أي يجب أن نتقن حياتنا كي نتقن التأليف، وبكلمة أخرى نؤلف حياتنا أولا ثم نؤلف الكتاب ثانيا؛ لأننا عندئذ نجد المجال للصدق، وهو أن يكون الأدب وفق الحياة بل مطابقا لها في صورها وأشكالها، وعندئذ أيضا نستطيع الابتكار ولا نقتصر على التقليد.
ولهذا السبب تجد أن القصة العظيمة أو الأدب العظيم يمثلان في ناحية أو نواح حياة المؤلف نفسه، بل إن الكتاب والحياة عندئذ يتطابقان، وهذا ما نجد في تولستوي أو جوتيه أو برنارد شو أو جوركي؛ فإن جميع هؤلاء المؤلفين أخرجوا مؤلفاتهم من صميم حياتهم واختباراتهم، وهم قد ألفوا حياتهم قبل أن يؤلفوا كتبهم. ألفوا حياتهم أحسن تأليف، ثم أخرجوا كتبهم أحسن إخراج.
يجب أن تكون حياتنا واختباراتنا الشخصية مصدرنا في التأليف، ولا بأس من أن نستعين بما كتبه غيرنا، ولكن يجب ألا يكون هؤلاء مصدر التأليف وإخراج الكتاب.
وعندما نحيا الحياة الإنسانية الاجتماعية، وعندما نحب ذلك الحب الذي دعا إليه أفلاطون، أي عندما نحب الطبيعة والأحياء والإنسان، ونفكر بالعقل الإنساني ونشتبك في مشكلات المجتمع من فقر إلى جهل ومن خرافة إلى علم بل عندما يمتلئ قلبنا بالرعب من القنبلة الهيدروجينية كما يمتلئ بالسعادة عندما نتأمل احتمال السفر إلى القمر، عند ذلك نستطيع أن نؤلف ونبتكر.
بل عندئذ يكون الكتاب حياة وفلسفة ومنهجا للعيش والتفكير.
الفصل السابع والثلاثون
النسك والعظمة
مات أعظم رجل متمدن في أوروبا أي في العالم، فقد صاغ برنارد شو حياته كما لو كانت عجينة يعين لها الشكل الذي يريده ويقرر لها المصير يدبره، والرجل المتمدن هو في صميمه، وعلى أسماه، ذلك الذي يضع العقل فوق الغرائز أو الشهوات، ويعيش العيشة الفلسفية ويدأب في تنوير ذهنه، ويتجنب جميع ما يفسد صحته ويقصر عمره ويخدم المجتمع بجميع ما فيه من كفايات.
وقد فعل برنارد شو ذلك، ومات وهو في الرابعة والتسعين بعد أن علمنا نوعا جديدا من القداسة، إذ ليس القديس في عصرنا هو الذي يفر من الحياة إلى صومعة الراهب كي يصلي ويتعبد ... وإنما هو ذلك المجاهد الذي يخدم الحق والشرف، ويدعو إلى الخير والحب بعد أن يكون قد أنار ذهنه بالمعارف حتى يفهم معاني هذه الكلمات ولا يتطوح في تضحيات سخيفة يدفعه إليها الجهل.
ولقد كان الجهل أعظم ما حاربه برنارد شو في نفسه وفي غيره، فقد كان طالبا مدى الحياة، وكان مؤلفا يخرج الكتب العظيمة الخالدة كي يقشع الجهل عن العقول الرجعيين والمحافظين والمتغطرسين، وكانت له فكاهة لها قوة اللهب تلسع وتنبه.
अज्ञात पृष्ठ