يقول ابن خلدون في «المقدمة» عن العرب: «إنهم بطبيعة التوحش الذي فيهم أهل انتهاب وعبث، ينتهبون ما قدروا عليه من غير مغالبة ولا ركوب خطر ويفرون إلى منتجعهم بالفقر».
ويقول أيضا في فصل عنوانه: «إن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب»: «والسبب في ذلك أنهم أمة وحشية باستحكام عوائد التوحش وأسبابه فيهم، فصار لهم جبلة وخلقا، وكان عندهم ملذوذا لما فيه من الخروج عن ريقة الحكم وعدم الانقياد للسياسة، وهذه الطبيعة منافية للعمران ومناقضة له».
والمتأمل لهذا الكلام يعود فيقول: أهؤلاء عرب أم أعراب؟
وقد استطاع الدكتور مشرفة أن ينبهنا إلى القيمة التاريخية والمهمة الاجتماعية التي أداها العرب في التطور البشري، فإن الجزء الثاني من كتابه الإنكليزي: «نظرة ثقافية عامة لمصر الحديثة» قد بحث هذا الموضوع لأول مرة في التاريخ العربي أو الغربي.
والدكتور مشرفة يبحث التغييرات أو الانقلابات التاريخية من حيث إنها النتائج المترتبة عن الوضع الاقتصادي، وهي نتائج محتومة بحتمية الجغرافيا التي تعيش فيها الأمة، ووسائل العيش، وطرق الإنتاج، التي تتبعها.
فالأمم البدوية القديمة مثل الهكسوس واليهود العرب كانت تقتني الماشية وتنتجع المراعي البعيدة، أي: إنها كانت دائمة التنقل، بل دائمة الهجرة، وقصة يوسف بن يعقوب تدلنا على الاجتماع والهجرة، فإن قافلة سورية كانت تنوي السفر فوجدته وحملته، وهي إنما أرادت السفر؛ لأنها كانت ترغب في التبادل التجاري، تعطي مصر بعض ماشيتها وتأخذ بدلا منها حبوبا تعود للاتجار بها في سوريا أو فلسطين، وكانت مصر في تلك العصور زراعية صناعية تستكفي بإنتاجها، ولكنها كانت تتبادل بعض محصولاتها بمحصولات الأمم المجاورة عن طريق هذه القوافل.
هذه القوافل العربية أو اليهودية أو الهكسوسية، وهذه هي مهمة العرب الأولى في التاريخ، فإن العرب ربطوا الأمم البعيدة برباط التبادل التجاري، فكانت قوافلهم وأحيانا سفنهم، تتصل بالصين والهند والعراق وإيران ومصر وإفريقيا الشمالية؛ وذلك لأنهم كانوا لا يزرعون ولا يصنعون، وإنما كانوا ينقلون ما تزرعه الأمم وما تصنعه، وكانوا يؤدون أثمان المصنوعات والمحصولات بماشيتهم أو بما يحصلون عليه من ذهب وفضة من الأقطار البعيدة.
كان المجتمع القديم في مصر زراعيا، بل زراعيا متقدما، وكانت الصناعة بدائية محلية، وكان كثير منها مثل البناء بالحجر للقبور والأهرمات، وكذلك استخراج الذهب وصناعة الورق من احتكار الدولة، وما زالت أوروبا تستعمل كلمة «بيبر»، أي: الورق، وهي محرفة عن كلمة فرعون «بيبرون»؛ لأن الورق كان من محتكرات الدولة، والدولة هي فرعون.
وقد كان موسى بن ميمون، الفيلسوف اليهودي الذي عاش في القاهرة قبل ابن خلدون، أيام صلاح الدين له أقارب وأبناء يتجرون في الهند وإسبانيا، أي: الأندلس، وما بينهما، ولم يكن الأوروبيون يعرفون هذه التجارة «العالمية» في وقته، ولو أن ابن خلدون كان قد تنبه إلى هذه المقارنة، أي: انحباس الأوروبيين في أوروبا على حضارة متخلفة، وانفساح العرب في إفريقيا وآسيا على حضارة متقدمة، وفكر فيها، لما وقع في هذا الخطأ بل الخطل حين زعم أن العرب متوحشون.
ذلك أن العرب كانوا على حضارة راقية بسبب اتصالهم بأقطار آسيا وإفريقيا، في حين أن أوروبا كانت تعيش على حضارة قروية تعتمد على صناعات القرية البدائية، وهذا هو معنى «القرون المظلمة» في أوروبا التي ركدت فيها بين 500 و1000م.
अज्ञात पृष्ठ