ثم ينبئ الله نبيه بما كان بين قوم نوح وبينه أثناء صنعه للفلك، فهم كلما مروا به سخروا منه، قد أوغلوا في الشك بل وثقوا بأنهم آمنون من عذاب الله وبطشه، وبأن نوحا يصنع فلكه عبثا أو إمعانا في تخويفهم من هول موهوم، ويرد نوح عليهم ساخرا أيضا متوعدا؛ لأنه واثق بما أنبأه به ربه:
ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون * فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم .
ثم أتى أمر الله وآن للظالمين من قوم نوح أن يعلموا حين لا ينفعهم العلم، بأن نوحا لم يكذب عليهم ولم ينذرهم عبثا؛ فقد فار التنور وأخذ الماء يغمر الأرض، وأمر الله نوحا أن يحمل في سفينته من كل زوجين اثنين وأن يحمل أهله إلا من كتبت عليه الشقوة منهم، وأن يحمل تلك العصبة القليلة التي آمنت معه:
حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل .
وهذا نوح يأمر الناجين من أهله وأصحابه أن يركبوا في السفينة، وهو يسمي الله على مجرى السفينة ومرساها:
وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم .
وهنا ينبغي أن نقف عند هذا الإعجاز الرائع المألوف كثيرا في القرآن، والذي يقتضي أن يحذف من القصة كل ما يمكن أن يستحضره السامع والقارئ من أحداثها؛ لأنه طبيعي لازم لما تلي من القصة؛ فهذا الماء قد غمر الأرض ولقي الظالمون من قوم نوح ما لقوا من الجهد وحاولوا كل محاولة ممكنة لينقذوا أنفسهم من الغرق فلم ينفع جهدهم ولم تغن عنهم محاولاتهم من الله شيئا؛ ذلك لأن الله إذا أراد بقوم سوءا فلا مرد له ولا سبيل إلى اتقائه، ولكن القرآن هنا يهمل هذا كله فلا يتحدث عن المغرقين ولا عن جهودهم ومحاولاتهم ولا عما لقوا من الألم في أنفسهم ولا عما أحسوا من الندم لإعراضهم عن نوح ودعوته. لا يتحدث الله عن هذا وإنما يستأنف الحديث عن السفينة فإذا هي تجري بأصحابها في موج كالجبال، وإذا نوح يفتقد ابنه فيراه مع الكافرين، وإذا ابنه قد حق عليه العذاب فهو لا يستجيب لأبيه، وإنما يزعم أنه سيأوي إلى جبل يعتصم به من الماء. ونوح يحاول أن يقنعه بألا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم. ولكن الموج يحول بين الابن وأبيه فيصير ابنه إلى الغرق مع المغرقين:
وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين * قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين .
كم من يوم ظل الماء غامرا للأرض؟! وكم من يوم جرت السفينة في هذه الأمواج المتلاطمة قبل أن تستقر على الجودي؟ هذه أشياء لا يتحدث الله بها في هذا الموضع من القصة، وإنما يتركها لفهم السامع والقارئ وتقديرهما. وفي هذا الإيجاز المعجز ما يصور هول القصة، وربما صور الهول بالإعراض عن وصفه تصويرا أروع وأشد من وصفه.
وانظر إلى فعلي الأمر هذين اللذين يوجه أحدهما إلى الأرض بأن تبتلع ماءها ووجه ثانيهما إلى السماء بأن تكف عن صب الماء. وإذا الماء يغيض وإذا الأمر كله قد قضي وإذا السفينة قد استقرت على الجودي وإذا نداء ببعد القوم الظالمين. فعلا أمر في أول الآية، ثم أنباء قصار أشد القصر موجزة أروع الإيجاز قاطعة لا معقب لها تلقى في أفعال بني أكثرها لما لم يسم فاعله.
अज्ञात पृष्ठ