لوسرن
وظللت ثمان ساعات في القطار يخترق الأراضي السويسرية، وقد وددت لو تكون ثمانين، حتى وصلت مدينة لوسرن، وهي من أشهر مدن هذه البلاد وأوفرها جمالا بنيت في وسط جبال، بدائعها لا توصف، مثل أكثر مدن سويسرا، وإلى جانبها بحيرة تعرف باسمها اشتهرت أيضا بحسنها الفائق، وطول هذه البحيرة 23 ميلا والعرض يختلف ما بين نصف ميل وميلين وعمقها 700 قدم، ولها مزية على أكثر البحيرات السويسرية في أنها لا تجمد مدة الشتاء، كما أن لوسرن لها مزية باعتدال الهواء وجودته، فلا عجب إذا أضحت كعبة السائحين يفدون إليها ألوفا مؤلفة في كل عام، وينفقون فيها الأموال الطائلة ويجدون ما يسرهم سواء من محاسن الطبيعة التي تصبو إليها النفوس أو من اجتهاد الحكومة والأهالي في تحسين ما عندهم، فإن الفنادق والمخازن كلها متقنة، والمعاملة مع السويسريين ليس فيها شيء من التعقيد ولا خوف على السائح من الغبن وسوء المعاملة، هذا غير أن المجلس البلدي لا يفتر عن إعداد وسائل الراحة للسائحين حتى إنه أنشأ مكتبا خاصا لخدمتهم، فيه المترجمون يتكلمون بكل لسان ويرشدونهم بلا أجرة إلى كل حاجة. وأهل لوسرن مثل أهل سويسرا كلهم يتعلمون الفرنسية والألمانية في مدارسهم؛ لأن البلاد قسم ألماني وقسم فرنسي، فأما القسم الفرنسوي فأهم ما فيه مدينة جنيف، وهي واقعة على ضفة بحيرة جميلة تعرف باسمها، طولها 45 ميلا وعرضها 8، وقد امتازت هذه البحيرة بصفاء مائها وزرقتها، وهي تمخر فيها الباخرات الحسناء بين المدائن الواقعة على شواطئها، مثل أفيان وففيه ولوزان، وكلها من المصايف المشهورة. ويحيط بهذه البحيرة جبال بهية يصطاف بها أكابر البلاد والسائحين، وفي أكثرها قصور لبعض الأغنياء. ولجنيف شهرة بمدارسها الجامعة، يقصدها الطلاب من كل الأنحاء، وفيها معامل كثيرة للساعات والآلات الموسيقية - وسنعود إليها في فصل يجيء - وأما القسم الألماني فأهمه لوسرن التي نحن في شأنها.
وأعظم متنزهات لوسرن البحيرة وما يحيط بها من آكام أو جبال بنيت فوقها القصور، أو طرق زرعت إلى جانبيها الأشجار أو حدائق رصعت ببدائع الأغراس، أو شوارع ملئت بالفنادق والمخازن الكبار، وعلى ضفة البحيرة رصيف طويل فيه شجر من الدلب تطاولت جذوعه وتشبكت فروعه، والناس يحتشدون في جوانب الرصيف ويسمعون شجي الأنغام، ينقلون الطرف من البحيرة إلى ذلك الشجر وما يليه من محاسن المدينة، ولا عجب أن يكون أهل سويسرا أصحاب ذكاء متوقد ومناظر حسنة ما دامت بلادهم هذه حالها وهذه مناظرها. ولقد ركبت مرة إحدى البواخر الكثيرة التي لا تزال طول النهار وبعض الليل بين ذهاب وإياب في جوانب البحيرة الشهية، وكانت الباخرة تقف حينا بعد حين في مواقف ما رأت العين أجمل منها، وتدور بين مروج خضراء وجبال سحيقة شماء لتصل أطرافها بالسماء وحدائق فيحاء غناء، وضياع وعمائر كتب على جبين أهلها الرغد والهناء، وأتقن ما فيها من طريق وبناء، فما ترى أينما سرت إلا مناظر تتلو المناظر وكلها آيات في الحسن بينات، ينفرج أمامك المجال حينا ويضيق بعد حين، فإن الباخرة التي كنت فيها وصلت في سيرها إلى موضع ضيق خيل لنا منه أن السفينة حصرت بين أربعة جبال شاهقة، ولم يبق لها مخرج من ذلك الموقف، فما عتمت أن دارت حول جبل من تلك الجبال الشهية، فإذا نحن في بحيرة أخرى، وقد اتسع المجال ورأينا المرابع والمراتع في كل جانب، والأبقار الضليعة ترعى على مهل يقودها صبيان على أبدانهم دلائل العافية والحبور، وقد رقدوا على العشب الندي يتأملون محاسن ما أوجد الله لهم أو يتغنون ويسمعون أصواتهم للمارة في قطر الحديد والباخرات الطافية على وجه تلك البحيرة الصافية، وقد يبيعون الأزهار البرية للسائحين، وهنالك رجال ونساء لا يعملون في مزارعهم المتقنة بما اشتهر عن أهل هذه البلاد من الاجتهاد، والكل يحرثون الأرض وينقبون، وملابسهم نظيفة ووجوههم طلقة لا ترى عليهم دلائل الهم والقلق؛ فإن حكومتهم عادلة غير جائرة والضرائب المفروضة عليهم يسيرة غير رابية وأسواقهم - حيث تباع حاصلات الأرض - رائجة غير كاسدة، فما عليهم من هم ولا هم يحزنون. وهنالك ترى خطوط الحديد إلى جانب الماء تمر عليها الأرتال وقد أطل المسافرون من كل كوة أو نافذة يسرحون الطرف في تلك المناظر الشهية حتى لا يغيب عنهم جمال شبر من أشبار الأرض، وسكة القطار كلها مرصوصة بالحصى والأرض، يرطبها المطر المتوالي لا ينقطع في الصيف أو في الشتاء، فالسفر هنالك لذة، لا غبار يعمي الأبصار ولا رجرجة تضني الأجسام وتذهب بالاصطبار، ولا مراقبة مستمرة على التذاكر ولا تفتيش في كل حين تتألم منه الأفكار، فلا عجب إذا كان السفر في أرض سويسرا الحسناء لذة، والإقامة فيها نعيما تتوق إليه النفوس.
وقد وقفت بنا الباخرة في محطة غليوم تل - سميت باسم هذا الرجل الذي ذكر في المقدمة التاريخية - فرأينا فيها بنات لابسات الزي السويسري القديم ينشدن النغم الوطني، وسرن في الباخرة إلى آخر البحيرة معنا وهن دائبات على الإنشاد، وعدنا في آخر النهار إلى لوسرن ونحن نسرح الأنظار في تلك الجبال الفخيمة، وهي ما بين مخروطة ومنبسطة ومتشعبة ومستدقة، وكلها تكسوها الأعشاب وحراج الشجر البهي وتتساقط من جوانبها جداول الماء، وفوق بعضها الجسور المعلقة بين طرفين من أطراف الجبل يمر عليها الناس، ومن دونهم ما لا ينسكب بين هاتيك الشعاب الغريبة، وأجمل ما يكون في سويسرا منظر بحيراتها وجبالها المشهورة.
وأما الجبال المحيطة بلوسرن فكثيرة، منها جبل بورجستوك ذهبنا في باخرة إلى محطة في أسفله، وارتقينا قمته في قطار يسير صعدا بسير رويدا وهو يتعرج وينثني بين مسالك الجبل، وقد صنعوا له دواليب مشبكة في وسطه غير الدواليب التي تسيره فوق قضبان الحديد، وفائدة هذه الدواليب المشبكة أن أسنانها ترد القطار عن أن يهوي ويتدحرج إلى الوراء مدة سيره بالصاعدين، وكان في أعلى الجبل آلة بخارية تساعد في جر القطار وقد ربطت إليه بسلسلة من الحديد قوية، ولا حاجة إلى القول إن السفر على هذه الطريقة يسحر الألباب بجماله وغرابته ولا سيما إذا أطل الراكب ورأى ما فوقه وما دونه من عجيب المناظر الطبيعية، وشعر كأنه صاعد في السحاب من بين شقوق الجبل البهي. والجبل منظم الطرق في أعلاه ترش جوانبه بالماء وقد صفت الأغراس فيه صفوفا بهية، وبني محل للتلفون وآخر للتلغراف يوصلان الموضع بلوسرن وبقية الأرض وفيه فنادق والموسيقى تصدح بالأنغام الشجية عصاري كل يوم، فما أحلى التنقل في تلك القمة الشماء وقد ترقرق ماء البحيرة من دونها، وقامت شوامخ الجبال الراسيات وبدائع المحاسن المتناسقات حوله من كل جانب، حتى تمثل لك صورة الهناء والنعيم. ولقد قضيت في ذلك الجبل ساعات ثم انحدرت إلى سفحه وعدت إلى المدينة، فقصدت منها في الغد جبلا آخر أشهر من هذا وأكبر اسمه ريكي، بلغ ارتفاع قمته عن سطح البحر 1800 متر، وفيه كثير من الفنادق المتقنة سواء في أعلاه أو في أسفله أو في الجوانب التي تزينها الحراج الغضة، وقد كان القطار يصعد بنا في هذا الجبل وله آلة بخارية تجره من الأمام وأخرى تدفعه من الوراء، وقد نظمت قمة الجبل وزينت بمليح الطرق والبناء والقرى مثل التي مر ذكرها، فكان أكثر المتفرجين معنا يتسلقون على تلك الأعشاب الندية ويتمرغون، وقد لذ لهم بهاء الموضع وحسنه الباهر وتناسوا هموم الزمان، وبعض الذين تراهم هناك يقضون أشهر الصيف كلها فيما شيد من المنازل الفخيمة في جوانب الجبل، وأصحاب الفنادق هنا جروا على عادة لا تروق لأكثر الشرقيين هي أنهم يوقظون الضيوف كل صباح عند شروق الشمس حتى يروا كيف يكون طلوع الغزالة من وراء الجبال، وهم يدقون لذلك الأجراس عند الفجر وعند المغيب فيهرع الإنكليز وسواهم للتأمل في ذلك المنظر الجميل، ولكن الشرقي الذي لا تغيب الشمس من بلاده مدة النهار بطوله وهو يرى كيف تشرق وكيف تغيب في كل حين لا يهتم للقيام من النوم في ألذ ساعاته حتى يرى هذا المنظر المعروف.
وأعلى من ريكي جبل بيلاطس وهو في ضواحي لوسرن أيضا، علوه 2000 متر، والصعود إليه في قطر البخار يستغرق ساعة ونصف ساعة، وهو لا يقل جمالا عن الجبلين اللذين ذكرناهما، وقد عنيت حكومة لوسرن بتشييد المنازل فيه وتمهيد الطرق البديعة، وهي تأتي كل حيلة ممكنة لاستجلاب السائحين وترغيبهم في الإقامة طويلا فيها كأنما المحاسن الطبيعية التي تجمعت هنالك لا تكفيها، وفي جملة الذي تأتيه الحكومة لهذا الغرض أنها تقيم في كل عام زينة بهية في بحيرة لوسرن فتنار البواخر والجبال بالأنوار الكهربائية وسواها وتخترق الفضاء أسهم نارية تتصاعد على أشكال شتى تروق للناظرين، ويتكون من مجموع هذه الأنوار منظر يزيد المدينة حسنا فوق محاسنها الكثيرة؛ ولهذا يكثر إيراد المدينة من السائحين وهم ألوف كثيرة لا يقل عدد الذين يرتقون جبل بيلاطس منهم عن ثلاثين ألفا في كل عام.
وفي لوسرن فنادق كثيرة بنيت فوق الروابي والآكام المحيطة بها غير هذه الجبال، وهي تنار بالغاز والكهرباء، وإذا جاء الليل سطعت الأنوار منها على البحيرة، فكان لها منظر غريب كثير الجمال. وفي هذه المدينة الحسناء معارض تاريخية وتصويرية وكنائس وأسواق تذكر، وحدائق بديعة الوضع والأشكال، ولكنني اكتفيت بما مر ذكره عنها؛ لأنه أهم ما فيها، وشهرتها قائمة في جمال الموقع وجمال المناظر الطبيعية وجودة الماء والهواء، ولو لم يكن فيها من المحاسن غير الذي أوجده الله لكفاها عزا وهناء.
زورخ:
برحت لوسرن بعد هذا ووجهتي مدينة زورخ، وهي واقعة على بحيرة كبيرة تعرف بهذا الاسم أيضا طولها 25 ميلا وعرضها ميلان ونصف ميل، وقد قامت على ضفافها من كل جانب قصور فاخرة ومنازل كثيرة لكبراء السويسريين وبعض الإنكليز والأميركان والألمان والروس، وغيرهم ممن يصطاف في ربوع سويسرا البهية. والأرض هنالك كلها محاسن مثل التي تقدم ذكرها حتى إنه لو أمكن للمرء أن يدور في البلاد ماشيا على قدميه لما شعر بالتعب من تغيير المناظر المدهشة في كل حين، وقد يحسب أن الولاية كلها بلد واحد؛ لأن البناء متواصل والحركة دائمة في جوانب هذا القطر السعيد. واشتهرت زورخ بمعامل الحرير، وهي عشرة آلاف معمل، وفيها من الحدائق والأبنية والشوارع ما يجعلها في الطبقة الأولى من الأهمية بين مدائن سويسرا، من ذلك ساحة عظيمة فيها بركة وتمثال على اسم أشير مؤسس سكة الحديد في سان غوثار الذي مر ذكره، ويمكن الوصول من هذه الساحة إلى شارع توسط ما بين المحطة والبحيرة، وفيه كثير من الأبنية العمومية، وهي أكبر مدن سويسرا بالنظر إلى عدد السكان.
شافهوسن:
अज्ञात पृष्ठ