ولا شك أن هذه الانتصارات المتوالية تدل من جهة على ما كان لمصر وقتئذ من القوة الهائلة، وتحمل الإنسان من جهة أخرى على التساؤل: كيف تقهقر الأتراك الأبطال في هذه المواقع؟! فالجواب على ذلك: أن المرحوم السلطان «محمود الثاني» كان قد ألغى طائفة الإنكشارية كما قدمنا، وكان مشتغلا بتنظيم جيش جديد عندما قام المرحوم «محمد علي باشا» بإحداث هذه الأزمة المشئومة، ولم يكن الجيش التركي الجديد مستعدا تمام الاستعداد للقتال.
وكان من نتيجة هذا الخلاف المشئوم بين مصر والدولة العلية أن المرحوم السلطاني «محمود الثاني» اضطر للاستنصار بالدول الأوروبية؛ فانتهزت الروسيا هذه الفرصة؛ لتقوية نفوذها في تركيا، وجعل سيطرتها عظيمة على الباب العالي، فأظهرت للدولة العلية استعدادها لمساعدتها ضد عزيز مصر، وأرسلت إلى الآستانة الكونت «مورافييف» أحد ضباط القيصر الخصوصيين مكلفا بتبليغ الباب العالي أن الحكومة الروسية تقدم إليه إذا أراد أسطولا قويا وجيشا عظيما؛ لنصرة الدولة ضد عزيز مصر، ومكلفا كذلك بالسفر إلى الإسكندرية لإقناع المرحوم «محمد علي باشا» بضرورة الاتفاق مع الدولة، والرجوع عن نواياه ومشروعاته ضدها.
وبالفعل ذهب «مورافييف» إلى الآستانة، فاستقبل رجال الدولة بلاغه بالرضى مع الحزن الشديد على هذه الحالة التي وصلوا إليها بسبب الشقاق المشئوم بين المتبوع الأعظم والتابع؛ أي بين خليفة الإسلام وأكبر أمرائه.
وقد سافر الكونت «مورافييف» من الآستانة إلى الإسكندرية في يناير عام 1833 بقصد إقناع عزيز مصر بوجوب حل المشكلة حلا سلميا.
هذه كانت سياسة الروسيا، وسيرى القارئ نتائجها السيئة على الدولة العثمانية. أما البروسيا فلم تتداخل في الأمر؛ بل تركت بقية الدول الأوروبية مشتغلة بالمسألة وانتظرت النتيجة، وقد ود بعض سواس النمسا أن تتداخل دولتهم في هذه الأزمة المهمة؛ لتحول دون أغراض الروسيا، ولكن القابضين على أمور المملكة النمساوية حينئذ رأوا أن الثورة تهدد دولتهم من كل جانب، وأنهم في حاجة شديدة لعضد الروسيا ومساعدتها، فالتزموا لهذا السبب الحياد، واختاروا سياسة مراقبة الحوادث والانتظار.
أما إنكلترا، فقد كانت أميالها من بادئ الأمر ضد أميال عزيز مصر، ولكنها كانت تخاف إضعاف نفوذها في تركيا بتقوية نفوذ الروسيا، فكانت تريد العمل ضد الروسيا ومساعدة تركيا في آن واحد، غير أن أيرلندا كانت في ذلك الحين قائمة بالثورة ضد بريطانيا رغبة في نيل حريتها واستقلالها، فبقيت لذلك إنكلترا مترددة في سياستها.
ولم يكن لعزيز مصر بين الدول الأوروبية دولة تريد نصرته في السر والجهر غير فرنسا، فإن الرأي العام فيها كان يحب «محمد علي باشا» حبا شديدا، وكانت أعمال عزيز مصر ومجهوداته في سبيل رفع شأن مصر وتمدينها معروفة في فرنسا، ومقدرة فيها حق قدرها، لا سيما وأن أغلب عمال عزيز مصر في تمدين مصر كانوا من الفرنساويين، وكان بين «لويس فيليب» ملك فرنسا وبين «محمد علي باشا» مودة شديدة وصداقة متينة.
إلا أن سفير فرنسا في الآستانة كان يخاف سقوط نفوذ دولته في المملكة العثمانية بقدر ارتفاعه وازدياده في مصر، فعرض على الباب العالي أن يتوسط بينه وبين أمير مصر، وكتب إلى المرحوم «إبراهيم باشا» يرجوه باسم فرنسا ألا يتقدم في فتوحاته، وكتب إلى المرحوم «محمد علي باشا» يسأله أن يقبل الشروط التي أرسل بها إليه المرحوم السلطان «محمود الثاني» مع خليل باشا، وهذه الشروط كانت تنحصر في تنازل الدولة لعزيز مصر عن ولايات «عكا ونابلس وصيدا وبيت المقدس»، ولكن «محمد علي باشا» كان يريد الاستيلاء على الشام كلها، وكان قنصل فرنسا بمصر يشجعه على أمياله وأغراضه؛ فلذلك لم يقبل عزيز مصر الشروط السلطانية التي عرضها عليه خليل باشا، ولم يلق رجاء سفير فرنسا بالآستانة عنده قبولا؛ لأنه اعتبره مجاملة لتركيا وغير صادر عن تعليمات سياسية واردة من الحكومة الفرنساوية، وأمر ابنه المرحوم «إبراهيم باشا» بالتقدم في فتوحاته، فصدع بالأمر وتقدم إلى أن وصل مدينة «كوتاهيه».
فلما علم المرحوم السلطان «محمود الثاني» بذلك سأل الروسيا في آخر يناير سنة 1833 أن ترسل إليه بأسطولها فوعدته بذلك، وفي هذه الأثناء عاد «مورافييف» من الإسكندرية، وكان قد نجح في مأموريته لدى «محمد علي باشا» بعض النجاح، فأعلن الباب العالي أن أمير مصر وعده، وأصدر أمره لابنه بالوقوف عن التقدم في فتوحاته. فلما علمت الدول الأوروبية بذلك رأت أن مجيء الأسطول الروسي إلى مياه البوسفور صار غير لازم، فسألت الباب العالي أن يجعل وقوفه ببلاد القرم، ولكن الروسيا كان يهمها أن يظهر أسطولها في مياه الشرق، ويعلم المسلمون قبل المسيحيين أنها صارت الحامية للمملكة العثمانية والأمينة على مصالح دولة آل عثمان!
فجاء الأسطول الروسي إلى مياه البوسفور، وجعل مرساه أمام سراي السلطان، وبعد وصوله بأيام قليلة وصل جزء من الجيش الروسي إلى الآستانة وأقام بها، فهاجت لذلك إنكلترا والنمسا وفرنسا، وطلبت من الدولة العلية الإسراع بالاتفاق مع عزيز مصر، وإبعاد العساكر الروسية عن أراضي الدولة. فقبل المرحوم السلطان «محمود الثاني» طلب الدول الثلاث، وبعد مخابرات مختلفة أعلنت الدولة العلية في أوائل مايو سنة 1833 بخطين شريفين أنها عينت أمير مصر واليا على الشام وعلى ولاية «أطنه»، وقد سمي هذا الاتفاق الذي صدر به الخطان الشريفان باتفاق «كوتاهية» نسبة إلى المدينة التي كان محتلا لها «إبراهيم باشا» عند عقد هذا الاتفاق.
अज्ञात पृष्ठ