"الهادي".. بين شهادة التأريخ وغبار الطائفية !_2
جمع/ حمود عبدالله يحيى
> لم تعش اليمن قبل ظهور الهادي أحسن حالا من حاضرة الخلافة العباسية وولاياتها آنذاك، فبعد أن ذهب الخلفاء الأقوياء، والذين لم تخل أيديهم من دماء العلماء والمستضعفين، دب الضعف في مفاصل الخلافة، فاستضعف قواد الأترك الخلفاء، وكان الخليفة في أيديهم كالأسير أو الأجير إن شاءوا أبقوه، وإن شاءوا خلعوه، وإن شاءوا قتلوه، فجاءوا بالمستعين »842-252ه« مثلا إلى الخلافة، ثم خلعوه وبايعوا لابن عمه المعتز بالله، ثم حاصروا المستعين في بغداد، فعزل نفسه، ثم قتلوه، ثم أجبروا المعتز على خلع نفسه وسجنوه ثم قتلوه، وتولى المهتدي »552-652ه« فهزمه الأتراك، وأمروه بالخلع لنفسه، فلما أبى قتلوه، ثم لم يتركوا للمعتمد ابن المتوكل »652-972ه« إلا اسم الخلافة، ثم جاءوا بالمعتضد »972-982ه«، فاستعاد بعض الهيبة في شخصه، وقسى ما قسى ثم ما لبث الأتراك أن عادوا لخلع الخلفاء وسجنهم وقتلهم وسمل أعينهم بعد أن عهد المكتفي بالخلافة لأخيه المتقدر وعمره ثلاث عشرة سنة، وكان الوجه الآخر لضعف الخلافة فساد الخلفاء أنفسهم وانقطاعهم إلى الملذات والمتعة بالقينات والشراب والندماء داخل القصور العباسية، بل لم يكن لهم من أمر الرعية إلا صور سخيفة لأخذ أموال الرعية وتكديسها، تلك الصورة العامة التي رسمها لنا الباحث نعمان في كتابه »الإمام الهادي«، و(الطبري 9/344-444، 481)، وتأريخ الأدب العربي »4/11- 61- 62- 23« والمسعودي (4/491، 702)، وابن خلدون ( 5/826، 636)، وانظر الأغاني لأبي الفرج (شعراء ومفتي تلك الفترة).
اليمن قبيل مجيء الهادي
> أما اليمن فكانت قبيل مجيء الهادي تخوض مرحلة من مراحل تمزقها المختلفة بين القوى الموجودة على أرضها، فاليعفريون في صنعاء وشبام، وآل طريف مواليهم ينتزعون منهم صنعاء استغلالا لضعفهم، وإلى الشرق من صنعاء في مأرب شيخ مذحج الربيع بن الروية يتحكم في مناجم الذهب وإلى الغرب من صنعاء في تهامة تتصارع عليها أربع قوى: الشراحيون، والحكميون، وبنو زياد، وبنو مجيد، أما جنوب صنعاء فالمناخيون في مخلاف جعفر (العدين والسحول)، وآل الكرندي في المعافر (الحجرية)، ثم ظهر علي بن الفضل واتخذ المذيخرة عاصمة له، وكان الدعام بن إبراهيم البكيلي في شمال صنعاء ينازع آل يعفر، وينافسه على همدان آل الضحاك من حاشد، وفي صعدة الصراع قائم على أشده بين بني سعد وآل أبي فطيمة من جهة، والربيعة من الأكيليين من جهة أخرى (الإمام الهادي -نعمان/ 65/85)، تلك القوى القبلية ترث زعامتها السياسية بالتقاليد القبلية، وتعتبر شؤونها القضائية بالأعراف والإنغلاق، إذ لم يكن لديها أي مشروع حضاري ينطلق من تصور ديني أو دنيوي بملامح مميزة، وسمات حضارية، وبالقوة التي تحصل على الإعتراف الرسمي من العباسيين لا تستطيع أن تحمي كلأ مرعى حيواناتها من طمع القوى المنافسة باختصار لم تكن اليمن إلا صفحة مهترئة من كتاب الخلافة الممزق.
الأساس الفكري عند الهادي
في وجوب إقامة الدولة الإسلامية
> كان الهادي مطلعا على أحوال الأمة، خبيرا بضعفها، ما فتئ يعقد المقارنات بين واقع الأمة، وهدي الإسلام، كان متشبعا من أوامر الإسلام في إقامة حكم إسلامي عادل، ورسالته إلى أحد بني عمومته يدعوه فيها إلى الخروج للجهاد ترسم المخالفات والمظالم التي اقترفها الخلفاء والولاة في ذلك العصر بحق أمة محمد وفيها أنهم:
فسقة ظالمون، وأن الدين مقتول والحق مخذول، وأنهم عطلوا الكتاب، وحرموا الناس حقوقهم، واصطفوا الأموال لأنفسهم، وأنهم أجاعوا الناس، وأضاعوا سبيلهم، وأنهم أخافوا الناس وظلموهم، وأن نهارهم دائب في إخمال الهدى، وليلهم في التلذذ والطرب والفسوق، وانعدمت العدالة والرحمة والصدق منهم، وأنهم ناقضون للمواثيق، مخالفون لما بعث الله به الرسل، ويحكمون بغير ما أنزل الله (نعمان/ 621/721)، ومن هذه النظرة الفاحصة لأحوال الأمة تكونت لديه قناعة راسخة وموجبة عليه وعلى كل المسلمين أن يؤسسوا لدولة العدل والإسلام، قال يوما: والله الذي لا إله إلا هو وبحق محمد ما طلبت هذا الأمر وما خرجت اختيارا ولا خرجت إلا اضطرارا لقيام الحجة علي، ولوددت أن كان لي سعة في الجلوس، لم يمنعني ترك الفكر في هذا الأمر حتى ناظرت نفسي فيه طويلا، فما وجدت إلا الخروج أو الكفر بما أنزل على محمد. (نعمان/ 621)، (السيرة/25)، فهو في هذا النص يرى على نفسه وجوب نصرة الحق وأهله، وليس ذلك طموحا له، وهو يخرج من مشكاة واحدة هو وجده الإمام علي (ع)، إذ يقول في هذا الشأن أيضا: » ولولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم، أو سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، وسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز«.
(خطبة الشقشقية/ نهج البلاغة)، ولم يكن للهادي من هدف في خروجه إلا إحياء الكتاب والسنة، وإزالة الظلم والمنكر، ورفع راية العدل والإنصاف، وأنه لم يكن ليشهر سيفه إلا في وجه الرافضين لكلمة الحق الهازئين بالموعظة المصرين على الإنحراف والمعصية. (نعمان/ 821) خرج لإعلاء كلمة الحق حتى لقي الله (نعمان/03) وهو الذي قال لا يستحق الخلافة إلا من حكم بالحق، فإذا عدل عن حكم الله فليس بخليفة. (كتاب المنزلتين بين المنزلتين/871)، وأن من خالف حكمه حكم النبي (ص) وفارقه فليس بإمام ولا خليفة، ولكنه متبر ظالم. (كتاب الجملة/881-981).
الأسباب المباشرة لخروج الهادي إلى اليمن
> على ضوء ما مضى كان وصول الهادي الأول إلى اليمن بطلبهم له ثم خذلوه فعاد إلى الرس (تأريخ اليمن للواسعي/581 وما بعدها)، ثم إستجدت أسباب لخروجه المرة الثانية، إضافة إلى السبب الذي يبعثه إلى الخروج في أي بلد والثورة في أي مكان تلك الأسباب المستجدة والمباشرة هي:
أ- خرج إليه اليمنيون يطلبون منه العودة إليهم، يقول أبو زهرة: (الإمام زيد/ 905) ولكنه عاد إلى الحجاز بعد أن تعلقت به القلوب، ووجد الراشدون من أهل اليمن أنه الإمام الذي يستطيع أن يجمع شمل اليمنيين، وأن يحارب بهم البدع التي كانت منتشرة ولذلك ذهب إليه وفد من اليمنيين يدعوه إلى العودة فقد سبقت كتبهم بدعوته فأجاب داعيهم ووصل سنة 482ه إلى صعدة، وكان ذاك الوفد مكونا من مختلف قبائل اليمن الموالين له من الفطيميين وغيرهم (السيرة/71).
ب- الحروب الأهلية المنتشرة بين أهل صعدة بني سعد والربيعة، ومحبة الهادي أصلحت أمورهم..
(السيرة/ 24، ومآثر الأبرار 1/36، والحدائق 2/41).
ج- وردت كتب اليمنيين على الحسين بن القاسم والده وعلى عمومته يتوسلون بهم ويسألونهم الشفاعة والتشفع إليه في أن يعاودهم على ألا يخالفوه في شيء، وكان قد عمهم بعد رحيله البلاء، وشملتهم الفتن، وانقطع الغيث ويبس الزرع، وأنهم قد تابوا وأعطوه بيعتهم. (المصابيح/ 775، السيرة/ 56، غاية الأماني/ 691).
د- رؤيا الهادي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ورؤياه حق يأمره بالخروج إلى اليمن بعد أن كان قد انثنى عن الخروج، سأله محمد بن عبدالله العباسي العلوي عن ذلك؟، فقال: كنت قد انثنيت عن الخروج إلى اليمن للذي كان بدا لي من شرة أهل اليمن وقلة رغبتهم في الحق، فكنت عازما على التخلف، حتى إذا كان قبل خروجي بليلة رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المنام، وهو يقول لي: يا يحيى مالك متثاقلا عن الخروج، إنهض فمرهم فلينقوا ما على الأرض من هذه الأوساخ فعلمت أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يرد بذلك غير المعاصي التي على الأرض من العباد، فضمنت له النهوض. (السيرة/ 93).
أعظم مقاصده: إقامة حكم إسلامي
> قال أبو زهرة: وحين وقف يدعو إلى بيعته عاهدهم العهد الآتي، إذ قال:
»أيها الناس إني أشترط لكم أربعا على نفسي:
1- الحكم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.
2- الأثرة لكم على نفسي فيما جعله بيني وبينكم أؤثركم فلا أتفضل عليكم.
3- وأقدمكم عند العطاء قبلي.
4- وأتقدم عليكم عند لقاء عدوي وعدوكم، وأشترط لنفسي عليكم اثنتين:
1- النصيحة لله سبحانه وتعالى في السر والعلانية.
2- الطاعة لأمري على كل حالاتكم ما أطعت الله، فإن خالفت فلا طاعة لي عليكم، وإن ملت أو عدلت عن كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فلا حجة لي عليكم فهذه سبيلي أدعو الله على بصيرة أنا ومن اتبعني، قال أبو زهرة: ومن هذا البيان الذي قدم به بيعته ومن عدة بيانات أخرى على هذا المنهاج يتبين أن أعظم مقاصده إقامة حكم إسلامي، وجمع المسلمين على كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وقد كان سعي جهده لجمع شمل المسلمين وإصلاح أمورهم فيما بينهم، ويروى في ذلك أنه كان يقول: »لوددت أن الله أصلح هذه الأمة وإني جعت يوما وشبعت يوما«، وبهذا يتبين أنه ما كان يطلب الملك، ولكنه كان يطلب إصلاح أمر المسلمين، وإحياء الشريعة، وفرض سلطانها.(الإمام زيد/ 905 وما بعدها).
بعض مظاهر الحكم الهادوي الرشيد
أ- إقامة الحد على أولاد الأمراء: لما شرب الخمر بعض أولاد الأمراء من عشائر أبي العتاهية، فأمر بإحضاره ليقيم عليه الحد، فامتنع عليه وخذله الناس، فلم يجد من يعينه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتنفيذ حكم الله، فقال: والله لا أكون كالفتيلة تضيء غيرها وتحرق نفسها، وعاد إلى أهله. (نعمان /141 عن الإفادة)، ألا تذكر المساواة التي يقتفيها الهادي بما كان عليه النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، وقصة المخزومية التي سرقت، بل كان يقول: »لو أن جدي القاسم وجب عليه القتل لقتلته«، وكان ينفذ حدود الله، ولا يعفي منها أحدا لكبره أو مكانته. (نعمان/902).
ب- لم يتسامح حتى في العلف
دخل بعض الجنود الذين أرسلهم أبو العتاهية لنصرة الهادي بعض البيوت، وأخذوا تبنا وعلفا لدوابهم، فلما بلغ الهادي صنيعهم جمعهم، ثم قال: ردوا كل ما أخذتم، والله محمود لئن عاد أحد منكم يأخذ شيئا بغير أذن مني لأقطعن يده، فردوا جميع ما أخذوا إلى موضعه، وصادف ذلك وجود مشايخ أرحب الذين لم يكونوا قد دخلوا تحت طاعة ودولة الهادي، فأعلموا قومهم بعدل الهادي فجاءوا يحلفون بالسمع والطاعة. (السيرة/211/611، نعمان/951).
ج- أخلاق العلماء وأدب القرآن
قال الباحث نعمان: وكان الهادي كثير الصفح عن الخارجين عليه والناكثين لعهده، ولم يكن يحيد عن الصفح وقبول الإعتذار، مهما تكرر نكثهم وغدرهم به.. وتبقى مع ذلك معاملته لأهل صنعاء وإحسانه إليهم مع إساءتهم إليه صورة ناصعة توضح خلقه الرفيع الذي لا يصدر إلا عن أمثاله من العلماء المجاهدين، حيث تقل نفقته هو وأصحابه، ويرفض أهل صنعاء لا إعانته فقط، وإنما مجرد إقراضه ولا يستخدم سلطانه عليهم لإجبارهم على إخراج جزء من أموالهم لضرورة إطعام الجيوش التي تدافع عنهم، وعن مدينتهم، ثم تدور الأيام، وتأتي جيوش القرامطة لتقتل رجالهم، وتنهب أموالهم، وتستبيح نساءهم ولا يجدون من يستنجدون به سوى الإمام الهادي، بل ولا يخجلون من الإستنجاد به، لما يعرفونه من فضله وعلمه وحلمه، ولا يخيب هو رجاءهم فيه، فيهب لنجدتهم وحماية أموالهم وأعراضهم، ويقدم في سبيل نجدتهم تلك شهداء من خيرة رجاله الذين أبى أهل صنعاء قبل ذلك مجرد إقراضه لإطعامهم، إلا أنها أخلاق العلماء عندما يجاهدون وروح الإسلام وأدب القرآن (الإمام الهادي/881 وما بعدها).
د- إقامة الحجة أولا
»لقد كان سلوك الهادي في جهاده ومعاركه سلوك العالم الفقيه الذي يخرج إلى الجهاد عبادة لله وتقربا إليه وطلبا لرضاه، لذلك فقد كان دقيق الإلتزام -كما قلنا- بأحكام القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يقاتل قوما حتى يدعوهم، ويقيم الحجة عليهم، فكان إذا إقترب من عدوه وعسكر مواجها لهم، بعث إليه رجلا أو رجلين أو ثلاثة من أهل العلم والعقل والتقوى يدعونه إلى الله، ويرغبونه في ثوابه ويحذرونه من طاعة الشيطان التي تجلب غضب الله وعقابه ويسألونه حقن الدماء والدخول فيما دخل فيه المسلمون من الخير والهدى، وقد سبق أن ذكرنا رفضه لقتل زعماء آل يعفر وآل طريف الذين كانوا في سجنه في شبام، وقال: إنه لا يحل لي قتلهم وهم في أسري. (نعمان/ 881 وما بعدها).
ه- برنامج الهادي الواقعي.. رواية زيدي وشافعي
> شاهد عيان هو محمد بن سعيد اليرسمي صاحب الإمام الهادي يحكي البرنامج الهادوي إذ يقول: لما نزل الهادي صعدة، وكان محله في دار الإمارة، فكان يصلي بالناس الصلوات بالجماعة فلا يقطع ليلا ولا نهارا، ويجلس ما بين الصلوات فيعظ الناس، ويعلمهم فرائض الدين، وفرائض المواريث، ويتحاكمون إليه، ويبين لهم في رفق، ثم ينهض فيدور الأسواق والسكك ونحن معه، فإن رأى جدارا مائلا أمر أهله بإصلاحه، أو طريقا فاسدا أمر بتنقيته، أو خلفا مظلما أمر أهله أن يضيئوا فيه بالليل للمارة والسالك إلى المسجد وغيره، وإن رأى امرأة أمرها بالحجاب، وإن كانت من القواعد أمرها بالتستر، وهو الذي أحدث البراقع للنساء باليمن وأمرهن بذلك، وكان يقف على أهل كل بضاعة فيأمرهم بأن لا يغشوا بضائعهم ويأمرهم بتنقيتها من الغش، وتفصيل ما يبيعون، وإيفاء ما يسمون، فقالوا له: أليس التسعير حراما؟ فقال: أوليس الظلم والغش حراما؟، قالوا: بلى، قال: فإنما عن التسعير على أهل الوفاء وأهل التقوى«. (السيرة/62، ونعمان 802).
وشاهد عيان آخر ليس زيديا بل كان فقيها شافعيا كان يجمع بين الفقه والتجارة هو أبو الحسين الهمداني قال: قصدت اليمن وحملت ما أتجر فيه ابتغاء لرؤية الهادي (ع) لما كان يتصل بي من أخباره، فلما وصلت صعدة قلت لمن لقيت من أهلها: كيف أصل إليه؟!، وبم أصل؟، وبمن أتوسل؟، فقيل: الأمر أهون مما تقدر، ستراه الساعة إذا دخل الجامع للصلاة بالناس، وصليت خلفه، فلما فرغ من صلاته تأملته فإذا هو قد مشى في المسجد نحو قوم أعلاء »مرضى« في ناحية منه، فعادهم، وتفقد أحوالهم بنفسه، ثم مشى في السوق وأنا أتبعه فغير شيئا أنكره، ووعظ قوما وزجرهم عن بعض المناكير، ثم عاد إلى مجلسه الذي كان يجلس فيه من داره للناس، فتقدمت إليه، فسلمت فرحب بي، وأجلسني وسألني عن حالي ومقدمي؟ فعرفته أني تاجر وأني وردت هذا المكان تبركا بالنظر إليه، وعرف أني من أهل العلم فأنس بي، وكان يكرمني إذا دخلت إليه، إلى أن قيل في يوم من الأيام: هذا يوم الظلامات، وإنه يقعد فيه للنظر بين الناس، فحضرت فشاهدت هيبة عظيمة، ورأيت الأمراء والقواد والرجالة وقوما بين يديه على مراتبهم وهو ينظر في القصص »الشكاوى«، ويسمع الظلامات، ويفصل الأمور فكأني شاهدت رجلا غير من كنت شاهدته، وبهرتني هيبته، فادعى رجل على رجل حقا فأنكره المدعى علىه، وسأله البينة، فأتى بها، فحلف الشهود، فعجبت من ذلك، فلما تفرق الناس دنوت منه، وقلت له: أيها الإمام رأيتك تحلف الشهود؟. فقال: هذا رأي آبائي تحليف الشهود احتياطا عند التهمة، وما تنكر من هذا؟، وهو قول طاووس من التابعين، وقد قال الله تعالى: (فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما). قال: فاستفدت في تلك الحال منه مذهبه، وقول من قال به من التابعين، والدليل عليه، وما كنت قد عرفت شيئا من ذلك، قال: وقلت له يوما: أول ما رأيتك وأنت تطوف على المرضى في المسجد تعودهم، وتمشي في الأسواق، فقال: هكذا كان آبائي، كانوا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، وأنت إنما عهدت الجبابرة والظلمة. (الإفادة /341-541، الحدائق 2/91-02، والشافي 1/703، والمآثر 2/58).
ويحمل أعوانه مسؤولية التقصير أمام الله: كان يقول للغلام الذي يقف على بابه: أوصل إلي كل ضعيف ولا تحرقني وتحرق نفسك بالنار، فقد فسخت الأمر من عنقي إليك (السيرة/ 65، نعمان/ 212).
ز- يدق الشاكي الضعيف بابه في السحر وينصفه:
قال مصنف سيرته: رأيته ليلة وقد جاء رجل ضعيف في السحر يستعدي على قوم »يشكوهم«، فدق الباب، فقال: من هذا يدق الباب في هذا الوقت؟، فقال له: رجل كان على الباب، هذا رجل يستعدي، فقال: أدخله، فاستعدى فوجه معه في ذلك الوقت ثلاثة رجال يحضرون معه خصومه، فقال لي: يا أبا جعفر الحمدلله الذي خصنا بنعمته، وجعلنا رحمة على خلقه، هذا رجل يستعدي إلينا في هذا الوقت مشتك، ثم قال: ليس الإمام منا من احتجب عن الضعيف في وقت حاجة ماسة. (المآثر 2/485، والحدائق 4/32، والسيرة 26-36).
ح- ضمانه الإجتماعي لا يترك مسكينا ولا فقيرا
كان الهادي (ع) يأمر مناديا ينادي في المسجد بعد صلاة الجمعة: أين الفقراء؟ أين المساكين؟ أين أبناء السبيل؟ أين من له حاجة؟ هل من سائل فيعطى؟ أو من طالب حاجة فتقضى. (السيرة/45، نعمان/722)، وأمر صاحب بيت المال أن يطعم الطوافين من المساكين صباحا ومساءا، كما أمر لهم من بيت المال بكسوة في الشتاء وأخرى في الصيف. (السيرة/88).
ط- حين تمرد أهل برط
عندما تمرد أهل برط عليه خرج الهادي إليهم فدخل برط فوقف العسكر في مكان، وتقدم في ثمانية فوارس وستة وعشرين راجلا، فقال للقوم: بيننا وبينكم كتاب الله، فإن لم تطيعوا فخلوا بيننا وبين الماء، فأبوا ورموهم، فحمل عليهم وقتل ثلاثة، وأسر جماعة، وانهزم القوم، فسلبهم العسكر، وهموا بقتلهم، فصاح من قتل قتيلا فهو به، فسئل عن ذلك؟، فقال: ليس لهم فئة أي أمير، فطلب القوم الأمان والبيعة، فقبل منهم، وجمع عسكره، وقال: السلب لكم حلال (أي أجلبوا به إلى المعركة)، قال: لكن هبوه لي أتألفهم به، وأرجو أن أعوضكم به، ففعلوا وأقام ثلاثا لم ينزل على أحد حتى أكلت خيل عسكره العوسج حتى أن جملا لبعض عسكره دخل زرع رجل فقال صاحبه: أخبرن الهادي، فقال صاحبه: ليس لي فأخذه وذهب، فناداه الرجل، خذ جملك. (المآثر 3/875- 975، السيرة 28-58).
ي- ءأتوا بمثل هذه السجون: وكان يزور السجن، ويراقب نظافته ويأمر من كان يعرف القراءة من المساجين أن يعلمها لمن لا يقرأ، ويسأل كل مسجون عن السبب الذي سجن من أجله وينظر فيه. (السيرة/ 683).
ك- ينصفهم فيسلم كثير منهم: كان يتفقد أهل الذمة، ويقول: إن الحكم جار عليهم، وقد أوصى بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان يقول لهم: من آذاكم فأعلموني به، ومن اطلع على محرمكم أو تعرض بكم أحللت به ما أحل بمن نكث عهد الله وعهد رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أسلم كثير من رجالهم ونسائهم لما شاهدوه من رفقه وعدله. (السيرة/883، نعمان/902).
تلك بعض المظاهر لحكم الهادي الرشيد جمعناها من غير تعليق عليها على أمل أن نذكر الاستنتاجات فيما سيأتي من أعداد.. وللحديث البقية الصالحة
पृष्ठ 29