وإلى جانب القصر الشتوي متحف للصور عظيم يعرف باسم أرمتاج وهو بناء فخيم ملتصق بالقصر المار ذكره طوله 156 مترا وعرضه 113، وجهته الشمالية تشرف على نهر النيفا، والجنوبية تطل على ميدان القيصر، دخلنا هذا المتحف من باب قائم على عمد من الرخام عدتها ستة عشر، والبناء كله فيه من هذه العمد الجميلة مائة وأربعة، وهو مشهور من قدم، عني قياصرة الروس بأمره واحدا بعد واحد، وأحضروا إليه أثمن ما أمكن لهم امتلاكه من الصور البديعة حتى بلغ عدد رسومه الآن 2000 صورة من صنع أشهر المصورين في أوروبا، أنفق عليها مال طائل، من ذلك أن كاترينا الثانية وهي مؤسسة هذا المتحف اشترت سنة 1763 مجموع صور من تاجر ألماني عددها 317 ودفعت ثمنها مائتي ألف ريال، وكان الرجل قد جمع هذه الصور ليبيعها لفريدريك الكبير ملك بروسيا، فما قدر الملك على ابتياعها بسبب ما أنفق من المال على الحرب، واشترت هذه الإمبراطورة بعد ذلك مجموعة الماركيز كروزات أحد رجال البلاط الفرنسوي في دولة الملك لويس الخامس عشر، ومجموعة روبرت وولبول الإنكليزي بأربعين ألف جنيه، واشترى القيصر إسكندر الأول مجموعة من جوزفين زوجة نابوليون الأول بمليون فرنك، ونقولا الأول اشترى صورة واحدة للعذراء من صنع روفائيل المشهور بمبلغ ثمانية آلاف جنيه، ومن هذه الأمثلة تعلم مقدار ما في متحف أرمتاج من الصور الثمينة. وقد قسمت الرسوم أقساما ووضعت في مواضع مرتبة وطبعت لها جداول وكتب، وهي كثيرة الأشكال لا يمكن الإشارة إليها بغير الإيجاز، لا سيما وأنها تحكي ما في المعارض الأخرى للصور من رسوم تمثل حوادث التوراة والإنجيل، أذكر منها صورة احتراق سدوم وعمورة وقد انقضت عليهما النار من السماء انقضاضا هائلا أشعل جوانبهما، وأرجف أهلهما خوفا حتى إنك لترى الأولاد وقد تولاهم الرعب فارين ممسكين بأذيال والديهم، والرجال ينظرون إلى السماء وقد تفطرت قلوبهم جزعا وخوفا، ومن ذلك صورة فرار لوط وأهل بيته من هذه النار المحرقة بناء على ما أوحي إليه، وهي مما يمثل للناظر حالة الناس في تلك الحوادث المشهورة ويزيدها رسوخا في الأذهان، وهنالك صور معارك وحوادث معروفة وأشخاص نوابغ ومناظر طبيعية تنشرح لجمالها الصدور.
وليس يقتصر الأمر في هذا المعرض على الصور والرسوم، بل إن في الدور الأول منه تماثيل وأشكالا تمثل تاريخ الأمم القديمة، وهي كثيرة لا موضع لوصفها، وفيه قسم للآثار اليونانية القديمة أكثروا فيه من وضع الأدوات والآلات البيتية بعضها من الفضة وبعضها من الذهب، وفي المعرض أيضا قسم عظيم للنقود لا يقل مجموع القطع التي عرضت فيه عن مائتي ألف قطعة، قسمت إلى روسية وأجنبية وقديمة وحديثة، فالقسم الروسي فيه جميع أنواع النقود الروسية من أول عهدها إلى هذا اليوم، والقسم الأجنبي فيه نقود الممالك الغربية والممالك الشرقية، وللنقود القديمة عندهم شأن عظيم.
ويلحق بهذا المعرض العظيم معرضان آخران: أحدهما على اسم بطرس الكبير والثاني على اسم كاترينا الثانية، وقد وضعوا في المعرضين شيئا كثيرا من آثار هذين المليكين العظيمين، ولا سيما الذي صنعه بطرس الكبير بيده أو كان يستعمله مدة حياته، من ذلك علب للسعوط بعضها من الخشب البسيط وبعضها من المعادن الثمينة مرصع بالحجارة الكريمة وأدوات رياضية زاول العمل بها أعواما طويلة ومركبة من صنعه، وقفص داخله شجيرة فوقها ديك، والكل من ذهب وغير هذا شيء كثير، وأما الأشياء المحفوظة في معرض كاترينا الثانية فأكثرها ملابس وآثار من أيام تلك الملكة العظيمة.
وخرجت من هذه المتاحف إلى ميدان القصر وهو واسع بعيد الأطراف فارتحت إلى منظره الفسيح بعد التنقل بين الآثار العديدة كل تلك الساعات الطوال، وفي هذا الميدان عمود للقيصر إسكندر الأول أقامه القيصر نقولا الأول سنة 1834 تذكارا لسلفه وهو من أفخم الأعمدة التي نصبت لمثل هذه الغاية وأطولها، كله من الرخام الأحمر المصقول جاءوا به من بلاد فنلاندا، وقاعدته رخام أبيض بهي المنظر، وفي أعلاه كرة من النحاس كبيرة ملبسة بالذهب وفوقها رسم ملاك باسط جناحيه وقد رفع يدا إلى السماء وأمسك باليد الأخرى صليبا كبيرا من النحاس المذهب؛ ولذلك الميدان بهاء لا يزيده بهاء القصور المتجمعة حوله مثل القصر الشتوي، وهذه المتاحف وقصر أركان الحرب وهو بناء فخيم ذو ثلاث طبقات لها 768 نافذة تطل على الميدان، وفي جوانب هذا البناء وزارة المالية ووزارة الخارجية «والدفترخانة» الروسية، وهي جامعة لشيء كثير من الأوراق الرسمية والتقارير عن الحروب الحديثة. ومن تحت هذا البناء سرداب واسع وباب كبير يمكن الوصول منه إلى شارع نفسكي، وفوق الباب تمثال مارس إله الحرب صنع من النحاس تجر مركبته ستة من الجياد، وقد دخلت وزارة البحرية فألفيتها قصرا باهيا باهرا دهن باللون الأصفر في خارجه ما خلا الأعمدة والأركان، فإنها بيضاء وفي أعلاه نصب وأعلام قيصرية وتمثال بطرس الكبير مؤسس هذه الوزارة يتناول من نبتون إله البحر خطافا مثلث الزوائد، وفوق الباب برج علوه 75 مترا، في أعلاه سهم مذهب يناطح السحاب وينتهي السهم بشكل تاج ومركب، وفي هذه الوزارة غير المواضع المعدة للأعمال الرسمية غرف للمدرسة البحرية ومكتبتها ومتحفها، وفيها رسوم بحرية لا تعد ترى في أولها رسم بطرس الكبير وبعض السفن التي صنعها بيده وصورته في معركة أزوف البحرية التي أشرنا إليها في الخلاصة التاريخية، وغير هذا كثير.
وسرت من هذه الوزارة إلى ميدان بطرس الكبير، فرأيت فيه تمثاله العظيم الذي أقامته كاترينا الثانية واستقدمت لصنعه مهندسا فرنسيا اسمه فالكونه، فرسمه راكبا جواده وعلى رأسه إكليل الظفر يهمز جواده ملتفتا إلى نهر النيفا وقد مد يده إلى ناحية المدينة التي أنشأها، والجواد واقف على قاعدة من الرخام عظيمة الاتساع يتقهقر إلى الوراء ويدوس تنينا تحت رجليه، وقد لزم لهذا التمثال الكبير قناطير مقنطرة من النحاس، وبلغت نفقاته أكثر من مليوني ريال روسي، وهو أكبر تمثال من نوعه في عاصمة الروس.
وعلى مقربة من هذا الميدان الكبير مجلس الأعيان، وهو الذي أشرنا إليه قبل، وهنا يجتمع أمراء المملكة وكبراؤها للنظر في الشئون العامة تحت رئاسة القيصر أو من يقوم مقامه، وفي قسم من هذا البناء المجمع المقدس، وهو كما قلنا قبل الآن يفصل في المسائل الدينية الخطيرة ورئيسه القيصر أيضا، والبناء كله على شاكلة القصور الأخرى التي ذكرناها، فلا أتعب القارئ بوصفه ولا أطيل عنه الكلام.
وقد ذكرنا أن في شارع نفسكي كنيسة كازان، وأشرنا إلى بعض ما فيها، ولكن في بطرسبرج كنيسة أخرى لها شهرة قديمة لا تقل عن شهرة أعظم الكنائس الروسية، هي كنيسة مار إسحق ويسمونه إسحق الدلماسي؛ لأنه جاء من دلماسيا في بلاد ألمانيا، وكان هو أول من بشر الروس بالإنجيل وهداهم إلى النصرانية على عهد فلاديمير كما رأيت في الخلاصة التاريخية، فبنوا هذه الكنيسة على اسمه وجعلوها من أعظم الكنائس وأفخمها، وكان البادئ في بنائها القيصر إسكندر الأول، وضع الحجر الأول فيها سنة 1819، واستمر في البناء القيصر نقولا الأول، فما تم حتى عام 1858 على عهد إسكندر الثاني، فاشتغل في إتمامها وإتقانها ثلاثة قياصرة عظام مدة 39 عاما، وبلغت نفقاتها 24 مليون ريال وهي مبنية من الرخام والصوان، وقد جعلت على شكل صليب طولها 105 أمتار وعرضها 90 مترا، ولها قبات كثيرة مختلفة الأشكال، أهمها القبة الوسطى التي بلغ محيطها 26 مترا، وهي قائمة على 24 عمودا ركزت فوق برج عظيم قائم على أعمدة أخرى، وفي أعلاها صليب كبير، والقبة بأعمدتها وصليبها وقاعدتها وبرجها ملبسة بالنحاس المذهب، ولها منظر فائق الجمال، وهي تظهر للقادم إلى بطرسبرج من عرض البحر نظرا إلى ارتفاعها ولمعان معدنها ولا يقل علوها عن مائة متر.
وللكنيسة أربعة أبواب، منها اثنان أصليان كل منهما قائم على 16 عمودا من الرخام الأحمر المصقول، وقواعدها وتيجانها من النحاس المذهب، وهي تقرب من أعمدة الهياكل المصرية القديمة وأعمدة قلعة بعلبك في منظرها وضخامتها، فإن قطر العمود منها متران، وقد صنعت أبواب هذه الكنيسة من النحاس وحفر عليها رسوم ملائكة الجنان والقديسين على مثال الموجود من هذه الرسوم في كنيسة القديس مرقص في مدينة البندقية بإيطاليا، والدرجات الموجودة في هذه الكنيسة كلها من الرخام أو الصوان المصقول كل درجة منها حجر واحد، وواجهة الكنيسة من الرخام الأبيض تتخلله عروق من الذهب، وفيها من الأيقونات ما لا يعد أكثرها مرصعة بالحجارة الكريمة وباب الهيكل من الفضة الخالصة يحف به 18 عمودا باهر الجمال، منها عشرة من اللازورد وثمانية من المالكيت الأخضر وهما من الحجارة الغالية الثمن، وعلى باب الهيكل إلى اليمين واليسار صورة العذراء والمسيح مرصعة بالألماس (برلانتي) ترصيعا لم أر له نظيرا في غير هذه البلاد، فإن حجارة الألماس أدخلت في الصورة نفسها مرتبة حول الرأس وفي الصدر، وهي كبيرة الحجم لا تقل عن البندقية، والروسيون ينفقون على مثل هذا الترصيع مالا وفيرا، وأما المذبح فكله من الفضة الخالصة، وآنية الخدمة من الذهب الدقيق الصناعة، وجملة القول إن وزن ما في هذه الكنيسة من الآنية الفضية 1200 كيلو، ومن الآنية الذهبية 40، وأكثره هدايا من القياصرة وأعضاء البيت القيصري وبعض المجالس البلدية وسراة الروسيين. وفي هذه الكنيسة أعلام ومفاتيح مدن غنمها الروس في حروبهم وأشياء كثيرة لتذكار الفعال العظيمة التي قام بها رجالهم، وهي - بوجه الإجمال - من أغرب كنائس الدنيا وأوفرها بهاء.
وخرجت من هذه الكنيسة إلى حديقتها، ومنها إلى ميدان مريم وهو متسع من المدينة أشهر ما فيه تمثال لجبار القياصرة - أعني به الإمبراطور نقولا الأول - وقد مثلوه راكبا جوادا جموحا، ونقشوا على جوانب القاعدة أعمال هذا القيصر العظيم وآثاره الكبيرة، ووضعوا بينها رسوم زوجته وأولاده، وعلى كل جانب من جوانب القاعدة إحدى هذه الكلمات الأربع، وهي: القوة، العدل، الإيمان، الحكمة، وهم يمثلون هذه الكلمات في رسوم وتماثيل عديدة تجدها في دور القضاء وقصور الملوك كثيرة في كل المدن الأوروبية، وقد أقيم هذا التمثال تذكارا لحادثة تاريخية جرت في أيام نقولا الأول؛ فإن بعض الأهالي ثاروا وتجمهروا في هذا الميدان يقصدون الشر، فجاءهم إليه القيصر راكبا جواده فحالما رأوه خروا خاضعين وانتهت ثورتهم .
ولما كانت وزارة الخارجية في قصر أركان الحرب الذي تقدم ذكره، وكان سعادة السري الموسيو سليم دي نوفل وطنينا الكريم في هذه الوزارة مستشارا لها، فإني دخلتها وقصدت زيارته، فعلمت من العمال أنه مقيم من أيام في منزله الكائن في شوفالوفو إحدى ضواحي بطرسبرج، فعدت إلى فندقي وفي ثاني الأيام أخبرني صاحب الفندق أن تلميذا من تلامذة المدارس القيصرية جاء بكتاب إلي مدة غيابي فتناولت الكتاب وفضضت غلافه، فإذا به من سعادته نقله نجله إلى الفندق، وفي الكتاب أنه طريح الفراش من كسر أصاب رجله إثر سقطة، وألح علي كثيرا أن أذهب إلى شوفالوفو لزيارته، فذهبت في القطار الحديدي بين غياض وحراج وبقاع مرصعة بفاخر البناء والمنازل، ولبساتينها وحدائقها الغناء جمال خاص بها حتى إذا وقف القطار في محطة شوفالوفو قصدت منزل صديقي، وهو قائم في وسط حديقة جميلة فقابلني حضرة قرينته وحضرات أنجاله بالترحاب وساروا بي إلى غرفته فسررت لذلك اللقاء سرورا كثيرا، وظللت في غرفته إلى ساعة الغداء حين قمنا إلى قاعة فسيحة للطعام مدفأة بالنار ونحن في أواسط شهر أوغسطس، وبعد الغداء قمنا ندور بين تلك الحدائق ومتعت الطرف بهاتيك المناظر البهية وأنا مع عائلة المسيو دي نوفل، ثم عدنا إلى المنزل، والحديث أذكر منه أن صديقي سألني عما رأيت فحدثته عما خلج صدري من التأثر حين زرت القصر الشتوي، ورأيت غرفة إسكندر الثاني الذي اغتاله النهلست، فقال لي إن هذا القيصر كان كثير الورع شديد الاعتقاد بحكم القضاء وبعناية الله به حتى إنه كان مع كل الذي أصابه من مكايد النهلست لا يحذر على نفسه منهم، وحاول أحدهم أن يغتاله سنة 1876 فأخطأ سهمه المرمى، وفي السنة التالية حاول آخر بولوني الأصل أن يقتل جلالته أيضا فلم يفلح في سعيه المذموم. وفي سنة 1878 خرج يتمشى من قصره الشتوي فهجم عليه أحد هؤلاء الأشرار وجعل يطلق الرصاص عليه خمس مرات متواليات وهو لا يصيبه، وكان القيصر - كما قلنا - ماشيا ففر من الرجل وظل يعدو مسرعا والرجل وراءه يطلق الرصاص حتى دخل وزارة الخارجية تجاه قصره الشتوي، ونجا من القاتل. وفي سنة 1880 حاول النهلست نسف غرفته على مثل ما تقدم، وما برح القوم يكيدون المكايد لهذا القيصر النبيل حتى ظفروا به.
अज्ञात पृष्ठ