أما «إبراهيم باشا» فقد عاد بعد المذبحة، ولا يسألن القارئ عن تحسره الشديد على أسطوله العظيم الذي تركه زاهيا قويا، وعاد فوجده أثرا بعد عين، وعن عظيم اندهاشه من هذا العمل الفظيع الذي قام به دعاة المدنية وأنصار الحرية والإنسانية، وقد احتج «إبراهيم باشا» أشد الاحتجاج على هذا العمل الوحشي، وزاد احتجاجه واندهاشه عندما علم بالمطاعن السافلة التي كان يوجهها إليه الأميرال «كودرنجتون»، وبأن هذا الإنكليزي الذي دمر الأساطيل المصرية والتركية بأسفل الطرق وأدنى الوسائل ادعى أنه - أي إبراهيم باشا - هو الخائن للعهد الناكث لشروط الهدنة، وأنه المسبب لواقعة «ناورين».
وقد كتب الضابط الفرنساوي البحري المسيو «بوجول» تاريخ مذبحة «ناورين» وأتى فيها على كل ما قاله له «إبراهيم باشا» عقب المذبحة، وإنا نأتي هنا على ترجمة فصل يتضمن تصريحات «إبراهيم باشا» بشأن تهم الأميرال كودرنجتون. كتب المسيو بوجول ما ترجمته:
قال لي «إبراهيم باشا» عند زيارتي له: إنهم يتهمون إبراهيم بأنه خان العهد، ولم يحترم كلامه، ولكنني مستعد لأن أسافر لباريس وللوندرة إذا اقتضى الحال ذلك؛ لأظهر الحقيقة، ولكي يحمل الذين أسالوا دماء الأبرياء وحدهم الفضيحة والملامة، وما أنشئت السفن إلا لتكون فريسة النار أو البحار؛ فلذلك لست اليوم آسفا عليها، ولكن اتهامي بأني خنت عهودي هو وشاية سافلة، وإني أعتمد على شرفك يا حضرة الضابط لتبلغ كلمة بكلمة إلى أميرالك ما قلته لك.
فقل له: إن ثاني يوم لواقعة «ناورين» دعا الأميرال الإنكليزي الأميرال التركي إلى مركب إنكليزية، ووشى له بأني قدمت إليه مبالغ طائلة؛ ليساعدني على الاستقلال بمصر من الدولة العلية ومن التابعية للحضرة السلطانية، وقال له بأني خائن، وأشار عليه بتبليغ ذلك للضباط والبحارة الأتراك، فماذا يقال عن هذا السلوك وعن هذا الغش؟! أولم تبلغ الوقاحة بالأميرال الإنكليزي أنه طلب من الأميرال التركي أن يسلمه امرأة من نسائي؟!
وإنه ليسهل على القارئ أن يحكم بعد اطلاعه على أقوال «إبراهيم باشا» أي الرجلين صادق، أإبراهيم ذلك البطل النادر المثال الذي عامل ثوار اليونان بعد انتصاره عليهم النصر المبين بالرأفة والرحمة، وما سفك للأبرياء دما، ذلك الذي احترم عهده؟ أم كدرنجتون الذي تولى أمر تدمير أساطيل لم تعاده أقل عداء، وخان بذلك عهده وكلامه وشرفه، بل لطخ أوروبا والمدنية الغربية بدنس الفضيحة والعار؟! •••
وبينما كانت الدول الثلاث تتداخل لصالح اليونانيين، وتسفك دماء الأبرياء لأجلهم، وتدمر الأساطيل غدرا لمساعدتهم ونصرتهم، كان اليونانيون يهجمون على سفن التجارة الأوروبية ويسرقون كل ما فيها من المتاجر والمصانع والأموال، وقد أيد هذه الحقيقة الأميرال الفرنساوي «دي ريني» نفسه، وكتب جملة كتب على هذه السرقات الفظيعة والتعديات المتعددة إلى وزارة البحرية الفرنساوية، وقد قال في كتاب من كتبه: «إن عدد السفن التي اعتدى اليونانيون عليها، وسرقوا ما بها، بلغ في شهر واحد ستين سفينة.» فليعجب القارئ بقوم تحارب أوروبا لأجلهم، وتخون عهدها حبا فيهم، ويلطخ قواد أساطيلها شرفهم وشرف دولهم بمذبحة «ناورين»، وهم يجيبونها على هذا التناهي في الإحسان بالتناهي في إساءة رعاياها وسرقة أمتعتهم وأموالهم ومتاجرهم ومصانعهم! •••
وقد طلبت الحكومة العثمانية من الدول الثلاث ترضية علنية لمذبحة «ناورين»، فرفضت الدول طلبها، ولم تكتف برفضه فقط؛ بل طلبت منها أن تقبل مطالبها المشتركة بشأن اليونان، وأن تعلن استقلالها، فأجابت الدولة على هذا الطلب الغريب بالاندهاش والاستغراب والرفض، فبارح عندئذ سفراء إنكلترا والروسيا وفرنسا الآستانة بتاريخ 8 ديسمبر سنة 1827.
وفي 12 ديسمبر من السنة نفسها تجدد بين الدول الثلاث اتفاق لوندرة السالف الذكر، وأخذت الروسيا من ذلك العهد تعمل لإعلان الحرب بينها وبين الدولة العلية، وبتاريخ 16 أبريل سنة 1828 أشهرت بالفعل إعلانها الحرب لتركيا، وفي 7 مايو اجتازت الجنود الروسية نهر «بروث».
ولا شك أن الدولة العلية كانت وقتئذ في أشد الأخطار، وكانت أزمتها شديدة قوية، فإن الروسيا أظهرت عداءها لها بإشهار الحرب عليها، وإنكلترا أظهرت عداءها لها بمساعدة اليونانيين في السر والجهر، وبترك أسطولها واقفا في مياه الشرق يهدد موانيها، وبعقد المؤتمرات المختلفة لإعلان استقلال اليونان بالرغم عن إخضاع «إبراهيم باشا» لثوروييهم وانطفاء نار الفتنة، وفرنسا اشتركت في هذه العداوة بإرسال جيش جرار تحت قيادة الجنرال «ميزون» إلى بلاد اليونان.
وقد رأى عندئذ المرحوم «محمد علي باشا» بنظره الصائب أن الدول الثلاث متفقة كلها ضد الدولة العلية، وأن مأمورية مصر قد انتهت بقمع الثورة اليونانية، فأصدر أمره إلى ابنه المرحوم «إبراهيم باشا» بالعودة هو وجنوده إلى الوطن العزيز، فصدع بأمر والده وعاد لمصر، حيث احتلت الجنود الفرنساوية المواقع والبلاد التي أخلتها جنود مصر.
अज्ञात पृष्ठ