وعلم أصول المواضع
Toponymie (أصل أسماء الأمكنة). (2)
كما تستخدم الوثيقة للتثبت من الواقعة. وأكثر الوثائق صحة هي الوثائق غير الإرادية التي لا تقول إلا القليل، أما الوثائق الإرادية فتقول أكثر، ولكن لا يطمأن إليها كثيرا، إذ يمكننا أن نتساءل عما إذا كان المؤرخ الذي دونها قد ألم بالحوادث إلماما كافيا، وعما إذا كان حكمه حرا. وهنا تتدخل روح النقد، أي روح الدقة
esprit de finesse
التي تحدث عنها باسكال، والتي هي نوع الذكاء الذي يقتضيه تفسير الإنجيل في نظره. وللنقد التاريخي مهمتان: (أ)
المقارنة أي التأكد من صحة وثيقة عن طريق وثيقة أخرى مستقلة عن الأولى. (ب)
التفسير النفسي والنقدي، أي التحليل الذي ننتقل به من الوثيقة إلى مقاصد الكاتب، ومن مقاصده إلى الصورة التي كونها لنفسه من الأحداث، ومن هذه الصورة إلى الأحداث ذاتها.
وهكذا تتضح معالم الوقائع التاريخية. ومن المهم هنا أن نشير إلى أهمية الصبر، أعني الحماس الذي يحاول به بعض الباحثين (ولنلاحظ أن التاريخ في أصله الاشتقاقي اليوناني يعني البحث) أن يلقوا ضوءا على دقائق معينة من الماضي، وعلى تفاصيل صغيرة إلى أقصى حد في بعض الأحيان، فيكرس أحد الباحثين في الوثائق مثلا عدة سنوات كي يتتبع أثر دير في العصر الكاروليني، وتقوم بعثة معينة بحفر منطقة من أجل التنقيب عن رسوم مدينة اندثرت منذ خمسة آلاف سنة. وفي حب الاستطلاع هذا عنصر تلقائي عميق، فالإنسان يهتم بالإنسان أشد الاهتمام، ووعيه بالإنسانية لا يكف عن الامتداد والتوسع، منذ العهود البدائية التي ينظر فيها إلى أي شخص غريب عن القبيلة على أنه من نوع مخالف.
ولكن يجب أن نلاحظ أيضا أن متابعة الوقائع على هذا النحو لا تخلو من بعض الافتراضات السابقة التي تتدخل على الدوام. فالمرء لا يرجع من الحاضر إلى الماضي فحسب؛ بل يستدل أحيانا بالحاضر على الماضي، وهكذا يفترض المرء وجود تجانس أساسي في مراكز الناس، ووحدة أساسية للطبيعة البشرية، لا يمكن الوصول إلى فهم دونها. ومن جهة أخرى، ينتقل المرء من واقعة معينة إلى أخرى، وهكذا يفترض اتصالا للتاريخ، ومنطقا معينا لتعاقب الأحداث. (ب) التركيب التاريخي
وهذا يفضي بنا إلى المهمة الكبرى الثانية التي يأخذها المؤرخ على عاتقه، والتي كانت توجد بصورة ضمنية في مهمته الأولى فليس يكفي أن نميط اللثام عن الوقائع؛ بل ينبغي أن ندمجها في مجموع حضاري شامل، وفي الوقت ذاته ندرجها في السياق الزمني، وهذا ما يسمى بالتركيب التاريخي. حقا إن الواقعة المجردة - كقرار أحد الحكام، أو معركة معينة، أو عملية تجارية، أو تشييد مدينة ما - أمر لا غنى عنه، فدونها لا يكون التاريخ إلا أوهاما، والواقعة هي على الدوام المحكمة العليا لكل تركيب تاريخي. ولكن لنلاحظ من جهة أخرى أن الواقعة إذا ما نظر إليها في ذاتها لم تكن تعني شيئا؛ إذ لا يكون لها معنى إلا باعتبار أنها حدث إنساني وقع لأناس وعاش فيه هؤلاء الناس، وباعتبار أنها تحتل مكانا في مجموع، وفي إطار عام، وفي لحظة محددة، وفي مدينة معينة وتعاقب محدد؛ أي تحتل، على وجه الدقة، مكانا في التاريخ، فكيف ننظم هذا التاريخ؟
अज्ञात पृष्ठ