة من 18 طبقة إلى 30 طبقة، ويقال إنهم يقيمون الآن أعظم ما فيها من الأبنية، فيه 41 طبقة وعلوه 186 مترا، وفيه أربعة آلاف غرفة للنوم وللجلوس، وفيه المطاعم والمخازن والقهاوي ودوائر تجارية، والبناء على العموم يضم 6000 نسمة يشتغلون ويأكلون ويشربون وينامون ويجدون كل ما يحتاجونه كأنهم في مدينة، ومساحة أرضه أربعمائة ألف قدم مربع، وستكون قيمته مليوني جنيه.

نموذج بناء في نيويورك يسع 6000 نسمة.

अज्ञात पृष्ठ