فالعليل الذي عهدت مقيم ... والدموع التي شهدت غزار
وقال آخر:
أما الديار فقلما لبثوا بها ... بعد اشتياق العيس والركبان
وضعوا سياط الشوق في أعناقها ... حتى طلعن بهم على الأوطان
وقال قيس بن الخطيم، وقيل: هي للربيع بن أبي الحقيق الأوسي:
وما بعض الإقامة في ديار يهان بها الفتى إلا عناء
وبعض خلائق الأقوام داء ... كداء البطن ليس له دواء
وكل شديدة نزلت بقوم ... سيأتي بعد شدتها رخاء
يريد المرء أن يعطي مناه ... ويأتي الله إلا ما يشاء
وقال سعيد بن حميد:
تدنو الديار وأنت تبعد جاهدًا ... فالدهر ينصفني وأنت الظالم
فمتى ينال العدل عندك طالب ... أنت المسيء به، وأنت الحاكم
وقال الشريف الرضي ﵁:
أروح بفتيان خماص من السرى ... لهم أنة في كل دار وأدمع
فدمع على نأي الديار مفرق ... وقلب على أهل الديار مروع
هل أنت معين للغليل بعبرة ... فنبكي على تلك الديار ونجزع؟
ألا ليت شعري كل دار مشتةٌ ... ألا منزل يدنو بشمل فيجمع؟!
ألا سلوة تنهى الدموع فتنتهي ... ألا مورد يصفو لشرب فينقع؟!
فصبرًا على قرع الزمان وغمزه ... وهل ينكر الحمل الذلول الموقع؟!
قرأت على حائط مسجد "بفنك" هذا البيت مفردًا:
تجنبت غشيان الديار وليس في ... تجنبها بعد الفراق ملام
فأجزته بهذا البيت، وكتبته تحته:
وما كنت أهوى الدار إلا لأهلها ... على الدار بعد الظاعنين سلام
ذكر أبو عمرو الشيباني أن عروة بن الورد أصاب امرأة من كنانة بكرًا يقال لها: سلمى، وتكنى أم وهب، فأعتقها، واتخذها لنفسه، فمكثت عنده بضع عشرة سنة، فولدت له أولًا وهو لا يشك في أنها أرغب الناس فيه، وهي تقول له: لو حججت بي، فأمر على أهلي وأراهم؟ فحج بها، فأتى مكة، ثم أتى المدينة، وكان يخالط من أهل يثرب بني النضير، فيقر ضونه إن احتاج. ويبايعهم إذا غنم، وكان قومها يخالطون بني النضير، فأتوهم وهو عندهم، فقالت لهم سلمى: إنه خارج بي قبل أن يحرج الشهر الحرام، فتعالوا إليه، وأخبروه أنكم تستحيون أن تكون امرأة منكم معروفة النسب صحيحته سبية، وافتدوني منه، فإنه لا يرى أني أفارقه، ولا أختار عليه أحدًا، فأتوه، فسقوه الخمر، فلما ثمل قالوا له: فادنا بصاحبتنا، فإنها وسيطة النسب فينا معروفة، وإن علينا سبة أن تكون سبية، فإذا صارت إلينا، وأردت معاودتها، فاخطبها إلينا، فإنها تنكحك، فقال لهم: ذاك لكم، ولكن لي شرط فيها، أن تخيروها، فإن اختارتني انطلقت معي إلى ولدها، وغن اختارتكم انطلقتم بها، قالوا: ذاك لك، قال: دعوني أله بها الليلة وأفاديها غدًا، فلما كان الغد جاءوه فامتنع من فدائها، فقالوا له: قد فاديتها منذ البارحة، وشهد عليه جماعة ممن حضر، فلم يقدر على الامتناع، وفادوها، فلما فادوها خيرها، فاختارت أهلها، ثم أقبلت عليه: فقالت له: يا عروة. أما إني أقول فيك - وإن فارقتك - الحق: والله ما أعلم امرأة من العرب ألقت سترها على بعل خير منك، أغرض طرفًا، وأقل فحشًا، وأعوذ يدًا، وأحمى لحقيقة، وما مر علي يوم منذ كنت عندك إلا والموت فيه أحب إلي من الحياة بين قومك، لأني لم أكن أشاء أن أسمع امرأة من قومك تقول: أمة عروة وكذا وكذا، إلا سمعته، والله لا أنظر في وجه غطفانية أبدًا، فارجع راشدًا إلى ولدك، وأحسن إليهم، فقال عروة في ذلك:
أرقت وصحبتي بمضيق عمق ... لبرق من تهامة مستطير
سقى سلمى، وأين ديار سلمى ... إذا كانت مجاورة السدير
إذا حلت بأرض بني علي ... وأهلي بين زامرة وكير
ذكرت منازلًا من أم وهب ... محل الحي أسفل من ثبير
وأحدث معهد من أم وهب ... معرسنا بدار بني النضير
وقالوا: ما تشاء؟ فقلت: ألهو ... إلى الإصباح آثر ذي أثير
بآنسة الحديث رضاب فيها ... بعيد النوم كالعنب العصير
سقوني الخمر ثم تكنفوني ... عداة الله من كذب وزور
وقالوا: لست بعد فداء سلمى ... بمغن ما لديك ولا فقير
فلا والله لو ملكت أمري ... ومن لي بالتدبر في الأمور؟!
1 / 25