فلما أن اختلفوا كذلك ولم يهتدوا إلى الرشد من ذلك علمنا أن في كتاب الله سبحانه بيان ما فيه اختلف أولئك، فرجعنا إلى الكتاب نبتغي فيه بيان ذلك، فوجدنا الله سبحانه يقول: { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم } [النور: 23]، يقول سبحانه: عذاب في الدنيا، والعذاب في الدنيا فهو الضرب الذي حكم الله به عليهم في الدنيا، فأما عذاب الآخرة فهي النار وبئس المصير. فبين سبحانه في هذه الآية على من يقع عذابه الذي حكم به على القاذفين، فذكر على أنه من رمى المحصنات الغافلات المؤمنات. فنظرنا إحصان العفة، فإذا به لا يكون ولا يصح ولا يثبت إلا بالإيمان؛ لأن من لم يصح له الإيمان بالله وبرسوله، والعفة عن إنكارهما وجحدهما وجحد ما جاء به محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لم يصح له اسم العفة عما هو دون ذلك من زنى ولا غيره، ولم يكن من أنكر الله ولم يعرفه بمعنى من معاني الإنكار من إنكار فطرة فطرها، أو جحدان آية أنزلها، أو نفي حجة له احتج بها، أو دفع رسول من رسله، أو إنكار فعل من الله في بعثته بداخل في محض العفة، ولا مشهود له بها عمن غفل من الأمة؛ لأن من لم يغفل عن كبائر الجحدان، ودخل في عظايم فوادح العصيان والبهتان كان جديرا حريا بالوقوع فيما دون ذلك من العصيان. والزنى فلا يكون علانية جهارا، وإنما يفعله أهل هذه الدار في الخفية والاستتار، ومن حكم عليه بالكفر بالبينة الظاهرة، فكيف يحكم له مؤمن بالعفة الباطنة، والعفة فإنما هي مدحة من أكرم مدح المسلمين، وبها تثبت حقائق الإيمان، فكيف يحكم بها لمن كان من الكافرين، وينسب إليها من جحد الدين، وناصب رب العالمين، وأنكر فرض طاعة خاتم النبيئين، هذا من القول ما لايقول به عاقل، ولا يتعلق بعلائقه إلا عم عن التمييز جاهل. فقد أزاح ولله الحمد كل مسلم من الأمة عمن كان كذلك اسم العفة، فبطل بذلك قول من أوجب الحد على مؤمن أو مؤمنة إن كان منه خطأ أو جهلا في قذف كافر أو كافرة.
ثم نظرنا في القول الثاني، قول من قال إن الحد يجب في قذف الأمة المسلمة بإحصان العفة دون إحصان الحرية، فإذا بإحصان العفة والإحسان داخل في إحصان الإيمان، إذ لا يصح عفة إنسان حتى يصح له الإيمان والتقوى؛ لأن من بان وظهر فساد ظاهره الذي يحكم به عليه لم يشهد له صادق أبدا بصلاح سريرته التي تنسب إليه، فكان قوله سبحانه الغافلات المؤمنات يجزي عن ذكر العفيفات الصالحات؛ لأن العفة داخلة في الإيمان، فكذلك ولذلك أجزى ذكر إحصان الإيمان عن ذكر إحصان العفة والإحسان، فرجع أصل الإحسان إلى ثلاثة معان في القول والبيان: إلى التزويج، والحرية، والإيمان.
पृष्ठ 849