Marāqī al-ʿIzza wa-Muqawwimāt al-Saʿāda
مراقي العزة ومقومات السعادة
प्रकाशक
دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع
संस्करण संख्या
الأولى
प्रकाशन वर्ष
١٤٤٣ هـ - ٢٠٢١ م
प्रकाशक स्थान
الدمام - السعودية
शैलियों
الإهداء
أهدي هذا الكتاب
لكل مسلم ينشد العزة، ويطلب السعادة في الدين والدنيا والآخرة.
لكل أب، ولكل أم، ولكل أسرة،
ولكل معلم، ولكل معلمة، ولكل إمام، ولكل خطيب،
ولكل داع إلى الله تعالى،
ولكل ناصح لله تعالى ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.
1 / 4
مقدمة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن أعظم نعم الله تعالى على العباد، بعد نعمة الخلق والإيجاد، نعمة بعثة محمد ﷺ، وإنزال القرآن الكريم؛ الذي فيه الهدى والنور، وبه الفلاح والنجاح، واستقامة أحوال العباد، وصلاح أمر دينهم ودنياهم وأخراهم؛ من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن اتبعه ودعا إليه هَدى إلى صراط مستقيم.
قال الله تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [إبراهيم: ١].
وقال الله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾ [الإسراء: ٩].
وقال تعالى: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [المائدة: ١٥، ١٦].
وعن أبي شريح الخزاعي ﵁ قال: خرج علينا رسول الله ﷺ، فقال: «أبشروا أبشروا، أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟»، قالوا: نعم، قال: «فإن هذا القرآن سبب طرفه بيد الله، وطرفه بأيديكم فتمسكوا به، فإنكم لن تضلوا ولن تهلكوا بعده أبدا» (^١).
_________
(^١) أخرجه الترمذي في فضائل القرآن (٢٩٠٦)، وابن أبي شيبة (٣٠٠٠٦) - واللفظ له- وابن حبان في «صحيحه» (١٢٢)، والطبراني في «المعجم الكبير» (٤٩١). وصححه الألباني في «الصحيحة» (٧١٣)، وقال الأرنؤوط: «إسناده حسن».
1 / 5
وقد سجلت في ثنايا تفسيري «عون الرحمن، في تفسير القرآن، وبيان ما فيه من الهدايات والفوائد والأحكام» أكثر من مئة وسبعين وقفة علمية تربوية، وجعلت مسك ختامه مئة وصية، وأربعين من الفوائد والفرائد، وحكم ومعان شعرية مختارة. وهي في مجملها عملية تطبيقية لمن رغب في الاهتداء والاستنارة بها بنفسه، أو توجيه أولاده، أو جماعة مسجده، أو طلابه، أو غيرهم.
ولأجل تقريبها وتسهيل تناولها وتوسيع الانتفاع بها والاستفادة منها، رأيت إفرادها في هذا الكتاب، وسميته: «مراقي العزة ومقومات السعادة».
وجعلت ترتيبها وفق ترتيبها في التفسير؛ تيمنًا بكتاب الله تعالى؛ وهي كما يلي:
١ وقفة في: وجوب حسن التعامل مع الناس كلهم.
٢ وقفتان في: مجمل القول بالنسخ.
٣ وقفات أربع في: الجنائز.
٤ وقفة في: وجوب حسن العشرة بين الزوجين.
٥ وقفات ست في: الصلاة.
٦ وقفة في: حل عقدة المؤامرة.
٧ وقفتان في: فضل العفو والصفح، والحلم، وكظم الغيظ.
٨ وقفة في: أعظم الأمانات: النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.
٩ وقفات ثلاث في: صلاة الجماعة.
١٠ وقفتان في: تقوى الله.
١١ وقفة في: خطر الغلو في الدين.
١٢ وقفتان في: نعمة اللباس، وأخذ الزينة للصلاة.
1 / 6
١٣ وقفات أربع في: الدعاء
١٤ وقفات أربع في: إصلاح ذات البين.
١٥ وقفات ست في: الفتن وخطرها على الدين، وعلى العباد والبلاد.
١٦ وقفات ست في: تربية الأولاد.
١٧ وقفات ثلاث في: الرؤيا وتأويلها.
١٨ وقفة في: احفظ الله يحفظك.
١٩ وقفات أربع عشرة في: وجوب شكر نعم الله ﷿.
٢٠ وقفات ثلاث في: تحريم كفر نعم الله ﷿.
٢١ وقفة في: أهل الجنة بين نزع الغل وإذهاب الحزن.
٢٢ وقفة في: فضل التواضع.
٢٣ وقفة في: مكمن السعادة والحياة الطيبة.
٢٤ وقفات ثلاث في: بر الوالدين.
٢٥ وقفة في: وجوب حفظ السمع والبصر والفؤاد.
٢٦ وقفات ثلاث في: الرقية الشرعية.
٢٧ وقفات أربع في: الصديق والأصدقاء.
٢٨ وقفات ست في: أهمية الوقت ووجوب المحافظة عليه وتنظيمه.
٢٩ وقفتان في: سلامة القلب، وانشراح الصدر.
٣٠ وقفات ثلاث في: اللغة العربية بين عقوق وجهل أبنائها وعجز علمائها.
٣١ وقفة في: الأخذ بالعزم والحزم في الأمور كلها.
٣٢ وقفتان في: أمانة المسؤولية في أعمال الأمة.
1 / 7
٣٣ وقفات خمس في: تدبر القرآن الكريم وتحريم هجره.
٣٤ وقفات ثلاث في: إنزال الناس منازلهم.
٣٥ وقفة في: شهادة الجوارح على العبد يوم القيامة، ووجوب الاحتراز منها.
٣٦ وقفات ست في: وجوب صلة الأرحام.
٣٧ وقفة في: حقوق المسلمين بعضهم على بعض.
٣٨ وقفات تسع في: تحريم العصبية القبلية وذمها.
٣٩ وقفات خمس في: فضيلة اللسان، وخطورته، ووجوب حفظه.
٤٠ وقفات ثلاث في: الكرم.
٤١ وقفة في: أهمية خطبة الجمعة، وعظم مسؤولية الخطيب.
٤٢ وقفات خمس في: التفاؤل.
٤٣ وقفات خمس في: حسن الخلق.
٤٤ وقفتان في: مشروعية الوقف.
٤٥ وقفة في: العدل والإنصاف من النفس.
٤٦ وقفة في: فضل عشر ذي الحجة، وفضل الأعمال الصالحة فيها، والأعمال التي تتأكد مشروعيتها فيها.
٤٧ وقفة في: التيمن.
٤٨ وقفة في: تأمل معاني سورة العصر.
٤٩ وقفة في: الاستعداد للقاء الله تعالى.
٥٠ وقفتان في: الحسد.
٥١ وقفة في: وسوسة الشيطان للإنسان على أنواع ومراتب.
٥٢ وقفة فيما يعتصم به الإنسان من الشيطان.
1 / 8
هذا، وأسأل الله العلي القدير، بمنه وجوده وكرمه، أن يكتب له القَبول، وأن يعم بنفعه، وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أبو إبراهيم
1 / 9
وقفة في: وجوب حسن التعامل مع الناس كلهم
قال الله تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: ٨٣]
اعتنى الإسلام بحسن التعامل مع الناس كلهم، وجعل الدين المعاملة:
المعاملة أولًا مع الخالق ﷿: بتقواه وإخلاص العبادة له ﷿.
ثم المعاملة ثانيًا مع الناس كلهم: بأداء حقوقهم، بدعوتهم إلى الإسلام، والإحسان إليهم، والبر بهم، والعدل معهم، والإصلاح بينهم، وكف الأذى عنهم، ونحو ذلك، من غير اعتبار لأجناسهم وألوانهم، وعرقياتهم وأديانهم، وغير ذلك.
قال تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: ٨٣]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ [النساء: ٥٨].
وقال تعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ [النساء: ١١٤]، وقال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة: ٨]، وقال تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ [النساء: ٩٢].
وقال رسول الله ﷺ: «ألا مَن قتل نفسًا معاهدًا له ذمةُ الله وذمةُ رسوله، فقد أخفَرَ بذمةِ الله» (^١).
وعن ابن عمرو ﵄ قال: قال رسول الله ﷺ: «مَن قتل معاهدًا لم يَرَحْ رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرةِ أربعين عامًا» (^٢).
_________
(^١) أخرجه الترمذي في الديات (١٤٠٣)، وابن ماجه في الديات (٢٦٨٧)، والحاكم (٢/ ١٢٧) من حديث أبي هريرة ﵁. وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح». وضعفه الألباني في «بلوغ المرام» ص (٢٦٠).
(^٢) أخرجه البخاري في الجزية والموادعة (٣١٦٦)، وابن ماجه في الديات (٢٦٨٦).
1 / 11
واستأذنت أسماء بنت أبي بكر ﵄ رسول الله ﷺ لما قدِمت عليها أمها، وهي مشركة، في عهد قريش، وهي راغبة في الوصل، هل تصلها؟ قال ﷺ لها: «نعم، صِلِي أمَّكِ» (^١).
وقال ﷺ في معاملة المماليك من المسلمين وغيرهم: «إخوانُكم خَوَلُكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخاه تحت يدِه فلْيُطْعِمْه مما يأكُل، ولْيُلْبِسْه مما يَلبَس، ولا تكلِّفوهم ما يَغلِبهم، فإن كلَّفتموهم فأعينوهم» (^٢).
وقال ﷺ: «للملوك طعامُه وكسوتُه، ولا يكلَّف من العملِ إلا ما يُطِيقُ» (^٣).
وقال ﷺ: «إذا أتى أحدُكم خادمُه بطعامه، فإن لم يُجْلِسْه معه، فليناولْه لقمةً أو لقمتين أو أُكْلةً أو أُكلتين» (^٤).
وقال ﷺ: «كفى بالمرءِ إثمًا أن يحبِس عمَّن يملِكُ قُوتَهم» (^٥).
وقد فاق الإسلام بما جاء به من العدل والرحمة والإحسان جميعَ الأديان والمِلَل والنِّحَل والمذاهب، والقوانين والنظم الأرضية والوضعية، وما يتبجح به أدعياء منظمات حقوق الإنسان وغيرهم.
فقد شمل الإسلام الناس كلهم بعدله ورحمته وإحسانه، حتى من غير المسلمين:
قال تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ
_________
(^١) أخرجه البخاري في الهبة للمشركين (٢٦٢٠)، ومسلم في الزكاة (١٠٠٣)، وأبو داود في الزكاة (١٦٦٨)، وأحمد ٦/ ٣٤٤ (٢٦٩١٥).
(^٢) أخرجه البخاري في الإيمان (٣٠)، ومسلم في الإيمان (١٦٦١)، وأبو داود في الأدب (٥١٥٨)، والترمذي في البر والصلة (١٩٤٥)، وابن ماجه في الأدب (٣٦٩٠)، وأحمد ٥/ ١٦١ (٢١٤٣٢) من حديث أبي ذر ﵁.
(^٣) أخرجه مسلم في الأيمان (١٦٦٢)، ومالك في الاستئذان بلاغًا (٢/ ٩٨٠)، وأحمد ٢/ ٢٤٧ (٧٣٦٤) من حديث أبي هريرة ﵁.
(^٤) أخرجه البخاري في العتق (٢٥٥٧)، ومسلم في الإيمان (١٦٦٣)، والترمذي في الأطعمة (١٨٥٣)، وابن ماجه في الأطعمة (٣٢٨٩، ٣٢٩٠) من حديث أبي هريرة ﵁.
(^٥) أخرجه مسلم في الزكاة (٩٩٦)، وأبو داود في الزكاة (١٦٩٢) من حديث عبد الله بن عمرو ﵄.
1 / 12
وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: ٨].
ولما قيل للنبي ﷺ: ادعُ على المشركين. قال: «إني لم أُبعَثْ لعَّانًا، وإنما بُعثتُ رحمةً» (^١)، ومِصداق هذا قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٧].
ودعا ﷺ لقومه، وهم يُوقِعون به وبأصحابه صنوف الأذى، فقال: «ربِّ اغفرْ لقومي فإنهم لا يعلمون» (^٢).
وزار ﷺ اليهودي الذي كان يخدمه لما مرض، فقعد عند رأسه، فقال له: «أَسلِمْ»، فنظر إلى أبيه، فقال له أبوه: أطعْ أبا القاسم ﷺ، فأسلم، فخرج النبي ﷺ وهو يقول: «الحمدُ الذي أنقذه منَ النار» (^٣).
وجلس الخليفة الراشد علي بن أبي طالب ﵁ يتحاكم مع اليهودي الذي وجد دِرعه عنده إلى القاضي شُرَيح، ولم يكن لديه بيِّنة، فقيل له: يحلف اليهودي، ويأخذ الدرع؟ فقال: هو ذاك. فلما رأى اليهودي أن خليفة المسلمين تحاكم معه إلى القضاء، اعترف بالدرع لعلي ﵁، وأعلن إسلامه (^٤).
وكان لعبد الله بن المبارك ﵀ جارٌ يهودي، فاحتاج اليهودي وأراد أن يبيع دارَه، فقيل له: بكم تبيعها؟ قال: بألفين. فقيل له: هي لا تساوي إلا ألفًا. فقال: صدقتُم، ولكن ألفٌ للدار، وألف لجوار عبد الله بن المبارك، فدعاه عبد الله وسأله: ما الذي دعاك لبيع دارك؟ قال: عليَّ دَين. فأعطاه ثمن الدار، وقال: لا تبعها (^٥).
وبهذا ضرب الإسلام بتشريعاته العظيمة، ومبادئه السمحة، وسلوك أتباعه، أروع الأمثلة في العدل والرحمة والإحسان؟
_________
(^١) أخرجه مسلم في البر والصلة (٢٥٩٩) من حديث أبي هريرة ﵁.
(^٢) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (٣٤٧٧)، وفي استتابة المرتدين (٦٩٢٩)، ومسلم في الجهاد والسير (١٧٩٢)، وابن ماجه في الفتن (٤٠٢٥)، وأحمد ١/ ٣٨٠ (٣٦١١) من حديث عبد الله بن مسعود ﵁.
(^٣) أخرجه البخاري في «الجنائز» (١٣٥٦)، وأبو داود في الجنائز (٣٠٩٥) من حديث أنس ﵁.
(^٤) «تاريخ الخلفاء» للسيوطي ص (١٨٤ - ١٨٥).
(^٥) انظر: «تذكرة أولي النهى» ٥/ ٢٧٢، و«موسوعة الأخلاق» ١/ ٣١٣.
1 / 13
قال ابن باز ﵀ في بيان المشروع في معاملة غير المسلمين: «إن من المشروع للمسلم بالنسبة إلى غير المسلم أمورًا متعددة، منها:
أولًا: الدعوة إلى الله، بأن يدعوه إلى الله، ويبين له حقيقة الإسلام، حيث أمكنه ذلك، وحيث كانت لديه البصيرة؛ لأن هذا هو أعظم الإحسان، وأهم الإحسان الذي يهديه المسلم إلى مواطنه، وإلى من اجتمع به من اليهود أو النصارى أو غيرهم من المشركين؛ لقول النبي ﷺ: «من دل على خيرٍ فله مثلُ أجر فاعلِه» رواه الإمام مسلم في صحيحه (^١)، وقوله ﵊ لعلي لما بعثه إلى خيبر، وأمره أن يدعو إلى الإسلام قال: «فوالله لأن يهديَ الله بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من حُمْر النَّعَم» متفق على صحته (^٢).
وقال ﵊: «من دعا إلى هُدًى، كان له من الأجر مثل أجور من تَبِعه، لا يَنقُصُ ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالةٍ، كان عليه من الإثمِ مثل آثام من تبِعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا» رواه مسلم في صحيحه (^٣).
فدعوته إلى الله وتبليغه الإسلام ونصيحته في ذلك من أهم المهمات، ومن أفضل القُربات.
ثانيًا: لا يجوز أن يظلمه في نفسٍ ولا في مالٍ ولا في عِرضٍ، إذا كان ذميًّا أو مستأمنًا أو معاهدًا، فإنه يؤدي إليه الحق، فلا يظلمه في ماله لا بالسرقة ولا بالخيانة ولا بالغش، ولا يظلمه في بدنه لا بضربٍ ولا بغيره؛ لأن كونه معاهدًا أو ذميًّا في البلد أو مستأمنًا يعصِمه.
ثالثًا: لا مانع من معاملته في البيع والشراء والتأجير ونحو ذلك، فقد صح عن رسول الله ﵊ أنه اشترى من الكفار عُباد الأوثان، واشترى من اليهود، وهذه معاملة، وقد توفي ﵊ ودرعه مرهونة عند يهودي في طعامٍ اشتراه لأهله.
_________
(^١) أخرجه مسلم في الإمارة (١٨٩٣)، وأبو داود في الأدب (٥١٢٩)، والترمذي في الموضع السابق (٢٦٧١)، وأحمد ٤/ ١٢٠ (١٧٠٨٤) من حديث أبي مسعود الأنصاري ﵁.
(^٢) أخرجه البخاري في أصحاب النبي (٢٩٤٢، ٣٠٧١)، ومسلم في فضائل الصحابة (٢٤٠٦)، وأبو داود في العلم (٣٦٦١) من حديث سهل بن سعد ﵁.
(^٣) أخرجه مسلم في العلم (٢٦٧٤)، وأبو داود في السنة (٤٦٠٩)، والترمذي في العلم (٢٦٧٤)، وابن ماجه في المقدمة (٢٠٦) من حديث أبي هريرة ﵁.
1 / 14
رابعًا: في السلام، لا يبدأْه بالسلام؛ لقول النبي ﷺ: «لا تَبدَؤُوا اليهودَ ولا النصارى بالسلام» أخرجه مسلم في صحيحه (^١).
وقال: إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: «وعليكم»؛ فالمسلم لا يبدأ الكافر بالسلام، ولكن يرد عليه بقوله: «وعليكم»؛ لقول النبي ﵊: «إذا سلَّم عليكم أهلُ الكتابِ فقولوا: وعليكم»؛ متفَق على صحته (^٢).
هذا من الحقوق المتعلقة بين المسلم والكافر، ومن ذلك أيضًا: حسن الجوار إذا كان جارًا تحسن إليه ولا تؤذيه في جواره، وتتصدق عليه إذا كان فقيرًا؛ تُهدِي إليه، وتنصح له فيما ينفعه؛ لأن هذا مما يسبب رغبته في الإسلام ودخوله فيه، ولأن الجار له حق، قال النبي ﷺ: «ما زال جبريلُ يُوصيني بالجارِ حتى ظننتُ أنه سيُوَرِّثُهُ» متفق على صحته (^٣).
وإذا كان الجار كافرًا كان له حق الجوار، وإذا كان قريبًا وهو كافر صار له حقان: حق الجوار وحق القرابة.
ومن المشروع للمسلم أن يتصدق على جاره الكافر وغيره من الكفار غير المحاربين من غير الزكاة؛ لقول الله تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: ٨]، وللحديث الصحيح عن أسماء بنت أبي بكر ﵂: أن أمها وفدت عليها بالمدينة في صُلح الحُديبيَة، وهي مشركةٌ تريد المساعدة، فاستأذنت أسماء النبي ﷺ في ذلك، هل تصلها؟ فقال: «صليها».
_________
(^١) أخرجه مسلم في السلام (٢١٦٧)، وأبو داود في الأدب (٥٢٠٥)، والترمذي في السير (١٦٠٢) من حديث أبي هريرة ﵁.
(^٢) أخرجه البخاري في الاستئذان (٦٢٥٨)، ومسلم في السلام (٢١٦٣)، وأحمد ٣/ ٩٩ (١١٩٤٨) من حديث أنس ﵁.
(^٣) أخرجه البخاري في الأدب (٦٠١٤)، ومسلم في البر والصلة (٢٦٢٤)، وأبو داود في الأدب (٥١٥١)، والترمذي في البر والصلة (١٩٤٢)، وابن ماجه في الأدب (٣٦٧٣) من حديث عائشة ﵂. وأخرجه البخاري في الموضع السابق (٦٠١٥) من حديث عبد الله بن عمر ﵄. وأخرجه الترمذي في الموضع السابق (١٩٤٣) من حديث عبد الله بن عمرو ﵄.
1 / 15
أما الزكاة: فلا مانع من دفعها للمؤلَّفة قلوبُهم من الكفار؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ﴾ الآية [التوبة: ٦٠].
أما مشاركة الكفار في احتفالاتهم بأعيادهم، فليس للمسلم أن يشاركهم في ذلك» (^١).
تذييل: في وجوب الإحسان إلى الحيوان:
ولم يقف الإسلام في إيجاب حسن المعاملة بين الناس فقط، بل أوجب حسن المعاملة مع الحيوانات والبهائم، والرفق بها، وحلبها يوم وِردِها، وإحسان ذبحها، وتأمين أكلها وشربها، وعدم تحميلها ما لا تُطيق، وغير ذلك.
عن أبي هريرة ﵁ أن رسول الله ﷺ قال في الإبل: «ومن حقِّها حَلبُها يوم وِردها» (^٢).
وعن شدَّاد بن أوسٍ ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «إذا قتلتم فأحسِنوا القِتلةَ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة، ولْيُحِدَّ أحدكم شَفرتَه، ولْيُرِحْ ذبيحتَه» (^٣).
وعن أبي هريرة ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: «بينما رجل يمشي بطريقٍ اشتد عليه العطش، فوجد بئرًا فنزل فيها فشرِب، ثم خرج، فإذا كلب يلهَث يأكل الثَّرَى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلبَ من العطشِ مثل الذي كان بَلَغَ مني. فنزل البئر فملأ خُفَّه ماءً، ثم أمسكه بفيه حتى رَقِيَ، فسقَى الكلب، فشكر الله له، فغفر له». قالوا: يا رسولَ الله، وإن لنا في هذه البهائم لأجرًا؟ فقال ﷺ: «في كل كبِدٍ رَطبةٍ أجرٌ» (^٤).
وعن ابن عمر ﵄ أن رسول الله ﷺ قال: «عُذبت امرأة في هِرةٍ سجنتها حتى ماتتْ، فدخلتْ فيها النارَ، لا هي أطعمتها وسَقَتْها، إذ هي حَبَسَتْها، ولا هي تركتها تأكُلُ من
_________
(^١) «مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز» ٦/ ٣٦٤.
(^٢) أخرجه البخاري في الزكاة (١٤٠٢)، ومسلم في الزكاة (٩٨٧)، وأبو داود في الزكاة (١٦٥٩)، والنسائي في الزكاة (٢٤٤٨) من حديث أبي هريرة ﵁.
(^٣) أخرجه مسلم في الصيد والذبائح (١٩٥٥)، وأبو داود في الضحايا (٢٨١٥)، والنسائي في الضحايا (٤٤٠٥)، والترمذي في الديات (١٤٠٩)، وابن ماجه في الذبائح (٣١٧٠).
(^٤) أخرجه مالك في اللباس (٢/ ٩٢٩)، والبخاري في المساقاة (٢٣٦٣)، ومسلم في السلام (٢٢٤٤)، وأبو داود في الجهاد (٢٥٥٠).
1 / 16
خَشاشِ الأرض» (^١).
وعن عبد الله بن جعفر ﵁: أن جملًا شكا إلى النبي ﷺ ما يَلقَى من صاحبه، فقال النبي ﷺ: «إنه شكا إلي أنك تُجيعُه وتُدئِبُه» (^٢).
_________
(^١) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (٣٤٨٢)، ومسلم في السلام (٢٢٤٢) من حديث ابن عمر ﵄.
(^٢) أخرجه أبو داود في الجهاد (٢٥٤٩)، وأحمد ١/ ٢٠٥ (١٧٥٤)، وصححه الألباني في «صحيح أبي داود» (٢٢٩٧).
1 / 17
وقفتان في: مجمل القول في النَّسْخ
قال الله تعالى: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾ [البقرة: ١٠٦]
الوقفة الأولى في:
بيان مجمل القول في معنى النسخ في اصطلاح المتقدِّمين والمتأخِّرين
معنى النسخ في اللغة: الرفع والإزالة؛ يقال: نَسَخَتِ الشمسُ الظلَّ؛ أي: أزالتْه.
أ) معنى النسخ في اصطلاح المتقدمين:
توسع السلف ﵃ من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم في مدلول النسخ، فكما يطلقونه على معناه المعروف عند الأصوليين وعند المتأخرين، فقد كانوا يطلقونه أيضًا على: تخصيص العام، وتقييد المطلَق، وتفصيل المجمَل، وإيضاح المبهَم، وعلى الاستثناء والشرط والصفة.
ويطلقونه على رفع البراءة الأصلية، وعلى رفع ما كان عليه أهل الكتاب، وعلى ما جاء في نسخة الآية؛ أي: في موضوعها، ونحو ذلك.
كما يطلقونه على آيات يمكن العمل بكلٍّ منها في وقته المناسب، كآيات العفو والصفح والإعراض عن المشركين وأهل الكتاب ومجادلتهم بالتي هي أحسن، ونحو ذلك. مع آيات القتال عامة، وهي لا تعارض بينها، فكلٌّ منها موقتة بمناسبتها، فتطبق الأمةُ ما قَدَرَت عليه منها حسب مراحل قوتها وضعفها، فتطبق الأمر بالقتال حال قوتها، وتطبق الأمر بالعفو حال ضعفها، وهكذا (^١).
ب) معنى النسخ في اصطلاح الأصوليين والمتأخرين:
عرَّف الأصوليون وغيرهم من المتأخرين النسخَ في الاصطلاح بتعاريفَ كثيرةٍ، وقفتُ على قريبٍ من عشرين منها.
_________
(^١) انظر «مجموع الفتاوى» لابن تيمية ١٤/ ١٠١، و«إعلام الموقعين» ١/ ٣٥، و«البرهان، في علوم القرآن» ٢/ ٤٢ - ٤٣، و«الموافقات» للشاطبي ٣/ ١٠٧ - ١١٧، و«مناهل العرفان» للزرقاني ٢/ ١٥٠.
1 / 18
أصحها وأجمعها وأمنعها ما ذكره فضيلة الشيخ: محمد بن صالح العثيمين ﵀ في كتابه «الأصول، من علم الأصول» (^١)، وهو: «رفعُ حكمِ دليلٍ شرعيٍّ أو لفظِه بدليلٍ من الكتابِ والسنَّةِ».
الوقفة الثانية في:
مجمل القول في قضايا ودعاوى النسخ في القرآن الكريم
كثُرت دعاوى النسخ في القرآن الكريم بسبب توسع السلف والمتقدمين في إطلاق مدلول النسخ- كما سبق بيانه- حتى بلغت قريبًا من ثلاثمئة دعوى.
والحقيقة أن القضايا التي اشتهر فيها القول بالنسخ وَفق المعنى الاصطلاحي الصحيح للنسخ، لا تتجاوز إحدى عشرة قضية، يمكن تقسيمها على النحو الآتي:
أولًا: القضايا التي تَرَجح أو صح القول فيها بالنسخ:
وهي خمس قضايا، وهي كما يلي:
١ قوله تعالى في سورة البقرة: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الآية: ١٨٤].
فكان المسلم مخيَّرًا في أول فرض الصيام بين الصيام أو الإطعام، فنسخ هذا التخيير بقوله تعالى بعد هذه الآية: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [الآية: ١٨٥] (^٢).
٢ مفهوم قوله تعالى في سورة النساء: ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ [الآية: ٤٣].
فمفهوم هذه الآية إباحة السكر في غير وقت الصلاة، وقد نُسخ هذا المفهوم بتحريم السكر مطلقًا في قوله تعالى في سورة المائدة: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ
_________
(^١) ص ٣٥.
(^٢) انظر: «الناسخ والمنسوخ» للنحاس بتحقيقنا ١/ ٥٠٢.
1 / 19
وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ [الآيتين: ٩٠ - ٩١] (^١).
٣ قوله تعالى في سورة الأنفال: ﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [الآية: ٦٥].
ففي هذه الآية كُلِّف الواحد من المؤمنين في المعركة بمصابرة عشرة من الكفار، ثم نُسخ بمصابرة المؤمن للاثنين من الكفار بقوله تعالى في الآية بعدها: ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الآية: ٦٦] (^٢).
٤ قوله تعالى في سورة المجادلة: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً﴾ [الآية: ١٢].
نُسخت هذه الآية بقوله تعالى في الآية بعدها: ﴿أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ [الآية: ١٣].
فأوجب الله ﷿ على المؤمنين في الآية الأولى تقديم الصدقة بين يديْ مناجاة الرسول ﷺ تخفيفًا عليه، ثم نسخها بالآية الثانية؛ تخفيفًا عليهم (^٣).
٥ قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ [المزمل: ١ - ٤].
أوجب الله ﷿ في هذه الآية قيامَ الليل، فقام النبي ﷺ وأصحابه حولًا كاملًا حتى انتفخت أقدامهم، ثم نُسخ وجوب ذلك بقوله تعالى في آخر السورة: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ﴾ [المزمل: ٢٠] (^٤)، وبقِي قيام الليل بعد ذلك مندوبًا (^٥).
_________
(^١) انظر المصدر السابق ٢/ ٢١٢.
(^٢) انظر المصدر السابق ٢/ ٣٨٨.
(^٣) انظر المصدر السابق ٣/ ٥٥.
(^٤) أخرجه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها (٧٤٦)، وأبو داود في قيام الليل (١٣٤٢)، والنسائي في قيام الليل وتطوع النهار (١٦٠١)، وأحمد ٦/ ٥٣ (٢٤٢٦٩) من حديث عائشة ﵂.
(^٥) انظر: «الناسخ والمنسوخ» للنحاس بتحقيقنا ٣/ ١٢٩.
1 / 20
فهذه القضايا الخمس النسخ فيها ظاهرٌ ولله الحمد، ولا إشكال في فهم ذلك، ولا احتمال فيها لغير النسخ.
ثانيًا: القضايا التي تَرَجح أو صح القول فيها بالإحكام، وعدم النسخ، وهي ست قضايا، وهي كما يلي:
١ قوله تعالى في سورة البقرة: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ [الآية: ١٨٠].
ذهب أكثر السلف وأهل العلم بعدهم إلى أن هذه الآية منسوخة بآيات المواريث، وحكى بعضهم الإجماع على ذلك.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن هذه الآية محكمة، خصصتها آيات المواريث بمن لا يرث من الوالدين لمانع من موانع الإرث، وهي: الرق، والقتل، واختلاف الدين، وبمن لا يرث من الأقربين؛ لكونه محجوبًا، وهذا هو الراجح (^١).
٢ قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ [البقرة: ٢١٧].
ذهب كثير من السف وأهل العلم بعدهم إلى أن هذه الآية منسوخة بآية السيف، وهي قوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥]، وبغيرها من آيات الأمر بالقتال.
وذهب بعضهم إلى أن الآية محكمة، وأن القتال في الأشهر الحرم لا يجوز، ما لم يكن هناك اعتداء من الكفار؛ لأنه لا تنافي بينها وبين آية السيف وآيات الأمر بالقتال؛ لأن آية السيف وآيات القتال عامة بجواز قتال المشركين في جميع الأمكنة والأزمنة، وهذه الآية خاصة بالمنع من القتال في الأشهر الحرم، ولا تعارض بين خاص وعام. وهذا هو الراجح، وإليه ذهب بعض المحققين (^٢).
٣ قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ [البقرة: ٢٤٠].
_________
(^١) انظر المصدر السابق ١/ ٤٨٦.
(^٢) انظر المصدر السابق ١/ ٥٣٩.
1 / 21
فذهب أكثر العلم إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى قبلها: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ [الآية: ٢٣٤].
وذهب بعض أهل العلم إلى أن الآيتين محكمتان، فالآية الأولى في وجوب التربص أربعة وعشرًا على وجه التحتيم على المرأة، والآية الثانية وصية لأهل الميت أن يبقوا زوجة ميتهم حولًا كاملًا؛ جبرًا لخاطرها، وبرًّا بميتهم، وهذا هو الراجح؛ لأنه إذا استقام عمل الآية على هذا المعنى فلا مُوجب للقول بنسخها بالآية التي قبلها (^١).
٤ قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ [البقرة: ٢٨٤].
جاء في بعض الآثار أن هذه الآية نُسخت بقوله تعالى بعدها: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ [البقرة: ٢٨٦].
والصحيح أن الآيتين محكَمتان، وأن الآية الثانية لم تنسخ الآية الأولى، وإنما نسخت وأزالت ما وقع في نفوس بعض الصحابة من فهمهم أن في الآية الأولى التكليف بما لا يطاق، والمعاقبة على ما في أنفسهم، وهذا لم تدل عليه الآية، وإنما دلت فقط على المحاسبة على ذلك دون المعاقبة؛ ولهذا لا تنافيَ بينها وبين الآية الثانية يُوجِب القولَ بالنسخ.
قال ابن تيميَّة (^٢): «وكذلك ينسخ الله ما وقع في نفوس من فهم المعنى، وإن كانت الآية لم تدل عليه، لكنه مُحتمل، وهذه الآية من هذا الباب، فإن قوله: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ الآيةَ، إنما يدل على أن الله يحاسب على ما في النفوس، لا على أنه يعاقب على كل ما في النفوس» (^٣).
٥ قوله تعالى في سورة النساء: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (١٥) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ [الآيتين: ١٥ - ١٦].
ذهب أكثر أهل العلم- بل حكى بعضهم الإجماعَ- على نسخ هاتين الآيتين بالحدود، مع اختلافهم بالناسخ لهما.
_________
(^١) انظر المصدر السابق ٢/ ٨٩.
(^٢) انظر: «مجموع الفتاوى» ١٤/ ١٠١.
(^٣) انظر: «الناسخ والمنسوخ» بتحقيقنا ٢/ ١٢٤.
1 / 22
وعند التأمل في هاتين الآيتين نجد الأولى منهما مُغيَّاةً بغايةٍ ينتهي حكمُها عند حلول تلك الغاية، وهي قوله: ﴿أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾، وقد جاء السبيل بوجوب رجم المحصن، وجلد غير المحصن مئة جلدة، وتغريب عام، وهذا لا يسمَّى نسخًا على المعنى الصحيح للنسخ.
ونجد الآية الثانية فيها الأمر بأذاهما، وما شرعه الله تعالى من رجم المحصَن، وجلد غير المحصن وتغريبه نوع من الأذى، فهو بيان للآية، والبيان لا يُعد نسخًا.
وهذا هو الراجح، فالآيتان محكَمتان (^١).
٦ قوله تعالى في سورة النساء: ﴿وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ﴾ [الآية: ٣٣].
أي: والذين تعاهدتم وتحالفتم وإياهم بالأيمان والمواثيق المؤكدة المغلظة، وكان هذا في الجاهلية، الرجل يعاقد الرجل أيهما مات ورثه الآخر، وكانوا يتوارثون بالحلف.
وقوله: ﴿فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ﴾ قال كثير من المفسرين: من الميراث.
قالوا: ونسخ هذا بقوله تعالى: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الأنفال: ٧٥].
وقال بعضهم: ﴿فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ﴾ من النصرة والمعونة، والنصيحة والرأي، والعقل، دون الميراث.
فالآية محكمة غير منسوخة؛ لأنه لا تعارض بينها وبين آية المواريث، وهذا هو الراجح (^٢).
يضاف إلى هذا أن الإسلام قد أبطل الحِلف، كما جاء في حديث جُبير بن مُطعِم ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: «لا حِلفَ في الإسلام، وأيما حلفٍ كان في الجاهليةِ فإن الإسلام لم يَزِدْهُ إلا شدةً» (^٣).
وبهذا يتبين أن الآيات التي نُسخت من القرآن الكريم لا تتجاوز خمس آياتٍ فقط، وما عداها مما قيل بنسخه فهو محكَم غير منسوخ، ولله الحمد.
_________
(^١) انظر المصدر السابق ٢/ ١٦٨ - ١٦٩.
(^٢) انظر المصدر السابق ٢/ ٢٠٦.
(^٣) أخرجه مسلم في فضائل الصحابة (٢٥٣٠)، وأبو داود في الفرائض (٢٩٢٥)، وأحمد ٤/ ٨٣ (١٦٧٦١).
1 / 23
وقفات أربع في: الجنائز
قال الله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (١٥٦)﴾ [البقرة: ١٥٥، ١٥٦]
الوقفة الأولى في:
ما ينبغي للمؤمن مراعاتُه عند المصيبة:
قال الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (١٥٤) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (١٥٦) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧)﴾.
لقد اشتملت هذه الآيات على توطين النفوس على المصائب قبل وقوعها، وبيان ما تقابل به إذا وقعت، وما يقال عند ذلك، وما يعين على الصبر، وما للصابرين من الأجر، وبهذا يتبين- ولله الحمد- الفرق بين المؤمن الذي يثق بوعد الله ورحمته به، ويحتسب مصابه، وبين غيره، وخلاصة القول أنه ينبغي للمؤمن عند المصيبة مراعاة ما يأتي:
أولًا: الاستعانة بالصبر والصلاة والتسليم والرضا بقضاء الله وقدره، وأن يقارن ما أخذ الله منه بما أعطاه من النعم التي لا تحصى؛ كما قال ﷺ لما أرسلت له إحدى بناته أن ابنًا لها في الموت قال ﷺ: «ارجع إليها فأخبرها أن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجلٍ مسمًّى، فمُرْها فلتصبر ولتحتسب» (^١).
وأن يقول: «﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها» (^٢)،
_________
(^١) أخرجه البخاري في التوحيد (٧٣٧٧)، ومسلم في الجنائز (٩٢٣) من حديث أسامة بن زيد ﵄.
(^٢) أخرجه مسلم في الجنائز، ما يقال عند المصيبة (٩١٨/ ٤).
1 / 24