ولما انتهيت من المرور في النفق سرت في آخر النهار إلى قهوة تعرف باسم ستومبارتر، وهي واقعة على ضفة الخليج ينزلون إليها بسلم، وفيها حديقة شهية يقعد فيها الناس ويمتعون الطرف بمنظر الخليج وما يمر فيه من السفن والبواخر الكثيرة، ومنظرها في الليل لا يقل بهجة عنه في النهار؛ لأنهم ينيرونها بأجمل الأنوار موضوعة على أشكال شتى، وبينها كثير صنع على شكل الراية الأسوجية بالمصابيح الملونة.
والمدينة هذه مشهورة بجزرها على ما تقدم وقد ذكرنا بعضها، ومن أجملها جزيرة دجورجارد فيها القصور والمنازل لكبراء القوم، وفيها غابات كثيرة من شجر القرو، وهو كثير في هذه البلاد، تمتد أغصانه وتتكاثف أوراقه، فيشبه أرز لبنان في امتداد عروقه، ويتخلل هاتيك الحراج طرق فسيحة نظيفة تخترق الشجر في الجهات الأربع؛ لتسهيل المرور والانتقال ولها منظر يشرح الصدور. ولقد سرنا في أحد هذه الطرق فانتهينا إلى قصر روزندال الذي بناه الملك شارل الرابع عشر، وفي ذلك القصر يقيم الكونت برنادوت وهو ثاني أنجال الملك، اعتزل الدنيا وتنازل عن كل حقوقه في الملك والأبهة؛ لأنه شغف بحب فتاة إنكليزية فائقة الجمال، وهي ابنة ضابط من ضباط الجيش الإنكليزي، فاقترن بالفتاة بعد أن نهاه أبوه الملك أوسكار عن الاقتران، وتغلب الحب للفتاة على كل أمر آخر، فغضب الملك غضبا شديدا على ابنه وأصدر أمرا بحرمانه من كل حقوق الأمراء حتى إنه سلخ عنه لقب الإمارة، فما أثر ذلك في الأمير، وهو إلى الآن مع عروسه في هذا القصر يتنعم؛ لأنه ورث عن أمه مالا كثيرا والفتاة غنية أيضا؛ ولهذا القصر حديقة غناء وعلى مقربة منه برج بناؤه شاهق، وعلو قمته عن الأرض 110 أقدام، صعدته فرأيت المدينة بجميع أجزائها تحت نظري، والبرج مبني على أكمة علوها 250 قدما فكان منظر تلك الجهة بديعا.
وتحولت من ذلك البرج إلى غربي الجزيرة، وهناك أماكن الاجتماع أقيمت في جوانبها الحانات والملاهي والمطاعم، ومرسح بني على مثال القصور العربية في بلاد المغرب الأقصى وله جدران خضراء عليها أشعار عربية بالقلم الأبيض، وكان النهار قد انقضى فأنيرت المصابيح الكثيرة، وبدأت في المكان حركة من توافد الألوف إلى تلك الملاهي والحانات لقضاء السهرة، فكنت ترى من أشكال الأسوجيين كبارا وصغارا رجالا ونساء ما يمثل لك حال البلاد برمتها، وقد ظهرت على الجميع علامات التأدب والتهذيب وراحة البال من عناء المشاكل الداخلية والخارجية، فإن هذه المملكة من الممالك القليلة التي لا تشتد فيها حدة الأحزاب السياسية، وليس لها من العقد الخارجية ما يشغل البال ويقطب الجبين.
وقضيت السهرة في مسرة وحبور في تلك الجزيرة حتى إذا انقضت عدت بالترامواي إلى الفندق، والطريق كله حدائق ومشاهد جميلة وأصبحت في اليوم التالي على نية الاستقصاء في التفرج ودرس المناظر، فكان الدليل ينتظرني وسرت معه إلى قصر دروتنغولم، ومعنى الاسم قصر الملكة، سمي بذلك؛ لأن الملكة حنة الثالثة بنته في أواخر القرن السادس عشر وأتم زخارفه الملوك الذين جاءوا من بعدها، والقصر في جزيرة من الجزر المحيطة بالعاصمة فسرنا إليها في باخرة جميلة تشق عباب بحيرة مارلان التي ورد ذكرها من قبل، وطفقت هذه الباخرة تمر بقصور وحدائق ومتنزهات جمة وباخرات أخرى تنقل الناس من جهة إلى جهة في نواحي ستوكهولم، وكنا إذا مررنا بإحدى الجزر البهية مثل التي كنت بالأمس فيها نرى الناس هنالك يطربون ويسرون، وقد دب في بعض الرءوس تأثير بنت الحان فجعل القوم يرقصون ويتخاصرون، وإذا مرت بهم سفينتنا لوحوا لها بالمناديل تسليما وتحية فيرد الركاب التحية بمثل ما فعلوا من رفع الأكف والقبعات وتلويح المناديل، وبعض الأحيان يفعلون ذلك بالهتاف والصياح والتصفيق، وفي كل هذا دليل على ما يرتع به القوم من الرخاء وصفاء البال، وما زالت الباخرة في مسير بين مثل هذه المناظر ونحن نتمنى لو تطول مدة المسير حتى رست بعد ساعة في آخر البحيرة، فنزل الركاب وأنا معهم على رصيف من الخشب وسرنا من هنالك في طريق كثرت محاسنه إلى القصر، ودخلنا القصر بعد أن بلغناه فرأينا جوانبه وقاعاته، ولا حاجة إلى القول إنه كامل الجمال والإتقان من حيث النقش والرياش وغيرهما. وفي القسم المعد للملك منه صور ملوك أوروبا الحاليين وقياصرتها بالحجم الطبيعي، وفي قسم الملكة صور الملكات والقيصرات بقدهن الطبيعي أيضا، والقصر يقيم فيه الملك بعض أشهر الصيف، وهو قديم العهد مملوء بالتحف والنفائس وله حديقة غناء تستحق الذكر على نوع خاص، فإنها جمعت من أشكال الزهر والشجر كل جميل وغريب، وغرست فيها الأشكال على نمط بديع يحيط بها طرق مرصوصة بالحصى ومتقنة الوضع، يزيدها جمالا أنواع النصب والتماثيل الكثيرة وبرك الماء المتدفق من الأنابيب المختلفة، وفوق هذا فإن الحديقة تشرف على البحيرة فيتم بذلك رونقها وبهجتها.
ومن أجمل ما اكتحلت بمرآه العين وأبهى ما وصفه الواصفون ضاحية من ضواحي ستوكهولم لا مشاحة في أنها لها رونق وجمال ما رأيت أعظم منه تأثيرا في النفس، ولا سمعت بأكثر غرابة وفخامة، أريد بها ضاحية سولتجون، هنالك جمعت الطبيعة كل قواها ووفقت بين غرائب جمالها، وساعدتها يد الصناعة والاجتهاد على إيصال البدائع الموجودة فيها إلى حد النهاية، فصار الموضع بإقرار كل من رآه آية فتانة من آيات الجمال الرائع والمنظر المؤثر، لا تنسى النفوس ذكراه، هنالك الجبل الشامخ والبحر الخضم والجدول المنحدر والصخر الصلد والحرجة الغضة والأكمة البهية، والوادي القشيب والبحيرة النقية مياهها، وكل حسنة من حسنات الطبيعة تتوقف إلى رؤيتها النفس وتشتاق سماع أخبارها الآذان، وقد سرت إليها في باخرة من هاتيك البواخر الحسناء والمسافة بينها وبين العاصمة ساعتان في مضيق من الماء أو هو بوغاز يضارع البوسفور فيما يليه من تنوع المناظر وجمال الضفتين وغرابة المحاسن من هنا ومن هنا. ولقد كان هذا البوغاز البهي يضيق تارة ويتسع أخرى، وسواء ضاق أو اتسع فإن الذي يراه الراكب ليسحر العابد من حراج وغياض وخضرة نضرة ترصعها قصور شماء لأكابر الناس، تطل كواها وشرفاتها على ذلك المنظر الفخيم، وأعجبني فوق هذا كله تلك الصخور الصوانية الباقية من عهد تكوين الأرض شاهدة بفضل الطبيعة وقوتها، وهي قائمة إلى جانبي الطريق تليها الأعشاب وأشكال الشجر المدلاة أغصانه، ولا سيما إذا ما ضاق مجرى الماء وصار مثل شارع غير متسع المجال، فإن هاتيك الغصون تتقابل من الجانبين ويتكون منها أقواس من الخضرة فوق الماء المترقرق فتمر الباخرات من تحت تلك الأقواس البهية، ويا له من ممر عجيب! ثم إن ذلك البوغاز غير مستقيم السير، وهنا نقطة أخرى للجمال فإنه يتعرج في بعض أجزائه تعرجا كثيرا يوهم الراكب أن الطريق سدت في وجه الباخرة، فلا يظهر للرائي من الماء غير الذي تسير السفينة فوقه، وتعترضها صخور وغياض، ثم هي تنساب في تلك المسالك الشهية انسياب الأفعى فما يشعر الراكب إلا وقد انفرج المجال وصار إلى وسط بحيرة ماؤها نقي ومنظرها شهي، ولها ضفاف نقشت بمحاسن البناء في وسط الحدائق أو على رءوس الآكام، وفي وسطها جزيرات لطيفة كلها معارض لما اجتمع في هذا الصقع من بدائع الطبع والصنع.
تلك حالة الطريق ما بين ستوكهولم وسولتجون، لما وصلناها نزلنا من السفينة إلى الأرض على رصيف من الخشب دخل في الماء دخول اللسان من الأرض في شواطئ البحار، فسرنا منه صعدا إلى قمة جبل بنيت عليها المنازل والمطاعم وأماكن الاجتماع، وهنالك مطعم تفننوا في إتقانه وأنفقوا على معداته الألوف، فجعلوا الأدوات والآنية كلها من الفضة والذهب والبلور والموائد نظيفة بالغة حد الإتقان، يقف من حولها الخدم بأجمل هندام. وأذكر أني رأيت عبدا أسود في ذلك المطعم عرفت بعد السؤال أنه سوداني أخذ من بلاده صغيرا وربي في ذلك الموضع البهي، فما ينطق بغير الأسوجية، وصعدت برجا في ذلك المطعم أطللت منه على تلك المناظر البديعة، فارتسمت في ذهني وذكرها لا يزول؛ لأني لم أجد أكثر منها غرابة وجمالا، ثم عدت في المساء إلى المدينة بعد أن قضيت النهار كله متنقلا بين هاتيك الغياض والمشاهد، وكان رجوعي في قطار سكة الحديد والطريق لا يقل غرابة وجمالا عن طريق البحر الذي وصفناه.
وأعجبت في ستوكهولم بالأمن العام والنظام الشامل؛ فإن حكومتها الدستورية من أرقى أنواع الحكومات في الأرض، ولها بوليس لم أر في الشرطة أجمل منه منظرا ولا أكثر لطفا وعلما في كل العواصم الأوروبية، فإن الجندي البسيط من أولئك الرجال يلبس لبس ضابط كبير له بنطلون أسود من الجوخ اللامع، ومن فوقه سترة من نوعه لها صفان من الزرائر المطلية بالذهب، وحزام مقصب يتدلى منه السيف، وقبعة سوداء صغيرة لها خطوط، ونحاسة لامعة في مقدمها شعار الدولة الأسوجية، وقفاز أبيض في اليدين، والناس يحترمون رجال البوليس ويصعدون بإشارتهم، وهم أصحاب علم وذوق وتربية مثل كل الأسوجيين، فلا عجب إذا شمل النظام وعم الأمن واستراحت قلوب الناس في هذه البلاد من الهم والمشاغل.
ويقال - بوجه الإجمال - إن هذه المدينة من مدائن الطبقة الأولى بجمال مناظرها الطبيعية وغرابة وضعها وبهاء ضواحيها، ولكنها باردة الهواء في أكثر فصول السنة ما خلا فصل الصيف، وهو لا يزيد فيها عن أربعة أشهر أو ثلاثة، والماء يتجمد فيها مدة الشتاء فتصبح هاتيك البحيرات البهية صفائح من الجليد يزحف عليها الناس بالقباقيب الدراجة، ويعد ذلك عند أكثر أهل الشمال من أحسن ما يروض الأبدان ويسلي العقول. هذا غير أن قرب أسوج من الشمال الأقصى يجعل أكثر أيام السنة فيها قصيرة والليل طويلا، فلا يزيد طول النهار في معظم أيام السنة عن 6 ساعات لأسباب طبيعية يعلمها القارئون، وهو من غرائب البلاد، وفي جملة محاسنها الكثيرة. وأهل هذه البلاد من الطبقة الأولى في حسن التربية، بعيدون عن الغش والخداع في أمورهم وأعمالهم، وإذا تزوج المرء منهم أعطى عروسه يوم الزواج نسخة من الإنجيل مع بقية الهدايا، وأما العروس فتهدي زوجها قميصا للنوم تخيطه بيدها، يلبسه مرة ثم يغسله ويطويه فيبقى محفوظا إلى يوم الممات ليدفن فيه.
فنلاندا
إني قصدت زيارة هذه البلاد حبا في الاطلاع؛ لأنه لم يزرها من أهل الشرق قبلي رجال كتبوا عنها، وليس فيها من المشاهد ما في غيرها من بلدان أوروبا، ولم أكتب لها خلاصة تاريخية كغيرها؛ لأنها لم تكن شيئا يذكر في الماضي، وتاريخها ينحصر في حروب ومنازعات على امتلاكها بين دول الشمال إلى أن صارت ملكا للروس في أوائل هذا القرن، وهي الآن ولاية روسية ممتازة تعد إمارة مستقلة لها نظامات خاصة بها غير نظامات الدولة الروسية، وفي قاعدتها مجلس للشيوخ ومجلس للنواب يسنان ما يلزم لها من القوانين ويصدق عليها قيصر الروس رأسا، والبلاد واقعة بين روسيا وأسوج، وهي واسعة الأرجاء منبسطة الأرض كثيرة الجزر والخلجان، وعدد سكانها قليل لا يزيد عن مليونين ونصف من أهلها الأصليين، وهم من النوع التوتوني.
अज्ञात पृष्ठ