وقد استمر عبد القادر باشا حلمي على خطته الآنفة الذكر، وفي أثناء ذلك حدث الاحتلال البريطاني، وأرغمت مصر بعده مباشرة على استدعاء قائدها المنتصر وأحد أبنائها الظافرين، الذي كان في مقدوره أن ينتشل بلاده من أزمة من أكبر الأزمات التي انتابتها في تاريخها كله، دون الحاجة إلى الاستعانة بأي عنصر أجنبي. وفعلا استدعي عبد القادر باشا حلمي من السودان، واستبدل به ضابط مصري آخر هو سليمان نيازي باشا، وعين معه هكس باشا رئيسا لأركان حربه. وكان الغرض من ذلك كما تكشف عنه الوثائق المنشورة بعد هو أن يكون القائد المصري قائدا بالاسم فقط، ويكون الرئيس البريطاني لهيئة أركان الحرب هو القائد الفعلي . فقد رئي أن رجلا قوي الشكيمة كعبد القادر باشا لا يمكن أن يقبل بتاتا مركزا هذه صفته، لا سيما بعد ما أيده الله به من النصر والتوفيق. وهذا فيما نظن كان علة استدعائه.
على أن الأمور لم تجر كما كان مقدرا لها؛ فإن سليمان نيازي باشا نفسه - الذي كان الإنجليز يرون فيه رجلا ضعيفا يخضع لأوامر هكس باشا - قد خيب ظنهم ولم يفعل ما كانوا يرجونه منه، فاقتضى الأمر استدعاءه هو أيضا، وسلمت قيادة جيش السودان نهائيا إلى هكس باشا ومعه عدد من الضباط البريطانيين لمساعدته.
فهل يسلم عاقل بعد هذا بأن كل ما حصل كان بدون تدخل الحكومة البريطانية، وإذا كانت ثمة حاجة ماسة لمصر إلى تعيين قائد بريطاني، وهيئة أركان حرب بريطانيين على رأس جيش السودان، فلم لم يبد ذلك منها قبل احتلال الإنجليز لها؟
ويؤيد ما قلناه آنفا من أن الغرض من تعيين قائد مصري آخر بدلا من عبد القادر باشا حلمي هو أن يكون ذلك القائد قائدا بالاسم لا بالفعل، ما قاله ه. أ. كلفي
H. A. Kolvy
في كتابه «تاريخ الحملة السودانية»، ص12، وهو حامل لوسام الحمام السامي الشان، ومن فرقة حرس الجريناديرز المشهورة، وقد استقى معلوماته وجمعها من قسم المخابرات بوزارة الحربية بلندن عام 1889.
وكتابه وثيقة رسمية وفي المرتبة الأولى من الأهمية، وإليك ما جاء فيه بهذا الصدد:
عبد القادر باشا يخلفه هكس باشا، وكان عزم عبد القادر باشا في ذلك الوقت أن يتعقب الفريق المرتد إلى كاروج، ولكن قبل تمكنه من ذلك حل محله في سلطته المدنية علاء الدين باشا الذي وصل إلى الخرطوم، وحل في سلطة عبد القادر العسكرية سليمان نيازي باشا «اسما»، وهكس باشا «فعلا»، وقد كان هذا في فيلق ضباط أركان حرب بومباي، ثم التحق بالجيش المصري برتبة ميجر جنرال. وقد جاء نيازي باشا إلى الخرطوم في 20 فبراير سنة 1883 بوظيفة قائد عام، بينما جاءها هكس باشا في 7 مارس في هذه السنة بصفة رئيس أركان حربه، إلا أن سليمان نيازي باشا كان قد أفهم أن عليه أن يرجع في جميع الأمور إلى رأي مرءوسه الذي «ألقي على عاتقه تبعة تدبير الاستعدادات وإدارة الحركات الحربية». ا.ه.
فهل هناك برهان أوضح من هذا على صدق ما قلناه آنفا؟
نعم، إن هكس باشا وضباط أركان حربه الإنجليز كانوا ضباطا ممتازين، ولهم دراية حسنة بمهنتهم العسكرية، لكنهم كانوا يجهلون تمام الجهل حالة البلاد وطبيعة أرضها. وبدلا من أن يتبع أولئك الضباط خطة عبد القادر باشا حلمي التي هي غاية في الحكمة، ويضعوها نصب أعينهم، ساقوا الجيش إلى صحاري كردفان. وهناك هلك منه من هلك ظمأ، ومن بقي قاتل في أرض موافقة تمام الموافقة للأعداء، وغير صالحة لقتال جيش منظم، فعانى أشد الآلام ثم أبيد عن آخره؛ أعني أن ما كان منتظرا أن يحل بالمهدي ورجاله حل بجيشنا بسوء الخطة التي وضعت له.
अज्ञात पृष्ठ