[مقدمة المؤلف]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد القديم، المستعان الكافي، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد خاتم النبيين، وعلى ذريته الطاهرين.
قد جرى ذكر فضائل أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، فذكرت أنه لا تذكر للمشايخ فضيلة، إلا وهي فيه، أو هو فيها أقدم من غيره، وله فضائل تفرد بها تزيد على مائة، فتعجب من ذلك قوم لا علم لهم بمحله، ففكرت فيه؛ فزاد ما عندى مما روي على مائتين، فلما ذكرت لهم هذا، قويت دواعيهم في مسألتي إملاء ذلك، ليكون عونا لهم عند مناظرة الخصوم، وتقربا به إلى الرسول (صلى الله عليه وآله)، وتقوي أملهم في شفاعتهم، وأنا قابل ذلك، مستعين بالله، ومستهد إياه، والشرط أن نذكر ما روي فيه من طريق الآحاد والتواتر، دون الاقتصار على أحدهما، ونقبل من الخصم أيضا ما يروي، مما تفرد به غيره وليس لعلي مثله، وإن كان من طريق الآحاد، فإن مكانه يتبين بهذا الجنس.
***
पृष्ठ 25
فصل «في بيان القول بالتفضيل»
اعلم أن الكلام في هذا الكتاب يقع في ثلاث مسائل:
أحدها أن يقال: من الأفضل فيما يحتاج الإمام إليه من الفضائل؟
والثاني: من الأفضل عند الله في الثواب؟
والثالث: من أجمع لخصال الفضل، في من روي لنا فضائلهم، في الصدر الأول؟
ونحن نزعم أنه (عليه السلام) الأفضل في الأبواب الثلاثة.
ثم هذه الفضائل تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
قسم: شائع في الصحابة، وله (عليه السلام) مزية فيها.
وقسم: يختص واحدا واحدا من الصحابة، وفيه مجموع ذلك، كما قال الصاحب رحمه الله (1):
पृष्ठ 27
تجمع فيه ما تفرق في الورى
فمن لم يعدده فاني معدد (1)
والثالث: ما تفرد به مما روي فيه، ولا مشارك له فيه البتة، وهو الغرض بالكتاب.
ونحن نبين كل ذلك على جهة الاختصار.
***
पृष्ठ 28
فصل «مما شاع في الجماعة من الخصال وله فيها مزية»
فمن ذلك الإسلام والسابقة، وقد علمنا أنه أسبق السابقين إلى الإسلام من الرجال، وفيه إجماع أهل البيت (عليهم السلام)، وإجماعهم حجة، وفيه قوله (صلى الله عليه وآله ) لأبي بريدة في حجة الوداع (1):
«ما لكم وعلي بن أبى طالب، علي مني وأنا منه، علي أعلمكم علما، وأقدمكم سلما».
وقال [(صلى الله عليه وآله)] في حديث خيبر:
«أنت أول من آمن بي، وأول من صلى معي».
وقال علي (عليه السلام) على منبر البصرة: «آمنت حين كفر الناس».
وقال في أبياته المشهورة:
سبقتكم إلى الإسلام طرا
غلاما ما بلغت أوان حلمي
पृष्ठ 29
وروى لنا ابن أبي زرعة القزويني (1)، وكان أعلم الناس بالحديث، أن أبا بكر قال: «يا لهفي على ساعة تقدمني فيها ابن أبي طالب، فلو سبقته لكان لي سابقة الإسلام».
والسبق في الإسلام غاية الفضل في الصحابة، فله هذه المزية، والمشايخ لا يشاركونه فيها.
وروينا أنه قال (صلى الله عليه وآله) له:
«لو وزن إيمان علي بإيمان أهل الأرض لترجح».
وأهل الحشو (2) تروي في أبي بكر مثل هذا، و[أن] العقل يمنع من أن يكون لعلي السبق عليه، وايمانه أرجح من إيمان علي، وعن هذا دفع أبو عثمان الجاحظ (3) إلى أن قال: «كان اسلامه إسلام الصبيان وعن تقليد، وإسلام أبي بكر عن بصيرة»!!
وهذا جهل، فإن عليا افتخر بإسلامه، وذكره النبي في مدحه، فلو كان ذلك تقليدا لما صح هذا.
पृष्ठ 30
وبعد، فلو دعاه الرسول وهو غير كامل العقل، لكان ذلك طعنا في نبوته، وذلك أن الكفار كانوا يقولون بدأ بإمرأته وبصبي من أهل بيته لا خبرة له، فكان يقدح ذلك في حاله! فعلمنا أنه دعاه وله من العقل ما يميز بين المعجز والحيلة، والنبى والمتنبئ، والمشرك والموحد، وهذا يوجب نقض العادة فيه في إكمال عقله على الصبا، وشابه المسيح عيسى (عليه السلام) في كمال العقل على الصغر، فهو كرامة له، ومعجز لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومعجز لعلي.
على أنا قد حققنا في علي أنه عاش- كما رواه الصادق (عليه السلام)- ستا وستين سنة، وروى الناس ثلاثا وستين سنة، فنأخذ بالأقل، وعاش النبي بعد الدعوة ثلاثة وعشرين سنة، وبقي علي بعده تسعا وعشرين سنة وستة أشهر، فهذه اثنتان وخمسون سنة وستة أشهر، يبقى إلى ثلاث وستين عشر سنين وستة أشهر، ومثله في هذا السن ليس بعجيب أن يكون متقدما في العلم، فإن في أولادنا من قد يكمل على هذه السن، والنساء يبلغن عليها، فكيف يجعل صغره طعنا؟
ولإسلامه فضيلة أخرى لا توجد في إسلام المشايخ، وهو أن اسلامه عن فطرة، وإسلامهم عن كفر، وما يكون عن الكفر لا يصلح للنبوة، وما يكون عن الفطرة يصلح لها، ولهذا قال (صلى الله عليه وآله) لعلي:
«إلا أنه لا نبي بعدي، ولو كان لكنته».
ومثل هذا لو روي في غيره، لكنا نعلم بالعقل أنه كذب موضوع، إذ كل منهم لم يؤمن إلا عن الكفر، ولا يصلح إيمانه للنبوة.
ولأيمانه خلة ثالثة تفرد بها، وهو أنه مقطوع على باطنه، معلوم أنه ولي الله، والقوم إسلامهم على الظاهر.
ولا يصح التعلق بقوله: «عشرة في الجنة»،
पृष्ठ 31
لأن ذلك إخبار عن الحال لا عن العاقبة عند شيوخنا (1)، فإن فيهم طلحة والزبير، وقد فسقا بخروجهما على أمير المؤمنين، ونكثهما بيعته، سواء قيل إنهما تابا أم لا.
وبعد، فلأن عثمان وعمر إنهزما يوم احد، وتركا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ونكثا بيعة الرضوان، وفي علي ذلك اليوم حديث ذي الفقار، و[هو] حديث «لا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذو الفقار» (2).
وفيه أن جبرئيل قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله):
هذا هو المواساة؟
فقال: «من أولى بها منه، وهو مني وأنا منه كهارون من موسى، اللهم اشدد أزري بعلي، كما شددت أزر موسى بهارون».
فكيف يقطع على باطن قوم كانت منهم هذه الامور؟
وقوله: «لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة» (3) فاخبار عن الحال، ورضى منهم ببيعتهم، وعلم ما في قلوبهم من الإخلاص له في الحال، وليس فيه أنهم يبقون على ذلك الرضى أبدا.
وله مزية اخرى في باب الإيمان، وهي إنه بقي بعدهم، وعمر طريق مكة، وأخرج بينبع مائة عين، واشترى ببعضها ألف نسمة فأعتقها، ووقف الباقي إلى يومنا هذا، وكان مع ذلك يصوم النهار، ويصلي في الليل والنهار ألف ركعة، وجاهد الناكثين والقاسطين والمارقين، وسن السير والأحكام، وبث العلم، ونشر الخطب والمواعظ، وكل ذلك مزايا لأيمانه على إيمان القوم، فهذا الاشتراك يفوقهم بست
पृष्ठ 32
خصال تفرد بها.
وهناك خلة اخرى للمشايخ يفضلون بها على من ليس في درجتهم، وهو السبق في الإسلام، فهم في معنى قوله: والسابقون السابقون أولئك المقربون (1) فلأبي بكر سبق، ولعثمان ولعمر، ثم أربعين من المسلمين، لكن هو أسبق السابقين، فقد شاركهم في السبق، وانفرد بكونه أسبق.
وهو أسبقهم في أشياء:
منها: السبق في الإسلام على ما مضى.
ومنها: السبق في الصلاة، على ما قال في خطبة البصرة على المنبر:
«أنا عبد الله، وأخو رسول الله، وأنا الصديق الأكبر، وأنا الفاروق الأعظم، لا يقوله غيري إلا كذاب، آمنت حين كفر الناس، وصليت قبل الناس ست سنين» (2).
فادعى لنفسه الأنفراد بأنه الصديق الأكبر، وأنه الفاروق الأعظم، وأنه صلى قبلهم ست سنين.
وفي هذا الحديث، أن أبا بكر وإن وصف بأنه «الصديق»، فعلي أكبر منه، وعمر وإن وصف بأنه «فاروق»، فعلي أعظم منه، وهو من باب المشترك.
وله مزية عليهم حتى تكون أربع صفات مشتركة: الإسلام، والسابقة، والصديق، والفاروق، بين أنه صلى قبلهم ست سنين.
وفي خطبة الأفتخار قال علي (عليه السلام) على المنبر:
«أنا المستثنى في قوله: إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه
पृष्ठ 33
الخير منوعا إلا المصلين (1).
قال: نزلت هذه الآية وليس على وجه الأرض من الرجال مصل غير رسول الله وغيرى» صلوات الله عليهما.
وأثبت (صلى الله عليه وآله) له السابقة في أشياء في وقعة خيبر وهو قوله:
«أنت أول من آمن بي، وأول من صلى معي، وأول من جاهد معي، وأول من تنشق عنه الأرض غدا معي، وأول من يدخل الجنة معي».
هذه؛ فذكر ست خصال هو فيها أول، الإيمان يتكرر، والصلاة تتكرر، وأربعة منها مشترك، فهذه تسع خصال هو فيها أول، وعاشرها أنه استخلفه الرسول (صلى الله عليه وآله) ليلة الغار في رد ودائع الناس.
وله السابقة والانفراد جميعا بالبيعة، وهي بيعة العشيرة (2)، [حين] جمع (صلى الله عليه وآله) أربعين رجلا، وطبخ لهم يد شاة وحمل قوصرة (3) تمر كما تكون بالحجاز صغار، وأطعمهم حتى شبعوا، وبقى من اللحم والتمر!
فقال أبو لهب لأبي طالب: لقد عظم سحر ابن أخيك! انظر كيف أطعمنا وأشبعنا من هذا اليسير من الطعام!
فضجر رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يقل شيئا، واستدعاهم من الغد، فعمل مثل ما عمل في اليوم الأول، وقال أبو لهب مثل قوله، حتى لما كان اليوم الثالث، قيل له امكث، حتى يظهر ما في نفسه، فسكت.
أفلح من كانت له قوصرة
يأكل منها كل يوم مرة
पृष्ठ 34
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إن الله أمرني بإنذار عشيرتي الأقربين وأنتم عشيرتي، ولو خوفتكم من فارس أو حبشة أو روم لتأهبتم، وها أنا نذير لكم بين يدي عذاب شديد؛ فمن منكم يبايعني على أن يكون أخي في الدنيا والآخرة، وله الخلافة من بعدي؟
فما تحرك أحد؛ فقام علي (عليه السلام)- وهو أصغرهم سنا- ومد يده.
فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): اجلس؛ فجلس.
فأعاد القول، ولم يقم سواه، فقال له: اجلس فجلس.
وقال ثالثا، فقام علي ومد يده، فمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) يده فبايعه.
فله الأخوة والخلافة، وهو قبل بيعة الرضوان.
وشهد الإيذاء (1) في شعب بني هاشم [وهو] معروف ومشهور، وكان لرسول الله (صلى الله عليه وآله) بيعة الجن، ولم يكن للإنس فيها نصيب، وبيعة الأنصار ولم يكن للمهاجرين فيها نصيب، وبيعة الرضوان، وكان هو من السابقين فيه، وبيعة الغدير (2) والعشيرة ولم تكن إلا له خاصة، وهو مما تفرد به مما له فيه السبق.
وثبت له السبق إلى البيعة قبل الجماعة، وله السابقة في الجهاد، على ما روي أنه (صلى الله عليه وآله) كان إذا خرج من بيته تبعه أحداث المشركين، يرمونه بالحجارة حتى أدموا كعبه وعرقوبيه، فكان علي (عليه السلام) يحن ويحمل عليهم، فينهزمون بين يديه كانهزام حمير الوحش عن الأسد، حتى أنزل الله فيه وفيهم: كأنهم حمر مستنفرة فرت
पृष्ठ 35
من قسورة (1)، يعني الأسد.
وفرض الله الهجرة على أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) حماة (2) له لعجزهم، وفرض على علي المبيت على فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليلة الغار، تحت ضلال السيوف، وبذل ولم يبال حتى أنزل الله فيه قوله: ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤف بالعباد (3).
قال ابن عباس: والله ما نزل هذا إلا في علي، حين بات على فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليلة الغار، باذلا لمهجته ولم يبال.
ولا خلاف أن أول مبارز في الإسلام يوم بدر، علي وحمزة وعبيدة بن الحارث، دون المشايخ، ولم يكن لهم براز في ذلك اليوم، فهو من السابقين في الجهاد، وأسبق السابقين، وله السبق على العالم.
وروى الناصر للحق (عليه السلام) أنه كان علي صاحب راية رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم احد، وقتل من بني طلحة ستة، أصحاب رايات الكفار، وهي أول راية نشرت في الإسلام، حتى قال علي (عليه السلام):
«أنا صاحب رايته في الدنيا، وصاحب رايته في الآخرة».
وقد كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله) أصحاب رايات، لكنه كان أسبق السابقين فيه، وكل تأخر عنه.
فهذه عشر خصال له السبق فيها، والأنفراد بالسبق، وكل هذه العشرة من باب الاشتراك، وله مزية السبق.
فأعرف مما شاع في أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن المشايخ الهجرة، وقد سبقه
पृष्ठ 36
جعفر وأصحابه إلى الهجرة، وخرج للحبشة، وللمشايخ الهجرة، وأبو بكر قد سبقه، لكن لعلي (عليه السلام) مزايا في هجرته عليه، وذلك أن الرسول (عليه السلام) أخرجه مع نفسه ليخدمه ويؤنسه، وترك عليا ليبيت على فراشه باذلا لمهجته، وكان بذل النفس أعظم من الإبقاء على النفس في الهرب إلى الغار، وكان الرسول (عليه السلام) معه يقوي قلبه، ولم يكن مع علي من يقوي قلبه، وأبو بكر لا يصيبه وجع، وعلي كان يرمى بالحجارة، وأبو بكر في الغار لا يراه الكفار، وعلي على الفراش يراه كل من أحب.
هذه أربع خصال له مزية على أبي بكر في الهجرة.
واستخلفه رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أشياء:
منها: رد ودائع الناس.
ومنها: حمل نساء رسول الله (صلى الله عليه وآله) خلفه بعد ثلاثة أيام، وفي نسائه عائشة بنت أبي بكر، فلعلي منة تحفظ ولده، ومن يفوز بحشاشته (1)، ليس كمن يحمي على حرمه غيره يصونها، فله المنة على أبي بكر في هجرته، وليس لأبي بكر عليه منة.
فهذه خمس في المزية له عليه، فاشتركا في الهجرة، وتقدم من تقدم بأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وتأخر من تأخر بأمره، وفي تأخيره هذه الفضائل والمزايا.
ومن المشترك من فضائل الصحابة العلم، وقد علمنا أنه (صلى الله عليه وآله) لما ذكر فضائل الصحابة قال في أبي بكر:
«أرحم أمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقرؤهم أبي، وأفرضهم زيد، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ، وأقضاهم علي» (2).
पृष्ठ 37
فما ذكر المشايخ بالعلم، وذكره بالقضاء الذي يشتمل على العلوم كلها، حتى تم فيه كونه أقضى.
وقال مرة: «أبي أقرؤكم وعلي أقضاكم».
وقال فيه: «أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد العلم فليأت الباب».
وقال: «أنا مدينة الحكمة وعلي بابها».
وقال: «علي باب عيبة علمي».
وقال له في قوله: إنما أنت منذر ولكل قوم هاد (1):
«أنا المنذر وأنت الهادي يا علي».
وقال: «إن وليتم عليا تجدوه هاديا مهديا، يسير بكم على المحجة البيضاء».
وقال: «علي أعلمكم علما، وأقدمكم سلما»
ولما أخرجه إلى اليمن ضرب على صدره وقال: «اللهم سدده وأهده إلى الحكمة».
فقال علي (عليه السلام): ما شككت في حكم بعد ذلك الكلام.
وقال فيه: «إذا اختلفتم في شيء بعدي فكونوا مع علي».
पृष्ठ 38
وقال مرة: «علي مع الحق والحق مع علي».
وهذه عشرة ألفاظ كل واحد منها يدل على كونه أعلم، وليس في المشايخ واحد منها، وقد علمنا أن العلوم انقسمت في الصحابة:
فمنهم: العلماء بالقراءات يعد منهم علي، وقراءته أحسن وأقرأ وأتم.
ومنهم: الفرضيون، وهو أشهرهم في الفرائض.
ومنهم: الفقهاء، وهم ستة، وعلي منهم وهو أفقههم، فإنه ما ظهر لأحد من فقهاء الصحابة من الفقه ما ظهر منه، خصوصا في سيره أهل البغي.
ومنهم: أصحاب الروايات، نيف وعشرون رجلا، وهو أكثرهم روايات وأتقنهم، وهو حجة، وغيره ليس بحجة ... (1)، الباطن فما يرويه، وغيره لم يركن.
وفي الصحابة الفصحاء، وعلي أفصحهم، والخطباء وهو أخطبهم، والشعراء وهو أحسنهم شعرا.
وفيهم من تكلم في العقليات ومسائل الكلام، ونقل عنهم، وهو أفضل بالعلوم العقلية.
وهو الذي أخذت عنه الإمامية، والزيدية، والمعتزلة أصول الدين، على اختلاف الطرق.
وهو الذي ناظر الملحد في مناقضات القرآن حتى أفحمه، وبين له.
وهو الذي ناظر الجاثليق، وأجاب عن مشكلات مسائله حتى أسلم.
وفي العلماء من يتكلم في علم المعاملة (2) على طريق الصوفية، وهم معترفون أنه الأصل في علومهم، وليس لغيره من هذا الباب إلا اليسير، حتى قال مشايخ الصوفية «لو تفرغ إلى إظهار ما علم من علومنا لأغنانا في هذا الباب، وهو الأصل
पृष्ठ 39
المعتمد لنا».
[وليس] لأحد من ... (1) والعبر والمواعظ ما له.
ومعلوم من أبي بكر: «أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني إذا قلت في القرآن برأيي»!
والمجتهد يلتزم في القرآن عند التعارض والتشابه برأيه، وأين يقع هذا الكلام من قوله (عليه السلام): «لو كسرت لي وسادة؛ لحكمت لأهل الزبور بزبورهم، ولأهل الإنجيل بإنجيلهم، ولأهل القرآن بقرآنهم، حتى يسمع من كل كتاب: هذا حكم الله في».
وقال [(عليه السلام)] (2): «والله ما نزلت آية في ليل ولا نهار، ولا سهل ولا جبل، ولا سفر ولا حضر، إلا عرفت متى نزلت، وعرفت ناسخها ومنسوخها، ومحكمها ومتشابهها، ومجملها ومفصلها، وما من أحد من قريش إلا نزلت فيه آية أو آيتان [إما بمدح] واما بذم».
فقام رجل فقال: يا أمير المؤمنين أنت رجل من قريش فما الذي نزل فيك؟
فقال: أما قرأت سورة هود: أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه (3)، كان الرسول (صلى الله عليه وآله) على بينة، وأنا تاليه (4) وشاهد منه.
ثم مشهور أنه (5) قال بعد قضايا في الجد والجدة: «ليتني سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن ميراثهما»!
أين يقع هذا من رجل يقول على [الفور] في المسألة المنبريه (6) صار ثمنها تسعا،
पृष्ठ 40
إذا كان للرجل إمرأتان وأبوان وابنتان، فللأبوين الثلث، وللإبنتين الثلثان، و[للمرأتان] عالت الفريضة، وكان لها ثلاثة من أربعة وعشرين ثمنها، فلما عالت إلى سبعة وعشرين صار ثمنها تسعا، فإن ثلاثة من سبعه وعشرين ويبقى أربعة وعشرون، للأبنتين ستة عشر، وثمانية للأبوين.
وسواء قيل إنه قال هذا على الاستفهام، أو على قولكم صار ثمنها تسعا أو على نفيه، أو بين كيف يجيء الحكم على مذهب من يقول بالعول، فإنه يحتاج إلى تبحر في علم الفرائض، حتى عرف الجواب والحساب والنسبة.
هذا، ومعلوم رجوع القوم إليه، وذكرنا رجوع عمر إليه في ثلاث وعشرين مسألة حتى قال: «لو لا علي لهلك عمر».
وقال: «لا معضلة في الدين لا يكون بجنبي ابن أبي طالب» (عليه السلام).
هذا، والعترة مجمعة على أنه كان أعلم من في الصحابة بأنواع علوم الشرع، [وما روي] في المشايخ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلم، مما يجري مجرى المدح لهم في باب العلم والعقل، يدل على كونه أعلم، لأنه كان يعد في [كتابه]، فكان يكتب وحيه ومسائله، ويسمع فتاويه ويسأله، ومن المشهور إنفاقه الدينار قبل مناجات رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلم، و[نقل أنه] فتح له ألف باب، تحت كل باب ألف باب.
وهذا قد استبعده بعض الجهال، ولم يعلم صورة الأمر، وهذا نحو أن يقول:
«الربا في كل [مكيل و] في أي موضع كان، وفي كل موزون» فيعرف الحكم في المكيلات التي لا أصل لها بالمدينة، وكذلك في الموزونات، وتطرد علة الربا، فيصير [أصلا] له في باب الربا.
وكذلك إذا قال: «كل من البيض ما دق أعلاه وغلظ أسفله» فيدخل فيه بيض كل طير، ويخرج منه بيض [بعض] كالحية وغيرها.
وكذلك إذا قال له: «يحرم كل ذي ناب من السباع ، وكل ذي مخلب من الطير،
पृष्ठ 41
ويحل الباقي» فهذا وما [شابهه] عقود الشريعة.
وهذا من الباب الذي تجمع فيه ما تفرق في علماء الصحابة، فتفرد في الاجتماع وإن شاركه غيره، وبهذا الفضل يتبين رجحانه على جميع علماء الصحابة، ونعلم أنه من معظم خصال الإمامة. فكان أفضل، والتقدم خطأ، فتقدمهم إذن خطأ.
ومن خصال الفضل في الصحابة، شرف النسب، وقد علمنا أن للكل شرف آدم، وكمال (1) نوح وإبراهيم وإسماعيل، وكنانة من ولد إسماعيل، وقريش من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، وكان (عليه السلام) هاشمي الطرفين، والمشايخ لم يكن لهم حظ في هاشم أصلا.
ومن الخصال المطلوبة في الإمامة الشجاعة، لافتقار ... (2) إليها، والثبات يوم الحرب، وقد علمنا أنه قتل يوم بدر سبعون رجلا من صناديد قريش، وليس للمشايخ قتيل [يومئذ].
ويوم احد قتل سبعة في المصاف من بني طلحة، سوى من قتلهم بعد الهزيمة.
ولا إشكال في هزيمة عمر وعثمان، إنما الإشكال في أبي بكر، هل ثبت إلى وقت الفرج، أو كان في المنهزمين عند شدة القتال؟
وقوم من الحشوية يدعون أن أبا بكر كان أعلم، لأنه قال يوم موت رسول الله:
«إن كنتم عبدتم محمدا فقد مات، وإن كنتم عبدتم رب محمد فهو لا يموت» وإن هذا يدل على غزارة علمه!
وليس الأمر كذلك، فما اشكل موته على عمر ولا على علي (عليه السلام)، [لأنه] حاضر حين جاد بنفسه، وهو الوصي في تجهيزه ودفنه.
पृष्ठ 42
وربما قالوا: خالفهم (1) في قتال أهل الردة، حتى رجعوا إلى [رأيه]، وكان الصواب فيه.
وقد روينا أنه رجع إلى علي فقال: إن نبي الله جمع بين الصلاة والزكاة، فلا تفرق بينهما!
فخرج ... (2) وقال: «لو منعوني عقالا مما أدوه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) لجاهدتهم عليه».
ولم يحسب هذا في شجاعته، وهو لم [يجاهد] وإنما أمر بالجهاد، فأين هذا من جهاد أمير المؤمنين علي (عليه السلام) يوم بدر واحد، ويوم الأحزاب، ويوم خيبر إلى غير ذلك؟
وكيف يقاس من لم يصب محجمة دم عن كافر في جهاد، ولا في الجاهلية أو اسلام، على من بارز الأقران والشجعان، وأباد كل مذكور في الحرب وصار ظهرا؟
ومن الخصال المطلوبة في الإمامة السخاء، ويقال إنه من الباب المشترك، فقد روى أهل الحديث أن أبا بكر أنفق على رسول الله أربعين ألفا، وأنه قال: «ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر»،
وقيل: إنه سئل عن أحب الناس إليه؟
قال: عائشة.
قيل: من الرجال؟
قال: أبوها!
قيل: ولم ذلك؟
पृष्ठ 43
قال: لأنه صدقني حين كذبني الناس، وواصلني حين قطعني الناس، وواساني حين، بخل الناس.
وقالوا: فيه نزل قوله: فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى (1)، وأنه نزل [فيه] قوله: لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل (2)، وهو الذي أنفق قبل الفتح.
[اقول]: إنا لا ننكر انفاقه على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وكان مال خديجة أكثر من ماله، ونفع ذلك للمسلمين عامة أكثر،
ومن منهم قال أربعين ألف دينار، ومن كان والده أجيرا (3) ... (4)» في التجارة عامل خديجة من المحال أن يجمع أربعين [ألف] دينار، فأما أربعون ألف درهم فهو أربعة آلاف دينار، وذلك كثير، وهو ممكن (5).
وله موقع في الدين، وثواب «من أعطى واتقى» عموم، و«من أنفق من قبل الفتح وقاتل» يقتضي من جمع بينهما، وعلى هو الذي جمع بين الإنفاق والقتال، ولو أخذنا بأحد المنفردين، فالمنفق بحشاشته أفضل من المنفق لماله، ومن جمع بينهما قبل الفتح هو أفضل ممن جمع بينهما بعد الفتح، [كما] أن إنفاق أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أكثر من ذلك، وأنه أنفق ... (6) دراهم، واحدا ليلا على المتجمل لكيلا يستحي منه في
पृष्ठ 44
الأخذ، وواحدا نهارا ليقتدى به في الإنفاق على السائل الذي لا يبالي باظهار الأخذ، وواحدا سرا لكيلا يدخله الرياء، والآخر علانية ليقتدى به، وفيه نزلت الآية، قوله: الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم (1)، فسمى كل درهم مالا، وبشره بالقبول، ووعد له بالجزاء.
والحديث عليهم مشهورة وحيا (2) أنه تصدق بخاتم من فضة في الركوع، فأنزل الله: إنما وليكم الله ورسوله (3) الآية، وأعطي الولاية، وورد النص بقبول الصدقة، وأنفق دينارا قبل مناجاة الرسول فنزلت الآية، حتى لم يقع فيه الشركة، ووقع العتاب لمن كف عن المسارة بقوله: فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم (4) [وكانت] ثلاثة صيعان من الطعام، أو في وفود (5) ثلاث ليال، فأنزل الله فيه ثلاثين آية، ونص على عصمته وسره ومراده، و[قبول] صدقته على ما نشرحه من بعد.
..... (6) أنه أعتق ألف نسمة من كسب يده، وعلمنا أنه أخرج مائة عين بينبع، وتصدق بها، وعلمنا أنه كان يأخذ الغنائم لنفسه وفرسه، ويأخذ سلب الكفار بقوله (عليه السلام): «من قتل [قتيلا] فله سلبه» (7)، وكان يأخذ الخمس من الغنيمة في أيام المشايخ، مما يقع بأيدي المؤمنين، من أموال الكفار، بسهم ذوي القربى، ثم جاهد بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) الناكثين والمارقين والقاسطين، وكل ذلك أنفق في [سبيل] الله، ولم
पृष्ठ 45