127

मशाहिद ममालिक

مشاهد الممالك

शैलियों

وبينا كانت العساكر تستعد لدخول المدينة من ناحية تلال علي أطلق العرب رصاصهم فقتلوا ضابطا وبعض الجنود، وهجم ابن عيسى من جانب آخر على الفرنسويين فقاتلهم قتالا شديدا، ولكنه تقهقر وعاد إلى المدينة بعد عدة ساعات، فقرب الفرنسويون مدافعهم إلى مسافة 300 متر من باب القنطرة، ودام القتال من تلك الجهة طول النهار، ونزل المطر مدرارا حتى إذا عادت الجنود الفرنسوية للمبيت وجدت المضارب بركا وأوحالا، وعاود الفرنسويون إطلاق القنابل على المدينة في 9 من الشهر المذكور، وضموا مدافعهم كلها إلى جهة واحدة، هي جهة تلال علي بعد عناء شديد من نقلها في الوحل، وظلوا على هذا الحال إلى يوم 12 من الشهر المذكور حين جمع القائد العام كل قواته في التلال المذكورة، وأراد التعجيل في فتح هذه المدينة فخطر له أن يخابر أهلها وأرسل إليهم جنديا تركيا بكتاب عربي، فذهب الجندي، وفوق رأسه العلم الأبيض حتى إذا بلغ سور المدينة ألقوا إليه حبلا وبلغ الكتاب، ثم عاد في اليوم التالي بجواب شفاهي معناه أن الأهالي عندهم ما يكفيهم من القوت والذخيرة، وأنهم عولوا على الدفاع إلى الفناء، فأعجب القائد العام ببسالتهم، ولكنه عول على مقاتلتهم إلى الختام، ثم خطر له أن يمعن في الأمور، ويعيد معاينة المواقع قبل إعادة الهجوم العام، فتقدم بمفرده وفي يده منظار يعاين به تلك المواقع، وحذره الجنرال روليه من هذه المخاطرة، فلم يرتد حتى أطلقوا عليه قنبلة من السور أصابته في تلك الحالة، فخر قتيلا، وتولى القيادة مكانه الجنرال بيريجو رئيس أركان الحرب، فما عتم أن بدأ القيادة حتى أصابته رصاصة أودت بحياته أيضا، فوقع إلى جنب رئيسه ميتا، فأصاب الجيش الفرنسوي من فقد القائدين بلاء عظيم، وأسقط في يد الجنود، وكادت أحوالهم تتضعضع لولا وجود الدوك دي نمور معهم، وهو أمير عاقل هدأ روع الجنود في الحال، وسلم القيادة للجنرال فاله، فقام هذا القائد الجديد بمداومة الحرب وصوب كل مدافعه على الباب الذي ذكرناه، وكان أحمد بك قد وضع وراءه أكياس الرمل فلم يفده ذلك، لأن مدافع الفرنسويين ظلت تنسف السور وما وراءه حتى اخترقته، وفتحت بابا رأى الفرنسويون داخل المدينة منه، وعند ذلك صدر أمر القائد إلى جنوده بدخول المدينة، فدخلوها بعد أن قتل منهم عدد كبير على الباب، وفي الطرق التي ساروا منها إلى القلعة؛ لأن الطرق كانت ضيقة وقد تجمعت نساء العرب على سطوحها ترمي الفاتحين بالحجارة واللعنات، واختبأ الرجال في الحوانيت ووراء الجدران، وكان العرب يتصيدون الفرنسويين برصاصهم من شرفات المنازل وأسطحة الجوامع والمآذن أثناء ذهابهم إلى القلعة حتى إذا بلغ الفرنسويون القلعة التحموا وأعداءهم بقتال شديد يهول وصفه، فكان الفرنسويون يقاتلون بحرابهم والعرب بسيوفهم ونساء العرب بالخناجر والطبنجات، فكان يوما عصيبا وقتالا شديدا عجيبا، فيه تفانى الفريقان وعلت الصيحات، ولا سيما من نساء العرب، واشتد الهول، فما حقنت الدماء وبطل البلاء إلا حين دخل الفرنسويون قلعة المدينة واستولوا عليها، ثم أداروا مدافعها على المدينة فجعلوا يطلقونها على الأحياء، ويفتكون بأهلها الفتك الذريع. وكان القائد العام والدوك دي نمور قد دخلا قصر أحمد بك بعد أن فر الرجل منه. فلما هدأت الحال وبطل القتال طلبا قاضي المدينة وأمراه أن ينشر في المدينة وجوامعها أن الفرنسويين لا يتعرضون للدين ولا لعوائد البلاد، وأن احتلالهم عائد على البلاد بالخير، ففعل وكان هذا آخر حرب الفرنسيس لامتلاك مدينة قسنطينة.

وبرح الجنرال فاله قسنطينة بعد أن ترك فيها حامية، ونظم إدارتها الملكية والعسكرية، وعاد إلى عاصمة الجزائر في أواخر سنة 1837، فلما بلغها علم أن عبد القادر اتحد مع أحمد بك، وأن الاثنين هيجا القبائل لمعاودة العدوان، وأن القبائل المذكورة تقدمت على بلدة بليدا، وهي تبعد ساعات قليلة عن العاصمة - وستذكر في باب السياحة - وبعضها زحف على الثغور الكائنة في قبضة فرنسا، وأرسل القائد جنودا على الهاجمين، فدارت رحى الحرب في إقليمي قسنطينة ووهران مدة عامي 1838 و1839 على غير جدوى حتى ثبت للقائد العام أنه لا يمكن احتلال الجزائر نهائيا إلا إذا قضي على الأمير عبد القادر؛ فأرسل يقول ذلك لحكومته وطلب منها 70000 جندي لهذا الغرض. وبينا هو يعلل نفسه بنيل الحكومة العامة جزاء فتح قسنطينة وإجابة سؤاله، جاءه من وزير الحرب أن الجنرال بوجو - الذي سبق ذكره - عين حاكما وقائدا عاما للجزائر، وأنه وضع تحت أمره 75 ألفا من المشاة و13500 من الفرسان، وأنه كلف سحق عبد القادر مهما كلف ذلك من العناء.

وصل الحاكم العام بوجو عاصمة الجزائر في أوائل سنة 1840، فبادر حال وصوله إلى إنذار القبائل بسوء العقبى من البقاء على العناد، ودعاها إلى تسليم سلاحها للدولة الفرنسوية، وأتبع ذلك بالزحف من وهران وقسنطينة والعاصمة معا، وكان الفريق الكبير تحت قيادته، والكل مجدون في أثر عبد القادر حتى إذا بلغوا الميدية علموا أنه في الجبل ومعه 15 ألفا من الجنود المشاة وعشرة آلاف من الفرسان، فتأثروه وأدركوه، ودارت الحرب معه سجالا، فكسروه شر كسرة، وحملوه على الفرار إلى الصحراء، وكان الجنرال لامورسيير في أثناء ذلك قد قام بجيشه من وهران والتقى بمبارك البلقاني - وهو مستشار عبد القادر ونصيره - معه 400 مقاتل فكسره أيضا، واستولى على ماله وأمتعة جيشه، وأكرهه على الفرار ووزع المال والأمتعة على القبائل الموالية. ثم إن الجنرال بيريجو قائد إقليم قسنطينة التقى بأحمد بك فقاتله وهزمه شر هزيمة، وكان ذلك آخر العهد بهذا الحاكم التركي؛ فإنه لم يسمع عنه شيء بعد هذه المعركة، وفوق هذا فإن القبائل الموالية لفرنسا قاتلت القبائل المعادية لها وظهرت عليها، فكان النصر عاما شاملا ولكنه لم يعد بالمطلوب؛ لأن عبد القادر فر بمعظم رجاله، وعاد الجنرال بوجو إلى عاصمة الجزائر؛ ليستعد لحملة جديدة تقضي على خصمه، حتى إذا كان عام 1843 قام بقوة كبرى ومعه رؤساء القبائل الموالية يرشدونه إلى محل العدو، وحدث أن بعض العرب كمنوا له في الطريق وأطلقوا عليه عدة رصاصات على حين غرة فقتلوا الجواد من تحته، وأما هو فنجا، وجد رجال القبائل وراء هؤلاء الفاعلين فأدركوهم وقتلوهم عن آخرهم. وأرسل القائد العام طليعة يقودها الدوك دومال ابن الملك لويس فيليب رجالها 600 فارس و1300 رجل، ومعها المدافع الخفيفة ومئونة 20 يوما تحملها 800 جمل، فالتقت هذه الطليعة بعبد القادر في أطراف الصحراء وقاتلته قتالا شديدا، كثر فيها صراخ النساء وعوليهن، وعظم البلاء حتى فاز الفرنسيس، وكانوا يظنون أن عبد القادر وقع في يدهم، فإذا هو قد فر مرة أخرى من وسطهم، وقد رأيت صورة هذه المعركة في قصر فرسايل المشهور، وكان لها تأثير عظيم في فرنسا، وكان من نتائجها أن القبائل المتذبذبة أذعنت لفرنسا، ولا سيما أن عدد الأسرى فيها من المغاربة بلغ 3000، تسعة أعشارهم نساء. ولما كان الدوك دومال قد أسرع في الهجوم، فهو لم يترك وقتا لعبد القادر حتى يفر بما معه، ولكنه ترك أوراقه وخزينته وأمتعته الثمينة، والعلم الذي كان يرفع أمامه وكثيرا من عدده وبغاله، فكان كل هذا غنيمة عادت على الدوك دومال بالفخر العظيم، وقد قابله القائد العام حين رجوعه ظافرا وحياه معانقا له، وهنأه برتبة مارشال، وهنأ الزعيم العربي مصطفى بن إسماعيل برتبة جنرال أنعم بها ملك فرنسا عليه، ولكن هذا الزعيم لم يهنأ بهذه الرتبة زمانا؛ لأنه قتله العرب في كمين حين كان راجعا بالغنائم إلى وهران، وعمره يومئذ 80 سنة.

وعاد القائد العام والدوك دومال إلى العاصمة فطلب نجدة جاءته حتى صار عدد جيوشه أكثر من مائة ألف جندي، وكان عبد القادر قد ضاقت به المسالك بعد هذه الكسرات، حتى إنه دخل بلاد مراكش؛ ليطلب المعونة من أهلها ويحضهم على المجاهدة مع قومه، فدخل مدينة وجدة - وستذكر في باب السياحة - وأرسل إلى السلطان سيدي عبد الرحمن يعرض عليه أن يضم الجزائر إلى أملاكه، ويجعله عاملا له عليها، فأرسل السلطان في 20 مايو من سنة 1844 قائدا اسمه ابن الكناوي معه 7000 جندي انضموا إلى عبد القادر ورجاله وهم 500، فأسرع القائد العام من الجزائر لمقابلة هذه القوة، ولكنه تحاشى الدخول في حرب مع سلطان مراكش؛ حتى لا يتسع خرق القتال، فأرسل ياورا لمقابلة القائد المراكشي ومخابرته بالصلح، وبهذا عين يوم 15 يونيو موعدا للمقابلة على ضفة جدول صغير اسمه أسلي، فلما جاء الموعد ذهب الرجل ومعه حاكم تلمسان والقاضي والمفتي وبعض العلماء، فما بدأ الحديث بين بوجو وابن الكناوي حتى تداخل الضباط المراكشيون وعلت أصواتهم وكثرت الجلبة حتى تعذر سماع الحديث بين القائدين، ولكنهم سمعوا صوت البنادق، ورأى القائد الفرنسوي أن العرب تحمسوا يريدون القتال، ولم يقدر ابن الكناوي على ردهم، فأمر جنوده بالقتال، وبهذا عادت الحرب وانجلت تلك المعركة عن فوز تام للفرنسويين، وفر المراكشيون إلى بلادهم والفرنسويون وراءهم يضربون في ظهورهم حتى غابوا عن الأنظار، ولكن هذا الانتصار لم يرجع المراكشيين عن الشر؛ لأنهم عادوا في أواخر السنة المذكورة تحت قيادة ولي عهد مراكش، واسمه سيدي محمد عبد المؤمن، وهم عشرة آلاف راجل وخمسة عشر ألف فارس ومعهم 11 مدفعا، وعسكروا على ضفة نهر أسلي، وكانت فرنسا قد أرسلت بوارجها إلى طنجة تحت قيادة البرنس دي جوانفيل، فلما بلغ ذلك الثغر أرسل إلى سلطان مراكش يلومه على محاربة فرنسا بدون علة أو إنذار سابق، وطلب منه عزل حاكم وجدة وطرد الأمير عبد القادر من مراكش، وأعطاه مهلة 15 يوما إذا انقضت ولم يجب سؤاله أطلق المدافع على الثغر، فورد عليه الرد من السلطان بأن الاعتداء كان من القائد الفرنسوي ولم يشر إلى بقية المطالب؛ ولذلك أطلقت المدافع على ثغري طنجة ومداغور، فأحدثت فيهما ضررا كبيرا.

قلنا إن جيش مراكش تحت قيادة ولي العهد عسكر على نهر أسلي، وكان الجنرال بوجو يتقدم على هذه الجهة ومعه 8500 من المشاة و1400 من الفرسان، فلما بلغها نصح للقائد المراكشي أن يعود إلى بلاده بلا قتال، فلما أبى الرجل أمر القائد بوجو جيشه بالهجوم ففعلوا وفتكوا بالمراكشيين وبددوا شملهم وجعلوهم يهربون طلبا للسلامة، فكان هذا خاتمة القتال بين فرنسا ومراكش وعدل، المراكشيون عن الانتصار للأمير عبد القادر، وعظم قدر الجنرال بوجو بعد هذه المعركة، فأعطي لقب دوك أسلي، وعاد إلى عاصمة الجزائر قرير العين كثير الافتخار.

وتفرغ الجنرال بعد هذا لإخضاع القبائل المتمردة من أهل الجزائر، مثل قبيلة أولاد رباع، سير عليها الكولونيل بلبسيه، فلما دخل أرضها فرت القبيلة من وجهه إلى كهوف قديمة العهد من أيام الرومانيين واعتصموا بها، فحاول الكولونيل أن يخرجهم منها بالنصح فأبوا وآثروا الموت في تلك الكهوف على التسليم، حتى إذا نفدت حيلة الكولونيل أمر رجاله أن يحيطوا المغائر بأعشاب ويضرموا النار فيها على أمل أن يخرج القوم متى أحسوا بالنار، ولكنهم أصروا على البقاء حتى هلكوا عن آخرهم هلاكا شنيعا، وكان عدد الموتى لا يقل عن 600، وكان ذلك في منتصف شهر يونيو من سنة 1845، وكان لهذه الحادثة أسوأ وقع في فرنسا؛ لأن نفوس أهلها نفرت من هذه القسوة الوحشية، وأنكرت هذا الصنيع، وهب النواب والكتاب للتقريع والتنديد بكل لسان، فقابلوا ما بين الأتراك الذين حكموا الجزائر بنفر من المتطوعين ولم ينفقوا عليها شيئا، وبين فرنسا التي جردت عليها أكثر من مائة ألف جندي منظم، وبلغت نفقات حكومتها فيها مائة مليون فرنك كل سنة، وما زال تيار التنديد مندفعا حتى استقال الجنرال بوجو من منصبه إرضاء للجمهور، وذهب إلى باريس ليدافع عن نفسه، فبقي الجنرال لامورسيير حاكما عاما مكانه في 24 أوغسطس من السنة المذكورة، وكان عزل بوجو من أحب الأمور إلى الأمير عبد القادر؛ لأن الأمير كان يخاف شر هذا القائد، ويحسب أكبر حساب لتدبيره في الحروب.

ودخلت سنة 1846 والجنود مشتبكة بالحرب مع أهل الجزائر في كل مكان، والنصر غير معروف لأحد الجانبين، وحدث في هذه السنة أن شيخ قبيلة السواحلية أخبر القائد الفرنسوي في جهته أن الأمير عبد القادر دخل أرضه، وكان الشيخ يضمر الشر للفرنسويين، فلما سمع القائد الفرنسوي بالخبر أرسل في الحال 250 جنديا وكلفهم القبض على الأمير، وكان معهم 60 فارسا، فلما بلغت هذه القوة موضعا اسمه سيدي إبراهيم وجدت عبد القادر كامنا لها بقوة كبيرة، ورأت أن العرب أحاطوا بها، فصاح القائد برجاله أن دافعوا عن أنفسكم حتى الممات، فقاتلت قتال الأبطال وأبت التسليم حتى هلكت عن آخرها تقريبا، ولكنها استمرت على الجهاد أياما، وما نجا منها غير 14 رجلا بلغوا المعسكر الفرنسوي بعد البلاء الشديد، وقصوا قصة هذه المجزرة الشنعاء، وبلغت أخبار هذه الحادثة فرنسا فكثر تضجر الناس من استمرار البلاء والشقاء في الجزائر ومن كثرة أهوالها الشنيعة، ووقعت الحكومة في حيص بيص لا تدري ماذا تفعل، حتى إنها أرسلت وراء الجنرال بوجو واسترضته وعرضت عليه القيادة العامة من جديد، فأفرغ الجنرال جعبة حقده على الوزراء الذين عزلوه، وأفاض في سوء حالة الجزائر من بعد عزله مؤيدا قوله بكتاب ورد إليه من صديقه الجنرال لامورسيير الذي حل محله، ونشر هذا الكتاب في الصحف بلا إذن الوزارة، فعد فعله خرقا لقانون المخابرات الرسمية، وجعل الناس يتحدثون بمحاكمة بوجو على هذه الفرية، فإذا بالحكومة قد أعادت تعيينه ووضعت بارجة حربية في خدمته تنقله إلى الجزائر، فاطمأنت القلوب وعادت الآمال بالنصر؛ لما كان لذلك القائد من الاحترام في نفوس الفرنسويين.

وصل بوجو في أواخر سنة 1846 فنشر إعلانات الشكر على جنوده، وإعلانات التحذير والإرهاب على القبائل المعادية لفرنسا، ثم قام في أثر عبد القادر بقوة كبرى فدخل إقليم وهران، وجعل الأمير يتقهقر أمامه من موضع إلى موضع، وهو لا يلقى من أكثر القبائل إلا صدودا وإعراضا، وجاء الدوك دومال من فرنسا في أوائل السنة التالية مصمما على أسر عبد القادر أو قتله، وإنجاز هذه الحرب التي طال عهدها، فهم في اقتفاء آثاره. وكان عبد القادر يلقى الملل من القبائل وخور العزائم، فثبت له أن البقاء على هذه الحالة محال، ورأى بعد التفكير الطويل أن يسلم لفرنسا مختارا، ويخلص من العناء الذي قضى فيه كل تلك السنين، وهي لا تقل عن عشرين، ثم أنه قطع الأمل من مساعدة إنكلترا ومراكش وقبائل العرب، فأرسل يطلب مقابلة الجنرال لامورسيير، وهو أقرب قواد فرنسا إليه ويخبره بعزمه على التسليم، فلما قابله بادر بتسليم سيفه وختمه في الحال علامة الخضوع وزوال السلطة، وطلب من القائد أن تعامله فرنسا بالحسنى، وأن ترسله إلى الإسكندرية ليموت في أرض إسلامه، وكان ذلك في أواخر سنة 1847.

وأخذ الأمير عبد القادر أسيرا إلى طولون في بارجة حربية، فبقي فيها مدة مع حاشيته في إحدى القلاع، وكان عدد من معه 88 شخصا، ثم أمرت حكومة فرنسا بتحسين حاله فنقلته إلى مدينة إمبواز، وأعطته قصرا له حديقة كبرى، وجعلت ضابطا برتبة ميرالاي، اسمه دوماس حارسا عليه، فلزم غرفته ولم يفارقها، حتى إن حارسه قال له مرارا أن يتمشى في الحديقة لاستنشاق الهواء مراعاة لصحته، ولكن عبد القادر كان يجيبه أن هذا الهواء ليس هواء الحرية. يروى أن وزير الحرب سأل الميرالاي دوماس ذات يوم ماذا يفعل عبد القادر كل يوم؟ فأجاب: إنه يستيقظ الفجر من النوم فيصلي صلاة الفجر ثم الظهر ثم العصر والمغرب والعشاء، وما بين أوقات الصلاة يقرأ القرآن، وحدث أن حكومة لويس فيليب انقلبت على عهد الثورة الفرنسوية الثانية سنة 1848 في باريس، وعبد القادر يومئذ في إمبواز فأحزنه هذا الانقلاب؛ لأن الدوك دومال ابن أخي الملك كان قد وعده بالنقل إلى بلاد إسلامية، وحدث في السنة التالية أن رجاله اشتجروا مع الحرس؛ إذ صمموا أن يخرجوا من أسرهم بالقوة، وهم يقولون للحراس إن سيدهم لم يؤخذ أسيرا بل سلم تسليما، وعليه طلب الأمير عبد القادر إلى باريس ليقابل رئيس الجمهورية - وهو لويس نابوليون الذي صار امبراطورا بعد ذلك - فذهب ولقي لطفا وإكراما زائدين من ذلك الرئيس الذي عرض عليه قصر التريانون في فرسايل أو الإقامة في بلاد شرقية، فآثر الشرق، ونال وعد الرئيس بإجابة طلبه، ثم خابر الدولة العلية في الأمر فتمنعت في البداية، وقبلت بعد مخابرة دامت سنتين أن يقيم الأمير ومن معه في مدينة بورصة، ولما جاء هذا الرد أراد البرنس نابوليون أن يزف هذه البشرى للأمير عبد القادر بنفسه فذهب إلى قصره والأمير غير عالم بما تم، ولما أخبروه أن البرنس ينتظره في قاعة الاستقبال خف إليه حالا فوقف البرنس له وعانقه ثم أعلنه بالخبر، ففرح الأمير كثيرا وشكر رئيس الجمهورية، وودعه مرارا مرددا آيات الشكر، ثم دخل إلى حريمه ليبشر من معه بهذا الخبر المليح.

وبعد هذا بأيام قليلة تقابل الأمير عبد القادر والبرنس نابوليون في الأوبرا الباريسية، وكانوا قد أعدوا له لوجا، واكتظ المكان بالكبراء والغادات ليروا هذا الأمير العربي ويراهم، فكانت الأنظار كلها متجهة إليه مدة التمثيل، ولما خرج بين الفصول ليقابل رئيس الجمهورية اصطف له الناس على الجانبين وحياه الرجال برفع القبعات والسيدات بإحناء الرأس، فسره هذا الإكرام؛ لأنه كان يخشى أن يعاملوه بغير ذلك بداعي أن أكثر العائلات فقد منها أفراد في حرب الجزائر، وقابله الرئيس هذه المرة أيضا بالإكرام العظيم مصافحا له على الطريقة العربية بتقبيل العارضين، ثم وعده بمقابلة رسمية بعد رجوعه من صيد كان قد استعد له، فلما رجع ذهب عبد القادر إلى قصره في سان كلو فقوبل بالحفاوة الكبرى، وحدث أنه رأى في القصر ساعة كبيرة تدل على الوقت في كثير من المدن المشهورة وفي جملتها مكة، فلما علم منها أن الساعة توافق ساعة العصر في مكة طلب أن يصلي، ثم جعل ساعته على حساب ساعة مكة، ولما انتهى من ذلك قابل رئيس الجمهورية، وقدم له قصيدة من نظمه بالعربية - لم أقف على نصها - وأهداه البرنس سيفا مرصعة قبضته بالجواهر قيمته 15000 فرنك، راجيا منه ألا يستعمله في محاربة فرنسا، ثم رجع عبد القادر إلى إمبواز واجتمع بوالدته فبشرها بالانتقال إلى بلاد إسلامية، وكان الفرح عاما في بيته ذلك النهار، وحدث قبل مبارحة الأمير إلى بورصة أن لويس نابوليون أصبح إمبراطورا، فحضر الأمير عبد القادر الاحتفال بتتويجه في قصر التويلري يوم 2 ديسمبر سنة 1852، ومن غرائب الدهر أنه في مثل هذا اليوم - أعني في 2 ديسمبر سنة 1832 - نودي بالأمير عبد القادر أميرا للعرب، وذلك منذ 20 سنة.

अज्ञात पृष्ठ