يقول المؤرخ الفاضل الأستاذ محمد عبد الرحيم:
لقد قضى تنازع البقاء على الإثيوبيين «الحبشيين» بحروب دائمة وفتن ثائرة، فكانت الأمة في عصورها الأولى وقرونها الوسطى بين سابق ولاحق وغالب ومغلوب، تقف تارة موقف المهاجم وتقف طورا موقف المدافع مع قدماء المصريين والآشوريين بآسيا واليمانيين والحميريين وغيرهم، ولم يعد السيف إلى غمده إلا في فترات بسيطة قد لا تكفي للأهبة والاستعداد لدرء ما يأتي به الغد من كارثة كبرى وجائحة عظمى، حتى لا يكاد يرى المرء غير ملاحم دموية وحركات عسكرية ومفاوضات سياسية. وكانت مصر في سنة 720 قبل الميلاد مفككة العرى منقسمة إلى عشرين ولاية صغيرة يهيمن على كل ولاية أمير مستقل، وكان بعضهم لبعضهم عدوا كملوك الطوائف بالأندلس، ولكل أمير من الحصون والقلاع ما يدعو إلى الدهشة. وقد ظهر في الوجه البحري ملك يدعى «تفنخت»، وكان هذا جريئا مقداما طامح النفس، يريد التغلب على تلك الولايات الصغيرة ليمد نفوذه على جميع القطر المصري؛ فعبأ جيوشه وهاجم تلك القلاع والحصون حتى تم له إخضاع قسم صالحجر وقسم أتريب وقسم منف، ولم يستطع أحد من الأمراء أن يوقف تقدمه، ولم يزل كذلك حتى اجتاح بلاد الصعيد ودان له بعض أمرائها بالطاعة وفرض عليهم الضرائب وكانوا خاضعين لمملكة إثيوبيا، ولما بلغ ذلك «بيعنخي» الإثيوبي تميز غيظا وعقد النية على محاربة الملك «تفنخت» المصري الذي سطا على أملاكه بلا مسوغ. وهناك تقدمت جيوش إثيوبيا وحاربت الجيوش المصرية حتى قضت على نفوذها في صعيد مصر، وقد وجدت أخبار تلك الحرب العظيمة مدونة على الآثار بالهيروغليفية، فنقلها من تاريخ السودان القديم الدكتور حسن كمال باشا الأثري الشهير، فقال يبتدئ الأثر بالعبارة الآتية:
في غرة شهر توت سنة إحدى وعشرين من حكم «بيعنخي» قال جلالته: بلغني أن تفنخت تغلب على مدينة منف واستولى على الصعيد، فأطاعه الأمراء وأعيان البلاد ولم يغلق دونه حصن، واعترفوا له بالسيادة في أقسامهم، فأباح لهم الحكم على البلاد كما كانوا؛ فعظموه بما يستحقه ذكاء عقله، فانشرح فؤاده. قال بيعنخي: وكانت تأتيني الرسل كل يوم من الأمراء وقواد الجيوش سائلة عن سبب سكوني وعدم مدافعتي عن بلاد الوجه القبلي وأقسامها ومخبرة لي بما فعل «تفنخت»؛ فأمرت قوادي وضباط عسكري الذين كانوا في مصر أن استعدوا لقتاله وسلب مواشيه وسفنه التي في النيل، وأمددتهم بجنود ونصحت لهم بعدة نصائح قبل توجههم إلى القتال، فقلت لهم: «لا تهاجموا في أثناء الليل هجوم المتلاعبين بل اهجموا متى رأيتم أن العدو أعد جيوشه وخيوله للمسير إليكم، وإذا قامت الحرب فاعلموا أن آمون هو الذي أرسلنا إليهم، فإذا وصلتم مدينة طيبة فاغتسلوا في مياه معابد آمون واسجدوا له وقولوا: ثبت أفئدتنا على الحق لنحارب في ظل سيفك.» ففعلوا ما أوصاهم به، ثم زحفوا منحدرين في النيل، فقابلتهم سفن حربية عليها جند كثيف مسلح، فحدثت بينهما معركة هائلة أظهر فيها الفريقان غاية الحرص، إلا أنه ما لبث أن تطرق الوهن إلى عزائم المصريين؛ فتغلب الإثيوبيون عليهم وغلبوا تلك السفن الحربية المصرية والآلات والمؤن، وهناك تضاعفت همم عسكر الإثيوبيين وزاد نشاطهم؛ فاستأنفوا الزحف شمالا. هذا ورغما عن تضافر أمراء الأقاليم المصرية على مظاهرة الملك «تفنخت» فإن الإثيوبيين تغلبوا عليهم وظفروا بهم، ثم كتبوا إلى ملكهم «بيعنخي» كتابا ذكروا فيه أسماء من قتلوهم من الأعداء، فما كاد ذلك الملك يقرأ كتاب قواد جنده حتى استشاط غضبا وتميز غيظا وتلون كالنمر وأمرهم بأن لا يتركوا جنديا من جيوش مصر إلا قتلوه؛ فأوغل الإثيوبيون في بلاد مصر ولحق بهم الملك «بيعنخي» وتولى القيادة العامة بنفسه، ولما وصل إلى مدينة أرمنت سلمت إليه بعد قتال شديد دام الكر والفر فيه متبادلا بين المصريين والإثيوبيين وبعده خرج حاكم أرمنت ووقف خاضعا أمام ملك إثيوبيا، ثم قال له: «لقد جعلتني سطوتك في هذه الحال!»
وأحضر إليه الهدايا والطرف من الخيل، ثم جاء ملك أهناس بهدايا من ذهب وفضة وأحجار نفيسة وجياد بديعة، ولما تشرف بالمثول أمام ملك إثيوبيا خر ساجدا تواضعا وإجلالا. وهناك أيقن المصريون بشدة بطش ملك إثيوبيا وجبروته وأوجسوا خيفة من شره، ومن ثم دانت له البلاد وطأطأت لسطوته الأجناد؛ فأوغل في بلاد مصر حتى بلغ مدينة منف، وكتب إلى سكانها قائلا: «لا تقفلوا أبوابكم ولا تحاربوا أيها الناس القاطنون في المدينة؛ لأني سأدخل وأخرج من غير إساءة إليكم.» إلا أن سكان المدينة لم يأمنوا على حياتهم منه وصمموا على حربه ورده خائبا، وهيهات! وكانت المدينة إذ ذاك محاطة بسياج من مياه الفيضان، أما جلالة الملك بيعنخي فإنه عقد مجلسا حربيا من قواد جنده، وقر رأيهم على دخول «منف» عنوة. وهناك صف الأسطول الإثيوبي حول المدينة ووجهت سهامه عليها، وبدأ بهجوم عنيف، وفتك عسكر الإثيوبيين بالمصريين فتكا ذريعا ودحضوا من شوكتهم بسرعة مدهشة، ودخل جلالة الملك بيعنخي معبد «بتاح» وقدم له القربان من بقر وعجول وأوز وغير ذلك من أنواع القرب، ثم دخل قصر المنف. وكانت هذه المعركة من أهم البواعث في إخضاع القطر المصري لملك إثيوبيا الذي أتته أمراء الوجه البحري يحملون الجزية والهدايا خاضعين لسلطانه، وقد سار جلالته إلى عين شمس لأداء الصلاة شكرا لما أفاء الله به عليه من فتح عظيم وخير عميم، فوفد إليه بها أربعة عشر أميرا من أمراء مصر، وبعث إليه الملك تفنخت رئيس المصريين يقول له: «اكتم غيظك؛ فإني وجل من رؤيتك لعدم مقاومتي نار حربك وامتلأ قلبي بفزعك؛ فأسألك العفو عني، وأعلم أنك بذرت بذورا حصدت محصولها في إبان حصادها.» ثم أردف ذلك بهدايا قيمة من الذهب والفضة، وأقسم يمينا مقدسة بأن لا يخالف له أمرا ولا يعكر لسياسته صفوا ولا يسيء لأحد من عماله؛ فرفض ملك إثيوبيا وعفا عنه بعد القدرة عليه، وما كاد يمر ملك إثيوبيا في بلاد حتى هتف له المصريون قائلين: «أيها الملك المنصور، لقد أتيت وحكمت الوجه البحري وحل الفرح في قلب أمك التي ولدتك فصرت شهما، وأعطاك آمون جوهرة؛ فبشرى لك أيتها البقرة التي ولدت ثورا كان على ممر الدهور ذكرا مخلدا وملكا مؤيدا، ألا وهو الملك المحب لطيبة.» وقد كان ذلك النفوذ الإثيوبي في مصر واختلاط الإثيوبيين بالمصريين اختلاط الحاكم بالمحكوم عادة سببا أكسب الشعب الإثيوبي صبغة مصرية بحتة، حتى أشكل على بعض الأثريين، فقال اليونانيون منهم: «إن السودان أصل رقي مصر ومنشأ مدنيتها.» وذلك لما رأوه من تربية بيعنخي وأنظمته وما شيده من المعابد والآثار المحلاة بالنقوش والكتابة الهيرغرافية بالقطر المصري. وما لبث ذلك المظفر زمنا طويلا بمصر حتى حن لوطنه ومسقط رأسه بمدينة نبتة «أي مروي»؛ فعاد إليها بعد أن سلم مقاليد الأمور إلى تفنخت المصري الذي حلف له يمين الطاعة كما أسلفنا.
وما كادت جيوش إثيوبيا تصل إلى نبتة حتى ثار المصريون وشقوا عصا الطاعة؛ فانعسكت الآية وكانت النهاية بداية، فهذا أمر طبيعي وحكم بديهي متى حانت للمغلوب الفرصة لاغتنام الحرية ونزع قيود العبودية. أما تفنخت فقد ردت بضاعته إليه، وانتحل لنفسه الألقاب الفرعونية، وجيش الجيوش الجرارة، وأعد السفن الحربية، وظل ثماني سنين في حرب عوان مع بعض أمراء مصر الخارجين عليه حتى أخضعهم لطاعته، ومهدت له البلاد ودام نافذ الكلمة فيها إلى أن أدركته الوفاة، وخلفه ابنه «بوكوريس» مؤسس العائلة الرابعة والعشرين. وبقي صعيد مصر في يد مملكة إثيوبيا، وكانت الحدود الفاصلة بين مصر وإثيوبيا مدينة «أهناس» الداخلة في نطاق النفوذ الإثيوبي، ووالي هذه المدينة هو قائد الأسطول الإثيوبي. وقد شيد بيعنخي معبدا للمعبود «موت» وآثارا بسيطة، ولكنه كان ذا دهاء وذكاء، فأراد أن يحتفظ لعائلته بسلطة «آمون» ووراثة عرش مصر؛ فوهب زوجته المسماة «أمادريس» إلى شعب «نوبت» الأميرة الكاهنة بنت الملك «أوسور كون» الثالث في طيبة، وكان ذلك في سنة 707 قبل الميلاد.
ومن أغرب ما رواه التاريخ أن كبشا نطق في السنة السادسة من حكم الإمبراطور الروماني أوغسطوس، فقال: «إن مصر ستبقى تعسة تعبة تسعمائة سنة.» وكان القطر المصري إذ ذاك مهددا بغزو الآشوريين، وكان الولاة لا يقدرون المسئولية حق قدرها، فصدق الله نبوءة الكبش، فتضاءلت حالة البلاد المركزية، وتعارضت الأهواء السياسية، واضمحلت موارد الثروة، وأجدبت الأرض، وأخذت الترع والقصور في التلف. وجاء في التوراة ما معناه:
إن ملوك تانيس صاروا لا عقول لهم، وملوك منف ضلوا وأضلوا قومهم؛ فقضينا أن نعطي مصر لرجل جبار يتولى أمرها ويدير شأنها. ففسر الأحبار الملك الجبار بالملك «شاباكا» الإثيوبي.
وقال المؤرخ السيد محمد عبد الرحيم: لم يهمل الإثيوبيون التدبير لاسترجاع ما فقدوه من ولايات مصر التي نادت باستقلالها بعد أن تركت في يد الملك تفنخت، بل حشدوا الجيوش وأعدوا المعدات ووطدوا العزم على غزو مصر مرة ثانية لتدارك ما فات وللاحتفاظ بما هو آت.
وفي سنة 711 قبل الميلاد بدأت قوات إثيوبيا في زحفها شمالا تحت قيادة الملك شاباكا أخي بيعنخي وزوج ابنته، وقد أمكن جيوش الإثيوبيين إخضاع مصر بغير عناء ووقع الملك بوكوريس في أسر «شاباكا» الإثيوبي، فدفنه حيا - حنقا وتشفيا - وتبوأ شاباكا عرش مصر، وهو الذي أسس العائلة الخامسة والعشرين. وكانت مصر إذ ذاك مهددة بغارات الآشوريين كما أسلفنا، وكان الملك الإثيوبي ماكرا كثير الدهاء، فأشعل نار الفوضى في فلسطين وسوريا، ووعد الآشوريين بالمساعدة إن تقدموا لاحتلالهم؛ فاغتر الآشوريين بتلك الوعود العرقوبية وتقدم ملك الآشوريين في جند كثيف وهاجم فلسطين. وبعد معارك دموية أسر «هوشع» ملك اليهود وحاصر سمرية إلا أنه مات بها فنادى الآشوريون بالقائد العام «سرجوز» ملكا عليهم وهو الذي أخضع سمرية وواصل الآشوريون زحفهم إلى أن اشتبكوا مع جيوش مصر في حرب هائلة هزم فيها المصريون وفر الملك شاباكا الإثيوبي ضاربا في الصحاري والقفار ضالا عن الطريق حتى اهتدى إليها بدلالة راع من فلسطين، ولما رأى المصريون فشل الملك شاباكا وفلول جنده إلى إخلاء الوجه البحري وعاد أدراجه إلى طيبة ومات بها الملك شاباكا غما؛ لما مني به من الهزيمة وتبديد جنده وقد خلفه ابنه «شاباتاكا» وكان الأمير كأبيه حزما وعزما وإقداما؛ فإنه ما كاد يقبض على زمام الأمور حتى انصرف انصرافا كليا إلى تجييش الجيوش وإعداد المعدات الحربية، وكان المصريون - لحسن حظه - في شغل شاغل لتفرق كلمتهم وتعارض أهوائهم، وبينما هم يتنازعون على الرياسة إذ أحدقت بهم كتائب الإثيوبيين، فاجتاحت البلاد وبسطت نفوذها إلى أقصى حدود القطر المصري، وقبل أن يجني «شاباتاكا» ثمار نصره المبين وثب عليه طهراقة بن بيعنخي، فقتله في سنة 688 قبل الميلاد، وتولى الملك مكانه، ودعا أمه من مروي إلى مدينة «تانيس» عاصمة الإثيوبين بمصر في تلك العصور؛ لكي تتمتع بحقها في الملك باعتبارها والدة جلالته، ولقد مهدت البلاد لطهراقة ودانت له الأمة المصرية بالطاعة عشر سنين لم يحدث في غضونها ما يعكر صفوه ولا نكست أعلامه لخطب جلل، بل خطا بمصر خطوات متناسبة؛ حيث شيد بها قصورا شامخة ذات شرفات بديعة، وزينها بالأثاث وبالرياش في تانيس ومنف وطيبة، ولم يشغله ذلك عن الاستعداد لدفع ما تتمخض به الأيام من الطوارئ الأجنبية التي تحدق بالبلاد من آن لآخر، خصوصا من البلاد الآسيوية، بل أعد لها ما استطاع من قوة. وفي سنة 681 قبل الميلاد تولى على مملكة الآشوريين ملك يدعى «آشور أخي الدين» وكان هذا جريئا إلى درجة التهور، فرأى نفوذ مصر في سوريا وفلسطين يتعاظم شأنه، وربما يكون خطرا يهدد كيان مملكة آشور فزحف في جند كثيف لغزو مصر، وبسط نفوذه عليها أو - على أقل تقدير - خض شوكتها، فتنجاب سحب الخطر عن نظره.
وما كادت جيوش الآشوريين تصل إلى شرق الدلتا حتى خرجت للقائها الجيوش المصرية بقيادة جلالة الملك طهراقة، وهناك اصطدم الفريقان، وجرت بينهما ملحمة دموية اشتد فيها الطعن والضرب. وقد أظهر المصريون إذ ذاك أقصى ما يستطاع من ضروب البطولة والاستخفاف بعزمات العدو، حتى تمكنوا بذلك من كبح جماح الآشوريين، وفطم مطامعهم في استعمار القطر المصري، إلا أن تلك الهزيمة لم تفت في ساعد العدو الذي ما لبث أن كر راجعا في سنة 670 قبل الميلاد، وباغت مصر بحرب مزق بها الجيوش المصرية شر ممزق، ودخل البلاد قسرا بحد السيف، ولما أطلت جيوش الآشوريين على مدينة منف أخلاها الملك طهراقة فارا إلى الوجه القبلي. ولما رجع الملك آشور أخي الدين نقش على صخور نهر الكلب بجوار رمسيس الثاني كل ما عمله بمصر وفلسطين، وبين للملأ انتصاراته الباهرة في كرته الجريئة على مصر، وصور نفسه في شكل رجل عظيم يقود أسيرين تدل صفاتهما على أنهما ملك الشام وطهراقة ملك إثيوبيا.
अज्ञात पृष्ठ