والعجب أن هذه الحكمة التي نطق بها سارتر تناقض فلسفته «أنا وحدي»؛ لأن الإنسان حين يضحي بحياته من أجل كرامته وشرفه وحريته إنما يفني نفسه كي يعيش غيره، وهو هنا يعلو على هذه الخسة التي تنطق بها كلمتا «أنا وحدي».
وفلسفة الوجودية تدعو إلى المذهب الانفرادي، حين ينفرد كل إنسان بأهدافه وأخلاقه، ولكن ما دام الإنسان أكبر قيمة من حياته فإن هذا الانفراد غير ممكن؛ لأن الإنسان هنا ليس فردا وإنما هو النوع البشري كله الذي يجب أن يعيش كل منا في خدمته وترقيته وأن يموت من أجل بقائه. •••
ومن الكلمات التي تلفت الذهن في سارتر أيضا قوله: «اختر نفسك»، والمعنى هنا أن كل إنسان يصنع نفسه؛ إذ هو الذي يختار أخلاقه وحرفته والمكان الذي يعيش فيه، والأصدقاء الذين يعتمد عليهم والثقافة التي يستنير أو يتسلح بها، والدنيا معروضة أمامنا، وفسحة الاختيار متراحبة، وأعمارنا مديدة بلا شك نختار شخصيتنا أو نفسنا التي تتبلور وتتجوهر عند سن الثلاثين أو الأربعين.
وقبل سارتر قال جيته أديب ألمانيا: «احذر أيها الشاب أحلامك وأمانيك مدة صباك وشبابك؛ لأن هذه الأحلام والأماني سوف تتحقق لمثابرتك عليها جملة سنوات، فإذا كانت سيئة فأنت بلا شك ستكون رجلا سيئا، وإذا كانت حسنة فأنت بلا شك رجلا حسنا، فاختر الأحلام والأماني الحسنة».
وليس شك أن كلا من سارتر وجيته على حق فيما يقولان، أو هما يكادان يكونان على حق.
صحيح أننا لا نختار أبوينا، ولا نعرف الطاقة الوراثية التي نولد بها إذ قد تحتوي هذه الطاقة على أنواع من الضعف، وكذلك لا نختار المعلمين الذين يعلموننا في صبانا، وقد يكون في تعليمهم نقائض ينعكس علينا أثرها في شبابنا، بل أحيانا نضطر إلى أن نحترف حرفة لا نحبها لأن العيش يطالبنا بذلك.
ولكن مع كل هذه الظروف ليس شك في أننا نختار، ونختار كثيرا مما يعين اتجاهنا وفلسفتنا في الحياة، ويجب لذلك أن نحسن الاختيار حتى نبني أنفسنا البناء المتين الحسن.
نختار أحسن الأصدقاء الذين نسعد بصداقتهم أو نستنير بنضجهم وثقافتهم، ونختار أحسن الزوجات جمالا وأخلاقا، ونختار أنفع الكتب التي تربينا ولا تسلينا وترشدنا ولا تضللنا، ونختار أليق الحرف التي تتفق وكفايتنا حتى ننبغ فيها، وأخيرا نختار الغذاء الذي يكفل لنا صحة الجسم وطول العمر.
نختار ونميز، ولا نقبل كل ما يرد إلينا.
الفصل الرابع والثلاثون
अज्ञात पृष्ठ