المقالة الخامسة
في الاشتغال بمباشرة المناصب عن الاحتفال بمسامرة الصديق والصاحب
نقلت من خزانة الأسرار، بإحدى مدن الآثار، عن حبر أحبار، وجهينة أخبار؛ عبارة بالحروف مرقومة، تحت صورة في الكتاب مرسومة، تشير بإحدى يديها إلى المقة والوفاق، وبالأخرى إلى المقت والشقاق، وهي مع ما فيها من اللطافة، تعد في ذاتها خرافة، ونصها: أنه كان يوجد بمدينة تلمسان، كهل من عفاة بني ساسان، أنهكت جسمه الفاقة، ولم يقابله دهره بالطلاقة، وكان له وليد نجيب، أو حفيد ذكي لبيب، انحاز إلى مؤدب صبيان، ومعلم أطفال وفتيان، فتعلم القراءة منه والكتابة، وأبدى في حفظ دروسه النجابة، وأخذ عن غيره النحو والصرف، وجال في ميدان الأدب بأسبق طرف، وبلغ من المنطق والبيان والبديع، ما يرتفع به قدر الوضيع، واستحوذ من العروض والإنشاء واللغة وسائر الفنون، والحديث والفقه والتوحيد وآداب البحث على ما تقر به العيون، وبرع في معرفة الهيئة والجبر والهندسة والحساب.
وحل بفكره الوقاد في كل فن مسائله الصعاب، حتى أصبح لا يجاريه مجار، ولا يباريه في مجاله مبار، وهاجر في طلب العلم إلى أكثر البلاد، وكانت آخر مدينة انتهى إليها بغداد، فاجتمع فيها بأقيال البراعة، وأبطال البلاغة واليراعة، وركب معهم سفينة المناقشة ورفع في بحرها شراعه، ومد بينهم في كل فرع من العلوم باعه، فلما تبين لهم أنه فارس الميدان، وأنه أوحد زمانه في المعارف بين الأخدان، مالوا إليه وكثرت في المدينة خلانه، وأثنت على أخلاقه بكل لسان جيرانه.
وشاع بين البرية ذكر معلوماته الخارجة عن حد القياس، حتى طرق مسامع وزير أحد خلفاء بني العباس؛ حيث قيل له وهو في محفل من نبلاء الجلاس: إن هذا الأستاذ أفصح من قس، وأذكى من إياس.
فقال الوزير لحاجبه ابن جرير: اقصد في غد دار هذا الفاضل، الذي دونه المباحث كل مناضل، والتمس من جنابه، أنه يزورنا بركابه؛ لعلي أتخذه كاتبا ومشيرا، وحاسبا بالديوان وسميرا، فقبل الحاجب الأرض وأجاب بلبيك، وقال: إنه سيكون عندك وبين يديك، فلما كان في صبيحة يوم الجمعة، هيأ بغلة عظيمة السرعة، وسعى إليه وسأله عن داره، من وجيه كان ساكنا في جواره، ومذ لقيه وجاء به إلى مولاه، قربه وأكرم مثواه، وأنزله برواق من مأواه، ورفع درجته على من سواه، ولما كان هذا المتفنن حلو الفكاهة، حسن المسامرة حجازي النباهة، خلب العقول بفصاحته، وسلب الألباب بسحر بلاغته، وتشبث من عهد نشأته، بما ينشر بين الملأ أعلام شهرته، ويذهب عنه العسر والباس، ويجلب له اليسر بين الناس، ويجذب إليه قلوب الورى، ويطيع له أسد الشرى، ويرغب فيه العباد، ويحبب فيه ذوي الرشاد.
وقد احتفل بذلك في السر والعلن، حتى نال بغيته وفاز بالذكر الحسن، ولم يدع من أفعال الخير شيئا إلا سارع إليه، وانقض بلا توان انقضاض العقاب عليه، فكنت تارة تراه بالمساجد، كناسك راكع ساجد، وتارة يبدو في المجالس، بوجه بشوش عابس، وطورا يبرز بين الأقران، في حلة الرأفة والإحسان، وطالما أحرز قصب السبق، في مضمار نضرة الحق، وتمادى على هذا العمل، بلا فتور ولا كسل، إلى أن تقرب بمثل هذا السلوك، من هذا الوزير الذي تفتخر به الملوك، فقلده في ديوان الخليفة، بوظيفة كاتب الإنشاء المنيفة، ثم تنقل من إيوان إلى إيوان، حتى استوى على مرتبة رئيس كتاب الديوان، وصار يركب في المواكب، بعد انتظامه في سلك ذوي المراتب، ويتقلب في أودية النعم، ويتصرف التصرف التام فيما يتعلق بأرباب السيف والقلم، ولا زال في كل يوم يعلو مناره، وينمو على الدوام فخاره، ويزداد بين الأمراء اعتباره، ويغرس في أفئدة الوزراء وقاره، إلى أن نال من زمانه الأمل، ووصل بالإرادة الأزلية إلى ما وصل، ولاحظته عيون السعادة، ففاز بالحسنى وزيادة.
ألا رب راج حاجة لا ينالها
وآخر قد تقضى له وهو جالس
يجول لها هذا وتقضى لغيره
अज्ञात पृष्ठ