(الثالث): العالم فان العلم للانسان عرضى وله تعلق بالغير وهو المعلوم والبياض عرض غير متعلق بالغير فهذا هو الفارق ولا يجوز إثبات عرض فى ذات الواجب متعلقا كان أو لم يكن لما سبق .
(الرابع): الجواد وهذا يرجع إلى إضافة الذات إلى فعل صدر منه وهذا مما يجوز إثباته للأول ويجوزكثرة الاضافات فيه بوجوه مختلفة إلى الأفعال الصادرة منه وهذا لا يوجب كثرة فى الذات فانه لا يرجع إلى وصف فى الذات فان تغير الاضافة لا يوجب تغير الذات وهذا ككونك على يمين إنسان فانه وصف لك إضافى اليه ولكن لو تحول ذلك الانسان الى يسارك كان التغير فيه بالحركة وأما أنت فلا تتغيرذاتك به فلا بأس بكثرة هذا الجنس من الصفات. (الخامس): الفقير وهو اسم لصفة سلب فان معناه عدم المال فيتوهم من حيث اللفظ أنه وصف إثبات وهذا أيضا لا يبعد أن يكون مسوغا فى حق الأول إذ سلب منه أشياء كثيرة ويتولد من وصفى الاضافة والسلب أسامى كثيرة لا توجب كثرة فى ذاته فانه إذا قيل واحد فمعناه سلب الشريك والنظير وسلب الانقسام* وإذا قيل قديم فمعناه سلب البداية عن وجوده* وإذا قيل جواد وكريم ورحيم فمعناه إضافته الى أفعال صدرت منه واذا قيل هو مبدأ الكل فمعناه الاضافة أيضا فهذا هو المقدمة.
(أما الدعاوى): فأولها أن المبدأ الأول حى فان ما يعلم ذاته فهو حى والأول يعلم ذاته فهو إذن عالم وحى* وبرهان كونه عالما بذاته أن تعرف معنى قولنا إن الشىء عالم ما هو وإن معنى قولنا أنه علم ومعلوم ما هو وسيأتى فى كتاب النفس من الطبيعيات أن النفس منا تشعر بنفسها وبغيرها وتعلمه ومعنى كونه عالما أنه موجود برىء من المادة ومعنى كون الشىء معقولا ومعلوما أنه مجرد عن المادة فمهما فرض حلول مجرد فى برىء كان الحال علما وكان المحل عالما إذ لا معنى للعلم إلا انطباع صورة مجردة من المواد فى ذات هى بريئة عن المواد فيكون المنطبع علما والمنطبع فيه عالما ولا معنى للعلم إلا هذا فمهما وجد هذا صدق اسم العلم والعالم ومهما انتفى لا يصدق والمراد بالبرىء والمجرد واحد ولكن خصصنا المجرد بالمعلوم والبرىء بالعالم حتى لا يلتبس فى ترديدات الكلام ثم الانسان إنما علم بنفسه لأن نفسه مجرد وهو ليس غائبا عن نفسه حتى يحتاج إلى حصول مثاله وصورته فيه ليعلمه بل نفسه حاضر لنفسه وذاته غير غائب عن ذاته فكان عالما بنفسه* وقد سبق أن واجب الوجود برىء عن المواد براءة أشد من براءة النفس الانسانية لأن النفس تتعلق بالمادة تعلق الفعل فيها وذات الأول كما سنبين منقطع العلائق عن المواد فذاته حاضر فى ذاته ويكون بالضرورة عالما بذاته لأن ذاته المجردة غير غائبة عن ذاته البرئية والعلم عبارة عن مثل هذه الحالة فقط.
(الدعوى الثانية): إن علمه بذاته ليس زائدا على ذاته حتى يوجب فيه كثرة بل هو ذاته* وبيانه بأن نقدم عليه مقدمة وهى إن كل ما يعرفه الانسان إما أن يكون معلوما له بمشاهدته فى نفسه بحس ظاهر أو بحس باطن وإما أن لا يكون معلوما ولا سبيل إلى إعلامه إلا بالمقايسة إلى شىء مما ثبت فى مشاهدته فى نفسه فما لم يشاهد من نفسه له نظير بوجه ما لم يمكن تعريفه فاذا ثبت هذا فنقول لا يعرف الانسان هذا فى حق الاله إلا بمقايسة إلى نفسه فانه يعلم نفسه فعلومه غيره أو هو عينه فان كان غيره فهو إذا لا يعلم نفسه بل علم غيره وإن كان معلومه هو عينه فالعالم هو نفسه والمعلوم هو نفسه فقد اتحد العالم والمعلوم فنقيم الدليل على إن العلم هو المعلوم أيضا حتى إذا جعلنا المعلوم أصلا وبينا إن العلم هو عين المعلوم وإن العالم أيضا هو عين المعلوم كما سبق لزم منه بالضرورة إن للكل مبدأ واحدا لا كثرة فيه ودليل إن العلم هو المعلوم وكذلك الحس هو المحسوس إن الانسان يكون محسا باعتبار ما انطبع فى عينه من صورة المبصر المحسوس ومثاله فهو مدرك بذلك الأثر المنطبع فيه ومحس له فقط أما الشىء الخارج فهو مطابق لذلك الأثر وسبب حصول الأثر حصوله وهو المدرك الثانى دون الأول بل الملاقى لك ما حصل فى ذاتك والحس عبارة عن ذلك الأثرالمحسوس* والمحسوس الأول هو ذلك الأثر أيضا فالحس والمحسوس واحد وكذلك العلم هو نفس المعلوم ومثاله المطابق له وهو المدرك المعلوم أعنى المثال الذى ينطبع فى النفس* وأما الموجود الخارج فمطابق له وسبب لحصوله فى النفس فالمعلوم بالحقيقة تلك الصورة فاذا ثبت إن المعلوم مهما كان نفس العالم اتحد العلم والعالم والمعلوم فاذا الأول عالم بنفسه وعلمه ومعلومه هو وإنما تختلف العبارات باختلاف الاعتبارات فمن حيث أن ذاته برىء عن المادة وان ذاته مجردة غير غائبة عنه فهو عالم ومن حيث أن ذاته مجردة لذاته البرية فهو معلوم ومن حيث أن ذاته لذاته وفى ذاته وغير غائب عن ذاته فهو علم بذاته وهذا كله لأن العلم يستدعى معلوما فقط فاما أن يكون ذلك المعلوم هو غير العالم أو عينه فلا يوجب العلم فيه تفصيلا بل يجوز أن يقال المعلوم ينقسم إلى ما هو ذات العالم وإلى ما هو غيره فيكون اقتضاؤه لمعلوم مطلق أعم من اقتضائه لمعلوم هو غيره أو عينه.
(الدعوى الثالثة): أن الأول عالم بسائر أنواع الموجودات وأجناسها فلا يعزب عن علمه شىء وهذا الآن أدق وأغمض من الأول وبيانه أنه ثبت أنه يعلم ذاته فينبغى أن يعلمه على ما هو عليه لأن ذاته مجردة لذاته مكشوفة له على ما هو عليه بحقيقته وحقيقته أنه وجود محض هو ينبوع وجود الجواهر والأعراض والماهيات كلها على ترتيبها فان علم نفسه مبدأ لها فقد انطوى العلم بها فى علمه بذاته وإن لم يعلم نفسه مبدأ لم يعلم نفسه على ما هو عليه وهو محال لأنه إنما علم ذاته لأن ذاته ليس غائبا عن ذاته وهما مجردان أعنى ذاته باعتبارين وهو كما هو عليه مكشوف لذاته فالواحد منا إذا علم ذاته يعلمه حيا قادرا لا محالة لأنه كذلك فان لم يعلم كذلك لم يكن علمه على ما هو عليه فالأول أيضا يعلم ذاته مبدأ للكل فينطوى العلم بالكل تحت علمه بذاته على سبيل التضمن لا محالة.
(الدعوى الرابعة): أن هذا أيضا لا يؤدى إلى كثرة في ذاته وعلمه وهذا أغمض من الأول فان المعلومات على كثرتها تستدعى علوما كثيرة فعلم واحد بمعلومات مفصلة محال وجوده إذ معنى الواحد أنه ليس فيه شىء غير شىء وأنه لو قدر عدم بعضه لزم عدمه إذ لا بعض له والعلم إذا فرض بالجواهر والأعراض واحدا فلو قدر زوال تعلقه بالأعراض بقى شىء غير ما قدر زواله وهو تعلقه بالجواهر وكذا كل معلومين وهذا يناقض معنى الوحدة ولكن بيانه بالمقايسة بمشاهدة النفس فان النفس نسخة مختصرة من كل العالم يوجد لكل شىء فيها نظير وبها يتمكن من معرفة الكل فنقول للانسان فى العلم ثلاثة أحوال.
(إحداها): أن يفصل صور المعلومات فى نفسه كما يتفكر فى صورة فقهية مثلا مرتبا بعضها بعد بعض وهذا هوالعلم المفصل. (والثانية): أن يكون قد مارس الفقه وحصله واستقل به وحصل قوة الفقه بحيث يعلم كل صورة تورد عليه من غير حصر فيقال له فى حال غفله عن التفصيل أنه فقيه وليس فى ذهنه علم حاضر ولكنه اكتسب حالة وملكة تلك الملكة مبدأ فياض للصور التى لا تتناهى من الفقه نسبة تلك الحالة إلى كل صورة ممكنة واحدة وهذه حالة بسيطة ساذجة وهى واحدة لا تفصيل فيها ولها نسبة إلى صور غير متناهية.
(الثالثة): وهى حالة بين الحالتين أن يسمع الانسان فى مناظرته مثلا كلاما من غيره فى مسألة وهو مستقل بمعرفته فيعلم ان جوابه حاضر عنده وأن ما يقوله باطل وإنه يقدر على إبطاله قطعا كما لو سمعه يقول العالم قديم بشبهة كذا وكذا وهو عالم بأنه حادث وبوجه الجواب عن تلك الشبهة مع أن ذكرها وإيرادها يستدعى تفصيلا وتطويلا وهو فى الحال يعلم من نفسه يقينا أنه محيط بالجواب جملة ولم يتفصل فى ذهنه ترتيب الجواب ثم يخوض فى الجواب مستمدا من الأمر البسيط الكلى الذى كان يدركه من نفسه فلا يزال يحدث من ذلك الأمر الكلى فى ذهنه صورة صورة مفصلة ويعبرعنه بعبارة عبارة ويوردها مقدمة مقدمة إلى أن يستوفى إيضاح ما كان فى نفسه من الجواب البسيط بمقدمات وتفاصيل لم يكن حاضرا ذلك الوقت على تفصيله فى ذهنه بل كانت له حالة بسيطة كأنها مبدأ للتفصيل خلاق له وهو أشرف من التفصيل فينبغى أن يقدر علم الأول بالكل من قبيل الحالة الثالثة فأما أن يكون من قبيل الحالة الأولى فهو محال لأن العلم المفصل هو العلم الانساني الذى لا يجتمع اثنان منه فى النفس فى حالة واحدة بل يصادف واحدا واحدا فان العلم نقش فى النفس وكما لا يتصور أن يكون فى الشمعة نقشان وشكلان فى حالة واحدة لا يتصور أن يكون فى النفس علمان مفصلان حاضران فى حالة واحدة بل يتعاقبا على القرب بحيث لا يدرك تعاقبهما للطف الزمان إذ تصير المعلومات الكثيرة مجملة كالشىء الواحد فيكون للنفس منها حالة واحدة ونسبتها إلى كل الصور واحدة ويكون ذلك كالنقش الواحد وهذا التفصيل والانتقال لا يكون إلا للانسان فان فرض وجودها معا مفصلا فى حق الله تعالى كانت علوما متعددة بلا نهاية واقتضى كثرة ثم كان متناقضا لأن اشتغال النفس بواحد مفصل يمنع من آخر فاذا معنى كون الأول عالما أى انه على حالة بسيطة نسبتها إلى سائر المعلومات واحدة * فمعنى عالميته مبدأيته لفيضان التفصيل منه فى غيره فعلمه هو المبدأ الخلاق لتفاصيل العلوم فى ذوات الملائكة والأنس فهو عالم بهذا الاعتبار وهذا أشرف من التفصيل لأن المفصل لا يزيد على واحد إذ لا بد وأن يتناهى وهذه نسبته إلى ما لا يتناهى ونسبته إلى ما يتناهى واحدة ومثاله أن يفرض ملك معه مفاتيح خزائن أموال الأرض وهو مستغنى عنها ولا ينتفع بذهب ولا فضة ولا يأخذها ولكن يفيضها على الخلق فكل من له ذهب فيكون منه أخذه وبواسطة مفاتحه اليه وصل فكذلك الأول عنده مفاتيح الغيب ومنه يفيض مبدأ العلم بالغيب والشهادة على الكل وكما يستحيل أن لا يسمى الملك الذى بيده المفاتيح غنيا يستحيل أن لا يسمى الذى عنده مفاتيح العلم عالما والفقير الذى يأخذ منه دنانير معدودة يسمى غنيا باعتبار أن الدنانير بيده فالملك باعتبار أن الدنانير من يده وبافادته يفيض منه الغنى على الكل كيف لا يسمى غنيا فكذا حال العلم فكان نسبة تلك الحالة التى للأول إلى العلوم المفصلة نسبة الكيميا إلى الدنانير المعينة والكيميا أنفس إذ يحصل منه ما لا يتناهى من الدنانير بحكم التقدير وضرب المثال فينبغى أن يفهم علم الأول بسيطا وذلك بالمقايسة إلى الحالة الثالثة فنسبة علم الأول إلى كل المعلومات كنسبة حال المناظر إلى حاصل الجواب المفصل* فان قيل تلك الحالة ترجع إلى أنه خال من العلم ولكنه مستعد لقبول العلم بالقوة القريبة ولكن لقرب القوة يقال إنه عالم والا فهو منفك عن العلم فالأول إذا منفك عن العلم بالفعل فلا يتصور أن يكون بالقوة قابلا فلا يكون عالما لا بالفعل ولا بالقوة قيل ما ذكرت من السؤال هو حقيقة الحالة الثانية لا حقيقة الحالة الثالثة وقد فارقت الحالة الثالثة الثانية فى أن صاحب الحالة الثانية غافل عن العلم والمعلوم جملة وتفصيلا وصاحب الحالة الثالثة عالم بطلان دعواه قدم العالم وبوجه الجواب عن شبهته وواثق من نفسه بذلك ومتحقق بأن له حالة حاضرة بالفعل لتلك الحالة نسبة إلى علوم مفصلة ليس تفصيلها حاضرا فى ذهنه بل هو قادر على إحضارها فبهذه الحالة ينبغى أن يمثل حال الأول حتى يتعلق بالفهم منه ما هو المطلوب من هذه الدعوى.
(الدعوى الخامسة): هو أن الله تعالى كما يعلم الأجناس والأنواع يعلم الممكنات الحادثة وإن كنا نحن لا نعلمها لأن الممكن ما دام يعرف ممكنا يستحيل أن يعلم وقوعه أو لا وقوعه لأنه إنما يعلم منه وصف الامكان ومعناه أنه يمكن أن يكون ويمكن أن لا يكون فان علمنا أن لا بد وأن يكون غدا مثلا قدوم زيد فقد صار واجبا أن يكون وبطل قولنا أنه كان ممكنا أن لا يكون فاذا الممكن ما دام لا يعلم منه إلا الامكان فلا يتصور أن يعلم أنه واقع أو غير واقع ولكن قد ذكرنا أن كل ممكن فى نفسه فهو واجب بسبب فان علم وجود سببه كان وجوده واجبا لا ممكنا وإن علم عدم سببه كان عدمه واجبا لا ممكنا فاذا الممكنات باعتبار السبب واجبة فلو اطلعنا على جميع أسباب شىء واحد وعلمنا وجودها قطعنا بوجود ذلك الشىء كما أن وجدان زيد غدا كنزا ممكن أن يكون وممكن أن لا يكون فاذا نحن عرفنا وجود أسباب العثور على الكنز زال الشك مثل أن تعرف أنه لا بد وأن يجرى فى داره سبب يزعجه ويوجب خروجه من الدار فى طريق كذا وأن يسير على خط كذا ويعلم أن على ذلك الخط كنزا غطى رأسه بشىء خفيف لا يقاوم ثقل زيد فيعلم أنه لا بد وأن يعثر عليه لأن ذلك صار واجبا باعتبار فرض وجود أسبابه والأول سبحانه وتعالى يعلم الحوادث بأسبابها لأن العلل والأسباب ترتقى إلى واجب الوجود فكل حادث وممكن فهو واجب لأنه لو لم يجب بسببه لما وجد وسببه أيضا واجب إلى أن ينتهى إلى ذات واجب الوجود فلما كان هو عالما بترتيب الأسباب كان عالما لا محالة بالمسبات والمنجم لما تفحص عن بعض أسباب الوجود ولم يطلع على جميعها لا جرم حكم بوجود الشىء ظنا لأنه يجوز أن ما اطلع عليه ربما يعارضه مانع فلا يكون ما ذكره كل السبب بل ذلك مع انتفاء المعارضات فان اطلع على أكثر الأسباب قوى ظنه وإن اطلع على الكل حصل له العلم كما يعلم فى الشتاء أن الهواء سيحمى بعد ستة أشهر لأن سبب الحمى كون الشمس فى وسط السماء بكونها فى الأسد ويعلم ذلك بحكم العادة والدليل أن الشمس لا يتغير مسيرها وأنها ستعود إلى الأسد بعد هذه المدة فهذا وجه العلم بالممكنات (الدعوى السادسة): هو أن الأول سبحانه وتعالى لا يجوز أن يعلم الجزئيات علما يدخل تحت الماضى والمستقبل والآن حتى يعلم أن الشمس لم تنكسف اليوم وإنها ستنكسف غدا ثم إذا جاء الغد فيعلم أنها الآن مكسوفة وإذا جاء بعد غد فيعلم أنها كانت بالأمس مكسوفة فان هذا يوجب تغيرا فى ذاته لاختلاف هذه العلوم عليه وقد سبق أن التغير محال عليه ووجه لزوم التغير إن المعلوم يتبعه العلم فمهما تغير المعلوم تغير العلم ومهما تغير العلم تغير العالم إذ العلم ليس من الصفات التى إذا اختلفت لم يتغير العالم ككونه يمينا وشمالا بل العلم صفة فى الذات يوجب اختلافه اختلاف الذات وليس نسبة العلم إلى المعلوم أيضا نسبة لا يوجب اختلاف المعلوم اختلافا فيها حتى يفرض علم واحد هو علم بأن الكسوف سيكون فاذا كان صار علما بأنه كائن فاذا انجلى صار علما بأنه قد كان والعلم فى ذاته واحد والمعلوم يتغيرلأن العلم هو مثال المعلوم والمختلفات أمثلتها مختلفة فاذا قدر أن الأول عالم بأن الكسوف سيكون فله بهذا حالة فاذا كان الكسوف فان بقيت تلك الحالة صار جهلا لأن الكسوف كائن وإن صار عالما بأنه كائن فان هذه الحالة تخالف ما قبلها فهو تغير بل إنما يعلم الأول الجزئيات بنوع كلى يكون متصفا به أزلا وأبدا ولا يتغير مثل أن يعلم أن الشمس إذا جاوزت عقدة الذنب فانه يعود اليها بعد مدة كذا ويكون القمر قد انتهى اليها وصار فى محاذاتها حائلا بينها وبين الأرض محاذاة غير تامة مثلا ولتكن بثلثها فيوجب أن يرى ثلث الشمس مكسوفا فى إقليم كذا فهذا يعلمه كذلك أزلا وأبدا ويكون صادقا سواء كان الكسوف موجودا أو معدوما فاما أن يقول إن الشمس ليست مكسوفة الآن ثم يقول غدا إنها مكسوفة الآن فيكون قد خالف الثانى الأول فهذا لا يليق بمن لا يجوز التغير عليه فاذا ما من جزئى ولو فى مثقال ذرة إلا وله سبب فيعرف سببه بنوع كلى فليس فيه إشارة إلى وقت وزمان ويبقى عارفا به أبدا وأزلا فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة ومع ذلك فان جميع أحواله متشابهة ولا يتغير مهما فرض الأمر كذلك.
(الدعوة السابعة): إن الأول مريد وله إرادة وعناية وإن ذلك لا يزيد على ذاته وبيانه أن الأول فاعل فانه ظهر أن كل الأشياء حاصلة منه فهى فعله والفاعل إما أن يكون فاعلا بالطبع المحض أو بالارادة والطبع المحض هو الفعل المنفك عن العلم بالمفعول وبالفعل وكل فعل لا يخلو عن العلم فلا يخلو عن الارادة والكل فائض من ذات الله تعالى مع علمه بأنه فائض منه وفيضانه منه غير مناف لذاته حتى يكون كارها فلا كراهة فيه له فهو إذا راض بفيضانه منه وهذه الحالة يجوز أن يعبر عنها بالارادة ومبدأ فيضان الكل منه علمه بوجه النظام فى الكل فيكون علمه سبب وجود المعلوم فاذا إرادته علمه وكل فعل إرادى فلا يخلو إما أن يكون عن اعتقاد جزم أو علم أو ظن أو تخيل* أما العلم فكفعل المهندس بموجب العلم الحقيقى وأما الظن فكفعل المريض فى الاحتراز عما يتوهمه مضرا* وأما التخيل فكطلب النفس الشىء الذى يشبه المحبوب مع علمه بأنه غيره وكامتناعه عن الشىء الذى له شبه بما يكرهه وفعل الأول لا يجوز ان يكون بظن أو تخيل لأن هذه عوارض لا تثبت ولا تدوم فينبغى أن يكون بعلم عقلى حقيقى والآن يبقى أنه كيف يكون العلم سببا لوجود شىء وأنه بم عرف أن الأشياء حصلت منه بعلمه أما الأول فلا يعلم إلا بمثال مشاهدة النفس فنحن إذا وقع لنا تصور لشىء محبوب انبعث من التصور قوة الشهوة فان استحكمت وتم الشوق وانضاف اليه تصورنا أنه ينبغى أن يكون انبعثت القوة المنبثة فى العضلات وحركت الأوتار وحصل منه حركة الأعضاء الآلية وحصل الفعل المطلوب كما نتخيل صورة الخط الذى نريد كتبته ونتوهم انه ينبغى أن يكون فتنبعث قوة الشوق اليه فيتحرك به اليد والقلم وتحصل صورة الخط كما تصورناه ومعنى قولنا أنه ينبغى أن يكون أن نعلم أو نظن أنه نافع لنا أو لذيذ لنا أو خير فى حقنا فاذا حركة اليد حصلت من القوة الشوقية وحركة القوة الشوقية حصلت من التصور والعلم بأن الشىء ينبغى أن يكون فقد وجدنا العلم فينا سببا لحصول شىء وأظهر من هذا أن الذى يمشى على جذع ممدود بين حائطين مرتفعين غاية الارتفاع يتوهم فى نفسه السقوط فيسقط أى يحصل السقوط بتوهمه ولو كان ممدودا على الأرض فيمشى عليه ولا يسقط لأنه لا يتوهم السقوط ولا يستشعره فيكون تصور السقوط وحضور صورته فى الخيال سببا لحصول المتصور فقد صادفنا المثال من مشاهدة النفس فنعود إلى الأول فنقول فعل الأول إما أن يصدر عنه كما تصدر الحركة من القوة الشوقية وهو محال لأن الشوق والشهوة محال عليه فانه طلب لأمر مفقود الأولى حصوله وليس فى واجب الوجود شىء بالقوة يطلب حصوله بحال كما سبقت أدلته فلا يبقى إلا أن يقال أن تصوره لنظام الكل سبب لفيضان النظام عنه وأما نحن فان تصورنا لصورة الخط والنقش لا يكون كافيا لوجود صورة الخط من حيث أن الأمور فى حقنا منقسمة إلى ما يوافقنا وإلى ما يخالفنا فافتقرنا إلى قوة شوقية تخلق لنا فى بعض الآلات نعرف الموافقة والمخالفة بالاضافة اليها فاذا انبعثت افتقرنا إلى آلات وأعضاء نحركها فى التحصيل لمقصودنا وأما الأول فنفس تصوره كاف لحصول المتصور ويفارقنا من وجه آخر وهو أنا لا بد أن نعلم أو نظن أو نتخيل أن ذلك الفعل خير لنا وذلك فى حق الأول محال لأن ذلك يوجب الغرض وقد بينا أن الغرض لا يحرك إلا ناقصا فيكون إرادتنا باعتبار تخيلنا أنه خير لنا ويكون إرادته للنظام الكلى باعتبار علمه بأنه خير فى نفسه وأن الوجود خير من العدم في ذاته وأن الوجود يمكن على أقسام وأن الأتم والأكمل من جملة تلك الأقسام واحد وما عداه ناقص بالاضافة اليه والأكمل خير من الأنقص وذات الأول ذات يفيض منه لا محالة كل وجود على الوجه الأتم والأكمل على ترقيه الممكن فيه إلى غاية النظام ويكون معنى عنايته بالخلق أنه علم مثلا أن الانسان يفتقر إلى آلة باطشة لو لم تكن له لكان ناقصا ولكان شرا في حقه وأن الآلة الباطشة ينبغى أن تكون مثل اليد والكف وانه لا بد وأن تكون رؤوسها منقسمة بالأصابع إذ لو لم يكن لامتنع البطش وأن الأصابع يمكن أن يكون لها أوضاع كثيرة وأن تكون الخمسة فى صف واحد كما أن الأربعة فى صف واحد ويمكن أن تكون الأربعة فى صف والابهام فى مقابلتها من حيث يدور على جميعها ويمكن أن يكون فى صفين وعلى وجوه مختلفة وإن ما يراد من اليد في اختلاف حركاتها ليكون باطشا مرة وضاربا أخرى ودافعا تارة لا يكمل إلا بهذه الصورة المشاهدة فيكون علمه به سببا لوجوده نعم نسبة علمه إلى سائر الأوضاع واحد ولكن يعين هذا الوضع ويميزه عن سائر الأوضاع لأن الخير والكمال فيه وذاته ذات يترجح فيه فيضان الخير منه على فيضان الشر ولست أريد الخير والشر فى حقه بل فى نفسه وبالاضافة إلى الخلق فاذا جميع الموجودات من عدد الكواكب ومقدارها وهيئة الأرض والحيوانات وكل موجود فانما وجد على الوجه الذى وجد لأنه أكمل وجوه الوجود وما عداه من الامكانات ناقص بالاضافة اليه بل لو خلق الأعضاء الآلية للحيوانات ولم يهدها إلى وجه استعمالها كان أيضا معطلا فقد خلق المنقار للفرخ الذى ينفلق منه البيض فلو لم يهده إلى استعماله واشتغل فى الحال بالالتقاط لكان معطلا فتمت العناية بتمام الخير وتم الخير بالهداية بعد الخلق كما أخبر عنه الله تعالى إذ قال (الذى أعطى كل شىء خلقه ثم هدى) وقال عز وعلا (هو الذى خلقنى فهو يهدين) وقال سبحانه (والذى قدر فهدى) فهذا معنى الارادة والعناية وهو راجع إلى العلم لا يزيد عليه والعلم لا يزيد على الذات كما سبق فاما أن يكون فعله لغرض أو من غير علم فلا فان قيل وأى بعد فى أن يكون له قصد كما لنا قصد مع العلوم فيكون قصده إفاضة الخير على الغير لا لأجل نفسه كما أنا قد نقصد إنقاذ غريق لا لغرض بل نريد إفاضة الخير قيل القصد من ضرورته أن يكون المقصود أولى بالقاصد من نقيضه وذلك يشعر بالغرض والغرض يدل على النقص وأما نحن فلا يتصور منا قصد إلا لغرض وهو طلب ثواب أو محمدة أو أن نكتسب خلق الفضيلة فى أنفسنا بفعل الخير فلو كان الفعل وعدمه بمثابة واحدة فى حقنا استحال أن يكون لنا قصد وانبعاث اليه إذ لا معنى للقصد إلا الميل إلى مايقدر موافقا فان لم يعن بالقصد هذا فهو لفظ محض لا مفهوم له.
अज्ञात पृष्ठ