الْمنْهَج المسلوك فِي سياسة الْمُلُوك
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَبِه أَثِق وَعَلِيهِ أتوكل
مُقَدّمَة الْكتاب وتراجم أبوابه
الحمدلله الَّذِي عجزت الْعُقُول عَن معرفَة ذَاته وَقصرت الأفكار عَن الْإِحَاطَة بكنه صِفَاته وتحيرت الْأَبْصَار فِي بَدَائِع مصنوعاته وَشهِدت لَهُ بالوحدانية عجائب أرضه وسماواته أَحْمَده على مِنْهُ الْعِظَام وأياديه الحسان حمد معترف بسوابغ الإنعام وَأشْهد ان لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ الها لم يزل منعوتا بالجلال مَوْصُوفا
1 / 153
بالكمال منزها عَن الْحَرَكَة والسكون والإنتقال مقدسا عَن الْجِسْم والشبح والخيال وَأشْهد أَن سيدنَا مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله أرْسلهُ ببرهان لامع الْمنَار وَقُرْآن سَاطِع الْأَنْوَار قَاطع بإعجازه حجج الْكفَّار والطغاة المعاندين أولي الْإِنْكَار
وَصلى الله وَسلم عَلَيْهِ وعَلى آله وَأَصْحَابه الْأَبْرَار صَلَاة دائمة بالْعَشي وَالْإِبْكَار
قَالَ عبد الرَّحْمَن بن نصر بن عبد الله لما كَانَ الْمولى الْملك النَّاصِر
1 / 154
صَلَاح الدُّنْيَا وَالدّين سُلْطَان الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين أَبُو المظفر
1 / 156
يُوسُف بن أَيُّوب بن شادي محيي
1 / 157
دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ أدام الله دولته وحرس على الْإِسْلَام مهجته مِمَّن أَتَاهُ الله ملكه الْعَظِيم وهداه صراطه الْمُسْتَقيم وأورثه مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا وأوطأه من الْمُلُوك رقابها ومناكبها وَكَانَ مِمَّن يرى الْأَدَب وفضله ويؤثر الْعلم واهله جمعت لخزانة علومه هَذَا الْكتاب وَهُوَ يحتوي على ظرائف من الْحِكْمَة وجواهر من الْأَدَب وأصول
1 / 158
فِي السياسة وتدبير الرّعية وَمَعْرِفَة أَرْكَان المملكة وقواعد التَّدْبِير وَقِسْمَة الْفَيْء وَالْغنيمَة على الأجناد وَمَا يلْزم اهل الْجَيْش من حُقُوق الْجِهَاد ونبهت فِيهِ على الشيم الْكَرِيمَة والأخلاق الذميمة وأشرت فِيهِ إِلَى فضل المشورة والحث عَلَيْهَا وَكَيْفِيَّة مصابرة الْأَعْدَاء وسياسة الْجَيْش وأودعته من الْأَمْثَال مَا يسْبق إِلَى الذِّهْن شَوَاهِد صِحَّتهَا ومعالم أدلتها مَعَ نَوَادِر من الْأَخْبَار وشواهد من الْأَشْعَار وفصلته أبوابا تَتَضَمَّن حكايات لائقة ومواعظ شافية وَحكما بَالِغَة وسلكت فِي ذَلِك كُله طَرِيق الإختصار وَمذهب الإيجاز لِئَلَّا تمجه الخواطر وترفضه الأسماع وسميته الْمنْهَج المسلوك فِي سياسة الْمُلُوك.
1 / 159
وَكنت فِي أيداعه خزانَة علومه كمهدي التَّمْر إِلَى هجر أَو الكافور إِلَى قيصور وَلَكِنِّي قصدت بذلك إِيصَال الْحِكْمَة أَهلهَا وَأَن أضعها محلهَا وَبِاللَّهِ اعْتصمَ وَعَلِيهِ أتوكل وَهُوَ عشرُون بَابا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق وَهُوَ حسبي وَنعم الْوَكِيل.
الْبَاب الأول فِي بَيَان افتقار الرّعية إِلَى ملك عَادل
الْبَاب الثَّانِي فِي بَيَان فضل الْأَدَب وافتقار الْملك إِلَيْهِ
1 / 160
الْبَاب الثَّالِث فِي معرفَة قَوَاعِد الْأَدَب
الْبَاب الرَّابِع فِي معرفَة أَرْكَان المملكة
الْبَاب الْخَامِس فِي معرفَة أَوْصَاف الْكَرِيمَة والحث عَلَيْهَا
الْبَاب السَّادِس فِي معرفَة الْأَوْصَاف الذميمة وَالنَّهْي عَنْهَا
الْبَاب السَّابِع فِي كَيْفيَّة رُتْبَة الْملك مَعَ اوليائه فِي حَال جُلُوسه وركوبه
الْبَاب الثَّامِن فِي بَيَان فضل المشورة والحث عَلَيْهَا
الْبَاب التَّاسِع فِي بَيَان أَوْصَاف أهل المشورة وحكايات لائقة
الْبَاب الْعَاشِر فِي معرفَة أصُول السياسة وَالتَّدْبِير
الْبَاب الْحَادِي عشر فِي الْجُلُوس لكشف الْمَظَالِم
الْبَاب الثَّانِي عشر فِي ذكر أدب صُحْبَة الْمُلُوك
الْبَاب الثَّالِث عشر فِي معرفَة مَا تكَاد بِهِ الْمُلُوك فِي غَالب الْأَحْوَال
الْبَاب الرَّابِع عشر فِيمَا يَنْبَغِي للْملك من سياسة الْجَيْش وتدبير الْجنُود
الْبَاب الْخَامِس عشر فِيمَا يلْزم أهل الْجَيْش من حُقُوق الْجِهَاد
الْبَاب السَّادِس عشر فِي مصابرة الْمُشْركين
الْبَاب السَّابِع عشر فِي معرفَة قتال قطاع الطَّرِيق واهل الرِّدَّة وَالْبَغي
1 / 161
الْبَاب الثَّامِن عشر فِي معرفَة قسْمَة الْغَنِيمَة والفيء
الْبَاب التَّاسِع عشر فِيمَا يَنْبَغِي للْملك فعله عِنْد قفوله بالجيش
الْبَاب الْعشْرُونَ فِي الْحَث على اسْتِمَاع المواعظ وقبولها من النساك
الْبَاب الخاتمة
1 / 162
الْبَاب الأول فِي بَيَان إفتقار الرّعية إِلَى ملك عَادل
قَالَ عبد الرَّحْمَن لما كَانَت الرّعية ضروبا مُخْتَلفَة وشعوبا مُخْتَلفَة متباينة الْأَغْرَاض والمقاصد مفترقة الْأَوْصَاف والطبائع افْتَقَرت ضَرُورَة إِلَى ملك عَادل يقوم
1 / 163
أودها وَيُقِيم عمدها وَيمْنَع ضررها وَيَأْخُذ حَقّهَا ويذب عَنْهَا مَا أشقها وَمَتى خلت من سياسة تَدْبِير الْملك كَانَت كسفينة فِي الْبَحْر اكتنفتها الرِّيَاح المتواترة والأمواج المتظاهرة قد أسلمها الملاحون واستسلم أَهلهَا إِلَى الْمنون.
وَاعْلَم أَن الرّعية تستظمىء إِلَى عدل الْملك وتدبيره استظماء أهل الجدب إِلَى الْغَيْث الوابل وينتعشون بطلعته عَلَيْهِم كانتعاش النبت بِمَا يَنَالهُ من ذَلِك الْقطر بل الرّعية بِالْملكِ أعظم انتفاعا مِنْهَا.
1 / 165
بالغيث لِأَن للغيث وقتا مَعْلُوما وسياسة الْملك دائمة لَا حد لَهَا وَلَا وَقت
والرعية فِي تبَاين أوصافها كنبت الأَرْض فَمِنْهُ الطّيب المثمر وَمِنْه الْخَبيث الْقَاتِل فَمن كَانَ مِنْهُ طيبا فَإِنَّهُ لَا تزكي أُصُوله فِي أرضه وَلَا تنمى فروعه إِذا جاوره الْخَبيث فِيهَا لَان الْخَبيث يسْبق إِلَى مَا دونه فِي الْقَرار فَيَشْرَبهَا ويكثف فروعه فِي الفضاء فَلَا يصل إِلَيْهِ حَظه من النسيم فَإِذا أصلحت الأَرْض فأسدها وَأخرج مَا فِيهَا من النبت الْخَبيث انْتَعش نبتها الطّيب وقوى أَصله ونما فَرعه وطاب ثمره وَكَذَلِكَ الرّعية لما جاور الْخَبيث طيبها افْتَقَرت ضَرُورَة إِلَى ملك يصلح فاسدها ويقمع صائلها وَيكسر شَوْكَة أهل التَّعَدِّي عَلَيْهَا لتنتعش أحوالها وتزكي أموالها وَيكثر خَيرهَا وَتصْلح
1 / 166
أمورها وَقد قيل الرّعية بِلَا وَال كالأنعام بِلَا رَاع فَانْظُر سَائِمَة الانعام فِي مراعيها إِذا خلت من راعيها مَا أَشد اختلال حَالهَا وَاخْتِلَاف افعالها بل الرّعية أَشد اختلالا وَأكْثر اخْتِلَافا فَلَا بُد من زعيم يمنعهُم من الْمَظَالِم ويفضل بَينهم فِي التَّنَازُع والتخاصم ولولاه لكانوا فوضى مهملين وهمجا مضاعين
قَالَ الأفوه الأودي
1 / 167
(لَا يصلح النَّاس فوضى لَا سراة لَهُم ... وَلَا سراة إِذا جهالهم سادوا)
(وَالْبَيْت لَا يبتنى إِلَّا باعمدة ... وَلَا عماد إِذا لم ترس أوتاد)
(فَإِن تجمع أوتاد واعمدة ... وَسَاكن بلغُوا الْأَمر الَّذِي رادوا)
1 / 168
فِي فضل الْأَدَب وافتقار الْملك إِلَيْهِ
قَالَ عبد الرَّحْمَن لما افْتَقَرت الرّعية فِي أمورها إِلَى تَدْبِير الْملك وَكَانَ الْأَدَب مَجْمُوع خلال حميدة وخصال جميلَة افْتقر إِلَيْهِ الْملك ضَرُورَة لتصدر عَنهُ تصاريف التَّدْبِير فِي الرّعية على قانون الْعدْل الَّذِي بِهِ دوَام المملكة فقد قيل من حسنت سياسته دَامَت رياسته
وَاعْلَم أَن الْأَدَب أحد الْأَوْصَاف الْأَرْبَعَة الَّتِي يشْتَرط قِيَامهَا بِالْملكِ فِي تَدْبِير المملكة على مَا سنوضحه فَإِذا عرى الْملك ١٧٠
عَنهُ اختلت سياسة وتدبيره وَقد قيل الْأَدَب صُورَة الْعقل فَمن لَا أدب لَهُ لَا عقل لَهُ وَمن لَا عقل لَهُ لَا سياسة لَهُ وَمن لَا سياسة لَا ملك لَهُ
وَقَالَ بَعضهم قَرَأت فِي التورة إِن أحسن الْحِلْية الْحسب وَلَا حسب لمن لَا مُرُوءَة لَهُ وَمن لَا مُرُوءَة لمن لَا عقل لَهُ وَلَا عقل لمن لَا أدب لَهُ.
وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء الْأَدَب عصمَة الْمُلُوك لِأَنَّهُ يمنعهُم من الظُّلم ويردهم إِلَى الْحلم ويصدهم عَن الأذية ويعطفهم على الرّعية فَمن حَقهم أَن يعرفوا فَضله ويعظموا أَهله.
1 / 169
عَنهُ اختلت سياسته وتدبيره وَقد قيل الْأَدَب صُورَة الْعقل فَمن لَا أدب لَهُ لَا عقل لَهُ وَمن لَا عقل لَهُ لَا سياسة لَهُ وَمن لَا سياسة لَا ملك لَهُ
وَقَالَ بَعضهم قَرَأت فِي التَّوْرَاة إِن أحسن الْحِلْية الْحسب وَلَا حسب لمن لَا مُرُوءَة لَهُ وَلَا مُرُوءَة لمن لَا عقل لَهُ وَلَا عقل لمن لَا أدب لَهُ.
وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء الْأَدَب عصمَة الْمُلُوك لِأَنَّهُ يمنعهُم من الظُّلم ويردهم إِلَى الْحلم ويصدهم عَن الأذية ويعطفهم على الرّعية فَمن حَقهم أَن يعرفوا فَضله ويعظموا أَهله.
1 / 170
وَقَالَ بعض الْعلمَاء لَيْسَ للمرء أَن يتبجح بِحَالَة جليلة نالها بِغَيْر عقل أَو منزلَة رفيعة نالها بِغَيْر أدب فَإِن الْجَهْل ينزله مِنْهَا ويزيله عَنْهَا ويحطه إِلَى رتبته وَيَردهُ إِلَى قِيمَته بعد أَن تظهر عيوبه وتكثر ذنُوبه وَيصير مادحه هاجيا ووليه معاديا.
وَكَانَ يُقَال عقل الأديب أبدا فِي إرشاد ورأيه أبدا فِي سداد فَقَوله سديد وَفعله حميد.
وَقَالَ رجل من قيس لسَيِّد من قُرَيْش يَا أَخا قُرَيْش أطلب الْأَدَب
1 / 171
فَإِنَّهُ زِيَادَة فِي الْعقل وَكَمَال فِي المنصب وَدَلِيل على الْمُرُوءَة وَصَاحب فِي الغربة وصلَة فِي الْمجَالِس وَمَا أحسن قَول الَّذِي يَقُول
(أدب الْمَرْء كلحم وَدم ... مَا حواه أحد إِلَّا صلح
(لَو وزنا رجلا ذَا أدب ... بألوف من ذَوي الْجَهْل رجح
وَكَانَ يُقَال الْأَدَب مَال واستعماله كَمَال وَأوصى ملك وَلَده فَقَالَ يَا بني خصلتان يسود بهما الْمَرْء وَإِن كَانَ غير ذِي مَال الْعلم وَالْأَدب يَا بني جَالس الكبراء وناطق الْعلمَاء فَإِن مؤاخاتهم كَرِيمَة ومجالستهم غنيمَة وصحبتهم سليمَة
وَأوصى رجل وَلَده فَقَالَ يَا بني عَلَيْك بالأدب فَإنَّك إِن كنت غَنِيا
1 / 172
كنت شرِيف قَوْمك وَإِن كنت مكتفيا كنت سري قَوْمك وَإِن كنت مُحْتَاجا لم يسْتَغْن عَنْك ويحتاجك رُؤَسَاء الْبِلَاد وأشرافهم
وَقيل من قعد بِهِ نسبه نَهَضَ بِهِ أدبه وَقَالَ بزر جمهر مَا أورثت الْآبَاء أبناءها أفضل من الْأَدَب لِأَنَّهَا إِذا أورثتها الْأَدَب اكْتسبت بِهِ الْأَمْوَال ونالت بِهِ أَعلَى الْمَرَاتِب وَإِذا أورثتها الْأَمْوَال أضاعتها وَبقيت عدما من الْأَدَب وَكَانَ يُقَال الْأَدَب خير مِيرَاث وَحسن
1 / 173
الْخلق خير قرين والتوفيق خير قَائِد وَالِاجْتِهَاد أربح تِجَارَة وَلَا مَال أَعُود من الْعقل وَلَا عقل أوثق من المشورة وَلَا فقر أَشد من الْجَهْل
وَقيل الْأَدَب ثوب جَدِيد لَا يبْلى / وَالْعلم كنز عَظِيم لَا يفنى وَقيل من أدب ابْنه أرْغم عدوه وَقيل ثَلَاثَة لَيْسَ مَعَهُنَّ غربَة حسن الْأَدَب ومجانبة الريب وكف الأذية وَقَالَ نصر بن سيار كل شَيْء
1 / 174