أراد «كانت» أن يتوج المنطق بقائمة للمقولات على غرار ما فعل أرسطو من قبل. غير أن مقولاته، وإن كان بعضها مماثلا لمقولات أخرى عند أرسطو، ليست لها نفس دلالة المقولات الأرسطوطاليسية. بل إن بين الفلسفتين فارقا أساسيا في وجهة النظر: ذلك لأن الانقلاب الذي أحدثه «كانت»، والذي كان استمرارا لتفكير «ديكارت»، قد أحل المثالية الحديثة محل واقعية الفلسفة القديمة. (1) واقعية أرسطو والمثالية الحديثة
قلنا إن أرسطو قد نظر إلى المقولات على أنها «أجناس الوجود» فواقعيته في إخضاع التمثل الذهني للوجود، والحقيقة للواقع ... وإذا ما ووجه الواقعي بالسؤال «فيم تكون حقيقة هذا الحكم؟» كان جوابه «في مطابقته للواقع». غير أن هذه الإجابة، التي هي التعريف الواقعي للحقيقة، تنطوي على دور منطقي (
diallèle )،
6
إذ كيف يعلم المرء أن هذا الحكم مطابق للواقع، إن لم يكن عن طريق التمثلات الذهنية أيضا؟ إن الفيلسوف الواقعي يحيلنا من التمثل إلى الواقع، ولكن لكي نعرف الواقع، ينبغي له أن يحيلنا من الواقع إلى التمثل، وهنا يظهر الدور بوضوح. هذا إلى أننا متى أردنا أن نعرف إن كان الحكم صادقا أم لا، فإننا لا نرجع أبدا إلى الواقع: فمثل هذا الرجوع خداع، ما دام المرء لن يهتدي على الدوام إلا إلى تمثلات ذهنية، وإنما يبحث المرء عن تمثلات مختلفة عن تلك التي بني الحكم على أساسها أولا، تتقاطع معها، وتؤدي إلى تكوين طائفة من الأدلة. أي أن الذهن يتجه في سعيه إلى الحقيقية، إلى بناء سلسلة من البراهين، ولا يعود مطلقا إلى الواقع، فعندما يقوم المرء بتحقيق قضائي، لكي يهتدي إلى المجرم مثلا، فإنه لا يسعى إلى الوصول إلى الجريمة كما وقعت حقيقة، إذ إن هذا الواقع قد اختفى على أية حال، وإن كان أحد أدركه، فما ذلك إلا عن طريق التمثل الذهني. ذلك لأن عناصر التحقيق «أدلة» مادية أو «أقوال الشهود» فإذا ما اعترف المتهم، لم يكن في ذلك نهاية التحقيق، بل يبدأ ثانية وقد أضيف إليه عنصر جديد، وهو شهادة المتهم، وهي شهادة لها قيمتها الكبرى، غير أنها لا تكفي، إذ إن أحدا لا يعلم السبب الذي دعاه إلى الاعتراف، ولا يعرف إذا كان اعترافه صادقا: فربما لم يكن مذنبا، «واعترف» بدافع اليأس أو الإعياء، وهذا ما يعمل التحقيق على التثبت منه. فالبحث عن الحقيقة لا ينحصر في الاتصال المباشر بالواقع، وإنما في الجمع بين التمثلات والتحقق من صدق كل منها بوساطة التمثلات الأخرى. فالحقيقة هي ثمرة التحقق. (2) المنطق: علم التحقق من الصدق، وعلم البرهان
إذن فليس المنطق علما للوجود، وإنما هو علم للتحقيق والبرهان، وذلك ما سيتبين لنا بمزيد من الوضوح بعد دراستنا لفلسفة العلوم.
لكن في هذه الحالة لا تكون مقولات المنطق «أنماطا للوجود»، وإنما هي أحوال الحمل المنطقي فحسب. فالوجود أمر يقرره الحكم، وما كان يظن «أنماطا للوجود» ليس إلا أنماطا للتفكير الذي ينطوي عليه الحكم، أو هو بعبارة أخرى وظائف التفكير التي تنطوي عليها عملية الحكم.
وتلك هي مقولات «كانت». وسوف يمكننا تصنيف الأحكام من استنباطها، إذ إن كل فئة للحكم تناظرها وظيفة إجرائية للتفكير الذي يحكم.
وعلى ذلك، تكون لدينا اثنتا عشرة مقولة، أربع رئيسية، تنطوي كل منها على ثلاث مقولات فرعية. ولقد عرفنا من قبل الأربع الرئيسية، وهي الكم والكيف والإضافة والجهة. ولنلاحظ أن الثلاث الأولى منها أرسطوطاليسية وهي تقابل الكم والكيف والإضافة، ولكنها تكتسب هنا معنى جديدا، أما الجهة فلم يكن أرسطو يجهلها؛ بل لقد أوضح بجلاء الفارق المنطقي بين القضايا التقريرية والضرورية والاحتمالية.
والمقولات الفرعية للكم هي «الوحدة، والكثرة، والكلية
अज्ञात पृष्ठ