ولكن جعفر خليل هو الذي جاءنا بالخبر اليقين، كان أحب مجموعتنا إليه مذ فتح له بابا للزرق فأفضى إليه بسره. كان يذهب إلى أي بيت دعارة كأنه زبون، ولما يقضي وطره ويطالب بالنقود يهدد بإبلاغ الشرطة، فإذا استعانوا عليه بحامي البيت جندله، وما يلبث أن يفرض نفسه «حاميا» للبيت، ولم تمر فترة طويلة حتى شمل بحمايته جميع بيوت الدعارة في منطقة السكاكيني، بذلك تحسنت أحواله واستقرت ميزانيته وعرف النعيم، وكانت حياة خطرة مهددة، ولكنها كانت تناسبه كما كان يناسبها، وتدرج فيها في مدارج الرقي حتى وثب به نشاطه إلى بيوت الدعارة الفاخرة في وسط المدينة، وابتسم له الحظ فقدم خدمة (غرامية) لطبيب كبير، وابتسم له الحظ مرة أخرى عندما عين الطبيب عميدا لكلية الطب فكافأه بإلحاقه بوظيفة إدارية بمستشفى قصر العيني. هكذا وجد خليل زكي نفسه موظفا في مستشفى كبير، موظفا يخطر تحت رعاية العميد، مرتبه بسيط حقا ولكن أرباحه خيالية. ورجع يزورنا في المقهى وهو بادي النعمة فيطلب النارجيلة والشاي الأخضر وينظر إلينا من فوق كما يجدر بموظف يجالس تلاميذ. وقد سألت جعفر خليل مرة: وماذا عن المهنة الأخرى؟
فقال ضاحكا: الظاهر أنه لا فكرة لك عن أرباح المستشفى؟! - إذن قطع علاقته بالبيوت؟ - طبعا ... عدا المختار من البيوت الرفيعة ... الممتازة جدا ... ومن بعيد لبعيد ... وليؤدي خدمات نادرة للصفوة.
وكان على علاقة بقصاب غني من مدمني المخدرات فخطب منه كريمته. وكانت الوحيدة التي بقيت من ذرية الرجل بعد أن قتل أخواها في المظاهرات التي اجتاحت البلاد في أول عهد إسماعيل صدقي. وتزوج خليل من فتاة موعودة بميراث كبير عبارة عن أربع عمارات في شارع فاروق غير النقود السائلة، وعقب الزواج بعام واحد ضبط القصاب الغني متلبسا بتعاطي المخدر فقبض عليه وحكم عليه بالحبس عاما، ولكن صحته لم تحتمل ذلك فمات في مستشفى السجن، وانتقلت إدارة الأملاك إلى يد خليل زكي، وعندما ترامت إلينا تلك الأخبار لم يشك أحد منا في أن خليل هو الذي أوقع بحميه ليستولي على ثروته، وتسلطت علينا تلك الفكرة لحد الإيمان. قال عيد منصور فيما يشبه الحسد: صفقة تاريخية.
وقال جعفر خليل ضاحكا: عليه العوض في العمارات الأربع.
وقال رضا حمادة: مسكينة، سنراها متسولة في الطريق عما قريب!
وجاءت الحرب وذهبت ولم أكن ألقاه إلا في النادر، ومنذ اجتمعنا في مأتم المرحوم جعفر خليل عام 1950 لم أره، ولم يخطر ببالي حتى عام 1970، كنت جالسا بالتريانون في أوائل الخريف حين وقفت أمامي سيارة بويك سوداء، ورأيت وجها ينظر نحوي من نافذتها، وأقبل نحوي ضاحكا فسلمنا وجلس، رغم كبره بدا بجسمه القصير مدمج التكوين قوي البنيان، كما بدا شرس السحنة همجي المنظر فلم ترفعه بذلته الشركسكين إلا قليلا، وظل محتفظا بطربوشه ليخفي صلعة مشوهة بآثار خياطات جراح قديمة من مخلفات معاركه، تذاكرنا أخبار الصحاب ثم قال: لعلك لا تعلم بأنني أصبحت من أهل الإسكندرية؟ - حقا؟ - آخرة العنقود طالبة بالآداب لم تجد في القاهرة متسعا فقررت الإقامة في الإسكندرية، وابتعت فيلا في لوران، ستراها بنفسك!
فشكرته وسألته: ووظيفتك؟ - أصبت منذ عامين بذبحة صدرية فاعتزلت الخدمة. - سلامتك. - صحتي عال ولكني لا أحترم كثيرا الإرشادات الطبية.
وضحك حتى كشف عن أسنانه الملونة ثم قال: لي غير البنت التي حدثتك عنها ثلاثة مهندسين وطبيب!
فأبديت الإعجاب والاستحسان، فقال وهو يغرق في الضحك: عرفت كيف أكون أبا!
ثم بنبرة أسف: وددت لو جاءوا مثلي لا يهتمون إلا بأنفسهم ومستقبلهم، ولكنهم دوخوني بمناقشاتهم السياسية.
अज्ञात पृष्ठ