لقد قيل للوفد: إن التغييرات الدستورية الشاملة التي طلبها لا يمكن قبولها بالكلية؛ لأنها تجعل القيام بالتزامات حكومة جلالته حسب صك الانتداب مستحيلا! وقد أوضح أنه لا يمكن البحث في اقتراحات لا تتوافق مع مقتضيات الانتداب. وبما أن تنفيذ رغبات الوفد العربي بخصوص الحكم الديموقراطي يجعل قيام حكومة جلالته بمسئولياتها كدولة منتدبة على فلسطين مستحيلا. وبما أنه بالرغم عن الشرح والتأكيدات المعطاة من قبل وزراء جلالته لم يتمكن الوفد أن يرى سبيلا لتعديل موقفه، فقد أصبح من الواضح أنه لا فائدة ترجى من مداومة البحث في هذه المسألة.
أيها السادة: وعلى هذا النوع من الانتداب والحكم، كان عدد اليهود في فلسطين سنة 1915م حوالي 46 ألفا، فوصل الآن إلى أكثر من أربعمائة ألف، بينما عدد العرب من مسيحيين ومسلمين 950 ألفا. وكان اليهود قبل الحرب لا يملكون أكثر من مائة ألف «دونم»، فإذا هم يملكون في سنة 1936م مليونا وأربعمائة واثنين وثلاثين ألف دونم.
وقد أثبت تقرير لجنة شو في سنة 1930م أن البلاد لا يمكنها أن تستوعب أكثر مما فيها إلا إذا وجدت طريقة جديدة لاستثمار الأراضي، وأنه حذر الحكومة من عاقبة الهجرة المفرطة.
وجاء في تقرير السير جون هوب سمبسون في السنة نفسها ما يؤيد هذه الحقيقة، مقررا أن ما يصيب العائلة العربية من الأراضي لمعيشتها أقل مما يجب أن يكون للقيام بأودها. ومما كان له أفظع الأثر في تنفيذ هذه السياسة الضارة بالعرب، والقاتلة لهم، ذلك التسامح الغريب في إرسال الموظفين اليهود من الإنجليز، ليقوموا بإدارة الحركة العامة في فلسطين، فتعين منهم السير صموئيل اليهودي حاكما عاما لفلسطين من سنة 1920 لسنة 1925م، كما عين المستر بنتويش اليهودي رئيسا للنيابات العمومية فيها، وغيرهما وغيرهما. حتى أصبحت فلسطين محكومة فعلا باليهود، يسعون في تنفيذ الرغبة في أن تنقلب فلسطين إلى دولة يهودية.
سادتي: سبق أن قلنا: إن بعض وزراء إنجلترا كانوا يقصدون من الوطن القومي اليهودي إنشاء دولة يهودية، وأن الزعماء اليهود قد صرحوا بأن هذا هو غرضهم، وعلى هذا مساعيهم. ولقد ظهرت هذه الرغبة الصريحة من اليهود في أعمالهم، وصحفهم، ومؤلفاتهم، بطريقة لا تدع مجالا للشك. ومما صرح به زعماؤهم ما قاله السير ألفريد «لورد ميلتشث» سنة 1922م من أن اليوم الذي سيعاد فيه بناء الهيكل أصبح قريبا جدا! وأنه سيكرس ما بقي من حياته لبناء هيكل سليمان مكان المسجد الأقصى! وما قاله المستر جابرتنسكي - زعيم الصهيونيين الإصلاحيين - أمام لجنة تحقيق سنة 1929م «لجنة شو» من أنه يريد صراحة أن تشجع الحكومة الاستعمار اليهودي تشجيعا فعليا؛ كي توجد في البلاد أكثرية يهودية. وما فاه به الزعيم اليهودي زينكويل؛ إذ قال: وما على العرب إلا أن يهدموا خيامهم ويرحلوا إلى الصحراء من حيث أتوا!
وما نشره المستر بنتويش اليهودي، وهو الذي كان رئيسا للنيابات العمومية في حكومة فلسطين في كتاب طبعه في لندن سنة 1919م أسماه «فلسطين اليهود»، مع ملحق له اسمه «إنقاذ بلاد يهوذا»، جاء فيه كلام كثير مثير للشعور منه ما يأتي:
ولكن لا هذا ولا ذاك «أي الصلوات» يجددان بناء الهيكل «أي محل البراق الشريف»، إنما أبناء الجيل الذين سيقومون بهذا، والذين يعتقدون أن العمل هو الصلاة الحقيقية ينزلون في القدس ويسكنونها، وهم ينتظرون قيام قورش جديد «وناحميا» جديد، يشقان الطريق لاستعادة المكان المقدس الطاهر لليهودية، وهو «المسجد الأقصى»!
وقد نشر اليهود من «الخرائط» والرسوم أنواعا كثيرة عليها صور للحرم الشريف، وقبة الصخرة المشرفة، ومكان البراق، وضعوا عليها شعارهم القومي الديني ، وكتبوا عليها كتابات بالعبرية تثير العواطف وتؤلم النفوس، رأيتها بنفسي وقدمتها بيدي إلى لجنة التحقيق، في قضية البراق الشريف. وهي تدل دلالة أكيدة على أن القوم يدبرون حدثا كبيرا لانتزاع فلسطين، من أهليها، واغتصاب المسجد الأقصى، وهو ثالث الحرمين الشريفين، واغتصاب محل البراق الشريف، وجعلهما هيكلا لهم!» انتهى خطاب علوبة باشا.
وألقى في المؤتمر فارس الخوري بك - رئيس مجلس النواب السوري يومئذ، ورئيس الوزارة السورية بعدئذ - خطابا جاء فيه:
زعموا أن لليهود حقا مغصوبا في الشطر الجنوبي من سوريا، وأنهم بإعطائهم منه وطنا قوميا يبعثون لهم حقا قديما، وهم لو أنصفوا في الحكم وعرفوا منشأ هذا الاغتصاب، الذي يسمونه حقا؛ لتبين لهم فساد الحجة، ووهن البرهان. حل سيدنا إبراهيم مع ابن أخيه لوط من موطنه الأصلي في العراق منذ أربعين قرنا مع عبيده، وإمائه، ونزل في وادي الأردن ثم هجر إلى مصر وأقام فيها برهة من الزمن وعاد إلى أغوار الأردن، حيث بقي ابنه إسحاق، وحفيده يعقوب، إلى أن لحق مع أنساله بابنه يوسف إلى مصر، ونالوا حظوة عند ملوكها في دولة الهكسوس الأعراب الذين كانوا مالكي مصر؛ فتناسلوا وتكاثروا في نحو خمسة قرون إلى أن دالت دولة غزاة الهكسوس الأعراب في مصر، وعاد الملك إلى أهله من المصريين، فضاق باليهود ذرع الفراعنة، وخشوا مؤامراتهم ودسائسهم مع أعداء مصر الأجانب؛ فعمدوا إلى التضييق عليهم، واستخدامهم بالأشغال الشاقة كأسرى الحروب لأجل خضد شوكتهم، واجتناب الغائلة من ناحيتهم، وعمدوا إلى قتل أبنائهم والبغاء على بناتهم، فنهض بهم موسى الكليم في أواخر القرن الرابع عشر قبل المسيح، وهربوا جميعا عابرين برزخ السويس إلى برية سينا، حيث تاهو أربعين عاما، دخلوا بعدها، غازين الإقليم الفلسطيني، من جهة جنوبه الشرقي، التي كانت مفتحة الأبواب لخلوها من المعاقل والحصون، مكتسحين البلاد، قرية قرية، ومدينة مدينة، وشعارهم الإبادة والتقتيل، ولا يعفون حتى عن الحيوانات السائمة، زعما منهم أن الرب يهوذا الذي كانوا يحملون تابوت عهده أقطعهم أرض الميعاد هذه وأمرهم بتطهيرها من كل حي يعيش فيها لتخلو لهم وحدهم يقطنونها مطمئنين، ويتلذذون بما تفيض عليهم من اللبن والعسل.
अज्ञात पृष्ठ