الحسن بن أحمد المُهلّبي (ت ٣٨٠ هـ / ٩٩٠ م)
أحد العلماء والرحّالة في عهد الدولة الفاطمية بمصر. ولكن المؤسف أن كتب التراجم العربية قد سكتت عن هذا المؤلف، فلم يذكره ابن خلّكان في «وفيات الأعيان»، ولا الذهبي في «سير أعلام النبلاء» ولا الصفدي في «الوافي بالوفيّات»، ولا ابن النديم في الفهرست. غير أن حاجي خليفة صاحب «كشف الظنون» قال في كتابه: «المسالك والممالك المشهور بالعزيزي للحسين بن أحمد المهلّبي المتوفى سنة ٣٨٠ هـ ...»، وربما يرجع خطأ حاجي خليفة في تسميته بالحسين بدل الحسن إلى اعتماده على ياقوت الحموي الذي أخطأ أيضًا في الاسم غير مرة، حيث ذكره باسم: محمد بن الحسن المهلبي، وأبو الحسن المهلبي، والحسن بن محمد المهلبي، والحسين بن محمد المهلبي و...، ولكن الكلاعي وأبي الفداء وابن العديم يجمعون على أن اسمه الحسن بن أحمد المهلّبي.
وقد قام ابن العديم بترجمة مختصرة للمهلّبي في سرده لرجال ولاية حلب. إذ يقول: «الحسن بن أحمد المهلّبي العزيزي: رجل فاضل كان متصلًا بالعزيز الفاطمي المستولي على مصر، ووضع له كتاب المسالك والممالك ...» .
وفي أحد المقاطع التي ينقلها ياقوت عن المهلّبي يصفه بالمصري، وهي الإشارة الوحيدة التي عثرنا عليها حول انتمائه إلى مصر ولو بالإقامة، علمًا أن احتمال أن يكون شاميًا احتمال وارد.
ويتضح لنا من خلال ما وصلنا من كتاب «المسالك والممالك»، أن المهلّبي رحّالة لا يشق له غبار، وصل إلى أقاليم لم يسبقه أحد إليه.
وإن ما يلفت النظر في ما وصلنا من كتاب المهلّبي أنه يتبنى وجهة نظر شيعية حيال الواقع والتاريخ، وذلك ما نلمسه من خلال تعليقاته على بعض القضايا والأحداث التي يمرّ بها.
अज्ञात पृष्ठ
تقديم
نشأ علم «المسالك والممالك» في أوج ازدهار الخلافة العباسية، على يد عدد من المصنفين وكتاب الدواوين، الذين كانت تتجمع بين أيدهم معطيات كثيرة عن الطرق والمسالك والخراج والواردات والنفقات، وأسماء المواضع. وكان كتاب ابن خرداذبة «المسالك والممالك» الذي وضعه سنة ٢٣٢ هجرية [٨٤٦ م] فاتحة هذا العلم، بعد أن تولّى البريد والأخبار في «بلاد الجبل» في عهد المعتمد العباسي.
وقد تطور هذا العلم بشكل مضطرد، إلى أن بلغ ذروته في القرنين اللاحقين. ثم تطور في صدر العصر المملوكي على شكل موسوعات كوزموغرافية لعلّ أشهرها وأهمها موسوعة «مسالك الأبصار في ممالك الأمصار» لابن فضل الله العمري المتوفى سنة ٧٤٩ هجرية [١٣٣٨ م] . واختتم بكتاب «زبدة كشف الممالك في بيان الطرق والمسالك» لخليل بن شاهين الظاهري المتوفى سنة ٨٧٣ هجرية [١٤٦٨ م]، والذي يعدّ آخر المصنّفات العربية الإسلامية في هذا العلم.
وبين كتاب ابن خرداذبة وكتاب الظاهري، ظهرت مؤلّفات كثيرة تحمل الاسم نفسه، أي «المسالك والممالك» أو شيئا قريبا من
1 / 5
ذلك، مثل كتاب الجيهاني وابن حوقل والإصطخري والبكري وغيرهم.
ويرى العلّامة السوري الدكتور صلاح الدين المنجّد، أن علم «المسالك والممالك» هو أقرب ما يكون للجغرافيا الوصفية) Geographie Descriptive (لأنه لم يقتصر على ذكر الطرق والمسالك والمراحل بل وصف البلدان والمدن، إدارة وتاريخا واقتصادا، أوصافا تقلّ أو تزيد باختلاف العصر والمؤلف.
ومن أبرز من وضعوا كتبا في علم «المسالك والممالك» مؤلّف عاش في الحقبة الفاطمية يدعى الحسن بن أحمد المهلّبي، الذي صنّف كتابا في هذا العلم للعزيز بالله الفاطمي في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري سمي بالكتاب «العزيزي» . وقد حظي هذا المصنّف المهم بعناية واهتمام الكثير من المؤلفين العرب المسلمين الذين أتوا بعده، فوصفه ابن العديم مؤلّف «بغية الطلب في تاريخ حلب» والمتوفى سنة ٦٦٠ هجرية [١٢٦٢ م]، بأنه «كتاب حسن في فنه، يوجد فيه مما لا يوجد في غيره من أخبار البلاد وفتوحها وخواصها» . وقد نقل ابن العديم عن المهلّبي مقاطع مهمة تتعلق بحلب والثغور الشمالية قبل سقوطها نهائيا في يد البيزنطيين أواسط القرن الرابع الهجري. كما نقل ياقوت الحموي في معجم البلدان عن كتاب المهلّبي أكثر من ثلاث وخمسين مرة، ونقل عنه أبو الفداء في تقويم البلدان ٢١٠ مرات.
1 / 6
ورغم ذلك سكتت كتب التراجم العربية عن هذا المؤلف الفذ، ولم يذكره ابن خلّكان في «وفيات الأعيان»، ولا الذهبي في «سير أعلام النبلاء» ولا الصفدي في «الوافي بالوفيّات»، ولا ابن النديم في الفهرست. غير أن حاجي خليفة صاحب «كشف الظنون» قال فيه «المسالك والممالك المشهور بالعزيزي للحسين بن أحمد المهلّبي المتوفى سنة ٣٨٠ هـ ألّفه للعزيز بالله الفاطمي صاحب مصر ونسبه إلى اسمه» . وربما يرجع خطأ حاجي خليفة في تسميته بالحسين بدل الحسن إلى اعتماده على ياقوت الحموي الذي يخطئ أيضا في الاسم غير مرة.
ويشير الباباني في «هديّة العارفين» إلى المهلّبي ولكنه يذكر معلومات غير دقيقة، فينسب الكتاب للمعز الفاطمي وليس للعزيز.
ولا نعرف على ماذا اعتمد حاجي خليفة والباباني في تقدير أن وفاة المهلّبي كانت في عام ٣٨٠ هجرية [٩٩٠ م] .
وقد تجاوز المستشرقون الغربيون الذين درسوا التراث الجغرافي العربي هذا المؤلّف الفذ، باستثناء المستشرق آدم ميتز صاحب كتاب «الحضارة الإسلامية في القرن الرابع» [الهجري] . الذي قال:
«إن لكتاب المهلّبي مزية، هي أنه أول كتاب وصف بلاد السودان وصفا دقيقا، وكان علماء الجغرافيا في القرن الرابع لا يعرفون من أخبار السودان شيئا» .
1 / 7
كما تحدث عنه المستشرق الروسي إغناتي يوليا نوفيتش كراتشكوفسكي صاحب «تاريخ الأدب الجغرافي العربي»، الذي أكّد على الأثر الكبير لكتاب المهلّبي على المؤلفات التالية.
ورغم أن كراتشكوفسكي يقرّ بصعوبة الحكم على هذا الكتاب بسبب فقدانه، فهو يلاحظ أن المقتطفات التي نقلها عنه المؤلفون المتأخرون، توضح أنه يستند على أوصاف الطرق، وخاصة طرق إفريقيا، فهو يمثل أحد المصادر الرئيسية لياقوت، الذي ينقل عنه أكثر من ستين مرة «١»، ولكنه لا يقتصر على إفريقيا وحدها، فياقوت مثلا يرجع إليه أكثر من مرة بصدد مواضع مختلفة في الجزيرة العربية. ويلاحظ كراتشكوفسكي أن ياقوت يوليه عناية خاصة من بين مصادره ويضعه جنبا إلى جنب مع المقدسي.
ويشير أخيرا إلى أن أبا الفداء استعان به كثيرا. كما ظل كتابه معروفا مباشرة إلى أيام دولة التيموريين، فاستعمله في بداية القرن التاسع الهجري [الخامس عشر الميلادي] حافظ آبرو «٢» عند ما وضع مصنفه في الجغرافيا «٣» .
في صيف سنة ١٩٥٧ م من القرن الماضي، عثر الباحث الدكتور صلاح الدين المنجّد على مخطوطة فيها قطعة من كتاب المهلّبي
1 / 8
«المسالك والممالك» في مجموعة يمنى من مخطوطات الأمبروزيانا بميلانو تحت رقم.G ٣ وهي عدة أوراق قديمة إلى جانب أوراق أحدث منها، خطها واضح قليل الإعجام، وتقع في أربعة عشر ورقة، في الصفحة ٣٠ سطرا، وفي السطر ١٠ كلمات وقد تبلغ ١٣ كلمة. وهي عبارة عن قطعة من كتاب لمحمد بن الحسن الكلاعي، ينقل فيه صفة بيت المقدس عن كتاب المسالك والممالك للحسن بن أحمد المهلّبي، وذكر لولاة مصر، وصفة دمشق، إضافة إلى اقتباس آخر من ابن حوقل.
وقام الدكتور المنجّد بنشر هذه المخطوطة في مجلة المخطوطات العربية عام ١٩٥٨ مع تحقيق مبدئي لها، وتعريف مختصر بالكاتب والكتاب. غير أن الدكتور المنجّد يخلط في تعريفه لهذا الجغرافي بينه وبين أحد رواة الحديث، ويدعى محمد بن الحسن بن المهلّب، والذي حدّث عنه أبو العباس أحمد بن محمد بن جعفر المؤدّب الأبهري، حسبما يرد في مادة أبهر من «معجم البلدان» لياقوت الحموي. ومصدر هذا الخلط أن الدكتور المنجّد لم يحقق الاسم بشكل صحيح ليتأكد من أنه يخص شخصا آخر، ربما ولد في زمن آخر. كما أنه لم ينتبه إلى انتماء الحسن بن أحمد المهلّبي إلى المنظومة الفكرية الشيعية التي لا تعنى بعلم الحديث لا من قريب ولا من بعيد.
1 / 9
كما أن الكلاعي الذي ينقل عن المهلّبي في مخطوطة الأمبروزيانا، هو الآخر مجهول بشكل كامل، ولا نعلم شيئا عنه باستثناء ما رجّحه المنجّد من أن يكون قد عاش في القرن الخامس الهجري، بناء على تذييله لمن حكم مصر وصولا إلى الظاهر الفاطمي.
ويبدو التساؤل مشروعا حول سبب توقف المهلّبي عند المعز لدين الله الفاطمي في تعداده لمن حكم مصر، ولماذا لم يذكر العزيز بالله رغم أن الكتاب أهدي له. فالاحتمال الأول أنه ألف الكتاب أثناء حياة المعز وعند ما كان العزيز وليا للعهد. أما الاحتمال الثاني وهو الأقرب للمنطق فهو أن اسم الحاكم يوضع عادة في كتب التراجم بعد نهاية حكمه، إما بالموت أو الخلع. ولذلك لم يوضع اسم العزيز في اللائحة لأنه كان ما يزال على قيد الحياة.
وغير ذلك لا نكاد نعثر على شيء يخصّ هذا المؤلّف الذي شكّل أحد المصادر الرئيسية لأهم كتابين في البلدانيات العربية وهما «معجم البلدان» و«تقويم البلدان» . فلماذا سكتت الكتب عن ترجمته؟ ولماذا فقد الكتاب أساسا ما دام يحظى بهذه الأهمية؟! أسئلة تؤرق أي باحث بعد أن يقرأ ما يتوفر له من هذا الكتاب، ولكنه سرعان ما يكتشف أن حالة الانغلاق الفكري التي سادت الجزء الثاني من العصر المملوكي هي المسؤولة عن إغفال الحديث
1 / 10
عن المهلّبي، وربما إحراق كتابه بشكل نهائي، ومحاولة محو أثره من هذا الوجود.
أول ما يلفت النظر في ما وصلنا من كتاب المهلّبي أنه يتبنى وجهة نظر شيعية حيال الواقع والتاريخ، وذلك ما نلمسه من خلال تعليقاته على بعض القضايا والأحداث التي يمرّ بها.
فتجده يفسر سقوط الثغور الشمالية أي طرسوس والمصيصة وغيرها، بوصول قوم من الخوز والعجم إلى هذه البلاد ومجاهرتهم بالنصب أي شتم آل البيت. فيقول تعليقا على سقوط هذه الثغور «فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر»، محاولا تصوير الأمر وكأنه انتقام إلهي.
كما نلمس تبنيه لروايات شيعية حول بني أمية. حيث يذكر أن الوليد بن عبد الملك اصطبح في الجامع الأموي بين قيانه أربعين يوما، وقال: أخذت صفوه وتركت للناس كدره. كما أنه يشير إلى محاولة الوليد صرف أبناء الشام عن الحج إلى البيت الحرام ببنائه حرما في القدس لكي يحجّ الناس إليه ولا يذهبوا إلى الحجاز ويعرفوا فضل آل البيت على بني أمية. وكذلك روايته لزيارة عمر بن الخطاب إلى دمشق في الجاهلية ومساهمته في ترميم الكنيسة، وإرشاد اليهود له إلى موضع الصخرة التي أقيم عليها المسجد وغير ذلك من روايات وتفاسير وقراءات للتاريخ، ولا غرابة في ذلك، ففي عصر المهلّبي كان الشيعة يشكلون غالبية أهل
1 / 11
الشام، وكانت العائلات الشيعية تحكم معظم أجزائه بدءا بالحمدانيين في حلب والثغور الشمالية، ثم تلاهم بنو مرداس الكلابيين في نواحي حلب أيضا، ثم بعدهم بنو جندل في البقاع ووادي التيم. ناهيك عن وجود معاقل شيعية مدينية كبرى كمدينة حلب وطبرية وما حولهما، هذا إذا تجاوزنا الجبال والأرياف.
وقد أدى صعود نجم السلاجقة الترك وبعدهم الأيوبيين الكرد، في فترة الحروب الصليبية وهم من السنّة، إلى تراجع النفوذ الشيعي في بلاد الشام بشكل متدرج، إلى أن تم إقصاؤه نهائيا في العصر الملوكي. وهنا لا بد وأن نشير إلى حالة الجمود الفكري التي سادت بلاد الشام ومصر في نهاية دولة الشراكسة، ما يجعلنا نعتقد بأن ذلك العصر تحديدا، شهد إحراق كتاب العزيزي، حيث فقد أثره ولم يعد قيد التداول.
ورغم أن القلقشندي الذي عاش في الجزء الثاني من الفترة المملوكية نقل عنه أكثر من مائة مرة في «صبح الأعشى»، إلا أن مراجعتنا النقدية لتلك المنقولات جعلتنا نتأكد أنها منقولة عن أبي الفداء وليس من المصدر. كما يمكن القول أن اقتباس عزّ الدين ابن شداد لمقطع حول مدينة حلب من المهلّبي كان عن طريق ابن العديم وليس من المصدر أيضا. ويتضح ضيق ابن شدّاد المتوفى سنة ٦٨٤ هجرية [١٢٨٥ م] مما ورد في كتاب المهلّبي عند ما استنكر بعض ما ذكر عن حلب قائلا في نهاية اقتباسه: «وذكر كلاما
1 / 12
كثيرا لا يليق بما نحن بصدده فأضربنا عنه» . عكس أبي الفداء الذي نقل خبر بناء الوليد بن عبد الملك للقباب في بيت المقدس، ومحاولته صرف الناس عن الحج إلى البيت الحرام، وقال معلّقا:
«والعهد عليه في ذلك»، أي أنه لم يصدر حكم قيمة، بل ذكر أنه لم يعثر على هذه الرواية في مصدر آخر، ولذلك أشار تلك الإشارة.
ويثير الانتباه ذلك الخلط الكبير حول اسم المهلّبي في اقتباسات ياقوت الحموي حيث يرد بأكثر من رسم، فهو يسميه محمد بن الحسن المهلّبي، وأبو الحسن المهلّبي، والحسن بن محمد المهلّبي، والحسين بن محمد المهلّبي، والحسين بن أحمد المهلّبي. والحسن بن محمد المهلّبي المصري. وما يجعلنا نتأكد من أن الأسماء السابقة كلّها تخصّ شخصا واحدا وجود مشترك بينها وهو الكتاب «العزيزي»، الذي يقطع الشك باليقين حول هذا الالتباس. والمؤكد أن السبب في ذلك غزارة إنتاج ياقوت، وانشغاله عن مراجعة الاسم بشكل صحيح.
ولكن الكلاعي وأبي الفداء وابن العديم يجمعون على أن اسمه الحسن بن أحمد المهلّبي. وهو الذي يجعلنا نوقن بأنه الصحيح، نظرا لاعتناء أبي الفداء بالضبط والتدقيق والتمحيص في كتابه الذي وضع أساسا لهذه الغاية.
لقد سعينا من خلال إعادة جمع هذا الكتاب من شتات الكتب والمخطوطات وترتيبه وتحقيقه، إلى إضاءة جانب مهم
1 / 13
وأساس من جوانب الثقافة العربية الإسلامية، بعد قرون من محاولات تأطيرها في نمط فكري محدد، أو ضمن لون واحد لا يرى الآخر ولا يعترف باختلافه، بل يلجأ إلى تكفيره واختزاله وقولبته في أنماط فكرية ومقولات جاهزة.
ولنا في قول أبي الفداء: «والعهد عليه في ذلك» أي الرواية على ذمة الراوي، خير منهج في التعاطي مع الرواية المخالفة، أو تلك التي لا تتفق مع توجهاتنا، ذلك المنهج الذي غاب منذ نحو سبعة قرون فوصلنا إلى ما وصلنا إليه.
ألّف الحسن بن أحمد المهلّبي كتابه «المسالك والممالك» للعزيز بالله الفاطمي، في الفترة ما بين عامي ٣٦٥ هجرية [٩٧٥ م] و٣٨٠ هجرية [٩٩٠ م] أي تاريخ وفاته كما تشير المصادر المتوفرة. ولذلك سمي بالكتاب «العزيزي» .
وينقل لنا المقريزي في «اتعاظ الحنفا» صورة مشرقة عن العزيز بالله الفاطمي الذي يبدو لنا قائدا حكيما حليما محبا للعلم والعلماء كارها لسفك الدماء، عفوّا إلى أقصى درجات العفو، لم ينتقم من رجل قام ضدّه أو تمرّد عليه، ولم يردّ طالبا ولم يخذل سائلا. جنوحا نحو السلم والمهادنة، حريصا على أداء فرائضه الدينية، مواظبا على خدمة الحرمين بالكسوة والنفقات.
وإضافة إلى كل ذلك من صفات تجعله واحدا من أعدل وأعظم الحكام العرب المسلمين، تجده مهتما بالعلم والعلماء شغوفا
1 / 14
بالكتب إلى أقصى درجات الشغف. يقول المقريزي: «ذكر عند العزيز كتاب العين في اللغة، فأخرج منه نيفا وثلاثين نسخة من خزانته، منها واحد بخط الخليل بن أحمد مؤلّفها. وحملت إليه نسخة من تاريخ الطبري اشتراها بمائة دينار، فأمر الخزّان فأخرجوا من خزائنه عشرين نسخة، منها نسخة بخط محمد بن جرير جامعه. وذكرت عنده جمهرة ابن دريد فأخرج منها مائة نسخة» . كما يشير واضعو كتب التراجم إلى أن الشابشتي مؤلف كتاب" الديارات" عمل خازنا لمكتبة العزيز بالله، والرحالة الفذ المقدسي البشاري أهداه النسخة الأخيرة المنقحة من مؤلفة المهم" أحسن التقاسيم".
ولذلك لم يكن غريبا أن يهدي المهلّبي كتابه لهذا الرجل الحليم، والذي سبق لمؤلّف آخر أن أهداه كتابا عن «البيزرة» أي علم أحوال الجوارح من حيث صحّتها ومرضها، ومعرفة العلائم الدالّة على قوتها في الصيد. حيث قال المؤلف إنه كان «بازيار العزيز بالله نزار الفاطمي ونشأ في ظل هذا الخليفة منذ كان صبيا، وغذاه بنعمته ورقّاه إلى أن صار إقطاعه عشرين ألف دينار، وجعله مقدّما على البيازرة» «٤» .
وحسب السمعاني في كتاب الأنساب فإن المهلّبي بضم الميم، وفتح الهاء، وتشديد اللام، وفي آخرها الباء المنقوطة بواحدة، هذه
1 / 15
النسبة إلى أبي سعيد المهلّب بن أبي صفرة الأزدي أمير خراسان وأولاده العشرة نسبة وولاء. أي أن كل من يتكنى بالمهلّبي إما أنه ينتسب لأحد أبناء المهلّب بن أبي صفرة العشرة أو من مواليهم. ولا تتوفر لدينا معلومات لنحكم إن كان المهلّبي مهلبيا بالأصل أم بالموالاة.
ويقوم ابن العديم بترجمة مختصرة للمهلّبي في سرده لرجال ولاية حلب. إذ يقول: «الحسن بن أحمد المهلّبي العزيزي: رجل فاضل كان متصلا بالعزيز الفاطمي المستولي على مصر، ووضع له كتاب المسالك والممالك «العزيزي» وهو كتاب حسن في فنه، يوجد فيه مما لا يوجد في غيره من أخبار البلاد وفتوحها وخواصها.
ذكر في كتابه هذا أنه دخل حلب، ولحق بقية من ولد صالح بن علي، يقال لهم بنو القلندر، وأنه شاهد لهم نعما ضخمة ورأى لهم منازل في نهاية السرو» «٥» .
وفي أحد المقاطع التي ينقلها ياقوت عن المهلّبي يصفه بالمصري، وهي الإشارة الوحيدة التي نعثر عليها حول انتمائه إلى مصر ولو بالإقامة، علما أن احتمال أن يكون شاميا احتمال وارد.
ويتضح لنا من خلال ما وصلنا من كتاب «المسالك والممالك»، أن المهلّبي رحّالة لا يشق له غبار، وصل إلى أقاليم لم يسبقه أحد إليها وخصوصا في بلاد السودان. كما أنه يتحدث عن المسافات
1 / 16
والطرق حديث العارف والمجرّب، وهو ما انتبه إليه أبو الفداء وأشار له أكثر من مرة.
وتتصف معلومات المهلّبي بدقتها بالنسبة للمسافات بين المدن والأقاليم، وجدّتها حيث يبدو مصدرا وحيدا لبعض المواضع، وسعتها حيث يذكر مصادر المياه وعادات الناس وأحوالهم وزروعهم ومحاصيلهم.
وأكثر ما يثير الاهتمام تلك الأرقام التي يسوقها عند حديثه عن نفقات طرسوس على تأمين حمايتها قبيل سقوطها بيد البيزنطيين بقيادة نقفور فوكاس عام ٣٥٤ هجرية [٩٦٥ ميلادية] .
ومن خلال وصف المهلّبي، نستطيع أن نكوّن فكرة شبه كاملة عن التاريخ الاجتماعي، والتركيبة السكانية للثغور الإسلامية الشمالية قبيل سقوطها، وربما، العوامل التي أدت إلى هذا السقوط.
كما أن الكتاب يحفل بمعلومات جديدة حول دمشق وبيت المقدس وحلب وأنطاكية وغيرها من المدن التي وصلتنا مقاطع مسهبة عنها، ما يؤشر إلى غنى وسعة معلومات، لم يغيبا عن ابن العديم، الذي نوّه إلى أن في «العزيزي» ما لا يوجد في غيره.
ونستطيع أن نجزم بأنه زار البلاد التي تحدّث عنها في كتابه ولم يعتمد على النقل من غيره، وذلك من خلال إشارات عابرة وردت في متن ما وصلنا من كتابه، منها أنه أقام في مدينة نخشب
1 / 17
في بلاد ما وراء النهر مدة شهر، وأنه اجتاز بسامراء، وأنه أتى حلب، وغير ذلك. هذا إذا تجاوزنا طريقة وصفه للمدن والمواضع التي تشير بما لا يدع مجالا للشك أنه زارها وعاينها بنفسه.
ومن الإشارات المهمة حديثه في مادة بصرى عن قلعتها التي شبّهها بقلعة دمشق، وهي إشارة من شأنها أن تضيء جانبا من تاريخ قلعة دمشق، التي يقال إن السلاجفة هم الذين بنوها، علما أن المهلّبي زار دمشق قبل دخول السلاجفة إليها بنحو قرن.
كما أن إشارته لوجود كنيسة مقابلة للمسجد الأقصى من جهة المحراب بحيث تتصل أروقتها بأروقة المسجد، تعدّ على غاية من الأهمية بالنسبة إلى وضع المساجد والكنائس في بيت المقدس قبل الحروب الصليبية وما تلاها من عمليات هدم وإعادة بناء طالت كل شيء تقريبا.
لقد قمنا بجمع مادة الكتاب من جميع المصادر العربية المتوفرة، وهو ما كلفنا جهدا كبيرا، وبوّبناه على نسق «تقويم البلدان» لأبي الفداء، نظرا لدقة المنهج الذي اعتمده، كما قمنا بوضع الحواشي والشروح والتعليقات بالاعتماد على المراجع والمعاجم المتوفرة لتوضيح اللبس الذي يلفّ بعض النصوص، الناتج عن عمليات الاجتزاء التي جرت عليها نتيجة النقل. كما عدنا إلى الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد للوقوف على الاقتباسات التي أخذها المهلّبي عنه عند ما تحدث عن تاريخ بيت المقدس. وقد
1 / 18
لاحظنا أن النصوص تكاد تكون متطابقة بين ما نقله المهلّبي وبين ما هو موجود في أسفار العهد القديم، والذي ينقل عنه دون أن يشير إلى موضع النقل جريا على عادة القدماء، إذ يكتفي بالقول:
«يزعم أهل الكتاب»، أو «قال أهل الكتاب»، أو «قال أهل الكتاب من النصارى» .
ومن الواضح أن المهلّبي أراد لكتابه أن يكون جديدا في كل شيء، فلم ينقل عن غيره من المصنّفين العرب الذين سبقوه في هذا العلم، ولم يشر إلى أي مصدر، كما أن الدراسة المقارنة للنصوص تجعلنا نجزم بأن معلوماته أصيلة حققها بنفسه، ومصدرها تجربة شخصية وبحث ميداني. ومن هنا أتت أهمية هذا الكتاب، ولذلك نقل عنه مؤلفون رصينون مثل ابن العديم وياقوت الحموي وأبو الفداء.
وفي النهاية لا بد من إيضاح أن المقاييس والأطوال التي ترد في نصوص هذا الكتاب تعتمد المصطلحات القديمة كالفرسخ والميل والمرحلة، وقد فصل أبو الفداء في هذه المقاييس وقارن بينها في مؤلفه" تقويم البلدان" ونفردها هنا لكي نزيل أي التباس:
الفرسخ ٣ أميال.
الميل ٣ آلاف ذراع حسب القياس القديم و٤ آلاف ذراع حسب القياس الحديث (المعاصر لأبي الفداء) .
1 / 19
الذراع ٣٢ إصبعا حسب القياس القديم، و٢٤ إصبعا حسب الحديث.
الإصبع ٦ حبات شعير معتدلات مضمومة بطون بعضها إلى بعض.
وحبة الشعير في المتوسط ٦، ٢ ملم.
وعند المقدسي البشاري:
المرحلة بريدين
البريد ٦ أميال «٦»
تيسير خلف دمشق في ١٣ آب من عام ٢٠٠٥ م ٨ رجب ١٤٢٦ هـ.
1 / 20
جزيرة العرب
الأبوا
قال في العزيزي: والأبوا بها آبار، وبينها وبين الجحفة تسعة وعشرون ميلا «٧» .
أيلة
قال محمد بن الحسن المهلّبي: من الفسطاط إلى جب عميرة ستة أميال، ثم إلى منزل يقال له عجرود وفيه بئر ملحة بعيدة الرشاء أربعون ميلا، ثم إلى مدينة القلزم «٨» خمسة وثلاثون ميلا ثم إلى ماء يعرف بتجر يومان، ثم إلى ماء يعرف بالكرسي فيه بئر رواء مرحلة، ثم إلى رأس عقبة أيلة مرحلة، ثم إلى مدينة أيلة مرحلة.
قال: ومدينة أيلة جليلة على لسان من البحر الملح وبها مجتمع حج الفسطاط والشام، وبها قوم يذكرون أنهم من موالي عثمان بن عفان، ويقال إن بها برد النبي ﷺ، وكان قد
1 / 21
وهبه ليوحنة بن رؤبة لمّا سار إليه إلى تبوك؛ وخراج أيلة ووجوه الجبايات بها نحو ثلاثة آلاف دينار. وأيلة في الإقليم الثالث وعرضها ثلاثون درجة «٩» .
تدمر
قال في العزيزي: وبينها وبين دمشق تسعة وخمسون ميلا، ومن تدمر إلى الرحبة مئة ميل وميلان.
وقال في العزيزي أيضا: وهي مدينة قديمة كثيرة الآثار العجيبة، يقال إن سليمان بن داود بناها «١٠» .
تيماء
ومن الكتاب العزيزي قال: تيماء حاضرة طي، وبها الحصن المعروف بالأبلق، وينتسب إلى السموأل بن عادياء الذي يقول:
لنا جبل يحتله من نجيره ... منيع يرد الطرف وهو كليل
هو الأبلق الفرد الذي سار ذكره ... له غرر مشهورة وحجول «١١»
1 / 22
جرش
قال في العزيزي: وجرش بلدة صالحة وحولها من شجر القرط ما لا يحصى وبها مدابغ كثيرة وعرضها ست عشر درجة «١٢» .
الجمّاء
وفي كتاب أبي الحسن المهلّبي: الجمّاء اسم هضبة سوداء. قال وهما جماهان، يعني هضبتين من يمين الطريق للخارج من المدينة إلى مكة «١٣» .
خيوان
قال في العزيزي: وخيوان طرف منازل بني الضحّاك من آل يعفر من أولاد التبابعة، وماؤها من السماء «١٤» .
1 / 23